ثاني أركان رد الشبهات عن الاسلام و نبوة سيدنا محمد


ردّ الشبهات والمطاعن التي أوردها الرهبان والمستشرقون في الإسلام ونبوِّة رسول الله r (2)
بقلم الدكتور راجح إبراهيم السباتين
الشّبهةُ الثالثةَ عشرة ودفعها:
يستتبعُ الحديثَ عن شبهة انتشار الإسلام بحدّ السيف وقوّة السلاح والجهاد فقط شبهةٌ تدعمها وتقوّي من وقعها في النفوس، ومضمون هذه الشّبهة أنّ محمدّاً يقول: إنّ الله أمره أن يُقاتلَ كلَّ الناس فلا يتوقّف عن قتالهم إلا حين إعلانهم الدّخول في الإسلام ونطقهم بالشّهادتين. وإنّ الجنّة التي وعد بها محمدٌ أتباعه كانت وستبقى تحت ظلال السيوف!!!
- من الواضح تماماً أنّ هذه الشبهةَ قائمةٌ على حديثين شريفين، أولهما قوله r "أُمِرتُ أن أقاتلَ الناس حتى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول" وثانيهما قوله r "واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السّيوف". وهذان الحديثان صحيحان أخرجهما الإمام البخاري، رحمه اللهُ تعالى رحمةً واسعةً، في صحيحه. ومن الواضح أنّ كلمة "السَّيف" لها وقعٌ عظيمٌ في نفوس الرهبان الطاعنين وتأثيرٌ عليهم لا يعلمه إلاّ اللهُ تعالى. وهم في إبرازهم لأحاديث "السيف والقتال والحرب" يتعامون تماماً عن ورود هذه الألفاظ الثلاثة في كتابهم المقدس بعهديه القديم والجديد مرّاتٍ كثيرةً، وهذا ما سنقوم بتوضيحه وتفصيل القول فيه، بعونه تعالى، بعد شرحنا لمضمون الحديثين الشريفين وحقيقة المراد بهما.
أمّا الحديث الأول فقد أخرجه الإمام البخاري، رحمه الله، في صحيحه "قال رسول الله r: (أُمِرتُ أن أُقاتلَ الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقَّ الإسلام، وحسابُهم على الله)([1]). كما أخرجه الإمام مسلم، رحمه الله تعالى، في صحيحه قال رسول الله r: (أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا اللهُ عصمَ منّي ماله ونفَسه إلا بحِّقهِ، وحسابُه على الله)([2]).
ومن المستحيل عقلاً وشرعاً أن يُقاتل رسول الله r الناس جميعاً، كما فهم الرهبان الطاعنون، لأنَّ هذا الفهم الأعوج يقتضي أن يُحارِبَ النبيُ كلَّ الناس سوى المسلمين، وهذا مرفوضٌ شرعاً حيث أنّ أهل الكتاب من اليهود والنصارى لم يُطلَبْ إليهم أبداً أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله.
فالمقصود بالناس في الحديث الشريف "بعضُ الناس" أو "طائفةٌ من الناس" ألا وهم المشركون من غير أهل الكتاب. قال ابن حجرٍ العسقلاني، رحمهُ الله، في توضيح معنى لفظ "الناس" الوارد في هذا الحديث الشريف "أن يكونَ من العام الذي أُرِيدَ به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله "أقاتل الناس" أي: المشركين من غير أهل الكتاب. ويدلُّ عليه رواية النسائي بلفظ "أُمرتُ أن أقاتل المشركين". فإن قيل: إذا تَّم هذا في أهل الجزية لم يتم في المعاهدين ولا فيمن منع الجزية، أجيبَ بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدّةً كما في الهدنة، ومقاتلة مَن امتنع من أداء الجزية بدليل الآية"([3]).
ويشهدُ لصحّة تبعيض المقصود من كلمة الناس الواردة في هذا الحديث لا تعميمه قوله تعالى في سورة آل عمران " الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ"([4]). فقد ورد في تفسير معنى "الناسُ" المُثَبِّطون الذين حاولوا تثبيط همم المسلمين الذين خرجوا في طلب أبي سفيان في حمراء الأسد، والمقصود بها نعيم بن مسعود الأشجعيّ، أمّا (الناسَ) فالمقصود بها أبو سفيان وأصحابه، فإن قُلتَ كيف قيل (الناسُ) إن كان نعيمُ هو المُثَبِّط وحده؟ قلتُ: قيلَ ذلك لأنّه من جنس الناس، كما يُقال: فلان يركبُ الخيل ويلبسُ البرودَ، وماله إلاّ فرسٌ واحدةٌ وبردٌ فردٌ([5]).
ثم إنّه لا يصحُّ أن يُفهمَ من الحديث الشريف السابق أن كلمة "أقاتل الناس" تعني قتلهم لا، فمن معاني القتال ردُّ الأذى والاعتداء والظّلم.
أمّا عن الحديث الثاني فقد أخرجه الإمام البخاري، رحمه الله، في صحيحه، "إنَّ رسولَ الله r في بعض أيامه التي لَقِيَ فيها انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس خطيباً قال: "أيُّها الناسُ لا تتمنَّوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أنَّ الجنَّةَ تحت ظلال السيوف. ثم قال: اللهمَّ مُنِزلَ الكتاب ومُجريَ السَّحاب وهازمَ الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم"([6]).
هذا الحديث الشريف شارحٌ نفسَه بنفسه؛ فهو يُجَسِّدُ غزوة الأحزاب (الخندق) التي تداعت فيها الكثير من القبائل العربيّة واليهوديّة لمهاجمة المسلمين في المدينة المنوّرة والقضاء عليهم واستئصالهم، في جيشٍ فاق تعداده العشرة آلافٍ من المقاتلين. فهبَّ النبيُّ r يستنهض هِممَ المسلمين للذود عن وجودهم وكيانهم المهدَّدِ آنذاك، ويدعوهم لحمل السلاح والسيوف للذود عن أنفسهم ويبِّشرهم بأنّ الجنّة تحت ظلال هذه السيوف. السيوف المرفوعة في وجه الظلم والبغي والمعتدي، لا السيوف المرفوعة للقتل والإكراه والاعتداء كما تتخيّلُ عقول الرهبان الطاعنين السَّقيمة. ماذا كان الرهبانُ الطّاعنون يتوقّعون من رسول الله r أن يقول في هذا الموقف الرهيب الذي كان يتهدَّدُ دينه وقومه؟؟ ماذا كان الرهبان الطاعنون يتوقّعون من الرسول المُحاصَرِ وقومه ونساؤهم وذراريهم؟؟ أكانوا يتوقّعون منه أن يقول لأصحابه أغمدوا سيوفكم واخفضوا أصواتكم وأحنوا رؤوسكم واستعدّوا للموت؟؟ أكانوا يتوقّعون منه الاستسلام والفرار والنزول على حكم اليهود والقبائل العربيّة الوثنيّة المُشِركة؟؟ حاشا لنبيٍّ أن يفعل ذلك، فكيف وهو سيِّدُ الأنبياء وسيِّدُ ولد آدم؟؟ حاشاه حاشاه، وكيف لا يقول سيِّدُ الأنبياء ذلك وقد سبق أن وعدهم مراراً بأنّ الجنّة والجنّة وحدها جزاءُ ومُستقرُّ الشهداء والمجاهدين لتكون كلمةُ الله هي العليا؟؟!
ولعمري لولا ذاك الوعد وصمودُ رسول الله r وأصحابه الكرام، في ذاك الموقف وتلك الغزوة لما وصلَ الإسلامُ إلى زماننا هذا خصوصاً إذا ما تذكَّرنا أنَّ حلفاء النبي r من يهود بني قريظة قد تآمروا مع الأحزاب ونقضوا عهدهم مع رسول الله r والمسلمين، وفتحوا أبوابهم على مصراعيها لتكونَ بدايةً لجبهةٍ جنوبيّةٍ يُغيرُ منها المشركون على المسلمين.
ثُمَّ لماذا يستكثر الرهبان الطاعنون على رسول الله r أن يدعو المسلمين لحمل السيوف للدفاع عن وجودهم ويتعامون عن استخدام أنبياء وملوك العهد القديم للسيوف والإسراف في القتل والتقتيل وإبادة المدن والقرى؟؟ ولماذا يتعامون عن دعوة المسيح التي قال فيها "لا تظنّوا أني جئتُ لألقيَ سلاماً على الأرض، ما جئتُ لألقي سلاماً بل سيفاً، وإني جئتُ لأفرِّقَ الإنسان ضدَّ أبيه، والإنبة ضدَ أمها، والكِنَّةَ ضدّ حماتها، وأعداءُ الإنسان أهل بيته. مَن أحبَّ أباً أو أمّاً أكثرَ منّي فلا يستحقّني، ومَن أحبّ ابناً أو ابنةً أكثر مني فلا يستحقني، ومّن لا يأخذُ صليبَه ويتبعني فلا يستحقّني. مَن وجَدَ حياته يُضيعُها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدُها"([7]).
وماذا يقول الرهبان الطاعنون عندما نقرأ عليهم قول المسيح ـ عليه السلام ـ "جئتُ لأُلقي ناراً على الأرض فما أريدُ لو اضطرمَتْ؟؟"([8]) وماذا يقولون عندما نقرأ عليهم قول المسيح ـ عليه السلام ـ "أمّا أعدائي أولئك الذين لم يُريدوا أن أملِكَ عليهم، فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قُدّامي؟؟"([9]).
وماذا يقول الرهبان الطاعنون عندما نقرأ عليهم نصوص العهد القديم التي تبُيحُ قتلَ الرجال والنساء والأطفال وتدمير القبائل وأهلها؟؟ ومن ذلك "حين تقرُبُ من مدينةٍ لكي تحاربها استدعها إلى الصّلح، فإن أجابتكَ إلى الصلح وفتحتْ لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبَدُ لك. وإن لم تسالمكَ، بل عَمِلَتْ معك حرباً، فحاصرها. وإذا دفَعها الربُّ إلهُكَ إلى يدك فاضرب جميعَ ذكورها بحدِّ السّيف. وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلُّ ما في المدينة، كلُّ غنيمتها، فتغتنِمُهَا لنفسكَ، وتأكلُ غنيمةَ أعدائك التي أعطاك الربُّ إلهُك. هكذا تفعلُ بجميع المدن البعيدة منك جداً التي ليست من مُدنِ هؤلاء الأمم هنا. وأمَّا مدنُ هؤلاء الشعوب التي يُعطيك الربُ إلهُك نصيباً فلا تَستبقِ منها نسمةً ما، بل تُحرِّمُها تحريماً: الحثّيين والأَمُورييّن والكنعانيين والفِرزييّن والحِوّييّن واليبوسيين، كما أمركَ الربُّ إلهُك، لكي لا يُعَلِّموكم أن تعملوا حسْبَ جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم فَتُخْطِئوا إلى الربّ إلهكم"([10]).
وماذا يقول الرهبان الطاعنون عندما نُذَكِّرهم بأنّ كتابهم المقدّس في عهده القديم يحكي أنّ نبيّ الله داود قتل أربعين ألفاً من الفرسان المحاربين في حربه ضد أَرام؟ "وهرب أرامُ من أمام إسرائيل، وقتل داودُ من أرام سبعَ مئةِ مركبةٍ وأربعينَ ألفَ فارسٍ، وضرب شوبك رئيس جيشه فمات هناك"([11]).
وأخيراً فماذا يقول الرهبان الطاعنون عندما نذكرُ أمامهم قول الكتاب المقدّس في عهده القديم عن نبيّ الله داود في حربه ضدّ مدينة ربّة بني عمّون "وأَخْرَجَ الشعبَ الذي فيها وَوَضَعُهمْ تحت مناشير ونوارجِ حديدٍ وفؤوسِ حديدٍ وأَمَرَّهُمْ في أتون الآَجُرِّ، وهكذا صنعَ بجميع مدن بني عمون، ثم رجع داود وجميع الشعب إلى أورشليم"([12]).
ما لهؤلاء الرهبان الطاعنين يستخفُّون كلَّ أنواع السيوف إلا سيف الإسلام يستثقلونه؟ وما لهم يعترفون بمشروعية حمل السيف للدفاع عن النفس تارةً ولإبادة المدن والقرى تارةً إلا سيف الإسلام يرونه للقتل والإكراه والإجبار؟؟؟.
الشُّبهةُ الرابعةَ عشرةَ ودفُعها:
إنَّ الجنَّةَ التّي وعد بها محمدٌ أتباعه وأصحابه مليئةٌ بالشّهوات والملذّات الحسّيّة والماديّة والجنسيّة فقط. وقد وعد محمدٌ أتباعه بأنَّ المحرَّماتِ عليهم في الدنيا، كالخمر ولبس الحرير والذهب والزواج من نساءٍ كثيراتٍ، ستكون مُباحةً لهم ومتوفّرةً بالكامل في الجنّة.
- من الطبيعي والمتوقَّع أن يقول الرهبان الطاعنون قولاً كهذا؛ فهم لم يُتْعِبوا أنفسهم في قراءة الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبويّة الشريفة التي شَكَّلتْ بمجموعها التصُّورَ الصحيح الواضح الدقيق للمسلم عن جنّة الخُلدِ والنّعيم. ونذكّرهم هنا بأنّ الجنّةَ كما وصفها لنا الشارع لا تقتصر على ما تتوهمه عقولهم من اللذات، والمتع الماديّة فقط بل إنّ فيها من اللذات المعنوية والروحية ما يفوق كلَّ شيءٍ يُسمّى مادّةً. ففيها نهاية الغايات من الطمأنينة القلبية والراحة النفسيّة والسكينة والرضى المتحققة برؤية الله تعالى، "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "([13]). وهل هناك نعيمٌ ألذُّ وأكبرُ من هذا المتحقق برؤية الله تعالى؟؟ وفي الجنة مَودّةٌ وودٌّ متبادَلٌ بين أهلها وسلام وسكينةٌ يتقلّب أهلها في النّعيم. فلا خوف ولا شحناء ولا تحاسد ولا تباغض ولا تنافس ولا "قيل وقال" ولا لغواً ولا تأثيماً. ولعمري ما الذي يطمع فيه الإنسان من حياةٍ غير هذه ؟؟ ثمّ إنّ هناك من ألوان النعيم الذي خبّأه الله تعالى لعباده الذين يدخلون الجنة ما لم تره عينٌ ولم تسمعه أذنٌ ولم يخطر على قلب واحدٍ من البشر. قال رسول الله r: "يقول الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، ذخراً من بَلْهَ ما أُطلِعْتُم عليه. ثم قرأ "فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"([14]))([15]).
ونُذكّر الرهبان الطاعنين، بمناسبة الحديث عن المتع المادية في الجنّة من طعامٍ وشرابٍ وخمرٍ ولبنٍ وعسلٍ، بأنَّ هذه الأطعمة والأشربة ولئن وُجِدتْ في الجنّة إلا أنها لا تشبه طعام وشراب أهل الدنيا في شيءٍ مِنْ طعمها وأثرها، يشهد لذلك قول ابن عباسٍ، رضي الله عنهما، "ليس في الدنيا من الجنّة شيءٌ إلا الأسماء"([16])، فهو تشابهٌ في الأسماء والمعاني لا في الخصائص والكيفيّات. قال ابن تيمية رحمة الله عليه: واليهود والنصارى والصابئون من المتفلسِفة وغيرهم فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكلٌ وشربٌ ولباسٌ وزواجٌ. ويمنعون وجودَ ما أَخبرَ به القرآن. والردُّ عليهم هو أنَّ ما ورد في القرآن الكريم من وصف ملذات الجنة، أَنَّ حقيقتها ليست مُماثِلةً لما في الدنيا، بل بينها تباينٌ عظيمٌ من التشابه في الأسماء. فنحنُ نعلمها إذا خُوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدرِ المشترَكِ بينهما ولكنْ لتلك الحقائق خاصيّةٌ لا نُدركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كلِّ وجهٍ، وتلك الحقائق على ما هي عليه([17]).
ثمّ من أين جاء الرهبان الطاعنون بعبارة وفكرة "أنّ كلّ محرَّمٍ على المسلمين في الدنيا سيكون مباحاً لهم في الجنّة"؟؟ فهل تُباحُ السّرقة في الجنة؟؟ وهل يباحُ القتل؟؟ وهل يُباحُ التحاسد؟؟.
وفي الوقت الذي نرى فيه الرهبان الطاعنين يهاجمون التصوّر الإسلامي للجنَّة ويقصرون ذلك على الجانب الحسيّ المادي وينفون وجودَ مثلِ هذا الجانب في تصوِّرهم المسيحيّ للجنة نرى الإنجيل يخبرنا خلاف تَصَوُّرِهم تماماً، حيث أنّ الإنجيل يذكر في مواضعَ متعدّدةٍ تناول الطعام والشراب فيها. ويشهد ذلك ما يلي ممّا جاء على لسان المسيح عليه السلام:
1. (وأنا أجعلُ لكم كما جعل لي أبي ملكوتا لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسيّ تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر) ([18]).
2. (الحقَّ أقولُ لكم إنّي لا أشربُ بعدُ من نِتَاجِ الكَرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديداً في ملكوت الله) ([19]).
3. (إذا صنعتَ غَداءً أو عشاءً فلا تدعُ أصدقاءكَ ولا إخوتَك ولا أقراباءَكَ ولا الجيران، لئلا يَدْعوكَ هم أيضاً بالمقابل فتكون لك مكافأةٌ، بل إذا صنعتَ ضيافةً فادعُ المساكين الجُدْعَ العُرجَ العميَ، فيكون لك الطّوبى إذ ليس لهم حتى يكافؤك لأنك تُكافَأُ في قيامة الأبرار، فلمّا سمع هذا واحدٌ من المتّكئين قال له: طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله) ([20]).
ونحن نكتفي بإيراد ما سُقناه من ردودٍ على شبهة الرهبان الطاعنين في اقتصار (جنّة المُسلمين) على الشهوات والجوانب الحسيّة فقط، مُذكِّرين القارئ الكريم بأنّ المصادر المسيحية كافّةً لم تقدّم لأتباعها حتى الساعة تصُّوراً محدَّداً أو حتى واضحاً للتصوُّر المسيحيِّ للجنّة وكيفية الحياة فيها وأوصافها أو حتى أوصاف أهلها!!!.
الشُّبهةُ الخامسةَ عشرة ودفعُها:
كان محمدٌ رجلاً شهوانيّاً يعشق النساء. ولقد اتَّخَذَ لنفسه تسعَ زوجاتٍ في الوقت الذي حدَّدَ لأتباعه عدد الزوجات المسموح به بأربعٍ فقط، وهذا دليلٌ كبيرٌ على شهوانيته وانكبابه على الدنيا وملذّاتها، مما يؤكِّدُ استحالة كونه نبياً طالما كانت هذه أخلاقه.
- تُعتبر هذه الفِريةُ من أكثر الافتراءات والمطاعن الرهبانية استفزازاً لمشاعر المسلمين قديماً وحديثاً. ولذلك نرى عدداً كبيراً من المؤلَّفات التي كتبها الأساتذة والعلماء والدّعاة لدحضها والردّ عليها، وبيان زيفها. مع أنّ الكتاب المقدّس يخبّرنا عن عددٍ كبيرٍ من أنبياء بني إسرائيل الذين اتّخذوا لأنفسهم العديد من الزوجات، إلا أنّ الرهبان الطاعنين لا يرون بأساً إلاَّ في تعدّد زوجات محمد r.
ولقد ارتأينا صياغة ردود علمائنا الأفاضل([21]) على هذه الفرية على شكل نقاطٍ ليَسهُلَ العرض والنقاش.
ونشير قبل استعراض هذه الردود إلى أنّ الله تعالى قد منحَ من الخصوصيّات لأنبيائه ورسله ما لم يمنحه لغيرهم من البشر، ومن هذه الخصوصيات على سبيل المثال لا لحصر وجوب التهجد والقيام بحقه r، ومواصلة الصيام، والزواج بأكثر من أربعِ زوجاتٍ. ولَعَلَّ دَافِعَ الكثيرين من الطاعنين لإنكار ذلك هو إخضاعهم لما سبق ذكره لمقاييس الحياة المعاصرة في القرن الحادي والعشرين وهو أمرٌ من الخطأ بمكان!!.
إنّ العقل الغربي المعاصر يَقْبَلُ أن يكون للرجل زوجةٌ واحدةٌ تربطه بها علاقة شرعيةٌ وقانونيةٌ. كما يقبلُ هذا العقل أن يكون لهذا الرجل عشيقاتٌ عديداتٌ، ولكنَّ هذا العقل الغربيَّ المعاصِرَ لا يقبل أن يكون للنبي محمد r زوجات عديدات!! عجباً لهؤلاء كيف يحكمون!!!.
ولعلَّ بيانَ الحكمة من زواج رسول الله r من كلِّ واحدة من أمّهات المؤمنين يكون خيرَ طريقٍ ليفهم من خلاله هؤلاء الطاعنون لماذا تزوَّجَ محمدٌ r تسع نساء.
1. حين بلغ رسول الله r الخامسة والعشرين ورغب في الزواج لم يبحث عن "البِكْرِ" التي تكون أحظى للقبول وأولى للباحثين عن مُجرّدِ المتعة. وإنما تزوَّج إمرأةً تكبره بحوالي خمسةَ عشرَ عاماً، ثم إنّها ليست بكراً بل هي ثَيِّبٌ، ولها أولادٌ كبارٌ عمرُ أحدهم يقترب من العشرين؛ تلكم هي السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وفوق هذا كلَّه فمشهورٌ أنها هي التي اختارته بعد ما لمست بنفسها- من خلال مباشرته لتجارتها- من أمانته وعفته وطيب شمائله r.
وبعد زواجه منها دامت عشرتُه بها طيلة حياتها، ولم يتزوَّجْ عليها حتى مضتْ عن دنياه إلى رحاب الله. وقضى معها-رضي الله عنها- زهرة شبابه وكان له منها أولاده جميعاً إلاّ إبراهيم الذي كانت أمه السيدة "مارية" القبطية. وقد بقي يذكرُها بالخير ويعدِّدُ مآثرها والثناء عليها بعد وفاتها حتى أثار ذلك غيرة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
2. كان رحيل السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ مثيراً لأحزانٍ كُبرى في بيت النبي r وفي محيطِ الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ إشفاقاً عليه من الوحدة وافتقادِ منْ يرعى شؤونه وشؤون أولاده، ثم رأوا فقدانه r عمه أبي طالبٍ، نصيره وظهيره وسُمّي العام الذي رحل فيه نصيراه خديجة وأبو طالب عامَ الحُزن.
في هذا المناخ، مناخ الحزن والوحدة وافتقاد مَنْ يرعى شئون الرسول وشئون أولاده، تزوَّجَ رسول الله r سودة بنت زمعة رضي الله عنها وأرضاها. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ سودة هذه كانت زوجةً للسكران بن عمرو وتُوفِّيَ عنها زوجها بمكة فلما حَلّت تزوجها الرسول r وكانت أولَ امرأةٍ تزوجها r بعد خديجة.
وعَجِبَ المجتمعُ المكيُّ لهذا الزواج لأن "سودة" كانت كبيرةً في السنِّ لم تكن ذات جمالٍ ولا حسبٍ ولا تصلُحُ أن تكون خلفاً لأم المؤمنين خديجة التي كانت عند زواج الرسول r بها جميلةً وضيئةً وحسيبةً تطمحُ إليها الأنظار، ولكنها ـ رضي الله عنها ـ كانت مؤمنةً هاجرت الهجرة الأولى مع مَن فروا بدينهم إلى الحبشة وقد قبل الرسولُ زواجَها حمايةً لها وجبراً لخاطرها بعد وفاة زوجها إثر عودتهما من الحبشة. وليس الزواج بها شعارَ شهوةٍ للرسول ولكنه كان جبراً لخاطر امرأةٍ مؤمنةٍ خرجت مع زوجها من أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة ولما عادا توفّي زوجُها وتركها امرأةً تحتاج هي وبنوها إلى من يرعاهم.
3. بعد سودة ـ رضي الله عنها ـ تـزوَّج الحبيب المصطفى عائشة بنت أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنها ـ وسنفردُ لزواجه بها ـ رضي الله عنها ـ مساحةً خاصةً في الصّفحات القادمة بإذنه تعالى.
4. أمّا عن حفصة بنت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنها ـ فقد تزوجها الحبيب المصطفى جبراً لخاطرها وإكراماً لها ولوالدها الفاروق ـ رضي الله عنه ـ وأرضاه. وذلك بعد أن توفِّيَ عنها زوجها حُنيسُ بن حذافة السهميّ، وهو صحابيٌ جليلٌ من أصحاب الهجرتين ـ إلى الحبشة ثم إلى المدينة ـ ذلك بعد جراحٍ أصابتهُ في غزوة أحدٍ حيث فارق الحياة وأصبحت حفصةُ بنتُ عمر بن الخطاب أرملةً وهي شابَّةٌ.
وكان ترمُّلها مثارَ ألمٍ دائمٍ لأبيها عمر بن الخطاب الذي كان يُحزِنه أن يرى جمال ابنته وحيوِيَّتَها تخبو يوماً بعد يومٍ. فعرض الزواج بها على أبي بكر الصديق الذي التزم الصمت، ومن بعده عثمان بن عفان، الذي رفض ذلك، حتى خطبها وتزوَّجها مَن هو خيرٌ منهما r.
5. تَزَوَّجَ رسولُ الله  r أمَّ سلمة بنت زاد الركب، وهي من المهاجرين الأوَّلين إلى الحبشة وكان زوجها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي أولَ مَن هاجرَ إلى المدينة من أصحاب محمد r. وقد جاءت إلى بيت النبي r كزوجةٍ بعد وفاة زينب بنت خزيمة الهلالية بزمنٍ غير قصير. وهي سليلةُ بيتٍ كريمٍ، فأبوها أحدُ أجواد قريش المعروفين بلقب زاد الراكب؛ إذ كان لا يرافقه أحدٌ في سفرٍ إلا كفاه زاده. وزوجها الذي ماتَ عنها صحابيٌ من بني مخزوم ابن عمّة المصطفى r وأخوه من الرضاعة. وكانت هي وزوجها من السابقين إلى الإسلام. وكانت هجرتهما إلى المدينة معاً.
6. تزوَّجَ النبيُّ r بعد ذلك زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ وسَنُفْرِدُ لها في الصفحات القادمة مساحةً خاصةً للحديث عن زواجها هذا، بإذنه تعالى.
7. تزوَّجَ النبيُّ r بعد ذلك جويريّة بنت الحارث الخزاعيّة، قد كانت ـ رضي الله عنها ـ مِمَّنْ وقع في الأسر بعد هزيمة بني المصطلق من اليهود، فكاتَبَها مَنْ وقعت في أسره (ثابت بن قيس) على مالٍ فلم يُعْجبها ذلك، وذهبت إلى رسول الله r أملاً فيما هو خيرٌ من ذلك، فكان لها ما أَمِلَتْهُ حيثُ عَرضَ عليها الحبيبُ المصطفى أن يقضيَ عنها المال الذي كاتبَها عليه مَنْ أَسَرَها مِن المسلمين وتَزَوَّجَها r. فلمَّا ذاعَ الخبرُ أطلقَ المسلمون كلَّ مَن وقع في أسرهم من بني المصطلق إكراماً لهذه المرأة الفاضلةِ واحتراماً للحبيب المصطفى الذي غدا أسرى بني المصطلق بمثابة أصهاره، فكان أن دخلَ معظمُ هؤلاء الأسرى الطلقاء في الإسلام، فأيُّ خيرٍ وأيُّ شرفٍ كان أعظم لجويرية وقومها مما حدث؟؟
8. تَزَوَّجَ النبي r من صفية بنت حُيي التي وقعتْ في أسر (دحية الكلبيّ) بعد غزوة الخندق. فأعتَقَها من الأَسْرِ وحرَّرَها. وقد أسلمتْ وحَسُنَ إسلامها، رضي الله عنها. وأيُّ شرفٍ كان لصفيّة ـ رضي الله عنها ـ أعظمَ من دخولها بيت النبي عوضاً عن بقائها في الأسر والذلِّ والهوان؟؟ خصوصاً إذا ما تذكّرنا أنها كانت بنتَ واحدٍ من أشهر زعماء القبائل اليهودية وأكثرهم عداوةً لرسول الله r ألا وهو حيي بن أخطب.
9. تزوَّجَ النبي r رملة بنت أبي سفيان إنقاذاً لها من محنةٍ خطيرةٍ وإخراجاً لها من ظرفٍ قاسٍ عزَّ مثيلُه وعزَّ مثيلُ رجلٍ أنقذها منه. فقد كانت زوجاً لعبيد الله بن جحش، وخرجا معاً مهاجِرَينِ بإسلامهما في الهجرة الأولى إلى الحبشة، وكما هو معروفٌ فإنَّ الحبشة في عهد النجاشيّ كانت المهجرَ الآمنَ للفارّين بدينهم من المسلمين، حتى يخلصوا من بطش المشركين بهم  وعدوانهم عليهم. لقد تعرَّضتْ رملةُ ـ رضي الله عنها ـ لمحنةٍ قاسيةٍ لم يتعرّض لمثلها أحدٌ من هؤلاء المهاجرين الأوائل إلى الحبشة؛ ذلك أنّ زوجها عبيد الله بن جحش قد أعلنَ ارتداده عن الإسلام ودخولَهُ في النصرانية. وما أصعبَ وأدقّ حالَ امرأةٍ في محنةٍ مُضاعَفةٍ! محنتها في زوجها الذي ارتدَّ وخَانَ، ومحنتها السابقة مع أبيها الذي فارقتهُ مُغَاضِبةً إيّاهُ في مكةَ منذ دخلتْ في دين الله. وفوق هاتين المحنتين كانت محنةُ الاغتراب حيث لا أهل ولا وطن. ثم كانت محنة حملِها بالوليدة التي كانت تنتظرها والتي رُزِقَتْ بها مِن بعدُ وأسمتها "حبيبة".
لقد كانت خِطبتهُ r لرملة (أم حبيبة) موقفاً يذكره التاريخ بكلِّ فخرٍ واعتزازٍ، يُعَبِّرُ بكلِّ وضوحٍ عن الجانب الإنسانيِّ البارز في شخصّيته عليه الصلاة والسلام.
10. تَزَوَّجَ النبيُّ r ميمونة بنت الحارث الهلالية، وقد كانت آخِرَ أمهات المؤمنين، رضوان الله عليهنّ جميعاً. توفّيَ عنها زوجها أبو رهمٍ بن عبد العزّى العامريّ؛ فانتهت ولايةُ أمرها إلى زوج أختها العباس الذي زَوَّجها رسول الله r؛ حيث بنى بها الرسولُ في "سرف" قُربَ التنعيم على مقربةٍ من مكة، حيث يكون بدء الإحرام للمُعتمرين من أهل مكة والمقيمين بها.
 وقيل: إنه لمّا جاءها الخاطبُ بالبشرى قفزتْ من فوق بعيرها وقالت: البعير وما عليه لرسول الله r. وقيل: إنها هي التي وهبتْ نفسها للنبيّ والتي نزل فيها قوله تعالى: "وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ" ([22]).
ويُستفاد مما سبق انتفاء فريةِ الشّهوانيّة عن الحبيب المصطفى r. كيف لا؟ وهو الذي اشتهِرَ بالعفّة، والاستقامة والأمانة في قريشٍ كلِّها حتى قبل أن يكونَ نبياً r. كما يُستفاد كذلك أنَّ كلّ المبررات التي سيقت لزيجاته ـ عليه السلام ـ كانت منطقيّةً معقولةً مقبولةً عادت بالخير على الزوجات اللواتي كان معظمهنّ من الأرامل ـ رضي الله عنهنَّ ـ كما عادت بعض هذه الزيجات بالخير على أقوامِ زوجاته ـ رضوان الله عليهنَّ ـ.
وإضافةً لما سبق فقد قوّت هذه الزيجات روابط رسول الله r بصفته رئيساً للدولة الإسلامية مـع الكثير من القبائل العربيّة وغير العربية التي تشرَّفت بمصاهرته ـ عليه السلام ـ وكان في ذلك أيضاً تأليفُ قلوب هؤلاء للإسلام، وفي ذلك أيضاً تعليمٌ لرجال هذه الأمّة أن يعدلوا بين زوجاتهم وإعالة مَنْ لا مُعيلَ لها من النساء الضعيفات والأرامل.
وفي نهاية حديثنا عن الفوائد التي توضّحت في تعداد وكثرة زوجاته عليه الصلاة والسلام، نرى الحاجّة شديدةً ومُلِحّةً لتذكير الرهبان الطاعنين بنصوص الكتاب المقدّس التي بين أيديهم والتي يُبَجِّلونها ويُعَظِّمونها، فهي أكبر شاهدٍ على اتخاذ رسل بني إسرائيل وأنبيائهم وملوكهم لزوجاتٍ عديداتٍ وسراري أكثر عدداً. ومن الشواهد على ذلك ما يلي:
أولاً: "وأَحبَّ الملكُ سليمانُ نساءً غريبةً كثيرةً مع بنت فرعون: موآبياتٍ وعمُّونياتٍ وأدومياتٍ وصَيدونياتٍ وحثَّياتٍ من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل: "لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم، لأنهم يُمِيلون قلوبكم وراء آلهتهم". فالتصق سليمانُ بهولاء بالمحبَّةِ. وكانت له سبعُ مئةٍ من النساء السَّيِّدات، وثلاثُ مئةٍ من السراري، فأمالت نساؤه قلبَه"([23]).
ثانياً: "وأحبَّ رَحبعامُ مَعكةَ بنت أبشالومَ أكثرَ من جميع نسائه وسراريه، لأنه اتَّخَذَ ثماني عشرة امرأةً وستّين سُرّيّةً، وَوَلَدَ ثمانيةً وعشرين ابناً وستّين ابنةً"([24]).
ثالثاً: واخذ داود أيضاً سَرَاري ونساءً من أورشليم بعد مجيئه من حَبرون، فَوُلِدَ أيضاً لداود بنون وبناتٌ" ([25]).

رابعاً: كان للملك داود (على ذمّة العهد القديم) العديد من السّراري، كان من أبرزهن (ميكال ابنة شاول وأبيجال أرملة نابال وأخينوعيمِ اليزرعيليّة ومعكة ابنة تلماى ملك جشور وأبيطال وعجلة وحجيث وبثشبع أرملة أوريا الحثيّ وأبيشج الشونميّة)([26]).
الشُّبهةُ السادسةَ عشرةَ ودَفْعُها:
مِمّا يُثبتُ شهوانيّة محمدٍ وعشقه للنساء أنّه لمّا رأى زوجة ابنه بالتبنيّ زيد بن حارثة، وكان اسمها زينب، أَعْجَبَتْهُ وأثَّرَ فيه جمالُها وحُسْنُها. ووقعتْ في قلبه وأخذ يقول (سُبحان مُقلِّبِ القلوب). ثمَّ أمر زوجها زيداً بتطليقها وقام محمدٌ بالزواج منها، حتّى أنّ القرآن الذي جاء به محمدٌ قد ذكر رغبة محمدٍ بهذه الزوجة فقال: (وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ)([27]). وقد سَجَّلَتْ كتبُ التفسير لدى المسلمين هذه الواقعة وأثبتَتْها.
- من الواضح تماماً أنّ الرهبان الطاعنين يقرأون نصوص وآيات القرآن. ومن الواضح كذلك أنهم لا يفهمونهاولا يدركون مقاصدها ولا حتّى التفسير الصحيح لها. وهم إن أرادوا تفسيرها وفهمَ مقصودِها فإنّما يرجعون إلى تفسيراتٍ شاذّةٍ تقوم على رواياتٍ ضعيفةٍ لرُبَّما يجدون فيها ما يُشفي صدورهم ويحقق مرادهم.
وهذا تماماً ما قاموا به عندما بنوا هذه التهمة والشبهة المُتَهالكة. وحتى لا يطول الكلام فمن المستَحْسَنِ أن نأتيَ بالآيات القرآنية الكريمة التي ذكروها في هذه الشّبهة، وأن نأتي بعد ذلك بتفسيرها الصحيح المُعتَمَدِ. وهذه الآيات هي قوله تعالى في سور الأحزاب: "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مقْدُوراً * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً * مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً"([28])
وخلاصة تفسير ما ورد في هذه الآيات الكريمة ما يلي([29]):
إنّ زينب بنت جحش هي ابنة أميمة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله r، وقد رُبِّيَتْ بعينه وعنايته، وأنها كانت، لذلك، منه بمقام البنت أو الأخت الصغرى وإنّه كان يعرفُها ويعرف أهي ذاتُ مفاتن أم ليست كذلك قبل أن تتزوج زيداً. وإنه شَهِدَها في نموّها تحبو من الطفولة إلى الصِّبا وإلى الشباب، وهو الذي خطبها لزيدٍ مولاه. إذا عرفنا ذلك كلّه تداعت أمام ناظرينا كل تلك الخيالات والأقاصيص من أنه مرَّ ببيت زيدٍ ولم يكن فيه، فرأى زينبَ فبهره حسنُها وقال: سبحانُ مَقلِّبِ القلوب! أو أنه لمّا فتح باب زيدٍ عبث الهواءُ بالسّتار الذي على غرفة زينب، فألفاها في قميصها ممدّدةً فانقلبَ قلبهُ فجأةً ونسي سودة وعائشة وحفصة وزينب بنت خزيمة وأم سلمة وخديجة! ولو أنَّ شيئاً مِن حبّها علق بقلبه لَخَطبها لنفسه بدل أن يخطبها لزيدٍ ... إنّ محمداً r خطب ابنة عَمّته زينب لزيدٍ؛ فأبى أخوها عبد الله بن جحش أن تكون أخته وهي قرشيَّةٌ هاشميةٌ، وهي فوق ذلك ابنة عمة الرسول، تحتَ عبدٍ رِقٍّ اشترته خديجة ثم أعتقه محمد r، ورأى في ذلك على زينب عاراً كبيراً. وكان ذلك عاراً عند العرب كبيراً؛ فلم تكن بناتُ الأشراف الشريفات ليتزوَّجن من مَوَالٍ وإن اعْتِقُوا. لكنّ محمداً يريد أن تزول مثل هذه الاعتبارات القائمة في النفوس على العصبيَّةِ وحدها، وأن يُدرك الناسُ جميعاً أن لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلا بالتقوى. ولما أصرَّ محمدٌ r على أن تقبل زينبُ وأخوها عبد الله بن جحشٍ زيداً زوجاً لها نزل قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً"([30]).
لم يبق أمام عبد الله واخته زينب بعد نزول هذه الآية إلا الإذعان؛ فقالا: رضينا يا رسول الله. وبنى زيدٌ بزينب بعد أن ساق النبيُّ إليها عنه مهرها. فلمَّا سارت زينب إلى زوجها لم يَسْلَسْ له قِيادُها ولا لانَ إباؤها، بل جعلت تؤذي زيداً وتفخر عليه بنسبها وبأنها لم يَجْرِ عليها رِقٌّ. واشتكى زيدٌ إلى النبي غيرَ مرةٍ من سوء معاملتها إياه، واستأذنه غيرَ مرةٍ في تطليقها، فكان النبي يجيبه: "أمسك عليك زوجك واتق الله". لكن زيداً لم يُطق معاشرة زينب وإباءها عليه طويلاً فطلَّقها.
وكأنَّ الشارع الحكيم قد أراد أن يُبطِلَ ما كانت تدينُ به العرب من التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها، ومن إعطاء الدعيِّ جميع حقوق الابن، ومن إجرائهم عليه أحكامه حتى في الميراث وحُرمَةِ النسب فنزل قوله تعالى: "وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ"([31]) ومعنى هذا أنه يجوز للمُدّعي أن يتزوَّج مِمَّنْ كانت زوجاً لِمَن ادّعاه. ويجوز للمتبنّي أن يتزوج ممن كانت زوجاً لمتَبَنَّاهُ. ولكن كيف السبيل إلى تنفيذ هذا؟ ومَنْ مِنَ العرب يستطيعه وينقض به تقاليد الأجيال السالفة جميعاً؟ إنَّ محمداً r نفسه، على قوّةِ عزيمته وعميقِ إدراكه لحكمةِ الله في أمره، قد وجد في نفسه الغضاضة في تنفيذ هذا الحكم بأن يتزوَّجَ زينب بعد تطليق زيدٍ إياها. ودار بخاطره ما يمكن أن يقول الناس في خرقهِ لهذه العادة القديمة المتأصِّلة في نفوس العرب؛ وذلك ما يريده تعالى في قوله: "وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ"([32]) ... لكنّ محمداً كان القدوة في كلّ ما أَمَرَ الله به وما ألقى عليه أن يبلِّغه للناس؛ فلا يخشى ما يقول الناس في تزوّجه من زوجة زيدٍ مولاه، فخشية الناس ليست شيئاً إلى جانب خشية الله بتنفيذ أمره، وليتزوج من زينب ليكون قدوةً فيما أبطل الشارعُ الحكيمُ من الحقوق المقررَّةِ للتبنيّ، والادّعاء، وفي ذلك قوله تعالى: " فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً"([33]).
هذه روايةُ التاريخ الصحيح في أمر زينب بنت جحشٍ وزواج محمد r منها. فهي ابنة عمّته يراها ويعرف مبلغ جمالها قبل أن تتزوج زيداً، وهو الذي خطبها لزيدٍ، رضي الله عنه وعنها.
ونختم توضحينا لقصّة زواجه r من زينب بنت جحشٍ ـ رضي الله عنها ـ بالتذكير أنّ الروايات التي استند عليها الرهبان الطاعنون في تفسيرهم للآيات القرآنية الكريمة التي ذكرت هذه القصّةَ إنما هي رواياتٌ ضعيفةٌ مردودةٌ لا تصلح للاحتجاج بها بحالٍ من الأحوال، حتّى ولو كثرت في بعض كتب التفسير. وقد علّق الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ بعد تفسيره للآيات الكريمة السابقة بالقول: "هذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المُفَسِّرِين والعلماء الراسخين، كالزهريّ والقاضي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم. فأمّا ما رُوِيَ أن النبي r هوى زينبَ امرأة زيدٍ وُرَّبما أطلق بعض المُجَّانِ لفَظ "عشق" فهذا إنما صدر عن جاهلٍ بعصمة النبي r عن مثل هذا، أو مُسَتِخِفٍّ بحرمته"([34]). ولعلّ قول القرطبي هذا لا يقع بعيداً عن تعليق ابن كثيرٍ ـ رحمه الله ـ على الآيات السابقة نفسها بقوله "ذكر ابن أبي حاتم والطبري ها هنا آثاراً عـن بعض السلف ـ رضي الله عنهم ـ أحببنا أن نضرب عنها صَفْحاً لعدم صحَّتها فلا نوردها"([35]).
الشَّبهةُ السابعةَ عشرةَ ودفعُها:
كان محمدٌ يمارسُ أعمالاً تدلُّ على شذوذه وبعده عن أخلاق الأنبياء الحميدة، والدليلُ على ذلك زواجه من الطّفلة عائشة، التي كانت تبلغ من العمر تسعَ سنواتٍ فقط.
- تُعتَبرُ هذه الفرية والشُّبهةُ أقبحَ وأقذرَ ما أثاره الطّاعنون حول شخصهِ الكريم r. وكانت هذه الشُّبهةُ قد تصدّرتْ في وقتٍ غير بعيدٍ من الأعوام الماضية عناوين بعض الصّحف والمواقع الإلكترونية، فمن قائلٍ (الرسول محمد يُعاشر طفلةً) إلى قائلٍ (نبيٌّ يتزوّجُ فتاةً صغيرةَ السنّ) إلى قائلٍ (محمدٌ كان يتحّرشُ بالأطفال) إلى قائلٍ (محمدٌ يمارس شذوذه مع طفلةٍ في السادسة)، حاشاه r.
وقد أطلَّ علينا الكثيرُ من القساوسة، عبر شاشات محطّات التلفزة الفضائية، يناقشون هذا الموضوع بتوسُّعٍ مقصودٍ في أكثر من حلقتين وثلاثٍ، من حلقات البرامج المتلفزة!!
ما من شكٍّ أنّ السيدة عائشة بنت أبي بكرٍ الصّدّيق ـ رضي اللهُ عنهما ـ كانت من أكبر وأكثر الشخصيّات التي تعرّضت للهجوم والتشهير في تاريخ الإسلام كلِّه. ولكنّ الذي نراهُ في هذه الشّبهة شيءٌ مختلِفٌ تماماً؛ حيث نرى الرهبان الطّاعنين يُنَصِّبون أنفسهم محامين للدفاع عن حقوقها التي هضمها محمدٌ r حين حرمها من طفولتها، كما يزعمون، واتّخذها زوجةً له. كيف لا والرهبان الطاعنون هؤلاء يعرفون مصلحة السّيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أكثر من نفسها ويعلمون الذي يناسبُها أكثر من أبيها وأُمِّها وإخوانها وأقاربها وعشيرتها الأقربين كلّهم!!!.
ونشيرُ قبيل البدء في الردِّ على هذه الشّبهة وتفنيدها إلى الجهود المباركة الطيّبة التي بذلها علماء الأمّة وأساتذتنا وزملاؤنا من طلبة العلم الشرعي في الذبِّ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ وعن حبيبنا المصطفى  r وتصدّيهم المبارك لتوضيح مشروعية هذا الزواج وفوائده وآثاره([36]).
حينما تُوفِّيتْ السيدة خديجة زوجة النبيّ r، مكّث الحبيبُ فترةً من الزمن عاكفاً عن الزواج. ولكنّ حاجة البيت كانت تدعو لوجود امرأةٍ لتربية الأولاد الذين أنجبهم r من السيدة خديجة، فقد أنجب منها كلَّ أولاده عدا إبراهيم. فأقبلت عليه خولة بنت حكيم تَعْرِضُ عليه أن يتزوج، فسألها الحبيبُ r أيّ النساء تقصد ... حتّى أتمت الخاطبة زواجه r من السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها وبعدها بفترةٍ كان زواجُه من عائشة بنت أبي بكر الصديق.
وقبل أن يتقدم لها النبيُّ r كانت السيدة عائشةُ مخطوبةً لجبير بن المطعم بن عديّ، وهذا يعني أنّها وإن كانت بنتَ تسع سنين إلاّ أنها كانت تصلحُ للزواج وقتَها من حيثُ البُنيةُ، علماً بأنّ ساكني البلاد الحارة ينمون أسرع ويبلغون أسرعَ من ساكني البلاد الباردة. ولأنَّها لو لم تكن كذلك لما قامت خولة بن حكيم ـ رضي الله عنها ـ بخطبتها لرسولنا الكريم.
لقد نقل لنا التاريخُ حوادث كثيرةً ثبتَ من خلالها أنَّ زواجَ الرجل بمن هي أصغر منه سِنَّاً، حتى ولو بفارقٍ كبيرٍ، أمرٌ مألوف. ومن ذلك ما يلي:
1. تُثبِتُ الموسوعة الكاثوليكيّة أنَّ مريم أمَّ الربِّ يسوع، بحسب إيمان الرهبان الطاعنين، كانت مخطوبةً ليوسف النجار، وكان عمرها اثنتي عشرةَ سنةً وكانت حاملاً بيسوع آنذاك، وكان عمر يوسف النجار تسعاً وثمانين سنةً، أي أنه يكبرها بنحو سبعٍ وسبعين سنةً ... وهذا الكلام موثَّقٌ في الموسوعة الكاثوليكية.ويستطيع القارئ الكريم أن يرجعَ لهذين الموقعين ليتأكد من صحّة نقلنا لهذه المعلومة:
"a respectable man to espouse Mary, then tweleve to fourteen years of age, Joseph, who was at the time nirety years old".
- http://www.cin.org/users/james/files/key2mary.htm
"Virgin Mary Delivers jesus Pbuh@ the age of 12".
وهنا نتساءل: هل كانت مريم، أم الرب يسوع بحسب إيمانهم، طفلةً أم امرأةً لما كانت حُبلى بيسوع ومخطوبةً ليوسف النجار؟!
2. زواج جدّ النبي r عبد المطلب وزواج ابنه عبد الله، حيثُ ثبتَ أنّ آمنة بن وهب أُمَّ رسول الله r كانت في حجر عَمِّها أهيب بن عبد مناف بن زهرة وأنّ عبد المطلب بن هاشم جاء بابنه عبد الله بن عبد المطلب أبي رسول الله r فتزوَّجَ عبدُ الله آمنةَ بن وهب وتزوَّجَ عبدُ المطلب هالةَ بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة وهي أم حمزة بن عبد المطلب في مجلسٍ واحد، وكان قريبَ السن من رسول الله r وأخاه من الرضاعة. إذاً فقد تزوَّج عبد المطلب فتاةً وابنهُ تزوَّج أخرى في مثل عمرها وهي ابنة عمها([37]).
3. تزوَّجَ عمرُ الخطاب ابنة عليّ بن أبي طالب (أم كلثوم)، علماً بأنه كان أكبر سناً من أبيها في ذلك الوقت. بل وعَرضَ الفاروقُ عمر بن الخطاب على أبي بكر أن يتزوج ابنته السيدة حفصة وكانت شابةً في ريعان شبابها بعد وفاة زوجها.
كلنا يعلم أنَّ الآباء والأجداد من عصورٍ مُتقاربةٍ كانوا يتزوّجون مبكراً أيْ في أعمارٍ مُبِّكرةٍ ذلك لأن أجسامهم كانت تختلف كثيراً عن أجسامنا من حيث الحجم، وأجدادهم كانوا أضخم منهم جسماً. ومعروف أنَّ الإنسان كلما مرت به العصورُ تقزَّمَ، أي تضاءل حجمه. فلم العجبُ إذاً إذا كانت جدّاتنا وأمّهاتنا يتزوجن وهنّ بناتُ الإحدى عشرةَ سنةً أن تتزوج السيدة عائشة قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنةٍ وهي ابنة تسع سنين؟؟
لمّا تَزَوَّجَ رسولنا الكريم r السيدة عائشة لم يُنجب منها، وكانت البكرَ الوحيد التي تزوجّها r من بين زوجاته. وكان من فوائد زواجه عليه السلام بزوجةٍ صغيرة السنّ أنّ  النساء بحاجةٍ إلى مَن يعلمهنّ خاصةً إذا كان الأمر ذا مشقةٍ أن يُتنَاولَ بين رجلٍ وامرأةٍ، فكانت أمُّ المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ مَنْ قامت بهذا الدَّورُ فهي فتاةٌ صغيرة في السنّ، يسهل عليها الحفظُ والفهم والتلقّي، وأيضاً لا تتحرَّجُ النساءُ منها. وقد كانت أكثرَ النساء روايةً للحديث عنه r، وحتى بعد وفاته ظلّت تُعَلِّمُ النساء أمور دينهم، وكانت وقتها ابنةَ الثامنة عشرةَ من عمرها رضي الله عنها.
وللمدافعين عن حقوق هذه الطفلة عائشة، رضي الله عنها، من الرهبان الطاعنين نقول: إنْ فَرَضْنا جدلاً أن الرسول r تزوّج عائشة وهي صغيرةٌ رغماً عنها وبالإجبار لها ولوالديها، فإنَّ الله تعالى أمرَ رسوله الكريم r في فترةٍ لاحقةٍ بأنْ يُخيِّرَ نساءه بين أن يفارقهنّ فيذهبنَ إلى غيره مِمَّنْ يحصلُ لهنَّ عنده الحياةُ الدنيا وزينَتُها وبين الصّبر على ما عنده r من الفقر وضيق الحال، فلماذا لم تختر مفارقته لو كانت مُجبَرةً على الزواج منه؟؟
ولمّا بدأ النبيُ r بتخيير زوجاته بدأ بعائشة ـ رضي الله عنها ـ وأرضاها، قالت عائشة: "لما أُمِرَ رسول الله r بتخيير أزواجه، بدأ بي، فقال: إنّي ذاكرٌ لكِ أمراً، فلا عليكِ أن تعجلي حتّى تستأمري أبويك، قالت: وقد عَلِمَ أنّ أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثمّ قال: إنّ اللهَ جلَّ ثناؤه قال: "يا أيها النبيُّ قل لأزواجكَ أن كنتُنَّ تُرِدنَ الحياة الدنيا وزينتها" إلى "أجراً عظيماً" قالت: فقلتُ: ففي أيِّ هذا أستأمرُ أبويَّ؟ فإنّي أريدُ اللهَ ورسولهَ والدّار الآخرةَ، قالت: ثمَّ فعلَ أزواجُ النبيِّ مثلَ ما فعلتُ"([38]).
إنّ زواج النبي r بالسّيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ شاهدٌ حيٌّ على الزواج الناجح الذي لا يمنعه فارقُ العمر، والذي نرى فيه بكُلِّ جلاءٍ ووضوحٍ تأثير الزوج المسلم في شخصيّة واهتمامات وتوجّهات الزوجة المسلمة، فقد كانت عائشة لَمَّا أراد الحبيبُ r الزواج بها تلعبُ في أرجوحةٍ هي وصواحب لها، ولمّا مات عنها r بعد تسع سنواتٍ من مكوثه عندها كانت خيرَ مَن يُعلِّمُ المسلمين ويُفتيهم في دين الله تعالى، وروت عنه ما يزيدُ على الألفي حديث، واحتلت المرتبة الثانية فيمن روى أكثرَ عن النبي r.
لقد صنعَ رسولُ الله r من عائشة مدرسةً قائمةً بذاتها تُعلِّمُ وتؤسِّسُ وتقوم بنشر الدّين الإسلامي وتفقيه الناس بأحكامه، فكانت في نتاجها العلميّ الشرعيّ ومُخرجَاتِه أفضلَ مئةَ مرّةٍ من الكثير من المعاهد والكليّات الشرعيّة في القرن الحادي والعشرين. قال فيها الإمام الزُهري: "لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء لكان علمُ عائشة أفضل". وقال فيها عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة أفقهَ الناس، وأعلمَ الناس، وأحسنَ الناس رأياً في العامة". وقال فيها أبو موسى الأشعري: "ما أشكل علينا أمرٌ فسألنا عنه عائشة، إلا وجدنا عندها فيه علماً" وقال فيها مسروق: "رأيت مشيخةَ أصحاب رسول الله r الأكابر يسألونها عن الفرائض". وقال فيها عروة بن الزبير: "ما رأيت أحداً أعلم بفقهٍ ولا طلبٍ ولا بشعرٍ من عائشة"([39]).
ولو كان زواج النبي r من عائشة التي تصغُره سنّاً خارجاً عن المألوف أو مَطْعَناً أو مُستَمْسَكاً عليه أو قادحاً في سلوكه لكان مشركو قريشٍ الذين يتربصّون به أولى الناس بمهاجمته لفعله هذا، وتقليب الناس عليه، ولصَنعوا له الفضائح ولحاكوا حوله إشاعات الشهوانيّة والاعتداء على الصغار وسوء السلوك والتصّرف. لكنّ أيّاً من هذا لم يكن. لماذا؟ لأنّ ذلك كان الزواج عرفاً سائداً معمولاً به بين الناس في ذلك الزمان.
لقد كان من الجدير بالرهبان الطاعنين أن يأخذوا بعين الاعتبار أنّ مقاييس القرن العشرين والحادي والعشرين تختلفُ تماماً عن مقاييس القرون الوسطى وأن يأخذوا بعين الاعتبار اختلاف العصور والبيئات والطِّباع والقوانين والأعراف والتقاليد واختلاف البُنى الجسديّة والنفسيّة، قبل أن يقولوا في رسول r ما قالوا.
ثمَّ أين هم الرهبان الطّاعنون من الدّفاع عن حقوق عشرات الأطفال الذين اعتدى عليهم رهبان وقساوسة الكنائس في الغرب المسيحي؟؟ ألا فليدرَؤوا، إن استطاعوا، عن أبناء وبنات زمانهم هذا عوضاً عن الانشغال بزواجٍ تمَّ قبل ما يزيدُ على الألف وثلاثمائة عامٍ، وليقدّموا للعالم المسيحي الغربيّ حلولاً لمشكلاته التي يتخّبط فيها بدلاً من الاشتغال بزواج محمدٍ r في بيئةٍ وعصرٍ ودينٍ لا شأنَ لهم به مِن قريبٍ ولا مِن بعيدٍ. ولنقفْ قليلاً مع قارئنا الكريم عند صفحاتٍ قليلةٍ من ملفّ الكنيسة الغربية والشذوذ والاعتداء على الأطفال، لِيعلَمَ كلُّ مَن غابت عنه الحقائقُ مَن هم الذين يتحرّشون بالأطفال ويُمارسون الشذود.
أولاً: حَمَلَ البابا بنديكتوس السادس عشر بقوّةٍ مساء الأربعاء في واشنطن على الإباحية والعنف اللذين يُفسدان أخلاق المجتمع الأمريكي. بعدما أقرَّ الثلاثاء بشعور الكنيسة الكاثوليكية بـ "الخزي" جراء فضائح الكهنة الضّالعين في اعتداءاتٍ وتحرّشات جنسيّةٍ بأطفالٍ في الولايات المتحدة. وبعد الصلاة مع الأساقفة الأمريكيين في مركز "الحبل بلا دَنَس" الوطني في واشنطن تطرّقَ البابا إلى الفضيحة الكبيرة حول ضلوع كهنةٍ في اعتداءاتٍ وتحرشاتٍ جنسية على أطفال كُشِفَ عنها في عام 2002م معتبراً أنها "مصدر خزي" و"آلامٍ كبيرة" للكنيسة جمعاء. وأقرَّ بأنّ القضية "أُدِيرت بطريقةٍ سَيِّئةٍ" ودعا إلى "التعاطف مع الضحايا والاهتمام بهم"([40]).
ثانياً: بثَّت شبكتا BBC البريطانية، وقناة "راي 2" الإيطالية مؤخَّراً عدداً من الحلقات التلفزيونية، تناولت ممارساتِ بعض القساوسة والكرادلة والبطاركة داخل الكنائس، وكشفت النقاب عن آلاف الشكاوى التي وردت إلى "مجمع العقيدة والإيمان" بالفاتيكان. وفي سياقٍ مُتّصلٍ كشفت مجلة "بانوراما" الإيطالية أنه بسبب تلك الممارسات اللأخلاقية أُحيِلَ مئاتُ الكرادلة والقساوسة إلى المحاكمات القضائية، التي بلغت أكثرَ من عشر محاكمات منذ عام 2001م.
وأضاف التحقيق الذي نُشِرَ يوم الجمعة 1 يونيو 2007م في مجلة "بانوراما" حول حالات الاعتداء على الأطفال من قِبَلِ رجال الدين: "رغم الشكاوى الكثيرة إلى "مجمع عقيدة الإيمان"، التي تجاوز عددها بضعة آلاف، إلاَّ أنَّ الهيئة المذكورة التي كان يرأسها (البابا الحالي) (بنديكت السادس عشر) أخفت تلك الحقائق وتَستَّرَتْ عليها، فلم تتم إحالةُ أكثر مِن عددٍ هزيل من المُتَّهمين إلى القضاء"([41]).
"ونشر التحقيقُ رسالةً ظّلت قيدَ الكتمان ممهورةً بتوقيع الكاردينال "جوزف راتسنغر" (بابا الفاتيكان الحالي) موجَّهةً إلى كافة الهيئات الكنسية في العالم "ضرورة إبقاء هذه القضية ضمن الأسرار البابوية". وحسب التحقيق المذكور فإن رسالة "راتسنغر" المؤرَّخة في 17/5/2001م لا علاقة لها البتة بالشريط، الذي أنتجته وبثَّته محطة BBC حول حالات الاعتداءات الجنسية على الأطفال من جانب الكنيسة، والذي أعادت بثه لأولِّ مرّةٍ القناةُ الثانيةُ بالتلفزيون الإيطالي مساء الجمعة 1 يونيو 2007م.
ويتضمَّنُ التحقيقُ لائحةً بالقُضاة الكَنَسِيين المُكَلَّفين بمعالجة قضايا الاعتداء الجنسي، وقائمةً بالمؤسسات الإيطالية التي تستقبلُ الكهنة الذين يرتكبون هذه الجرائم لإعادة تأهيلهم.
وقد انتقد الفاتيكان بشدة بثَّ قناة (رأي 2) الحكومية الإيطالية للشريط الوثائقي الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية BBC ووصف الناطقُ باسم الفاتيكان الأب "فيديريكو لومباردي"، في حديثٍ لراديو الفاتيكان ... الشريطَ الوثائقيَ بأنه "سرد أحداثاً درامية ضمن إطارٍ مغلوطٍ ومنحازٍ"([42]).
ثالثاً: حثَّ الواعظُ الشخصيّ للبابا بنيدكتوس السادس عشر، رئيس الكنيسة الكاثوليكية العالمية على إعلان يومٍ للصوم والتوبة عن الجرائم الجنسية التي استهدفت أطفالاً على أيدي رجال دين كاثوليك. وقد جاءت الدعوةُ في عظةٍ قبل عيد الميلاد استمع إليها الحبرُ الأعظم ومسؤولون في الكنيسة الكاثوليكية. يُذَكُر أنَّ الكنيسة تعرّضت لهزةٍ بسبب سلسلةٍ من الفضائح تتعلق بإساءاتٍ جنسيةٍ للأطفال في السنوات الأخيرة، خاصّةً في أمريكا الشمالية وايرلندا.
والواعظ البابويي الأب رانييرو كمانتالاميسا، هو الوحيد المخول بتوجيه العظة للبابا.
وفي عظته للبابا، قال الأب كانتالاميسا إنه يتعيَّنُ أن تُعِلنَ الكنيسةُ يوماً للصوم والاعتكاف، للتعبير بشكلٍ علنيٍّ عن التوبة أمام الله والتضامن مع الضحايا.
وقال إنَّ الوقت قد جاء لنصرخ أمام الله من أجل الفضيحة التي أَلَمَّتْ بالأخوة الصغار.
ولم يصدر ردُّ فعلٍ عامٍّ من البابا، ولكنه قال مؤخراً إنه يتعيَّنُ على الكنيسة اتخاذ كافة الخطوات اللازمة للحيلولة دون وقوع المزيد من حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال من جانب القساوسة([43]).
رابعاً: حكمتْ هيئةُ محلَّفين في ولاية كاليفورنيا الأميركية يوم الأربعاء بدفع ما يقرب من مليوني دولار لشقيقين تعرَّضا لانتهاكاتٍ جنسيةٍ مِن قَبِلِ قسٍّ كاثوليكي منذ ربع قرن.
والحكم ضّد أبرشية أوكلاند الكاثوليكية هو الثاني الذي يصدر في الأسابيع القليلة الماضية في منطقة سان فرانسيسكو اعتماداً على إجراءٍ تشريعيٍّ أقرَّتهُ كاليفورنيا يرفع مؤقتاً قانون التقادم عن مطالب التعويضات ضد القساوسة.
وفي القضية الأخيرة قال روبرت تاتشر "34 عاماً" وشقيقه توم "33 عاماً": إنَّ القسَّ روبرت بونسيرولي أساءَ معاملتهم عندما كانا طفلين يخدمان في الكنيسة في انتيوك شرق سان فرانسيسكو. وقال محامي الأخوين تاتشر: إنَّ الكنيسة كانت تعرفُ أنّ بونسيرولي يُسيء معاملة الأطفال ولكنها لم تُحَرِّكْ ساكناً.
وقال الأب مارك ويزنر المُتَحَدِّثُ باسم ابرشيه أوكلاند: "قطعاً يستحق روبرت وتوم تاتشر مقابلاً نقدياً لما تحمّلاه".
وقال: إنّ المسؤولين في كنيسة اوكلاند يتمنّون التوصل إلى تسويةٍ في 40 أو 50 قضيةِ انتهاكاتٍ قام بها قساوسة. وطالب محامٍ عن الأخوين تاتشر هيئة المحلَّفين يوم الثلاثاء بتعويضٍ قيمته 27 مليون دولار. واستُبْعِدَ بونيسرلي من صفوف القساوسة وهو يعيش في فلوريدا.
وفي قضيةٍ أخرى الشهر الماضي قضت هيئةُ محلَّفين بدفع 437 ألف دولار مقابل أضرارٍ لحقت بضحيةٍ تعرَّض لانتهاكاتٍ جنسيةٍ قام بها قسٌ آخر في سبعينات القرن الماضي بعد الكشف عن أن أبرشيَّةَ كبير الأساقفة في سان فرانسيسكو كانت على علمٍ بالانتهاك.
وقالت دراسةٌ تمّت بتكليفٍ من الكنيسة نُشرت العام الماضي إنّ ما يقرب من 11 ألف شخصٍ اتَّهموا قساوسةً بانتهاكاتٍ جنسيةٍ ضدَّ الأطفال منذ عام 1950م إلى عام 2002م([44]).
خامساً: وصل بابا الفاتيكان إلى سيدني استعداداً للمشاركة في الأيام العالمية الثالثة والعشرين للشباب، وسط مطالباتٍ بضرورة أن يُقدم اعتذاراً رسمياً عن الفضائح الجنسية التي هزت الكنيسة الكاثوليكية في أستراليا. وتزامن ذلك مع مطالبة تجمُّعٍ يُعرَفُ باسم "ضحايا الاعتداءات الجنسية في الكنائس" بضرورة أن يقدّم بنديكتُ السادس عشر اعتذاراً رسميّاً إلى الضحايا وذويهم لما تعرَّضُوا له من اعتداءاتٍ جنسيةٍ على يد رجال دينٍ ينتمون للكنيسة الكاثوليكية في البلاد. وكان البابا أعرب ـ في تصريحٍ إعلاميٍّ على متن الطائرة التي أَقَلَّتْهُ إلى أستراليا ـ عن عزمه الأسفَ لما تعرَّض له بعضُ الأشخاص على يد أشخاصٍ ينتمون للكنيسة، وهو ما اعتبره تجمّعُ أسرِ وذوي الضحايا أقلَّ بكثيرٍ مما تطالب به([45]).
سادساً: كشف تقريرٌ جديدٌ أنَّ أكثرَ من مائة كاهنٍ في الكنيسة الكاثوليكية في "دبلن" على الأقل متورّطون خلال ألـ 66 عاماً الأخيرة بالاعتداء الجنسيّ على أكثر من 350 طفلاً.
وقال تقرير أصدرته مطرانيةُ دبلن: إنَّ أكثر من مائة كاهنٍ تورّطوا منذ عام 1940م في سوء معاملة الأيتام والاعتداء الجنسي على الأطفال، وهذا ما وُصِفَ بأنه أخطرُ اعترافٍ في الكنيسة الكاثوليكية بدبلن حتى اليوم. وقدمت المطرانيةُ التقريرَ للجنة التحقيق القضائية.
ويقول رئيس الأساقفة ديرموند مارتن، في تصريح لـ "الغارديان" البريطانية، إنَّ الكنيسة ستبيع ممتلكاتها لكي تدفع تعويضاتٍ مُعتبِرَاً أنّ هذه الخطوة هي تضحيةٌ من الكنيسة تكفيراً عن أخطاء الماضي. وأشار إلى أنَّ ما جرى خلال السنوات الماضية في هذه الكنيسة كان صعباً جداً بالنسبة له مشيراً إلى أنّ معظم الكهنة لم يتورَّطوا في هذه الأعمال. وقد تمّ الكشفُ عن قضيةٍ مشابهةٍ في أبرشية بوسطن منذ 3 سنوات. وأشار مارتن، الذي يرأسُ المطرانية منذ عام 2003م، إلى أنّ إجراءاتٍ تم اتخاذها ضدَّ اثنين وثلاثين كاهناً في دبلن، وتمَّتْ مراجعةُ ملفاتٍ شخصيةٍ لـ 2800 كاهن بين عامي 1940م و2006م وتم الادّعاءُ على واحدٍ وتسعين كاهناً فيما تحول الشكوك حول أحدَ عشرَ كاهناً. وأشارت "الغارديان" إلى أنَّ إيرلندا، البلد الكاثوليكي، اهتزت بعد الفضائح الجنسية في الكنيسة خلال العقد المنصرم حيث تورَّطَ الكهنَةُ في سوء معاملة الأيتام والاعتداء الجنسي على الأطفال. وفي أواخر العام الماضي كشف تحقيق أُجرِيَ على نطاقٍ ضّيقٍ في مقاطعة ويكشفورد وجود أكثر من مائة ادِّعَاءٍ بالتحرّش ضد واحدٍ وعشرين راهباً([46]).
سابعاً: اعترف القس تيد هاجارد مستشار البيت الأبيض، وأحدُ أشهر الزعماء المسيحيين الإنجيليين الأمريكيين بممارسته الشذوذ الجنسيّ، وهو الاتهام الذي أنكره مسبقاً، وتسبب في تنحيته عن منصبه كزعيمٍ للاتحاد الوطني للإنجيليين والذي يبلغ عدد أتباعه نحو 30 مليون أمريكي. وقال هاجارد في خطابٍ تلاه القسّ "لاري ستوكستيل" الذي خلفه في قيادة كنيسة "الحياة الجديدة" بولاية كلورادو يوم الأحد 15/11/2006م أمام ثمانية آلاف شخص: "أنا مُخادِعٌ وكاذِبٌ".
وقد ظلَّ القسُ البارز المعروف بمعارضته العلنية البارزة لزواج الشواذ ينفي الاتهاماتِ المنسوبةَ إليه من تعاطي المخدرات وممارسته الشذوذ الجنسيِّ مع المدلِّكِ الخاصِّ به مايك جونز، إلا أنَّ ذلك لم يمنع هيئة المراقبين التابعة للكنيسة من القول: "لقد أثبتَتْ تحقيقاتنا وتصريحات القس هاجارد أنه متورطٌ لا محالة في ممارسة الشذوذ".
الفضيحة تَفَجَّرَتْ عندما صَرّحَ جونز (49 عاماً) بأنه مارس الجنس مع القس هاجارد، مقابل أجرٍ ماليٍّ كلَّ شهرٍ تقريباً، خلال السنوات الثلاث الماضية، وأنهما كانا يتعاطيان المخدرات قبيل اقترافهما الفحشاء!. وأوضح جونز أنه أقدم على الإعلان عن العلاقة مع هاجارد، إثرَ التصويت الذي جرى مؤخراً في ولاية كولورادو وسبع ولايات أخرى، حول منع الزواج المثلي أو السماح به. وقال: "لقد أغاظني أن يُلقي شخصٌ بالمواعظ ضد زواج المثليين (خلال الجدل الإعلامي الذي سبق عملية التصويت)، ثم يذهب ليمارس المِثليَّةً من خلف الستار"([47]).
ثامناً: اعترف الفاتيكان بصحّةِ تقارير صحيفةٍ تحدَّثتْ عن انتهاكاتٍ أخلاقيّةٍ في صفوف الكنيسة، وقالت إنَّ قساوسةً ورجالَ دينِ كباراً أرغموا راهباتٍ على ممارسة الجنس معهم. وتعرّضتْ بعضُ الراهبات للاغتصاب وأُجبِرَتْ أخرياتُ على الإجهاض.
وقال الفاتيكان في بيان له إنَّ القضية محدودةٌ ومتعلقةٌ بمنطقةٍ جغرافيةٍ محدودةٍ، لكنه لم يشر إلى هذه المنطقة الجغرافية، وكانت التقارير أَكّدت أن هذه الانتهاكات موجودةٌ في ثلاثة وعشرين بلداً من بينها الولايات المتحدة الأميركية والبرازيل والفلبين والهند وإيرلندا وإيطاليا نفسها. وقد أعدت التقرير الذي تحدث عن حالاتٍ مُحدَّدةٍ بالأسماء وحالاتٍ تورّط أصحابُها راهبةٌ وطبيةٌ تدعى ماروا أودونوهو، وقدمت الراهبة تقريرها إلى رئيس مجمع الفاتيكان للأوامر الدينية الكاردينال مارتينز سومالو في فبراير / شباط عام 1995م.
وقد أمر الكاردينال آنذاك بإنشاء فريق عملٍ من المجمع لدراسة المشكلة مع أودونوهو والتي كانت تعمل مُنَسِّقةَ الإيدز في منظمة (كافود) وهي منظمة دينية تابعة لطائفة الروم الكاثوليك تتخذ من لندن مقراً لها.
واشارت أودونوهو إلى أدلّةٍ واضحة على اتهاماتها، وقالت إنه في إحدى الحالات أجبرَ قسيسٌ راهبةً على الإجهاض مما أَدَّى إلى موتها، ثم قامَ بنفسه بعمل قُدَّاسٍ لها.
وبشأن أفريقيا قال تقريرها إنَّ الراهبات لا يستطعن هناك رفض أوامر القساوسة بهذا الشأن، وأكدتْ أنّ عدداً من القساوسة هناك مارسوا الجنس مع الراهبات خوفاً من إصابتهم بالإيدز إذا "مارسوه مع العاهرات". وتُرْغَمُ الراهبات على تناول حبوبٍ لمنع الحمل، لكنها قالت: إنَّ مؤسسةً دينيةً اكتشفت وجودَ عشرين حالةِ حملٍ دُفعةً واحدةً بين راهباتها العاملات هناك.
وأشار التقريرُ إلى أنَّ الأسقف المحليَّ لإحدى المناطق طرد رئيسةَ ديرٍ عندما اشتكت له من أنَّ تسعاً وعشرين راهبةً من راهبات الدير حُبالى بعد أن أُرْغِمْنَ على ممارسة الجنس مع القساوسة([48]).
تاسعاً: وفي نهاية حديثنا عن هذا الموضوع فإننا نحيلُ القارى الكريم إلى عدد مجلة التايم الأمريكية المنشور بتاريخ 1/5/2002م ليقرأ فيه الملف المؤلم الطويل الذي نشرته الكاتبة جوانا ماكجيري، والذي جاء فيه:
بعدما كثرت وتزايدت الاتهاماتُ بالاعتداءات الجنسيَّةِ التي يرتكبها الرهبانُ الكاثوليك وبعد التستُّرِ الرسميِّ عليها، طالب الرومان الكاثوليك الغاضبون قادتَهم ورؤساءَهم بإصلاح الدين المسيحي. فالصدمة هي أنَّ حالاتٍ كثيرةً من هذا القبيل انتشرت كفيروسٍ قاتلٍ في نظر الرأي العام. فالأمر لم يعد يقتصر على بوسطن بل تَعَدّاهُ إلى لوس أنجلوس وسانت لويس ومينوستا وفيلادلفيا وبالم بيتش وفلوريدا وواشنطن وبورتلاند وماين وبرايدج بورت وكنكنتيكت. والمريعُ في كل هذه الحالات ليس تفرّدها بهذه القضية بل في الشَّبَهِ المُرعِبِ بينها. فقد تنوعت وتعددت الاتهامات الموجهة للرهبان الكاثوليك بالاعتداء الجنسي على الأطفال واتهامات للكنيسة التستر عليها سواءٌ القضايا التي تورَّط فيها الأب دان أوليفر أو روكو أو بريت.
الشبهةُ الثامنة عشرة ودفْعُها:
لمّا عجز الرهبان الطاعنون وكلُّ مَن شايَعهم على الإتيان ولو بجزءٍ من كتابٍ يصلحُ لأن يُعارِضَ القرآن الكريم، ولمّا سَلَّمَ الكثيرون من خبراء اللغة ونقد النصوص الأدبيّة ومِن فلاسفة الغرب المسيحيين الغربيين بأنّ هذا القرآن لا يمكنُ أن يكون من وضع محمدٍّ r فقد نسبوا مصدرَ هذا القرآن إلى الجنّ والشياطين. وزعموا أنَّ الشّيطان هو الذي كان يوحي إلى محمدٍ هذا الكتابَ ليُفسِدَ على الناس دينهم ويصدَّهُم عن الدخول في المسيحيّة.
ولم يعجز هؤلاء الطاعنون عن إيجاد مُستنَدٍ لإثبات صحّة ادِّعائهم، فاحتجّوا بقصّة الغرانيق التي ساقّها المفسِّرُ الطبريُّ في (جامع البيان) كسببٍ لنزول قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"([49]).
وقد ساق الطبريُ رواياتٍ متعدّدةً لقصّة الغرانيق، تعدّدت فيها الأسماء والأحداث،كما أنّه ساق هذه القصّة كذلك في (تاريخ الأمم والملوك). ويُمكننا بعد قراءة كلِّ ما كتبه في (جامع البيان وفي تاريخ الأمم والملوك) أن نستخلص مُختصَرَاً مفيداً للقصّة، حتى نقوم بعد ذلك بمناقشتها سنداً ومتناً. وتالياً ملخَّصُها([50]):
إنّ رسول الله قد آلمه انفضاضُ قومه عنه وصدودهم عن دعوته، وكان من شدّة حُبِّهِ لهم،أحرصَ الناس على هدايتهم لدين الله، فتمنّى أن يأتيه من الله ما يقرِّبُ بينه وبينهم. وفي يومٍ جاءه "الأسود بن المطلب" و"الوليد بن المغيرة" و"أمية بن خلف" و"العاص بن وائل"، وهم من زعماء قريشٍ وأسيادها وقالوا له: يا محمدٌ هلمَّ فلنعبدْ ما تعبدُ، وتعبدْ ما عبدنا فنشتَرِكْ نحنُ وأنتَ في الأمر. يا محمدُ إنّما يجالسك الفقراءُ والمساكينُ وضعفاءُ الناس فلو ذكرتَ آلهتنا بخيرٍ لجالسناك، فإنّ الناس يأتونك من الآفاق.
وقال أبو الوليد وكان كبيرَهم: قد عرفنا أنَّ الله يُحيي ويُميت، وهو الذي يخلق ويرزق، ولكنّ آلهتنا تلك تشفعُ لنا عنده، فإنْ جعلتَ لها نصيباً فنحن معك.
وهكذا كانوا يَعرِضُون على الرسول صفقةً، أنُ يؤمنوا بالله وبالرسالة، مقابل أن يظلّوا على توسّلهم بالأصنام. فجاء ردُّ الرسول عليهم وحياً في سورة "الكافرون"، حيث يقول في جوابهم: " قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ "([51]).
على أنّ الرسول بقى يراوده الأمل في أنْ يراهم مُصَدّقين له وكان يقول في نفسه: ليته ينزلُ في ذلك أمرٌ يقرّبنا من قريش.
وذاتَ يومٍ وبينما كان رسول الله يتلو القرآن عند الكعبة ويقرأ سورة "النجم" فلمّا بلغ قوله تعالى: " أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى "([52]). أجرى الشيطانُ على لسانه الجملتين التاليتين: "تلك الغرانيق العُلىَ، منها الشفاعة ترتجى). وفي روايةٍ أخرى (منها الشفاعة تُرتَضى).
فلما سمِعَ كفارُ قريشٍ ذلك فرحوا وسرَّهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتَهم، وقَرأَ محمدٌ ما بعدها من آياتٍ، ولمّا بلغ آية السجدة فيها وختم السورة، سَجَدَ هو ومَنْ حضرَ من المسلمين والمشركين إلاّ الوليد بن المغيرة لكِبَرٍ في سنه، فأخذه بيده من البطحاء فسجدَ عليها.
وفَرحَ المشركون، وارتفعت نداءاتُهم يقولون: لقد ذكرَ محمدٌ آلهتنا بخير. ولمّا كان كلُّ حيٍ من العرب له وثنُه، وكانت له تلبيتهُ الخاصّةُ حول الكعبة، أصبحت تلبيةُ اللات والعُزَّى ومناة هي كما أجراها الشيطان (أرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الكبرى، تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة تُرتَجى).
وانتشر نبأُ هذه المُصَالَحة وعمَّ بين الناس، وهلّلت قريشٌ في الرّكبان أنَّ التقاربَ قد حدث بينها وبين رسول الله في مكّة. حتى بلغ خبرُ السجدة المهاجرين في الحبشة من أصحاب رسول الله، وقيل لهم أسلمتْ قريشٌ، فقرَّرَ رجال منهم العودة إلى مكة.
فلمَّا أمسى أتاه جبريلُ، عليه السلام، فعرضَ عليه السورة، فلمّا بلغ الجملتين اللتين ألقى بهما الشيطانُ عليه قال جبريل: ما جئتُكَ بهاتين!! لقد تلوتَ على الناس ما لم آتِكَ به من الله عزّ وجلّ، وقلتَ ما لم يَقُلْ لكَ، فقال رسولُ الله: افتريتُ على الله وقلتُ ما لم يَقُلْ، فأوحى الله إليه " وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً "([53]).
فما زال رسول الله مغموماً مكروباً، يلوم نفسه أنه افترى على الله الكذب، [وحاشاه أن يفعل ذلك] حتى نزلتْ عليه الآية الكريمة: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"([54]). تعزّيه وتهوِّنُ عليه الأمر، وتبلّغه أنّ ذلك أمرٌ شاعَ في الأنبياء قبله، فلم يكن قبله نبيٌ ولا رسولٌ تمنّى كما تمنّى، ولا أَحَبَّ كما أَحَبَّ، إلا والشيطانُ قد ألقى في أمنيته، وأجرى على لسانه آياتٍ مثلها، فنسخ اللهُ ما ألقى الشيطان ثم أحكم آياته. فذهب عن رسول الله الحزنُ.
وقالت قريشٌ: ندمَ محمدٌ على ما ذكرَ من منزلةِ آلهتنا عند الله فغيّر ذلك وجاء بغيره، فازدادوا شراً على ما كانوا عليه ...
لا شكَّ أنَّ هذه القصّة من الخُطورة بمكانٍ، وقد وجب التصدّي لها وتفنيدها وفحصها سنداً ومتناً. ولا يكفي لصحّة الاحتجاج بها مُجَرَّدُ ورودها في تفسير الطبريّ ـ يرحمه الله ـ ففي تفسيره الكثير الكثير من الروايات التي رَدَّها العلماء ولم يقبلوا الاحتجاج بها وذلك لوجودِ علّةٍ أو ضعفٍ أو انقطاعٍ أو إرسالٍ في أسانيدها.
ومن الممكن حصر أسباب ردّ قصّة الغرانيق فيما يلي([55]):
أولاً: مخالفتها الصريحة الواضحة لنصوص القرآن الكريم، التالية:
1. قال تعالى في سورة الحاقة: "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ"([56]).
2. وفي سورة يونس: " قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ"([57]).
3. وفي سورة الإسراء: " وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً"([58]). فكلمة "كاد" تفيدُ أنَّ الأمر لم يحصل.
4. وفيها قوله: " وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً"([59]). فكلمةُ "لولا" تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدلَّ على أنَّ ذلك الركون لم يحصل.
5. وفي سورة الفرقان: " كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً"([60]).
6. وفي سورة الشعراء نصٌّ قاطعٌ ينفي ذلك بتاتاً: " وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ"([61]).
ثانياً: مخالفتها للعقل السليم الذي يفهم الإسلام فهماً صحيحاً. وتوضيح ذلك ما يلي:
1. إن النبي r لم يحترم الأصنام في الجاهلية، ولم يُعرفْ عنه أنه تقرَّبَ إلى صنمٍ قط، وقد كسرَ النبيُ r في فتح مكة ثلاثمائة وستين صنماً، فكيف يوقِّرُها وهو رسولٌ مِن الله سبحانه وتعالى؟ وكيف يتركه رَبُّهُ سبحانه وتعالى يسجد للأصنام بحسب هذه القصة الموضوعة؟! فهو مَنْ يأمرُ r بطمس الأصنام، وتغيير معالمها!!.
2. لو جَوَّزْنَا ذلك لارتفعَ الأمانُ عن شرعه، ولجوَّزنا في كلِّ الشرائع أن تكون كذلك.
3. ليس من المعقول أن يعترفَ النبيُّ بشفاعة الغرانيق وهو يدعو إلى عبادة الله تعالى ويحارب الأصنام. ولو كان الشيطان له سلطانٌ عليه لدرجةِ أنه يُملي عليه ويحرِّكُ لسانَه بالكُفر، لكان أُلعوبةً له، ليس في هذه القصة فقط، بل في غيرها أيضاً. والنبيُّ معصومٌ من الشياطين بداهةً.
4. إنّ الاعتراف بشفاعةِ الأصنام كفرٌ مُخرِجٌ من المِلّة!!.
ثالثاً: قصة الغرانيق مردودةٌ ومطعونٌ في سندها عند المحدّثين والمحقّقين.
وبيان ذلك أنّنا لو ألقينا النظر على روايات هذه القصة، لألفيناها كلّها مُرْسَلةً، باستثناء حديث ابن عباس، ولكنَّ طرقه كلّها واهيةٌ شديدة الضّعف، لا تنجبرُ بها تلك المراسيلُ. فيبقى النظر في هذه المراسيل، وهي كما علمنا سبعةٌ، صحَّ إسنادُ أربعةٍ منها، وهي مرسلُ سعيد بن جبير، وأبي بكرٍ بن عبد الرحمن بن الحارث، وأبي العالية، ومرسل قتادة، وهي مراسيلُ يرِدُ عليها أحدُ الاحتمالين السابقين، لأنهم من طبقةٍ واحدةٍ: فوفاة سعيد بن جبير سنة (95 هـ) وابي بكر بن عبد الرحمن سنة (94 هـ)، وأبي العالية ـ واسمُه رفيع مصغّراً لسنة (90 هـ) وقتادة سنة بضع عشرة ومائة. والأول كوفي،والثاني مدني، والأخيران بَصْرِيّان. فجائزٌ أن يكون مصدرُهم الذي اخذوا منه هذه القصة ورووها عنه، واحداً لا غير، وهو مجهول. وجائزٌ أن يكون جمعاً، ولكنّهم ضعفاءُ جميعاً، فمع هذه الاحتمالات لا يمكن أن تطمئنَّ النفسُ لقبول حديثهم هذا، لا سِيَّمَا في مثل هذا الحَدَثِ العظيم الذي يَمَسُّ المقامَ الكريمَ، فلا جرم تتابع العلماء على إنكارها، بل التنديد ببطلانها، ولا وجه لذلك من جهة الرواية إلاّ ما ذُكِرَ. قال الفخر الرازي في تفسيره (6/193): "روي عن محمد بن اسحق بن خُزيمة أنه سُئِلَ عن هذه القصة؟ فقال: "هذه من وضع الزنادقة"، وصنف فيه كتاباً. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: "هذه القصة غيرُ ثابتةٍ من جهة النقل" ثم أخذ يتكلَّمُ في أنَّ رواة هذه القصة مطعون فيهم. وأيضاً: فقد روى البخاري في "صحيحه" أنَّ النبي r قرأ سورة (النجم) وسَجَدَ وسَجَدَ فيها المسلمون والمشركون، والأنس والجنُّ، وليس فيه حديث الغرانيق، ورُوي هذا الحديث من طرقٍ كثيرةٍ، وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
وقد تبع هؤلاءِ جماعةٌ من الأئمة العلماء رحمهم اللهُ تعالى ([62]).
وفي نهاية ردّنا على شبهة الشيطان كمصدرٍ للقرآن وأنّه قد يُلقى على لسان محمد r ما شاء فقد يواجهنا سؤالٌ لمعترِضٍ يقول فيه: "إن كان ما ذكرتم صحيحاً فكيف تفسّرون قول القرآن: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"([63])؟؟ فهذه الآية واضحةٌ في الدلالة على قدرة الشيطان على أن يُملي لمحمدٍ والأنبياء من قبله!!!
والردّ على هذا السؤال سهلٌ ميسورٌ لكلِّ مَن أراد الفهم الصحيح لها؛ ففيها يخبرُ اللهُ رسوَلهَ r أنَّ كلَّ رسولٍ ونبيٍّ قبله كان يتمنّى ويرجو ويأملُ أنْ يؤمنَ به قومُه ويُصدِّقوه، وكان يبذلُ جهده في دعوتهم، ولكنَّ الشيطانَ كان يحاولُ تيئيسَه، ولذلك كان يُلقي في أمنيتهِ، ويُريه أنها مستحيلةٌ، وأنَّ قومه لن يؤمنوا به، فلا يُتعبُ نفسه معهم. وكان اللهُ يتداركُ رسوله برحمته، ويمنُّ عليه بالأمل، وبذلك كان ينسخُ ما يلقي الشيطانُ من وساوس، ويُحكمُ آياته، ويُبقي الرسولَ على ثقته وأملهِ وجهوده في الدعوة....



([1] ) صحيح البخاري [م. س] كتاب الإيمان، باب "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم".
([2] ) صحيح مسلم [م. س] كتاب الإيمان، باب "الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله"
([3] ) فتح الباري [م. س]، ج1، ص 97.
([4] ) سورة آل عمران: الآية 173.
([5] ) الزمخشري، [م. س]، ج1، ص 441، بتصرف واختصار.
([6] ) صحيح البخاري [م. س] كتاب الجهاد والسِّير، باب لا تمنوا لقاء العدو.
([7] ) متى: 10: 34 – 39.
([8] ) لوقا: 12: 49.
([9] ) لوقا: 19: 27.
([10] ) التثنية: 20: 10 – 18.
([11] ) صموئيل الثاني: 10: 18.
([12] ) صموئيل الثاني: 12: 31.
([13]) سورة القيامة: الآيتان 22، 23.
([14]) سورة السجدة: الآية 17.
([15]) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب (فلاتعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)
([16]) الطبري، جامع البيان (م.7) ج1 ص135.
([17]) ابن تيمية، رسالة الإكليل، من مجموعة الرسائل الكبرى 2: 11.
([18]) لوقا: 22: 30
([19]) مرقس: 14: 25
([20]) لوقا: 14: 12 - 15
([21]) انظر:
أ. مرسي [م. س] ص 194-501 بتصرف.
ب. الرومي [م. س] ص328-331 بتصرف
ج. الإسلام بين الحقيقة والادعاء [م. س]، مبحث نساء الرسول.
د. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين [م. س] الشبهة 51 تعدد زوجات النبي.
هـ. السّقار (م.س) المطلب الثالث، تعدد زوجات النبي r
و. عبد الرؤوف، حسام الدين صبري، الضياء المبين في الرد على المضلِّلين، ج1 شبهة تعدد زوجات النبي.
ز. الراسي، زيادة بن يحيى، البحث الصريح في أيّما هو الدين الصحيح، تحقيق سعود بن عبد العزيز الخلف، ص125-130. بتصرف، ط1، 2003، منشورات الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
ح. هيكل، محمد حسين، حياة محمد، ص257-265 بتصرف، من منشورات وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، ط1، 2008.


([22]) سورة الأحزاب: الآية 50.
([23] ) سفر الملوك الأول: 11: 1 – 3.
([24] ) أخبار الأيام الثاني: 11: 21.
([25] ) صموئيل الثاني: 8: 13.
([26] ) انظر سفر صموئيل الأول 18: 20 – 27 و25: 42 و25: 43 وسفر صموئيل الثاني: 3: 2 – 5 و11: 27 وسفر الملوك الأول 1: 1 – 4.
([27] ) سورة الأحزاب: الآية 37.
([28]) سورة الأحزاب: الآيات 37 – 40.
([29] ) انظر:
أ. هيكل [م. س] ص 262 – 265 بتصرف واختصار.
ب. الخالدي [م. س] 668، 669.
ج. ابن كثير [م. س]، ج3، ص 499، 500، بتصرّف.
د. القرطبي [م. س]، ج 14، ص 190 – 193، بتصرّف.
هـ. مرسي [م. س]، ص 511 – 517، بتصرّف.
و. حقائق الإسلام [م. س]، الشبهة 51 تعدد زوجات النبي، بتصرّف.
([30] ) سورة الأحزاب: الآية 36.
([31] ) سورة الأحزاب: الآية 4.
([32] ) سورة الأحزاب: الآية 37.
([33] ) سورة الأحزاب: الآية 37.
([34] ) القرطبي [م. س]، ج14، ص 191.
([35] ) ابن كثير [م. س]، ج3، ص 499.
([36] ) انظر:
أ. عبد الرؤوف [م. س]، ج1، شبهة الرسول يعاشر طفلة.
ب. مرسي [م. س]، ص 504 – 510 بتصرف واختصار.
ج. حقائق الإسلام [م. س]، الرّد على شبهة تعدّد زوجات النبي، بتصرّف واختصار.
د. الهّواري، محمد عبد العزيز، شبهة زواج النبيّ r من عائشة وهي صغيرة السنّ. مقالة منشورة بتاريخ 27/3/2008م على موقع لواء الشريعة الإلكتروني www.shareah.com.
هـ. زناتي [م. س] 155 – 157، بتصرف،حرف الفاء، شبهة الرسول كان يتحرّش بالأطفال، ردّ الشيخ السيّد وفا على تصريحات القس جيري فاينز التي ذكر فيها أن الرسول r كان يتحرش بالأطفال.
([37] ) الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله أبو عبد الله، المُستدرَك على الصحيحين، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، ج3، ص 212، ط1، 1990، دار الكتب العلمية، بيروت.
([38] ) صحيح البخاري [م. س]، كاب التفسير، باب (وإن كُنتنّ تُردنَ الله ورسوله ....)، ج8، ص 609، 610.
([39] ) مرسي [م. س]، ص 507 نقلاً عن "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" للزركشي.
([40] ) جريدة الرأي الأردنية، بتاريخ 18/4/2008م.
([41] ) مجلة المجتمع، العدد 1757، بتاريخ 23/6/2007م.
([42] ) مجلة المجتمع، العدد 1757، بتاريخ 23/6/2007م.
([43] ) مجلة العرب الإلكترونية بتاريخ 16/12/2006م على موقعها www.arabmag.blogpost.com.
([44] ) جريدة "الرأي" الأردنية، بتاريخ 15/4/2005م.
([45] ) قناة الجزيرة الفضائية بتاريخ 13/7/2008م، على موقعها الإلكتروني www.aljazeera.net.
([46] ) قناة العربية الأخبارية، في موقعها الإلكتروني www.alarabiya. net.
([47] ) للاستماع للاعتراف كاملاً (افتح ملف Ted Haggard's Downfall على موقع video.google.com ولقراءة التفاصيل مكتوبة راجع موقع www.islamonline.net بتاريخ 6/11/2006م. تقرير محمد حامد.
([48] ) قناة الجزيرة الفضائية، بتاريخ 21/3/2001م في موقعها الإلكتروني www.aljazeera.net.
([49] ) سورة الحج: الآية 52.
([50] ) للوقوف على تفاصيل القصّة كاملةً انظر الطبري، جامع البيان [م. س]، ج17، ص 131 – 133. والغرانيق جمع غرنوق وهو طائرٌ أبيض من الطيور التي تعيش قرب الماء. وكُنِّيَ بذلك الشاب الأبيض الناعم، وكان المشركون يزعمون أنّ الأصنام تقرّبهم من الله وتشفع لهم فشُبِّهَتْ بالطيور التي تعلو وترتفع.
([51] ) سورة الكافرون: الآيات 1-3.
([52] ) سورة النجم: الآيتان 19، 20.
([53] ) سورة الإسراء: الآيتان 73، 74.
([54] ) سورة الحج: الآية 52.
([55] ) انظر:
أ. الألباني، محمد ناصر الدين، نصب المجانيق لنسف قصّة الغرانيق ص 24 – 26 بتصرف واختصار، ط1، 1952، المكتب الإسلامي، دمشق.
ب. الخالدي [م. س]، ص 664 – 666 بتصرف.
ج. مرسي [م. س]، ص 20 – 25 بتصرف.
د. الشريف، عبد الرحيم، إفتراء وردّ: مصدر القرآن الكريم هي الشياطين، بحث منشور في موقع شبكة الحقيقة الإسلامية بتاريخ 13/1/2007م على الموقع الإلكتروني للشبكة www.trutheye.com.
هـ. الأزهري، إسماعيل شعبان، قصّة الغرانيق في الميزان، بحث منشور في موقع الشبكة الإسلامية بتاريخ 2/1/2009م على الموقع الإلكتروني للشبكة www.islamweb.net.
و. حقائق الإسلام [م. س] الشبهة 62، الشيطان يوحي إلى محمد r والردّ عليها.
([56] ) سورة الحاقة: الآيات 44 – 46.
([57] ) سورة يونس: الآية: 15
([58] ) سورة الإسراء: الآية 73.
([59] ) سورة الإسراء: الآية 74.
([60] ) سورة الفرقان: الآية 32.
([61] ) سورة الشعراء: الآيتان 210، 211.
([62] ) وأسماؤهم على ترتيب وفياتهم ما يلي:
1. أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن العربي توفي سنة (542)، في تفسيره "أحكام القرآن".
2. القاضي عياض بن موسى بن عياض (544) في كتابه "الشفا في حقوق المصطفى".
3. فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن الرازي (606) في تفسيره "مفاتيح الغيب" (6/193 – 197).
4. محمد بن أحمد الأنصاري أبو عبد الله القرطبي في "أحكام القرآن" (12/80 – 84).
5. محمد بن يوسف بن علي الكرماني، مِن شُرّاح "البخاري" (786)، وقد نقل كلامه في ذلك الحافظ بن حجر في "الفتح" (8/498).
6. محمود بن أحمد بدر الدين العيني (855) في "عمدة القاري". (9/47).
7. محمد بن علي بن محمد اليمني الشوكاني (1250) في "فتح القدير". (3/247 – 248).
8. السيد محمُود أبو الفضل شهاب الدين الآلوسي (1270) في "روح المعاني" (17/160 – 169).
9. صديق حسن خان أبو الطيب (1307) في تفسير "فتح البيان".
([63] ) سورة الحج: الآية 52.