تنبيهاتٌ هامّةٌ للشباب المسلم في قضايا التكفير

تنبيهاتٌ هامّةٌ للشباب المُسلم في قضايا التكفير و الخروج على الحُكّام

إعداد الدكتور راجح السباتين

      التكفيرُ، ضَوَابطُهُ وأسبَابُه ومنهجُ أهلِ السُّنَّة والجماعة فيه

الكفر لغةً: هو التغطية والستر والظلام، وكلُّ شيءٍ غطّى شيئاً فقد كفره.
الكفر شرعاً: كلَّ اعتقادٍ أو قولٍ أو فعلٍ حَكَمَ الشرعُ بأنه كفر. هو نقيض الإيمان  كجحد الربوبية، أو النبوة، أو جحد ما جاء به النبي، صلّى الله عليه وسلم، أو جحد بعضه، ومنه الشرك الأكبر. والإعراض عن الدين بالكلية. وجحد شيءٍ مما ثبت في النصوص، أو معلومٍ من الدين بالضرورة.
والمُلاحَظُ أنّ عامة العلماء حين عَرَّفُوا الكفر شرعاً حصروه بالكفر الأكبر، وهو الكفر المُطْلَقُ، مع أنه كثيراً ما يُطلقُ مقيداً على الكفر الأصغر. ويُفهمُ من ذلك أنهم لا يرون الكفر الأصغر من الكفر المُخرِج من الملّة، وصاحبه ليس كافراً بل هو باقٍ على أصل الإسلام.
الكُفْرُ قسمان:
الأول: الكفرُ الأصليُّ: وهو حكم شرعي ثابت قطعي، وهو كُفرُ كلِّ مَنْ لم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله (ويلتزم شروطها). ومنه كفر اليهود والنصارى (أهل الكتاب)، وكفر المشركين، ومنهم أصحاب الديانات الوثنية والوضعية، والملاحدة، فهؤلاء كلُّهم كُفَّارٌ خُلَّصٌ بقطعيات النصوص والإجماع.
الثاني: الكفرُ غيرُ الأصليّ (الطارئ): وهو الكفر الذي يقع فيه مَنْ كان على أصل الإسلام، من أهل القبلة (المسلمين)، ثمَّ تحوَّل إلى الكُفر ....


             أبرز وأهمّ الضوابط التي وضعها العلماء في موضوع التكفير
1- إنَّ التكفير من الأحكام الخطيرة والحسّاسة، ولا تكون إلا بتثبّتٍ وبيّناتٍ. وقد جاء فيه الوعيدُ كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما). ويجب أن يحرص المسلم على دفع الكفر ودرئه عن المسلم قدر الإمكان.
2- إنّ الذي يحكم ويتولّى الحكم بالكفر ولوازمه على الأعيان من الأفراد والهيئات والدول هم العلماء الرَّاسخون، لا سيّما عند الفتن، وفي المواقف الكبرى والأحداث العظمـى.
3- إنَّ سائر ما وصفه النبيُّ، صلّى الله عليه وسلم، من أعمال المسلمين وأقوالهم بأنه (كفر) هو من الكفر الذي لا يُخْرِجُ من الملّة، ويبقى فاعلهُ (فرداً كان أو جماعة) على أصل الإسلام، في الواجبات والحقوق.
4- لا يجوز تكفير المعيَّنِ إذا قالَ كفراً، أو فعلَ كفراً، إلا بعد إزالة الشبهة وقيام الحجّة عليه، مِنْ قِبَلِ مَنْ يملك ذلك من أهل العلم.
5- أنه حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كفريات مُخِرجَةٌ من الملّة في ظاهرها، ولم يكفّر أعيان فاعليها؛ لعارض الجهل، أو الإكراه، أو التأوّل، أو نحو ذلك.
6- حين نستعرض أقوال السلف وآثارهم وأفعالهم وأحوالهم - من الصحابة والتابعين وأئمة السنة والجماعة وعلمائهم- نجد بيانهم للكفر وتحذيرهم منه في العقائد والأحكام وغيرها كثيراً جداً لكنَّ تكفيرهم للأعيان من الأفراد والفِرَقِ والهيئات نادرٌ جدّاً.
بيانُ هيئةِ كِبارِ العُلماء حول الغُلوِّ والتكفير وما ينجمُ عنهما من الفساد
"الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فقد درسَ مجلسُ هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة بالطائف ابتداءً من تاريخ 2/4/1419هـ ما يجري في كثيرٍ من البلاد الإسلامية وغيرها من التكفير والتفجير، وما ينشأ عنه من سفك الدماء، وتخريب المنشآت، ونظراً إلى خطورة هذا الأمر، وما يترتب عليه من إزهاق أرواحٍ بريئةٍ، وإتلاف أموالٍ معصومةٍ، وإخافةٍ للناس، وزعزعةٍ لأمنهم واستقرارهم، فقد رأى المجلسُ إصدارَ بيانٍ يوضّح فيه حكم ذلك نصحاً لله ولعباده، وإبراء للذمة، وإزالة للبس في المفاهيم لدى من اشتبه عليهم الأمر في ذلك، فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: التكفيرُ حكمٌ شرعيٌ، مردُّهُ إلى الله ورسوله، فكما أنّ التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كل ما وُصِفَ بالكفر من قول أو فعل، يكون كفراً أكبر مُخْرِجَاً عن الملة.
ولمّا كان مردُّ حكم التكفير إلى الله ورسوله لم يجز أن نكفّر إلا مَنْ دلّ الكتاب والسنة على كفره دلالةً واضحةً، فلا يكفي في ذلك مجرّدُ الشبهة والظن؛ لما يترتَّبُ على ذلك من الأحكام الخطيرة. وإذا كانت الحدود تُدْرَأُ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقلّ مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يُدْرَأ بالشبهات، ولذلك حذَّرَ النبيّ، صلّى الله عليه وسلم، من الحكم بالتكفير على شخصٍ ليس بكافر، فقال: (أيما إمرئٍ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه). وقد يَرِدُ في الكتاب والسنة ما يُفهمُ منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفرٌ، ولا يُكَفَّرُ مَنْ اتصف به؛ لوجود مانعٍ يمنع من كفره، هذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها، كما في الإرث، سببه القرابة -مثلاً- وقد لا يرث بها؛ لوجود مانعٍ، كاختلاف الدين، وهكذا الكفر، ويُكره عليه المؤمن، فلا يُكَفَّرُ به، وقد ينطق المسلم بكلمةٍ بالكفر؛ لغلبة فَرَحٍ أو غضبٍ أو نحوهما، فلا يكفر بها؛ لعدم القصد، كما في قصة الذي قال: (اللهم أنت عبدي، وأنا ربك) أخطأ من شدة الفرح.
والتسرع في التكفير يترتب عليه أمورٌ خطيرةٌ من استحلال الدم والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح، وغيرها مما يترتب على الردة، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة؟ وإذا كان هذا في ولاة الأمور كان أشدَّ؛ لما يترَّتبُ عليه من التمرد عليهم، وحمل السلاح عليهم، وإشاعة الفوضى، وسفك الدماء، وفساد أمور العباد والبلاد في دينهم ودنياهم. ولهذا منع النبي، صلّى الله عليه وسلم من منابذتهم، فقال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان). فأفاد قوله: (إلا أن تروا) أنه لا يكفي مجرَّدُ الظن والإشاعة. وأفاد قوله: (كفراً) أنه لا يكفي الفسوق ولو كَبُرَ، كالظلم وشرب الخمر ولعب القمار، والاستئثار المحرم. وأفاد قوله: (بواحاً) أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح، أي: صريح ظاهر، وأفاد قوله: (عندكم فيه من الله برهان) أنه لابد من دليلٍ صريحٍ، بحيث يكون صحيح الثبوت، صريح الدلالة، فلا يكفي الدليل ضعيف السند، ولا غامض الدلالة. وأفاد قوله: (من الله) أنه لا عبرة بقول أحدٍ من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة إذا لم يكن لقوله دليلٌ صريحٌ صحيحٌ من كتاب الله وسُنّة رسوله، صلّى الله عليه وسلم. وهذه القيود تدل على خطورة الأمر.
وجملة القول: أن التسرُّعَ في التكفير له خطره العظيم؛ لأنه قول على الله بغير بَيِّنَاتٍ وهذا من المحرَّمات الكبرى، لقول الله عز وجل: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33)
ثانياً: ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال الخاصة والعامة، وتفجير المساكن والمركبات، وتخريب المنشآت، فهذه الأعمال وأمثالها مُحَرَّمَةٌ شرعاً بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتكٍ لحرمة الأنفس المعصومة، وهتكٍ لحرمة الأموال، وهتكٍ لحرمات الأمن والاستقرار، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوهم ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها. وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم، وحَرَّمَ انتهاكها، وشدَّد في ذلك، وكان من آخر ما بلَّغَ به النبيُّ، صلّى الله عليه وسلم أمته، فقال في خطبة حجة الوداع: (إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ثم قال صلّى الله عليه وسلم: (ألا هل بلَّغتُ؟ اللهم فاشهد). وقال صلّى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه).
ثالثاً: إنَّ المجلس إذ يبيِّنُ حكم تكفير الناس بغير برهانٍ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخطورة إطلاق ذلك؛ لما يترتَّبُ عليه من شرور وآثام، فإنه يعلن للعالم أنَّ الإسـلام بـريءٌ من هذا المُعتَقَدِ الخاطئ، وأنَّ ما يجري في بعض البلدان من سفكٍ للدمــاء البريئة، وتفجيرٍ للمساكن، هو عمل إجرامي، والإسلام بريء منه، وهكذا كلُّ مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه، وإنما هو تصرّفٌ من صاحب فكرٍ منحـرفٍ، وعقيـدةٍ ضـالّةٍ، فهو يحمل إثمه وجرمه، فلا يحتسب عمله على الإسلام، ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام، المعتصمين بالكتاب والسنة، المتمسّكين بحبل الله المتين، وإنما هـو محض إفسـاد وإجـرام تـأباه الشريعة والفطرة، ولهذا جـاءت نصـوص الشريعـة قـاطعةً بتحـريمه، مُحَذِّرَةً من مصاحبة أهله.
أســباب التكفير
أ- الأسباب العامة في ظهور التشدد والتكفير في كل زمانٍ ومكانٍ:
1- شيوع البدع والمنكرات والفساد والظلم في المجتمعات، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التقصير فيه، كما في كثير من البلاد الإسلامية.
2- قلة الفقه في الدين (أي ضعف العلم الشرعي)، أو أخذ العلم عن غير أهله أو على غير نهجٍ سليمٍ، أو تَلَقِّيهِ عن غير أهليةٍ ولا جدارة.
3- ظهور نزعات الأهواء والعصبيات والتحزبات والشعارات.
4- الابتعاد عن العلماء وجفوتهم، وترك التلقّي عنهم، وعدم الاقتداء بهم، وما نتج عن ذلك من التلقي عن دعاة السوء والفتنة والأهواء والالتفاف حولهم.
5- التعالم والغرور، والتعالي على العلماء وعلى الناس، واحتقار الآخرين وآرائهم.
6- النقمة على الواقع وأهله؛ بسبب سوء الأوضاع الدينية والاقتصادية والسياسية في كثير من بلاد المسلمين،وما يترتب على ذلك من ردود الأفعال التي لا تُقَدِّرُ عواقبَ الأمور.
7- تحدي الخصوم (في الداخل والخارج)، واستفزازهم للغيورين، وللشباب وللدعاة، وكذلك كيدهم للدين وأهله، وطعنهم في السلف الصالح.
8- قلة الصبر، وضعف الحكمة في الدعوة لدى كثيرٍ من الغيورين؛ ولا سيما بعض الشباب المُتَديِّنِ، ومن ذلك ضعف إدراك الكثيرين لسنن الله تعالى الكونية والشرعية، في الصراع والتدافع بين الحق والباطل، والقواعد الشرعية التي تحكم ذلك.
ب- أسباب ظهور الغلو والتكفير ومظاهره بين المسلمين في العصر الحديث:
أولاً: إعراض أكثر المسلمين عن دينهم، عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً، إعراضاً لم يحدث مثله في تاريخ الإسلام، مما أوقعهم في ضنك العيش، وفي حياة الشقاء. كما قال تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
ويتجلى هذا الإعراض بأمور كثيرة في حياة كثير من المسلمين اليوم؛ أفراداً وجماعات، ودولاً وشعوباً، وهيئات ومؤسسات، ومن مظاهر هذا الإعراض:
1- كثرة البدع والعقائد الفاسدة، وما نتج عن ذلك من الافتراق والفِرَقِ والأهواء، والتنازع والخصومات في الدين.
2- الإعراض عن نهج السلف الصالح وجهله، أو التنكر له.
3- الجهل بقواعد الشرع ومقاصده عموماً، والجهل بقواعد التكفير وشروطه.
4- العلمنة الصريحة في أكثر بلاد المسلمين، والتي أَدَّتْ إلى الإعراض عن شرع الله، وإلى الحكم بغير ما أنزل الله، وظهور الزندقة والتيارات الضالة، والتنكُّر للدين والفضيلة.
5- وقوع أكثر المسلمين في التقصير في حق الله تعالى، وارتكابهم للذنوب والمعاصي، والمنكرات، وضعف مظاهر التقوى والورع والخشوع في حياة المسلمين اليوم.
6- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التقصير فيه في أكثر بلاد المسلمين.
ثانياً: شيوع الظلم بشتَّى صوره وأشكاله: ظلم الأفراد، وظلم الشعوب، وظلم الولاة وجورهم، وظلم الناس بعضهم لبعض، بما ينافي مقاصد الشريعـــة، وما أمر الله به، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، من تحقيق العدل، ونفي الظلم، مما يُنمِّي مظاهر السخط والتذمر والحقد والتشفي في النفوس.
ثالثاً: تحَكُّمُ الكافرين: (من اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين) في مصالح المسلمين، وتدخُّلهم في شؤون البلاد الإسلامية، ومصائر شعوبها عبر الاحتلال، والغزو الفكري والإعلامي والاقتصادي، وتحت ستار المصالح المشتركة، أو المنظمات الدولية، ونحو ذلك مما تداعت به الأمم على المسلمين من كل حدبٍ وصوبٍ، بين طامعٍ وكائدٍ وحاسدٍ. وغير ذلك من صور التحكُّم في مصائر المسلمين والحجر عليهم، مما أدى إلى تذمُّرِ المسلمين كلهم، وشعور طوائف من شبابهم ومُثَقَّفيهم وأهل الغيرة منهم بالضيم والإذلال والإحباط، وما ينتج عن ذلك من ردود الأفعال والسخط والعنف.
رابعاً: محاربة التمسُّكِ بالدين والعمل بالسنن، والتضييق على الصالحين والمتمسكين بالسنة، والعلماء، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وبالمقابل التمكين لأهل الفسق والفجور والإلحاد، مما يُعَدُّ أعظمَ استفزازٍ لذوي الغيرة والاستقامة.
خامساً: الجهل بالعلم الشرعي، وقلّة الفقه في الدين: فالمتأمل لواقع أكثر أصحاب التوجّهات التي يميل أصحابها إلى الغلو والعنف والتكفير يجد أنهم يَتَّسمون بالجهل بقواعد الشريعة وضعف الفقه في الدين، وضحالة الحصيلة في العلوم الشرعية، فحين يتصدون للأمور الكبار والمصالح العظمى يكثر منهم التخبط والخلط والأحكام المتسرعة والمواقف المتشنجة، والحكم بالأهواء والعواطف، في الأشخاص والهيئات والدول والجماعات، والحدّة تجاه المخالفين. 
سادساً: الخلل في مناهج بعض الدعوات المعاصرة: فأغلبها تعتمد في مناهجها على الشحن العاطفي، وتربّي أتباعها على مجرد أمورٍ عاطفيةٍ غير منضبطةٍ بضوابط الشرع وقواعد الدين، أو غايات دنيوية: سياسية واقتصادية ونحوها، وتحشو أذهانهم بالأفكار والمفاهيم التي لم تؤصَّلْ شرعاً، والتي تؤدي إلى التصادم مع المخالفين بلا حكمة.
سابعاً: التشدُّدُ فـي الدين والتنطُّعُ: والخروج عن منهج الاعتدال في الدين الذي كان عليه النبي، صلّى الله عليه وسلم، وقد حَذَّرَ النبي، صلّى الله عليه وسلم، من ذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ هذا الدين يسرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه). والتشددُ في الدين كثيراً ما ينشأ عن قلة الفقه في الدين، وهما من أبرز سمات أهل الأهواء عموماً والخوارج بخاصةٍ. وأغلب الذين ينزعون إلى الغلو والعنف والتكفير اليوم تجد فيهم هاتين الخصلتين، ولا يلزم من ذلك أنهم خوارج، لكنَّهم وافقوا الخوارج في هذا المسلك، وربما زادوا عليهم.
ثامناً: شدَّةُ الغيرة وقوةُ العاطفة لدى فئات من الشباب والمُثقَّفين وغيرهم: بلا علمٍ ولا فقهٍ ولا حكمةٍ، مع أنّ الغيرة على محارم الله وعلى دين الله أمرٌ محمودٌ شرعاً، لكنَّ ذلك مشروطٌ بالحكمة والفقه والبصيرة، ومراعاة المصالح، ودرء المفاسد. فإذا فقدت هذه الشروط أو بعضها أدى ذلك إلى الغلو والتنطُّعِ والشدة والعنف في معالجة الأمور، وهذا مما لا يستقيم به للمسلمين أمر، لا في دينهم، ولا في دنياهم.

                  الخروجُ على الحَاكمِ وموقفُ أهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ منه


مَنَعَ الرسولُ، صلّى الله عليه وسلم، من الخروج على الأئمة إلا بشروط ثقيلةٍ جداً ذكَرِها في قوله {أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان}. ومعنى ذلك: أنْ تروا رؤيةَ عينٍ أو علمَ يقينٍ، كفراً بواحاً صريحاً ليس فيه احتمال، وقال "برهان"، ولم يقل "دليل" لأنّ أشدَّ البرهان ما برهن على الشيء ودلَّلَ عليه ضرورةً.
كما أنّ هناك شرطاً خامساً لم يُذكَرْ في الحديث لكنَّه معلومٌ: وهو القدرة على إزاحة هذا الحاكم، إضافةً إلى ضمان عدم شقّ عصا الأمّة وشيوع الفتن والافتراق بين الناس بسبب ذلك.
هذه المسائل ليست سهلةً ولا هيّنةً. وما انفتح بابُ الشرّ على المسلمين إلا بالخروج على الأئمة منذ قُتِلَ عمرُ، رضي الله عنه.
إذا رأينا كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان جاز الخروج عن وجود القوة الممكنة وانتقاء المَضَرَّةِ المترتبةِ، مع التأكيد على أنّ هذه الأحكام إنما هي للعلماء وليست للعوام.
هذه مسائلُ دقيقةٌ يُدركها البصيرُ من العلماء وتغيبُ عن أهل الحماس كثيراً. يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله تعالى ـ في الخروج على الإمام وضوابطه الشرعية:
قال الله عز وجل: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا". هذه الآية تنصُّ على "وجوب طاعة أولي الأمر" وهم الأمراء والعلماء. وقد جاءت السنة الصحيحةُ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تُبَيَّنُ أنّ هذه الطاعة لازمة وهي فريضة في المعروف لا في المعاصي .....
قال عبادة رضي الله عنه: {بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعلى ألا ننازعَ الأمر أهله} قال: {إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان} هذا يدلُّ على أنه لا يجوز لهم منازعة ولاة الأمور ولا الخروج عليهم إلا أن يروا كفرا بواحاً عندهم من الله فيه برهان، وما ذاك إلا لأنّ الخروج على ولاة الأمور يُسبب فساداً كبيراً وشراً عظيماً، فيختل به الأمنُ وتضيع الحقوق ولا يتيسَّرُ ردع الظالم ولا نصرة المظلوم، وتختل السبل ولا تؤمن فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فسادٌ عظيمٌ وشرٌ كبير، إلا إذا رأى المسلمون كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة أما إذا لم تكن عندهم قدرةٌ فلا يخرجون، أو كان الخروج يسبب شراً أكثر فليس لهم الخروج رعايةً للمصالح العامة. والقاعدة الشرعية المجمع عليها: "أنه لا يجوز إزالة الشرّ بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه. أما درء الشر بشرٍ أكثرَ فلا يجوز بإجماع المسلمين"، فإذا كانت هذه الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفراً بواحاً، ويكون عندها قدرة على أن تزيله وتضع إماماً صالحاً دون أن يترتب على ذلك فسادٌ كبيرٌ على المسلمين وشرٌّ أعظمُ فلا بأس.
أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد كبير واختلال الأمن وظلم الناس واغتيال مَنْ لا يستحق الاغتيال إلى غير هذا من الفساد العظيم فهذا لا يجوز، بل يجب الصبر والسمع والطاعة في المعروف ومناصحة ولاة الأمور والدعوة لهم بالخير والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله وتكثير الخير، هذا هو الطريق السويّ الذي يجب أن يُسلك لأن في ذلك مصالح المسلمين عامة، ولأن في ذلك تقليل الشر وتكثير الخير، ولأن في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شرٍّ أكثر، نسأل الله للجميع التوفيق الهداية.



                وحدة المجتمع الإسلامية: أهميّتها ووسائل تحقيقها


تكونت الوحدة العربية في عصر النبي صلى الله عليه وسلم على أساس الإسلام، وكان القرآن هو الجامع لمتفرِّقها، والموحِّد لأشتاتها، فلم تكن وحدةً قوميةً بل كانت وحدةً إسلاميةً.
والفرق بين الوحدتين واضح؛ فإن الوحدة القومية تسدُّ الباب على غير العرب، ولا تجعلهم ينتظمون في مسلكها، أما الوحدة الإسلامية، فإنها مفتَّحَةُ الأبواب، لكل مسلم أن يدخل فيها لأنها وِحْدته، ولأنَّ الديار دياره فلا فرق بين عربي، ولا بخس فيها لأعجمي، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم مؤكداً أنها وحدة إسلامية: (كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).
وإن شئت فقل: إن الوحدة التي أقامها النبي، صلى الله عليه وسلم، وحدةٌ قرآنيةٌ، لأنّ أساسها الاعتصام بحبل الله تعالى وهو القرآن. ولذلك نجد القرآن الكريم لا ينادي العرب بعنوان العرب، وإنما ينادي بعنوان الناس والإيمان، ويدخل العرب فيهم، إذ ينادي المؤمنين بقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا...." ويدخل الفرس والروم وغيرهم من أجناس أهل الأرض إذا آمنوا بالله سبحانه وتعالى.
وليس للعرب في القرآن حَظٌّ أكبرُ من غيرهم، بيد أنه نزل بلغتهم؛ ولأن النبي، صلّى الله عليه وسلم منهم، وقد قال تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...".
وإن البلاد العربية بهذا لها شرف في الوحدة؛ لأن بها بيت الله الحرام، وقد منّ الله عليهم فقال تعالى: " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ..".
وإن وجود الكعبة بها، وهي قبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في قاصيها ودانيها، وهذه القبلة تُشْعِرُ المسلمين في كل بقاع الأرض بأنهم أجزاء من كلٍّ شاملٍ جامعٍ.
وفي البلاد العربية مظهرٌ ثانٍ للوحدة الإسلامية، وهو مناسك الحج التي هي موضع التعارف بين المسلمين في كل الأرض، فهم يأتون إليها من كل فَجٍّ عميقٍ في ضيافة الرحمن.
ولا يُقالُ: إنَّ الإسلام عربي؛ لأنه نزل في أرضٍ عربيةٍ، ومعجزته عربية، ومنبعه عربي. لا يُقال ذلك؛ لأنّه لا علاقة بين خصوص المكان، أو خصوص اللغة، وكون الدعوة عامة، والحكم عاماً، لأن النبي، صلّى الله عليه وسلم، قد صرَّح بعموم الرسالة، وصرَّح القرآنُ الكريم بعمومها، ودعوة محمدٍ، صلّى الله عليه وسلم، كانت عامةً والعبرة بعموم الدعوة، لا بخصوص المكان ولا بخصوص اللغة.
وإذا كانَ للغة العربية موضعٌ في الوحدة، فليست لتخصيص الإسلام بالعرب، ولكن سنقول: إنها اللغة التي تكون وسيلة لجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت هي لغة الإسلام يوم أن كانت الوحدةُ الشاملة، وقد تفرَّقوا إذا تفرَّقوا عنها، فكان أول مظهر من تفرق كلمة المسلمين من إحياء اللغات الشعوبية للأقوام الذين دخلوا الإسلام أفواجاً.
وليس مؤدّى ذلك أن القرآن الكريم والإسلام للعرب وحدهم، دون سائر الناس.
         حمايةُ رسولِ الله، صلّى الله عليه وسلَّم، للوحدة التي أَلَّفَها الله
حمى صلّى الله عليه وسلم الوحدة الإسلامية التي ألفها الله تعالى على يديه في البلاد العربية وبين القبائل العربية، حماها النبيُّ، صلّى الله عليه وسلم، مما كان سبب التفرّق من بعد، وهو العصبية الجاهلية، والتفاخر بالأنساب. وما نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، مستنكراً أمراً اجتماعياً كما نهى عن العصبية الجاهلية، والتفاخر بالآباء. وأوجب التفاخر بالعمل الصالح وحده.
لقد برئ النبي صلى الله عليه وسلم مِن كُلِّ مَنْ يدعو بدعوى العصبية الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا مَنْ دعا إلى عصبيةٍ، وليس منا مَنْ قاتل على عصبية).
ولقد روى مسلم والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مِنْ قُتِلَ تحت رايةٍ عميّةٍ يدعو لعصبية أو ينصرُ عصبيةً فقِتْلتُه جاهليةٌ).
ولقد نهى النبي، صلّى الله عليه وسلم في سبيل إقامة الوحدة وتثبيت أمرها عن أن يقتَتِلَ المسلمون بعضهم مع بعض، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان فالقاتل والمقتول في النار، فقيل: يا رسول الله ... هذا القاتل، فما بال المقتول! قال: لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه".
وقال صلّى الله عليه وسلم: "لا يُشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده".
ولقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترجعوا بعدي كُفَّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمي الوحدة، والتآلف العربي الذي أَلَّفَ الله به العرب بعد طول افتراق، وقد علم الرسول، صلّى الله عليه وسلم أن العصبية الجاهلية هي سبب فرقتهم، فزوالها هو الذي يجمعهم.
وإن التصور الذي نستطيع أن ندركه في الجمع بين الوطنية أو الإقليمية والوحدة الإسلامية هو أن نقول: إن التدرج الإنساني يبتدئ بالأسرة، فآحادها يُكَوِّونونَ وحدةً متضافرةً متوادةً متحابةً، والأسرُ مجتمعةٌ تكوِّنُ إقليماً متواداً متآلفاً متحاباً بحيث لا تكون ثمة عداوة بين أُسرةٍ وأخرى، والمجتمع الإسلامي يتكون من أقاليم متعاونة في الذود عن الإسلام.
ولمّا انتقل النبي، صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وخالط العربُ اليهودَ، وكان في المدينة بجوار اليهود مشركون لم يدخلوا في الإسلام مع أقوامهم، بل أبوا وجحدوا، واستمروا في غيهم يعمهون إلى انتصر المسلمون في غزوة بدر، وصارت لهم قوة يُحّسَبُ حسابها، فصارت كلمة الله هي العليا، وكلمة الشرك هي السفلى.
عندئذ وُجِدَ من هؤلاء منافقون يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. وإنَّ هؤلاء المنافقين كانوا حرباً على الوحدة التي كوّنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يثيرون العداوة أينما وجدوا لكلامهم موضعاً من التأثير، كانوا يوقعون بين المهاجرين والأنصار، ولكنَّ الله تعالى كان يردُّ كيدهم في نحورهم، والنبيّ، صلّى الله عليه وسلم، يعمل على حماية المسلمين وحماية الوحدة الإسلامية من شرّهم.
روى مسلم في صحيحه عن جابرٍ رضي الله عنه قال: كنا مع النبي، صلّى الله عليه وسلم، في غزوةٍ فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ... فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ...(ما بال دعوى الجاهلية؟) قالوا: يا رسول الله، كَسَع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلف بين القلوب: "دعوها فإنها منتنة".
وفي سبيل بقاء الوحدة قائمةً في حقيقتها ومظهرها ما كان النبي، صلّى الله عليه وسلم لِيَمَسَّ منافقاً، أو ينال منه أيَّ نيلٍ وهو يعلم أنه يُثَبِّطُ المسلمين، ويخذلهم ، ويعلم كما ورد في القرآن الكريم أنهم مرضوا بداء النفاق، ولا سبيل لأن يكونوا مؤمنين، ولكنه مع ذلك يتلطَّفُ بهم، ويستغفر الله لهم، حتى نهاه الله تعالى، ونزل قوله سبحانه: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ".
نعم، لقد دعا الإسلام إلى وحدة المسلمين، وجعلهم أمةً واحدةً، ونادى بالتعاون بين الشعوب، وأَلَّفَ بين قلوب العرب والفرس والترك والهنود والبربر، وغيرهم من شعوب الأرض وجَعلهم أمةً واحدةً. فدعوة الإسلام عامَّة موجَّهة إلى الناس كافة، وقد امتن الله تعالى على الأمة الإسلامية بهذه الوحدة، وعدها من نعم الله تعالى عليهم قال تعالى: " وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا".
وقد كانت هذه الوحدة نعمةً على البشرية؛ فقد أنقذها الإسلام من عوامل الظلم، وفتح لها باب الهداية ونَوَّرَ حياتها بالإيمان، فدخلت الشعوبُ في الإسلام طائعة مختارة، وتحررت من العبودية لغير الله تعالى، وانسلخت عمّا كانت تعيش فيه من أوهام وضلالات، وسعدت في ظل حضارة الإسلام وثقافته.
وكانت هذه الوحدة عامل قُوّةٍ وعِزّةٍ للمسلمين، تَحَطَّمت على صخرتها الغزوات المغولية والصليبية والبيزنطية، وحفظت هذه الوحدةُ الأمةُ الإسلاميةَ على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان، من أسباب الفرقة والضعف والانحلال، وكانت هذه الوحدة من أشد ما يغيظ الكافر المستعمر. عندما كان يحاول السيطرة على العالم الإسلامي في فترة الضعف التي لحقت بالأمة الإسلامية، ولذلك راح يعمل جاهداً على زعزعة هذه الوحدة، ونشر بذور الفرقة والتنازع بين أبنائها وشعوبها.
لقد أخذَ أعداءُ الإسلام في عصرنا الحاضر يشجّعون النزعات العرقيّة ويثيرون النعرات العنصرية، ويُحَرّكون الدعوات الإقليمية، عن طريق الإرساليات التبشيرية، والتنقيب عن الآثار القديمة وإبراز معالمها وبعث التاريخ القديم في كل جزءٍ من أجزاء العالم الإسلامي، عن طريق الذين تَبَنُّوا حضارة الغرب وثقافته من أبناء المسلمين، كما حاول الغرب تلوين الحياة في المجتمعات الإسلامية بتقاليد وعاداتٍ مستمدّةٍ من الماضي السحيق، وذلك بنشر المسرحيات والقصص والآداب بهدف التنكُّرِ لمقومات الحياة الإسلامية.
وأثار المستعمرون العصبيات الجاهلية، والفتن الطائفية وحَرّكوا الأقليات في المجتمع الإسلامي، وأحيوا النزعات العرقية من بربرية وفرعونية وفينيقيّةٍ وآشورية وغيرها، وشجعوا الصراع بين المسلمين والنصارى، وبين السنة والشيعة.
وهكذا، راحت كلَّ عنصرية قومية تدعم وجودها بإحياء تاريخها القديم والتغني بأمجاد تلك الأيام الغابرة، وتوجِّه التاريخ والأدب والفنون المختلفة لخدمة هذا الهدف، ولم يعد مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة في نظر الناشئة ضرورةَ ملحَّةً ولا غايةً منشودةً.
أبرز الروابط والعوامل التي تؤكّد على الوحدة بين المجتمعات والشعوب الإسلامية
1. وحدة العقيدة والمبادئ: إنّ جميع الشعوب الإسلامية تشترك في تصورٍ واحدٍ للوجود والكون، فقد ثبت في عقولها ونفوسها أن لهذا الكون الرحب العظيم خالقاً واحداً حكيماً قديراً، وأن الإنسان أحد مخلوقات الله وأكرمها، وأن هذا الإنسان مخلوق الله وعبد الله، وهو في الوقت نفسه ذو سلطان على هذا الكون الذي سخره الله له.
2. وحدة القيم الخُلُقية أو الاشتراك في تقدير الخير والشر والفضيلة والرذيلة: يتميز المجتمع الإسلامي على اختلاف الأقطار والشعوب بالتوافق المبدئي في تقويم الأعمال من الوجهة الأخلاقية، وتحديد الخير والشر، والفضائل والرذائل، وإن نظرة المسلمين إلى هذه الأمور متفقه ولو أنهم انحرفوا عنها في العمل وخالفوها في التطبيق، وليست كلها كذلك عند غيرهم من المجتمعات
3. الثقافة: إن المسلمين في أكثر البلدان الإسلامية يشتركون في جزء كبير من ثقافتهم؛ فهم يدرسون القرآن والحديث والعقيدة وأحكام العبادات والمعاملات والأخلاق وسائر تعاليم الإسلام، كما يدرسون كثيراً من آثار الفكر الإسلامي في مختلف الميادين والعصور في الأدب والتاريخ وتراجم الرجال والفلسفة وسائر جوانب الثقافة الإسلامية. وقد كانت هذه الثقافة الإسلامية هي الثقافة العامة التي يتلقاها المسلمون قبل أن تدخل الثقافة الأوروبية الحديثة فكانت مشتركة فيما بينهم. وقد بقي لها ـ وأن انحسرت بعض الانحسار، بسبب مزاحمة الثقافة الحديثة الأجنبية لها ـ أثر واضح يختلف قوة وضعفاً باختلاف البلدان والبيئات. واللغة الأساسية لهذه الثقافة هي اللغة العربية، فهي لغة القرآن والحديث.
4. التاريخ: إن أكثر البلاد الإسلامية، وهي التي دخلت الإسلام منذ ظهوره وأوائل انتشاره في وقت مبكر، وتشترك في الحقيقة في تاريخ عصور طويلة. فأحداثه الكبرى، وصفحاته المشرقة، وعهود سلمه وحربه، وانتصاراته ونكباته، كلها مشتركة بين هذه البلاد. وهي عامل هام جداً في تكوين نفسية المسلمين وعواطفهم وأفكارهم وتوحيد موقفهم من الشعوب الأخرى. والشعوب التي تأخرت في دخولها الإسلام التحقت بتلك الشعوب السابقة في التأثُّرِ بهذه الأحداث والعهود التاريخية وتشترك جميعاً في نظرتها على التاريخ.
5. التشريع والأحوال الاجتماعية: خلال عصور طويلة نُفِّذَ تشريع واحد في البلاد الإسلامية وهو التشريع الإسلامي الذي يرجع في أصوله إلى القرآن الكريم ومد طبع هذا التشريع المجتمع الإسلامي في جميع البلاد بطابع واحد. فتشريع الأسرة وعلاقات أفرادها بعضهم ببعض هو تشريع واحد. والتشريع الذي ينظم العلاقات المالية والتجارب بين الناس هو كذلك تشريع واحد.
أبرز الشروط الواجب توفّرها وتحقيقها لعودة الشعوب الإسلامية إلى تحقيق الوحدة بينها من جديد:
أولاً: التنسيق بين الشعوب الإسلامية من ناحية التعليم والتشريع والتنظيم الاقتصادي وسائر النواحي الاجتماعية التي تنتج بالطبع توحيد الاتجاهات السياسية؛ وذلك بأن يكون الإسلام هو المصدر الذي تستقى منه اتجاهاتها التربوية والثقافية والتشريعية والاقتصادية والسياسية، ومنه تصوغ فلسفتها في الحياة.
ثانياً: التخفيف من السدود والحواجز القائمة، للاتجاه في نهاية الأمر إلى إزالتها؛ وذلك بتنسيق قوانين وأنظمة الجنسية والعمل والتوظيف بطريقة تنظر إلى الواقع القائم ومشكلاته، لتنتهي إلى أن تجعل من مجموع الشعوب الإسلامية وحدةً يسهل التنقل في داخلها، وتحل فيها الصفة الإسلامية المحل الأول، ويكون ذلك عاماً شاملاً يطبق على الجميع وفي جميع البلاد الإسلامية.
ثالثاً: تعميم مبادئ الإسلام في الجمهور والمثقفين عن طريق التعليم العام والتعليم الشعبي، وبسائر طرق الإعلام والنشر، لإمكان استمرار وجود القاعدة الشعبية التي تدعم الفكرة السابقة وتعضدها وتؤيدها وتستعد لتنفيذهها ولتقف أمام التعاليم العقائدية التي تسللت ولا تزال تتسلل إلى داخل البلاد الإسلامية على يد الأجانب وبعض أبناء الشعوب الإسلامية ممّن صبئوا عن عقيدتهم، وخرجوا على أمتهم وأصبحوا دُمَىً تحرِّكُها قوى خارجية وأجراء لأمم أجنبية شرقية وغربية.
رابعاً: التحرر من التبعية للدول الأجنبية جميعاً ولاسيما التبعية الفكرية والمذهبية ثم إحلال الوعي الإسلامي المبني على الفكر والثقافة الإسلامية محل هذه التبعية؛ وذلك ليتمكن العالم الإسلامي بجميع شعوبه من الاستقلال الحقيقي والشعور بالكيان الذاتي ومن القيام حينئذ بدوره الحضاري الإنساني.
          أبرز النتائج التي ترتَّبتْ على فقدان الوحدة الإسلامية
1. تَأَخُّرُ المجتمع الإسلامي فكرياً بوجه عام، وركود الحركة العلمية المتعلقة بالكون أو الطبيعة بوجه خاص، فقد ضعف الإبداع العلمي ثم زال واختفى، وفقد المسلمون القدرة على التفكير الكلي الشامل الذي يستطيع أن يستخرجَ من الجزئيات والكليات، ومن الحوادث سننها وقوانينها العامة، وشاع فيهم التفكير الذي يقتصر على النظر في الجزئيات مبعثرة مشتتة دون القدرة على وضعها في مواقعها من نظام عام وشامل.
2. ركود الحركة الاقتصادية التي ازدهرت إثرَ انتشار الإسلام وفتوح البلدان وتكوين دولة عظيمة لأمة كبيرة مؤلفة من شعوب كثيرة؛ فقد توقفت هذه الحركة الاقتصادية في ميادين الزراعة والصناعة عند مرحلة معينة لا تتجاوزها.
3. الضعف السياسي والعسكري: فقد اختفت الدولة العقائدية الإسلامية ذات الأهداف الإنسانية والأخلاقية، ونشأت مكانها دول السلطان القاهر المتحكم المتنافسة، مع ما رافق ذلك من مظاهر بذخ السلاطين والأمراء وترفهم واستعلائهم.
4. التأخر الاجتماعي: ولاسيما في جانبه المادي؛ كشق الطرق، وبناء الجسور، والمستشفيات، والمدارس، وتأمين البريد، وكفالة العاجزين، وسائر الخدمات العامة ذات الصفة الاجتماعية، التي كانت مرافقها كثيرة، والتي كان يرُجى أن تنمو وتزيد وتتطور. أما الجانب المعنوي أو الأخلاقي من الحياة الاجتماعية فكان متروكاً لضمائر الناس وتقواهم، وما يصيب تلك الضمائر من ضعف أو فساد.

   الوَسَطِيّةُ والاعتدال


تكادُ الوسطيّةُ تكون أبرز سمات أمّةٍ محمدٍ، صلّى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"
قال الإمام ابن جرير الطبري ـ يرحمه الله ـ في تفسير هذه الآية: أرى أنَّ الله تعالى ذِكُره إنّما وصفهم بأنهم (وَسَطٌ) لتوسّطهم في الدين، فلا هم أهل غلوٍ فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهُّبِ، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ولا هم أهل تقصيرٍ، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهلُ توسطٍ واعتدالٍ فيه. فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها.
يقول ابن القيم: فدينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وخيرُ النَّاسِ النمطُ الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرِّطِين ولم يلحقوا بغلو المُتَعَدَّين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهي الخيار العدل، لتوسّطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط.
وقال سيد قطب: وإنها للأمةُ الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحُسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه الماديّ والحسيّ....
ثم بدأ ـ عليه رحمة الله ـ يعدد مناحي وسطية هذه الأمة الطّيبة فقال رحمة الله:
-       أمة وسطاً ... في التصور والاعتقاد ... لا تغلوا في التجرُّد الروحي ولا في الارتكاس الماديّ.
-   أمة وسطاً ... في التفكير والشعور ... لا تجمدُ على ما علمت ....  ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك.
-       أمة وسطاً ... في التنظيم والتنسيق ... لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كلها كذلك للتشريع والتأديب.
-   أمة وسطا ... في الارتباطات والعلاقات ... لا تُلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلق كذلك فرداً أثراً لا هَمَّ له إلا ذاته.
-       أمة وسطاً ... في المكان ... في سرّة الأرض، وفي أوسط بقاعها.
-       أمة وسطا ... في الزمان ... تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها؛ وتحرس على عهد الرشد العقلي من بعدها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذه الفرقة الناجية "أهل السنة" وهم وسط في النِّحَلِ؛ كما أنّ ملّة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون [وسطٌ في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين]؛ لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.
ولا جفوا عنهم كلما جفت اليهود؛ فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكُلَّمَا جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً.
وكذلك المؤمنون [وسطٌ في شرائع دين الله] فلم يُحرّموا على الله أن ينسخ ما يشاء ويمحو ما يشاء، ويُثبتُ كما قالته اليهود.
ولا جَوَّزُوا لأكابر العلماء وعُبَّادهم [أن يغيروا دين الله]، فيأمروا بما شاؤا وينهوا عما شاؤا، كما يفعله النصارى، كما ذكر  الله ذلك عنهم بقوله: " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ". قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله ما عبدوهم؟ قال: {ما عبدوهم؛ ولكن أحلّوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرَّموا عليهم الحلال فأطاعوهم}.
وهكذا أهل السنة والجماعة في الفِرَقِ:
1. فهم في باب [أسماء الله وآياته وصفاته] وسطٌ بين [أهل التعطيل] الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطّلون حقائق ما نعتَ اللهُ به نفسه؛ حتى يشبهِّوه بالعدم والموت، وبين [أهل التمثيل] الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصف به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.
2. وهم في باب [خَلْقِهِ وأمره] وسط بين [المكذبين بقدرة الله]؛ الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه كل شيء؛ وبين [المفسدين لدين الله] الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل فيعطِّلُون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: " لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ".
فيؤمن أهل السنة بأنَّ الله على كل شيء قدير. فيقدر أن يهدي العباد ويُقَلِّبَ قلوبهم وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات.
ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئةٌ وعمل، وأنه مَّختار، ولا يسمّونه مجبوراً؛ إذ المجبور من أُكْرِهَ على خلاف اختياره؛ والله سبحانه جعل العبد مختاراً لما يفعله فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
وهم أيضاً وسطٌ في [أصحاب رسول الله، صلى الله عليه، ورضي الله عنهم] وسطٌ بين [الغالية] الذي يغالون في عليٍ رضي الله عنه، فيفضّلونه على أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه هو الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفَّروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبياً أو إلهاً، وبين [الجافية] الذين يعتقدون كفره وكفر عثمان، رضي الله عنهما، ويستحلّون دماءهما ودماء مَنْ تولاهما. ويستحبون سبَّ عليٍ وعثمان ونحوهما ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته.

وكذلك في [سائر أبواب السُنَّة] هم وسط لأنهم متمسّكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبَعُوهم بإحسانٍ.... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق