دراسة في نشوء الفرق والمذاهب الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم
دراسة تفصيليّة في أسباب نشوء الفِرَق والمذاهب الإسلامية
بحث للدكتور راجح إبراهيم السباتين
ـ مقدّمـــــة ـ
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصّالحات. وبعد؛ فما الذي يحدث في واقعنا المعاصر؟ وما هذا الذي يجري في أروقة العالم الإسلامي صغيرها وكبيرها؟ لماذا تقطّعنا في الأرض أسباطاً وأمماً بعد أن كنَّا أمّةً واحدةً اكتسحت أبجديّات حضارتها خطوط الطول ودوائر العرض في الكرة الأرضية؟ من أين جاءت هذه الأفكار والمعتقدات والأنظمة و الفِرَق و الجماعات والقوانين فقطّعتنا شعوباً بينها من العداوة والبغضاء ما بينها؟
إنّ الإجابة الواضحة على كل هذه التساؤلات المؤلمة السابقة تكمُن في العبارة التالية: "إن أردنا أن نفهم الواقع المعاصر فلا بُدّ لنا من الرجوع إلى التاريخ ". وبمعنىً آخر، إن أردنا أن نفهم حاضر العالم الإسلاميّ المنقسم إلى طوائفَ وأحزابٍ ومذاهبَ عقدّيةٍ وفرقٍ وجماعاتٍ، فلا بدَّ لنا أن نقرأ ونفهم تاريخ هذا العالم الإسلامي. كما أنه لا بدّ لنا من الوقوف على أهميّة هذه الرقعة من رقاع اليابسة وضرورة  ما يُرادُ لها من البقاء مُجَزّأةً متفرّقةً لئلا ينهض منها رجلٌ كما نهض  محمد r، ولئلا ينهض فيها  شعبٌ كما نهضت قريش وجاراتها قبل قرونٍ فغيّر نهوضهم وجه العالم وخارطته آنذاك.
كما أنه لا بدّ لنا أن نقف على طبيعة علاقة هذا العالم الإسلامي بجيرانه من الدول والحضارات الأخرى والتي كان لها يدٌ طولى وأثرٌ عميقٌ في تكريس انقسام هذا العالم الإسلامي، وسنتناول هذه المؤثرات فيما سيأتي من كلام تحت عنوان (المؤثرات الخارجية).
المبحث الأوّل
في التفريق اللغويّ والاصطلاحيّ بين كلٍ من الفِرقة والمذهب  
كلمة الفِرقة، مشتقة لغوياً من كلمة (الفَرقُ)، وتعني في قواميس اللغة: "خلاف الجمع ... وقيل فرّق للصلاح فرقاً، وفرّق للإفساد تفريقاً، وانفرق الشيء وتفرق وافترق"([1]).

أما المعنى اللغوي للمذهب فهو: "المُعتقد الذي يذهب إليه، وذهب فلان لذهبه، أي لمذهبه الذي يذهب فيه"([2]).
مفهوم الفِرقة ومفهوم المذهب
          مفهوم الفِرقة في الاصطلاح يعني: "جماعة تربطهم معتقدات معينة، وكثيراً ما تعزلهم عن غيرهم فيكوّنون مجتمعاً مغلقاً، وقد يفتحون الباب لمن عداهم"([3]).
          أما مفهوم المذهب في الاصطلاح فيعني: "مجموعة مبادئ وآراء متصلة ومنسقة لمفكّر أو لمدرسة، ومنه المذاهب الفقهية والأدبية والعلمية والفلسفية"([4]).
          وقد وردت كلمة الفرقة في عدة أحاديث للرسول، صلى الله عليه وسلم، منها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم "تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين فِرقة، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فِرقة"([5]).
          وأما كلمة المذهب فلم ترد في أي اصطلاح شرعي من الكتاب أو السنة، وإنما عرفت فيما بعد من قبل أتباع الفقهاء وغيرهم من المجتهدين.
الفَرقُ بين الفِرقة والمذهب
تبين من خلال ما سبق عن مفهوم الفرقة ومفهوم المذهب، أنّ الفرقة شيء مختلف تماماً عن المذهب.
          فالفِرقة، تعني الافتراق في أصول العقيدة، وهي ملازمة للطائفية "لأن الطائفية تجَمّع جماعة حول مذهب تعتنقه وتدعو إليه، وتعد كل جماعة لا تعتنقه ليست منها"([6]).
          وأما المذهب "فهو مجموعة علمية تبقى حافظة كيانها ثابتة لأنها تراث فكري"([7]).
          وبناءً على هذا فإن الاختلاف المقصود بالحديث النبوي الذي ذكرناه سابقاً والذي يؤدي الى الفرقة والتفريق هو الاختلاف في أصول العقيدة، فالالتزام بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون سبباً في النجاة، وإن خالف ذلك يكون سبباً في الخسران والاختلاف([8]).
          وأما الاختلاف في الأحكام العملية والفقهية فليس المراد من الحديث الشريف، لأن هذا الاختلاف مبني على اجتهاد وبحث مأذون فيهما.
إذن يجب أن نُفرق بين الخصومة في الدين وأصوله وبين اختلاف الفقهاء حول استنباط الأحكام التي ليس فيها نص قطعي الدلالة والثبوت، فإن ذلك الاختلاف ليس خصومةً في الدين وليس ملاحاة، إنما هو طلب للحق بإخلاص"([9]).
"فالاختلاف الفقهي في الاستنباط دليل على الحيوية الفكرية، ولذا لا يصح أن نعد اختلاف الصحابة والتابعين في استنباط الأحكام التي تعتمد على الرأي خصومةً في الدين، ولكنه اختلاف منهج فكري في تفسير النصوص وتخريجها"([10]).
          فالفِرقة إذن تعني الاختلاف في أصول الدين وعقائده والافتراق عن بقية الناس، وأما المذهب فهو الاختلاف الذي وقع بين الفقهاء حول مسائل فرعية ليست أصلاً من أصول الدين ولم يرد فيها نص قطعي الدلالة([11]).
المبحث الثاني
المنهج النبويُّ المَرِنُ في الشورى و التعامل مع المخالفين في الرأي
وقبل الخوض في تفاصيل الحديث عند أهمية وجود المذاهب الفقهية وأسباب نشوئها وفوائدها فمن المفيد الإجابة عن تساؤلاتٍ هامةٍ لطالما أثارها المغرضون من اعدء هذا الدين، وهذه التساؤلات تتجلى فيما يلي:
هل كانت المدرسة النبوية الشريفة مدرسةً تلقينيةً قمعيةً تضيقُ بالمخالفين لها بالرأي أو تضيِّقُ على كل مَنْ يأتي بفكرةٍ جديدةٍ ؟؟
وهل كانت مؤسسة الحكم النبوي مؤسسةً مركزيّةً ضيقةَ الأفق محدودةَ التفكير غليظة الجانب مما أدّى الى نشوء الفرق المعارضة لها الثائرة عليها فيما بعد؟!!
إنّ الاجابة الوحيدة القطعية على هذه التساؤلات هي لا. لم تكن المدرسة النبوية كذلك بل انها كانت مدرسةً مرنةً تستوعب كل المتغيرات والمستجدات وتلبّي حاجات الناس في ذلك العصر وفي كل العصور اللاحقة وللتدليل على صحة هذه أل(لا) فإنه من المستحسن ذكر بعض المواقف التي تثبت بجلاء و وضوح حرص النبي r على مشاورة أصحابه وأخذه بآرائهم وزيادة محبته لهم حتى بعد (اختلافه ) مع بعضهم ليكون قدوةً لهم ولمن يأتي من بعده و بعدهم من المسلمين الذين يدرسون شخصية الرسول r القدوة :
أولا:- قال الرسول r لأصحابه عقب انتهاء الريح التي بعثها الله تعالى، واقتلعت خيام المشركين في غزوة الأحزاب (من كان مطيعا فلا يصلينَ العصر إلا في بني قريظة) . ولمّا توجه المسلمون الى ديار بني قريظة صلّى بعضهم العصر في الطريق (لانه فهم أنّ مقصود النبي r من حديثه السابق الاستعجال) بينما صلّى البعض الآخر العصر في ديار بني قريظة. وقد ثبت في صحيح مسلم أنّ النبي r أقرّ الفريقين على صواب فعلهما.
ثانيا:- زادت محبة رسول الله r لعبد الله بن أم مكتوم بعد نزول سورة (عبس) وكان يلقاه في الشارع فيقول له:- أهلاً بمن عاتبني فيه ربي.
ثالثا:- لمّا علم الرسول (r) بنجاة القافلة وقدوم جيش قريش، استشار اصحابه قائلا: (اشيروا عليّ أيها الناس) فتكلّم من المهاجرين أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو، رضي الله عنهم، فأبدوا استعدادهم للقتال، ثم كرّر النبي r قوله (أشيروا علي ايها الناس) فعرف الأنصار أنه يريدهم فتكلم زعيمهم سعد بن معاذ، رضي الله عنه،قائلا: (قد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ماجئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منّا رجلٌ واحدٌ. وما نكره أن تلقى بنا عدوَنا غدأً، إنا لصُبَّر في الحرب، صَدَق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله)(1)
رابعا:- نزل النبي r بالمسلمين عند مياه بدر، و أشار عليه الحباب بن المنذر رضي الله عنه، أن يغَير موقعه الى موقع آخر يمكن المسلمين من الشرب، و يمنع الماء عن العدو، فأخذ، صلى الله عليه وسلم، برأيه.(2)
يتضِّحُ لنا مما سبق مدى المرونة والمودّة التي كان يتعامل بها النبي r مع المسلمين. وقد استنبط بعض العلماء المتأخّرين من الشواهد السابقة وغيرها منهجاً فكرياً  سمّوه مبدأ "تعدّد الصواب".
المبحث الثالث
الاختلاف الفقهي في عهد الصحابة رضوان الله عليهم
و السؤال الذي يطرح نفسه الآن : هل مات هذا المنهج المَرِن بموت النبي، صلى الله عليه وسلم؟؟!!
إنّ هذا المنهج الشرعيّ العلميّ المرن في التعامل مع المسائل والأمور وإدارتها لم يمت بموته r، بل انتقل إلى صحابته رضوان الله عليهم. وكيف لا وهم تلاميذ معلم البشريّة الأوّل.
بعد وفاة النبي r ومجيء عهد الصحابة، رضوان الله عليهم، ونتيجةً لاتساع رقعة الدولة الإسلامية بفتح بلاد الشام ومصر والعراق، ظهرت وقائع جديدة تحتاج الى أحكام شرعية، وكان منهج الصحابة، رضوان الله عليهم، في استنباط الأحكام يتمثّل في:
1-    الرجوع الى كتاب الله تعالى وسنة رسوله r فإن وجدوا فيهما حكماً للواقعة عملوا بمقتضاه.
2-  وإن لم يجدوا فيهما حكماً اجتهدوا وأعملوا فكرهم لاستنباط حكمٍ لها، فإن اتفقوا على رأيٍ واحدٍ، كان إجماعاً و مثال ذلك إجماعهم على جمع المصحف في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإجماعهم على مقاتلة المرتدين بعد التشاور وتداول الآراء في ذلك.
3-  وإن اختلفوا بقي كل صاحب رأي على رأيه، إلى أن يظهر لأحدهم أن الحق في رأي غيره لظهور دليل من الكتاب أو السنة، فإن ظهر له ذلك سارع بالرجوع إليه، والتسليم له، وخير مثال على ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه كان يرى أنّ امرأة المقتول ليس لها نصيبٌ في دِيَتِه، وإنما تُوزّع الديةُ جميعها على أقاربه دون الزوجة، فلما كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله r: "ورّث امرأة أشيم الضبابي، رضي الله عنه، دية زوجها(1)" سارع عمر، رضي الله عنه، إلى الرجوع عن رأيه، وقال: لو لم نسمع بهذا لقضينا بخلافه.
وكذا فعل أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، عندما جاءته الجدّةُ تسأله ميراثها، فقال لها، رضي الله عنه: ما لكِ في كتاب الله شيء، وما أعلم لكِ في سنّة رسول الله r شيئاً، ولكني أسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: إن الرسول r قضى لها بالسّدُس، وشهد معه محمد بن مسلمة، فأمضى أبو بكر رضي الله عنه ذلك.
4-  وإذا لم يظهر دليل يستدعي الرجوع عن الرأي، بقي الاختلاف الفقهي بين الصحابة، ولم يكن ذلك يؤثر في أخوّتهم، وما أنشأه الإيمانُ فيهم من توادد ومحبة، فالاختلاف لا يفسد للود قضيةً، كما لا يفسد الاحترام المتبادل بينهم، حتّى ولو كان صاحب الرأي الآخر صاحب سلطةٍ ونفوذٍ. فقد روي عن عمر، رضي الله عنه، في أثناء خلافته أنه لقي رجلاً له قضية فسأله ماذا صنعتَ؟ فقال الرجل: قضى علي بن أبي طالب بكذا. فقال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذا، فقال الرجل: ما يمنعك والأمر إليك؟ فأجابه عمر: لو كنت أردُّك الى كتاب الله أو إلى سنّة رسول الله r لفعلتُ، ولكني أردّك الى رأيي، والرأي مشترك، ولست أدري أيّ الرأيين أحقّ؟
وبعد عصر الصحابة، رضوان الله عليهم، ازدادت الوقائع الجديدة، وكثرت الاجتهادات الفقهية، نتيجة وجود طرائق مختلفة لاستنباط الأحكام الشرعية، وتمايزت هذه الطرائق إلى أن ظهرت المذاهب الفقهية.
المبحث الرابع
أسباب ظهــور المذاهــب الفقهيــة
          لم يكن الاختلاف الفقهي بين المسلمين اختلافاً في الأصول التي يُستقى منها الفقه، فالأصول واحدةٌ عند جميع فقهاء المسلمين وهي الكتاب والسنة. وإنما كان اختلافهم في فهم النصوص الشرعية، وإنزالها على الوقائع الجديدة. وفي طرائق استنباط الأحكام لتلك الوقائع .ويعود الاختلاف في ذلك لأسباب أهمها:
أولاً: عدم وصول الحديث الى المجتهد: لم تكن أحاديث النبي r في أول الأمر مدونةً في كتبٍ يسهل الرجوع إليها، وإنما كانت محفوظة في صدور الصحابة والتابعين، فإذا بلغ الحديثُ النبوي أحد المجتهدين قضى به، وإذا لم يبلغه قضى باجتهاده معتمداً على المبادئ العامة والمقاصد الكلية في القرآن الكريم والسنة النبوية.
          وهذا سبب أغلب الاختلافات الفقهية التي ظهرت في العصور الأولى، فقد سئل أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، عن ميراث الجدة هل ترث إذا توفي ابنها؟ قال أبو بكر: مالَكِ في كتاب الله من شيء، وما علمت لَكِ في سنة رسول الله r من شيء، ثم عرض هذه المسألة على الصحابة فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فشهدا أن النبي r أعطاها السدس([12]). فقضى أبو بكر بموجب ذلك وتراجع عن قوله الأول.
ثانياً: الاختلاف في تصحيح الأحاديث لدى المجتهدين: قد يصل الحديث الى المجتهدين، إلا أن منهم مَن يصح عنده فيعمل بمقتضاه ومنهم مَن لم يصح عنده، لجهالة بعض الرواة أو لتشدّده في شروط الصحة، فلا يعمل به، ومن الأمثلة على ذلك ما روي عن النبي r قال: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذُلاًّ، لا ينزعه حتى ترجعوا الى دينكم"([13])، فالعينة: هي أن يشتري الشخص سلعةً بمائة وعشرين ديناراً مثلاً إلى أجلٍ معيّنٍ، ثم يبيعها الى التاجر نفسه بمائة دينار نقداً، فهي حرام عند جمهور الفقهاء؛ لأن الأحاديث التي وردت فيها تقوي بعضها بعضاً فيحتج بها على التحريم. في حين ذهب الإمام الشافعي الى عدم التحريم لضعف أحاديث العينة.
 ثالثاً: الاختلاف في فهم النصوص وتفسيرها: قد يكون بعض الألفاظ في نصوص القرآن والسنة مشتركاً بين معنيين، فيأخذ مجتهدٌ بمعنىً ويأخذ الآخر بالمعنى الآخر كقوله تعالى: "والمطلقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء "([14]). أي أن المرأة المطلقة لا يجوز لها أن تتزوج قبل انتهاء عدتها والمحددة بثلاثة قروء، ولكن القرء من الألفاظ المشتركة التي لها معنيان هما الحيض والطّهر، فحمله الإمام مالك والشافعي على الطّهر، بينما حمله أبو حنيفة على الحيض، فترتب على هذا أن عدة المطلقة تنتهي بانقضاء ثلاثة أطهار عند الإمام مالك والشافعي، وتنتهي عدتها بانقضاء ثلاث حيضات عند الإمام أبي حنيفة.
رابعاً: الاختلاف في نوع الأدلة الاجتهادية وطرق الاستنباط: اعتمد بعض المجتهدين في استنباط الأحكام على أدلّةٍ لم يعتمدها آخرون، مثل عمل أهل المدينة، فإنَّه حجّةٌ عند الإمام مالك إذ عمل به، وجعله أحد مصادر التشريع، وليس بحجّةٍ عند غيره فلم يعملوا به، وكذلك القياس فهو حجّةٌ عند جمهور الفقهاء فعملوا بمقتضاه، وليس بحجّةٍ عند الظاهرية فلم يعملوا به.  


ما هي الأمور والمسائل التي يصحّ ويجوز فيها الاختلاف؟؟
          إنّ الاختلاف المقبول في الإسلام إنما هو خلاف في الفروع وليس في الأصول والثوابت، ذلك أن الأصول منصوصٌ عليها بنصوصٍ قطعيّةِ الثبوت والدّلالة ولا تحتمل أيَّ اختلافٍ أو نقاشٍ فيها، ولتبسيط هذا الأمر وتقريب صورته إلى الأذهان نقول: إن المسائل من حيث جواز الاجتهاد (سواء أكان اتفاقاً أم اختلافاً) فيها أو عدمه تنقسم الى قسمين، نذكرهما مع التمثيل:
1.    المسائل التي لا مجال للاجتهاد فيها:
أ . ما ورد فيه أحكام نهائية، بأدلّةٍ قطعيةٍ، محدّدةٍ مفصلّةٍ في القرآن الكريم، أو السنة النبوية الشريفة، كمقادير الحدود والكفارات المقدَّرة.
ب. الأحكام الأخلاقية مثل الصدق والأمانة وغيرها.
ج. الأحكام التي دلّت النصوص على أنها ليست قابلةً للنقض، مثل الجهاد.
2.    المسائل التي فيها مجال للاجتهاد:
أ. المسائل التي لم يرد في حكمها دليلٌ قطعيُ الدلالة، بل كانت دلالتها ظنيةً، سواء أكان ذلك في القرآن الكريم أم السنّة النبوية، ومثال ذلك لفظ (قروء) في قوله تعالى: "والمطلقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء"([15])، فإنّها تحتمل أن تكون بمعنى الحيض أو الطهر، فَمنْ رجَّحَ من الفقهاء معنى الحيض، قال: إنّ عدّة المرأة المطلقة ثلاث حيضات، ومَنْ رجّح معنى الطهر قال: إنَّ عدة المرأة المطلقة ثلاث أطهار.
ب. المسائل التي لم يرد في حكمها دليلٌ مَحَدّدٌ من القرآن الكريم أو السنة النبوية، فهذه يُعرف حكمها عن طريق الاستنباط من النصوص الشرعية.  




المبحث الخامس
في ذكر أبرز الفروق بين التفرُّق الفقهي، والتفرّق الاعتقادي
          لقد لفت الدكتور بسام العموش في تحقيقه لكتاب البرهان النظر الى خطورة التفرّق في الاعتقاد وإلى ضرورة التمييز بينه وبين التفرّق الفقهي فقال في مقدّمة (البرهان)([16]):
(إن التفرّق في الاعتقاد من أخطر الأمور في الدنيا والآخرة على صعيد الأفراد والمجتمعات. وطريق الحق والسعادة والنجاح هو التوحيد الخالص الذي يجمع الأمة فتصبح أمة الوحدة والتوحيد، وبدون هذا التوحيد يقع التفرق والتشتت (قديماً وحديثاً) بسبب اتباع العقائد المخالفة للإسلام. قال تعالى: "وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ولا تَّتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله"([17]).
ويخطئ بعض الناس حين يظنون أنّ التفرَّق الفقهي كالتفرق الاعتقادي، لأنَّ التفرق في وجهات النظر الفقهية ظاهرةٌ صحيّةٌ تدلّ على العقلية التي يتمتع بها المسلمون، وأنهم يقلّبون المسألة الواحدة تقليباً. وقد اختلف سلفنا الصالح فقهياً لكنهم كانوا على حبٍ ووئامٍ واعتقادٍ واحدٍ، وما حلّت المصيبة إلا بالتفرّق الاعتقادي واتّباع الأشخاص الذي يتضح لنا من خلال أسماء الفرق التي نسبت الى مؤسسيها).
وقد نقل الدكتور بسام العموش في المقدمة نفسها كلاماً لابن حزم، رحمه الله، في هذا الموضوع من (كتاب الفصل في الملل والنحل): (واعلموا رحمكم الله أنَّ جميع فرق الضّلالة لم يجرِ اللهُ على أيديهم خيراً ولا فتح بهم من بلاد الكفر قريةً ولا رفع للإسلام رايةً وما زالوا يسعون في قلب نظام المسلمين ويفرّقون كلمة المؤمنين ويسلّون السيف على أهل الدين ويسعون في الأرض مفسدين).
         
ثم يوجّه النصح للمسلمين فيقول([18]): فالله الله أيها المسلمون، تحفظوا بدينكم، الزموا القرآن وسنن رسول الله r وما مضى عليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون وأصحاب الحديث عصراً عصراً الذين طلبوا الأثر فلزموا الأثر ودعوا كلّ محدثة بدعة وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالة في النار"([19]).
و نستطيعُ أن نلخَّصَ أبرز الفروق بين الاختلاف الفقهيّ والعقديّ فيما يلي:
  1. الاختلاف العقديّ يمس بعض الأصول ويتعلق بها أحياناً دون الفروع بعكس الاختلاف الفقهي.
  2. الاختلاف العقديّ يتناول مسائل قطعية الثبوت والدلالة ومسائل لا يجوز الاجتهاد فيها بعكس الفقهي.
  3. الاختلاف العقديّ يقود إلى تفرقة الأمة وتمزيقها.
  4. الاختلاف العقديّ قد يؤدي الى الكفر في بعض مسائله.
فــي ذكــر فوائــد الاختــلاف الفقهــي
  1. عندما يذكر كلُّ فقيهٍ أو مجتهدٍ دليله، فإن ذلك سيؤدي إلى فهم  الأحكام الشرعية التي استنبطها هؤلاء الفقهاء والاطمئنان إليها وأنها لم تصدر عن هوىً بل عن مناهج واضحةٍ منضبطةٍ سار عليها الفقهاء حتى وصلوا إلى هذه الأحكام.
  2. تكوين عقليةٍ علميةٍ لدى طالب العلم وضبط تفكيره وتعبيد الطريق أمامه للاجتهاد والاستنباط والحكم على الأشياء اعتماداً على الدليل الأقوى.
  3. ربط الأحكام الشرعية بمصادرها الرئيسة، وذلك من خلال توضيح الأدلّة ومصادرها.
  4. زيادة الفهم في أمور الدين، والتعمّق فيه بناءً على منهجيةٍ علميةٍ شرعيةٍ تحقق رضا الله تعالى، مصداقاً لقول الحبيب المصطفى r (من يُرد اللهُ به خيراً يفقّهه في الدين).
  5. إنّ إطلاعنا على تفاصيل الكثير من الاختلافات الفقهية يُثبت لنا ، من دون أدنى شك ،أنه لا زال في مقدور هذه الأمة أن تنجبَ العقول القادرة على معالجة كل القضايا المستجدّة المتطوّرة بتطوّر العصر وتجدد حاجات الإنسان مما:
أ . يثبت صلاحية الإسلام للتطبيق في كل زمان ومكان.
ب. يعطينا أحكاماً شرعيةً جديدةً تتعلّق بقضايا معاصرة مثل: ( طفل الأنابيب " التلقيح الصناعي"، التبرع بالأعضاء، نقل الدم والتبرع به، الاستنساخ البشري والحيواني، تسعير البضائع والأطعمة، بيوع التقسيط، أحكام التأمين بأنواعه ...)    


المبحث السّادس
في ذكر تخريجات حديث (افتراق الأمم والفرقة الناجية) ومدى صحّته
وجواز الاحتجاج به عند العلماء والمُحَدِّثين
لقد ذكر عددٌ كبيرٌ من العلماء والأساتذة الأفاضل طرق هذا الحديث الشريف، وللاختصار فسنوردُ منها ما ذكره عبد القاهر البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق)(1)، وما ذكره الاستاذ الدكتور محمد أحمد الخطيب في كتابه (الفرق الاسلامية).
أولاً: ذكر عبد القاهر البغدادي لطرق هذا الحديث:
  1. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمّتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة".
أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب العلم / باب تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين ملّة كلها في النار إلا واحدة (1/128).
وأخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك في كتاب الفتن باب افتراق الأمم (2/1320) رقم 3993 .
  1. عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله r: "ليأتينّ على أّمتي ما أتى على بني اسرائيل، تَفَرَّق بنو اسرائيل على اثنتين وسبعين ملّة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة تزيد عليهم ملّةً، كلّهم في النار إلا ملّة واحدة " قالوا: يا رسول الله، وما الملّة التي تتغلّب؟ قال "ما أنا عليه وأصحابي".
أخرجه الحاكم في كتاب العلم باب: تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين ملّة كلهم في النار إلا واحدة (1/182) عن عبد الله بن عمرو: "ليأتينّ على أمّتي ما أتى على بني اسرائيل مثلاً بمثلٍ، حذو النّعل بالنّعل، حتى لو كان فيهم مَن نكح أمَّه علانيةً كان في أمّتي مثله، إنّ بني اسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملّة، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين ملّة كلُّها في النار إلا ملّة واحدة، فقيل له: ما الواحدة ؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
3.   عن أنس بن مالك الأنصاري، عن النبي r قال: "إنّ بني اسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة ".
   أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن / باب افتراق الأمم (2/1322) رقم 3992.
  1. قال عبد القاهر: للحديث الوارد على افتراق الأمة أسانيد كثيرة، وقد رواه عن النبي r جماعة من الصحابة: كأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وجابر، وأبي سعيد الخدْري، وأبيّ بن كعب، وعبد الله عن عمرو بن العاص ، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع، وغيرهم ...
وقد روي عن الخلفاء الراشدين أنهم ذكروا افتراق الأمة بعدهم فرقاً، وذكروا أن الفرقة الناجية منها فرقةٌ واحدةٌ وسائرها على الضلال في الدنيا والبوار في الآخرة(1).
ثانياً : ذِكْرُ الدكتور محمد الخطيب لطرق هذا الحديث :(2)
أخرج ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". (أخرجه ابن ماجه، باب افتراق الأمم، حديث 3991) .
          وفي روايةٍ أخرى عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله r: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفسُ محمدٍ بيده لتفترقنَّ أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار، قيل يا رسول الله من هم ؟ قال: الجماعة". (أخرجه ابن ماجه، باب افتراق الأمم، حديث 3992).
          ويعلّق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي على الحديث السابق في سنن ابن ماجه فيقول: "الجماعة، أي الموافقون لجماعة الصحابة، الآخذون بعقائدهم، المتمسكون برأيهم".
          وروى أحمد في حديث عن أنس بن مالكٍ ، رضي الله عنه، أن رسول الله r قال: "إن بني اسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، فتهلك إحدى وسبعون فرقة، كلها في النار إلا فرقة، قالوا: يا رسول الله: من تلك الفرقة؟ قال: الجماعة، الجماعة ". (أخرجه أحمد، ج2، 332).
          وفي روايةٍ أُخرى أخرجها أحمد عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، قال: "إنَّ أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة – يعني الأهواء – كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وأنه سيخرج في أمتي أقوام تجاري بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرقٌ ولا مفصلٌ إلاّ دخله". (أخرجه أحمد، ج3: 120، 145).
          وقد جاء الحديث مِن طرقٍ أخرى عند الترمذي، وأبي داود، وأحمد، وابن ماجه، وكلُّه يعضد بعضه بعضاً.
ولا يفوتنا قبل أن ننتهي من الكلام عن تخريجات هذا الحديث الشريف وذكر طرقه وأسانيده أن نذكرَ الاعتراضات التي أوردها الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب "مذاهب الاسلاميين"(1) وأن نلفتَ النظر الى أن هذه الاعتراضات الأربعة لا تتعدى مجرّد كونها إبداءً لآراء شخصيةٍ في متن هذا الحديث الشريف، وقد تناسى المؤلف الدكتور عبد الرحمن بدوي أنَّ هنالك إسناداً لهذا الحديث، نلفتُ إلى أن ذكرنا لملاحظاته إنما هو من باب الأمانة العلمية في ذكر القول، والقول المخالف له، لا من باب الاقتناع بما يقوله الدكتور بدوي والذي نصّه:
( ومع ذلك فلا يمكن أن يكون الحديث صحيحاً للأسباب التالية:
أولاً: إنَّ ذكر هذه الأعداد المحددة المتوالية: 71، 72، 73 ـ أمرٌ مُفتَعلٌ لا يمكن تصديقه، فضلاً عن أن يصدر مثله عن النبي.
ثانياً: أنه ليس في وسع النبي أن يتنبأ مقدماً بعدد الفرق التي سيفترق إليها المسلمون.
ثالثاً: لا نجد لهذا الحديث ذكراً فيما ورد لنا من مؤلفات من القرن الثاني، بل ولا الثالث الهجري، ولو كان صحيحاً لورد في عهد متقدّم.
رابعاً: أعطت كل فرقة لختام الحديث الرواية التي تناسبها: فأهل السنة جعلوا الفرقة الناجية هي أهل السنة، والمعتزلة جعلوها فرقة المعتزلة، وهكذا...
          وقد ظهر التعسُّفُ البالغ لدى مؤرِّخي الفرق في وضعهم فروقاً وأصنافاً داخل التيارات الرئيسية حتى يستطيعوا الوصول الى 73، وفاتهم أنَّ افتراق المسلمين لم ينتهِ عند عصرهم، وأنه لا بدَّ ستنشأ فرقٌ جديدةٌ باستمرار، مما يجعل حصرهم هذا خطأً تماماً، إذ لا يحسب حساباً لما سينشأ بعد ذلك من فرق اسلامية جديدة.)
تعقيب عبد القاهر البغدادي على هذا الحديث الشريف والوجه الذي يجب أن يُفهم عليه(1) (لقد علم كلُّ ذي عقلٍ من أصحاب المقالات المنسوبة الى الإسلام أنّ النبّي عليه الصلاة والسلام لم يُرِد بالفرق المذمومةِ التي هي من أهل النار فِرَقَ الفقهاء الذين اختلفوا في فروع الفقه مع اتفاقهم على أصول الدين، لأنَّ المسلمين فيما اختلفوا فيه من فروع الحلال والحرام على قولين:
أحدهما: قول مَنْ يرى تصويب المجتهدين كلهم في فروع الفقه، وفرقُ الفقه كلًّها عندهم مصيبون.
والثاني: قول مَنْ يرى في كل فرعٍ تصويبَ واحدٍ من المختلفين فيه، وتخطئة الباقين، من غير تضليلٍ منه للمخطئ فيه.
وإنما فصَّل النبُّي عليه الصلاة والسلام بذكر الفرق المذمومة فرق أصحاب الأهواء الضالّة الذين خالفوا الفرقة الناجية في أبواب العدل والتوحيد، أو في الوعد والوعيد، أو في بابي القدر والاستطاعة، أو في تقدير الخير والشر، أو في باب الهداية والضلالة، أو في باب الإرادة والمشيئة، أو في باب الرؤية والإدراك، أو في باب صفات الله عز وجل وأسمائه وأوصافه، أو في باب من أبواب التعديل والتجوير، أو في باب من أبواب النبوَّة وشروطها ونحوها من الأبواب التي اتفق عليها أهل السنة والجماعة من فريقَي الرأي والحديث على أصلٍ واحدٍ، خالفهم فيها أهل الأهواء الضالة من القدرية، والخوارج، والروافض، والنجَّارية، والجهمية، والمجسّمة، والمشبّهة، ومن جرى مجراهم من فرق الضلال، فإن المختلفين في العدل والتوحيد والقدر والاستطاعة وفي الرؤية والصفات والتعديل والتجوير وفي شروط النبوة والإمامة يكفّر بعضهم بعضاً.
فصحَّ تأويلُ الحديث المرويّ في افتراق الأمة ثلاثاً وسبعين فرقة الى هذا النوع من الاختلاف، دون الأنواع التي اختلفت فيها أئمة الفقه من فروع الأحكام في أبواب الحلال والحرام، وليس فيما بينهم تكفير ولا تضليل فيما اختلفوا فيه من أحكام الفروع).
إشكالات هامة تتعلق بهذا الحديث الشريف ودفعها:
يقول الدكتور محمد أحمد الخطيب في كتابه (الفرق الإسلامية)([20]): إنَّ بعض العلماء توقَّفَ في صحَّة الحديث للإشكال الموجود في متنه، وهذا الاشكال يتعلق في قوله  r: "كلُّها في النار إلا واحدة" فمن المعلوم أنَّ أمةَ محمد ٍ r خيرُ الأمم، وأن المرجوَّ أن يكونوا شطرَ أهل الجنة، حسبما صرحت الأحاديثُ بذلك.  


والجواب عن هذا الإشكال يقع في نقطتين:
الأولى: إنَّ عامَّةَ المسلمين وأكثرهم على رأي أهل السنة والجماعة ولا يعرفون الآراء المبتدَعَة، "فالاختلافات" مهما عظُمَت لم تكن أكثرَ من آراء لجماعاتٍ صغيرةٍ لم يتعدّ أثرُها في أكثر الأحيان دوائرَ ضيقةً ومحدودةً، أمّا المجتمعُ الإسلامي العريض فقد ظلَّ مُتماسكاً، وظلت الجماعة المسلمة ملتفّةً حول كتاب ربّها وسنّة نبيّها، وحملت تلك الجماعة ما تضمّنه الكتاب والسنة من مبادئ وقيم، وانتشرت بها في أرجاء الأرض، واستطاعت في أقل من قرنٍ من الزمان، أن تُخرِجَ كثيراً من الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وأن تقيم حضارًة كان لها، ولا يزال الأثر الكبير في مسار البشرية وتاريخ الإنسانية". (الجلي أحمد، دراسة عن الفرق، ص5-3)
          فمن الواضح أن الفرقة الناجية، هم المتابعون للكتاب والسنة، والواقفون عند حدودهما، وأن أفراد الفرق المبتدعة – وإن كثُرَت – لا يكون مجموع أفرادهم جزءاً من ألف جزء من سائر المسلمين.
الثانية : إنّ هذه الفرق تدخل النار لبدعتها، وإنْ كانت لا تخلَّدُ فيها، أو لا يخلَّدُ فيها منهم إلا مَنْ وصلَ ببدعته إلى حدِّ الكفر مثل الغلاة من الشيعة، الذين ألّهوا علياً رضي الله عنه، وألّهوا الأئمة من أهل البيت، أما سائر المبتدعين فيعذَّبون في النار بمقدار معصيتهم، ثم يغفر الله لكل الموحِّدين ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته.
ومن خلال استقرائنا لما كتبه العلماء والمؤرخون والمحدّثون في صفات الفرقة الناجية فإننا نستطيع أن نلخِّصَها في النقاط التالية([21]):
  1. هم الموافقون لجماعة الصحابة، الآخذون بعقائدهم، المتمسّكون برأيهم.
  2. هم التابعون للكتاب والسنة، والواقفون عند حدودهما.
  3. توحيد الله سبحانه وتعالى، والإيمان بأسمائه وصفاته.
  4. الإيمان بجميع أركان الإيمان وأركان الإسلام دون زيادة عليها أو إنقاص منها.
  5. الإيمان بقدم صفات الله عز وجل.
  6. الإيمان برؤية الله في الجنة من غير تشبيه ولا تعطيل.
  7. إباحة ما أباحه القرآن، وتحريم ما حرّمه القرآن.
  8. القبول بما صحّ من أحاديث رسول الله  r، عن الحشر والنشر، وسؤال الملكين في القبر، والإقرار بالحوض والميزان وغير ذلك.
  9. عدم الاعتقاد ببدعِ الفرق الضالة والمنحرفة.
المحث السّابع
خلاصـة القول في عوامل تكوين ونشأة الفرق الإسلامية
إنّ من المستحسن في بداية الحديث عن عوامل نشأة الفرق الإسلامية الردّ على ما ذكره الدكتور عرفان عبد الحميد في مقدّمة كتابه (دراسات في الفرق والعقائد الاسلامية)(1) و ذلك لأنّ ما أورده كان كلاماً خطيراً يتعلَّق بنفي وجود أيةِّ أسبابٍ أو مؤثراتٍ خارجيةٍ في تكوين الفرق الاسلامية حيث قال: (حاول كُتَّابُ الفِرقِ والمقالات ربط نشأة الفرق والمذاهب الإسلامية بعوامل أجنبيةٍ، تتمثَّل في الديانات والثقافات والمعتقَدَات الفلسفية التي وجدها المسلمون في البلاد المفتوحة، وكانت الغاية التي استهدفوها هي تصوير هذه الفرق والمذاهب في شكل دعاوى مبتدَعة ومذاهب مستحدَثة، لُفِّقَت من أديانٍ قديمةٍ باطلةٍ، ومعتقداتٍ فاسدةٍ مُنكَرةٍ، ليسهل إسقاطها والتشنيع بأهلها باعتبارها: كفراً وزندقة وضلالاً).
وقد شرح الدكتور عرفان عبد الحميد الكلام السابق في حاشية كتاب المذكور فقال(2): (المعروف تاريخياً أنَّ مصادرنا عن الفرق والمذاهب الإسلامية واعتقاداتها وآرائها تكاد تنحصر في مؤلَّفات شيوخ المدرسة الأشعرية أمثال: الأشعري والباقلاني والجويني والبغدادي والشهرستاني، وجاء تدوينها في عصر انتشار الأشعرية وجهدها الدائب في السيطرة الفكرية باعتبارها المذهب المنتخَب لأهل السنة والجماعة، ومنَ ثَّم ترآى لأئمتها أنَّ انتشار المذهب لا يكون إلاّ من خلال نفي غيره وإبطاله، ولهذا فإنَّ المقارنة والموازنة والتعديل بين ما ورد في هذه المدونات أمرٌ يستدعي من الباحث جهداً استثنائياً، وليس أفضل من الاستشهاد في هذا المقام بقول الرازي، وهو من أئمة الأشعرية، حيث يقول: "كتابٌ الملل والنحل للشهرستاني، كتاب حكى فيه مذاهب أهل العلم بزعمه إلا أنَّه غير مُعتَمدٍ عليه، لأنَّه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمّى "الفَرق بين الفِرق" من تأليف الأستاذ أبي منصور البغدادي، وهذا الأستاذ كان شديد التعصُّب على المخالفين .. ثم إنَّ الشهرستاني نقل مذاهب الفِرق الإسلامية من ذلك الكتاب، فلهذا وقع الخلل في نقل هذه المذاهب).
وقبل الشروع  في تفصيل العوامل الخارجية و الداخلية لنشأة الفرق الإسلامية  فإننا نذكرُ أننّا رجعنا إلى ما يزيد على خمسة عشر كتاباً من الكتب التي تحدّثت عن نشأة الفرق، و أنه كان من القواسم المشتركة لكل مؤلفي هذه الكتب (على اختلاف مدارسهم الفكرية والفقهية والعقدية) ذكرهم للعوامل الخارجية ولدورها الهامِّ والخطير في تكوين الكثير من الفرق الإسلامية والفرق الأخرى المنتسِبةِ للإسلام المستترة خلفه وتحت عباءته وهو منها براءٌ، ونعجبُ كيف يقع أستاذٌ بِذكاء وعلم الدكتور عرفان عبد الحميد في مثل هذه المغالطة الخطيرة، وإننا نظنُّ أنَّ السّببَ، والله تعالى أعلم، دراسته للدكتوراه في الفلسفة في جامعة (كامبردج) مما يقوّي خلفيّته العقلية الفلسفية ويجرّئ أصحابها على مهاجمة النصوص، والمذاهب الفقهية والفكرية الاسلامية بحجة التجديد الفكري (وتجديد التراث) (والثورة على الجمود والتخلف)!!!
المبحث الثامن
العوامل الخارجية ودورها في تكوين الفرق في العالم الإسلامي
أولاً: دور العوامل الخارجية في صناعة الباطنيّة في العالم الإسلامي:
في ظل ظروفٍ سياسيةٍ خاصّةٍ نشأت فيها خلافاتٌ محليةٌ على الحكم في التاريخ الاسلامي، تألَّفتْ جمعياتٌ سريّةٌ من عناصر فارسية ويهودية ووثنية ونصرانية حاقدة، تظاهرت بالاسلام والتحمُّس له، ثم عملت على تخطيط مؤامراتٍ خبيثةٍ لتغزو عقائد المسلمين ولتهدم كيان الدولة الاسلامية، مستغلةً الخلافات السياسية على شخص خليفة المسلمين، أو مرتديةً مسوح الحزن الكاذب على مقتل مظلومٍ طاهرٍ من ذرية آل البيت. وكان في طليعة هذه المؤامرات في التاريخ الاسلامي مؤامرة (الباطنية) الكبرى، ثم تتابعت بعدها مؤامراتٌ كثيرةٌ في عصور التاريخ الاسلامي، وما تزال حتى الآن مخططات أعداء الاسلام تحيك الدسائس والمكايد، وتحفر الخنادق في طريق العقائد الاسلامية.  
          يقول المؤرِّخُ الديلمي ـ متحدثاً عن المؤامرة الباطنية على العقائد الاسلامية ـ في كتابة "قواعد عقائد آل محمد الباطنية" : "واتفق أهل المقالات أنَّ أوَّلَ مَنْ أسَّسَ هذا المذهب المشؤوم ـ يعني مذهب الباطنية ـ قومٌ من أولاد المجوس وبقايا الخرّميّة ـ (وهم طائفة اباحية من المجوس) ـ والفلاسفة واليهود. فجَمَعَهم نادٍ واشتوروا وقالوا: إنَّ محمداً غلب علينا وأبطل ديننا، واتفق له أعوانٌ نصروا مذهبة، ولا مطمع لنا في نزع ما في أيديهم من المملكة بالسيف والمحاربة، لقوَّة شوكتهم وكثرة جنودهم، وطبقوا البر والبحر. وكذلك لا مطمع لنا فيهم من المناظرة، لما فيهم من العلماء والفضلاء، والمتكلمين المحققين، وكثرة كتبهم وتصانيفهم. واتفقوا على وضع حيلةٍ يتوصَّلون بها إلى فساد دينهم، من حيث لا يشعرون، وبنوا أمورهم على التلبيس والتدليس، وزادوا في مسالكها على مسلك اللعين ابليس". انتهى. لقد وضع مؤسسو الباطنية ... من أعداء الحق والفضيلة، أعداء الإسلام، بحقدٍ بالغٍ ومكرٍ شديدٍ، خطّةٍ شيطانيةً لطعن عقائد الاسلام في الصميم، وبنوا أسس دعواتهم على الكفر والزندقة، والإباحية المطلقة، واستخدموا لنشر ضلالاتهم حيلاً خبيثة، مستترة البدايات، مجرمة النهايات(1).
ثانياً: دور العوامل الخارجية في صناعة عقائد التناسخ ودور (السبأية) في نشر هذه العقائد:
إنَّ المؤثرات الفرعونية والهندية والإغريقية والفارسية كانت هي القنوات التي انتقلت منها عقيدة التناسخ إلى المحيط الإسلامي، فقد نقلت قناة الهند التناسخيةُ مثلاً عقائدَ تناسخيةً: كوحدة الوجود والاتّحاد والحلول، ونقلت قناة الفلسفة اليونانية عقائدَ تقوم على خلود النفس واستحالة فنائها، وانتقالها من جسد الى جسد آخر. أما القناة الفارسية فقد نقلت: نظرية الحقِّ الإلهي في الحكم، ودعوى الوهية البشر، وفكرة الفناء.      
أمَّا أولُ مَنْ قال بهذه المقولة في المجتمع الاسلامي فهم السبأبة لدعواهم أنّ علياً صار إلهاً حين حلّت روح الاله فيه.
والسبأيّة تُنسب إلى عبد الله بن سبأ، الذي كان يتظاهر بالولاء لعلي، رضي الله عنه، وكان يهودياً من يهود اليمن يتستر بالاسلام ويكيد له. ومِن المؤكَّد هنا أنَّ عبد الله بن سبأ أفسد من أمور المسلمين كثيراً، ونقل مقولة الحلول وهي من مقولات التناسخ إلى المجتمع الاسلامي. لقد كان ابن سبأ هو رأس المخطط اليهودي الذي ابتدع مشكلات القضاء والقدر والتشبيه والتجسيم والتأويل الباطني لآيات القـرآن الكريم، وهو الذي نادى كذلك بحلول الله سبحانه في عليٍ ، رضي الله عنه، مُدّعياً أن الجانب الإلهي في علي يتنقل عن طريق التناسخ الى أبنائه. ومن المهم أن نشير هنا الى أنّ البذرة التي بذرها ابن سبأ في التناسخ والحلول تلقّفها الغُلاةُ على اختلاف مشاربهم وأفكارهم، فقد كان الغلاة يمثّلون البؤر الرئيسية التي نبتت فيها تلك التعاليم.
ويغلب الظن أنَّ أفكار أبن سبأ انتقلت في أول الأمر إلى ما يُسمىّ بفرقة (الجناحية أو الحربية)، الذين زعموا بأنَّ علياً وأبناءه آلهة، وأنَّ روح القدس كانت في النبيّ، صلّى الله عليه وسلم، ومنة انتقلت عند موته إلى علي، ثم إلى الحسن، ثم إلى الحسين، ثم إلى محمد بن علي، ثم إلى أبي هاشم، ثم إلى عبد الله بن معاوية. وقالوا أيضاً بالتناسخ، وذلك بانتقال الأرواح المطيعة إلى أبدانٍ طاهرةٍ وصورٍ مذمومةٍ كالكلاب والقردة والخنازير والحيّات والعقارب. كذلك قولهم بالأدوار وذلك أنهم زعموا أن الله خلق سبعة آدميين واحداً بعد واحد(1).
ثالثاً: العوامل الخارجية ودورها في نشر الغلو في الفِرق في العالم الإسلامي:
الغلو: صفةٌ لرأيٍ أو موقفٍ يقع من شخص أو من مجموعة أشخاص من خلال فرقة أو حزب، وأنَّ ذلكم الرأي أو الموقف يؤول الى محاربة الإسلام(2).
والحكم على هذه الآراء الغالية وأشخاصها يتم في ضوء مقاييس تستند الى الإسلام ومبادئه.
          والفرق الإسلامية التي ظهرت هي فرقٌ اعتمدت الإسلام نظريةً ومنهجاً فهي جميعها فرقٌ إسلاميةٌ، إلاّ أنّ الغلاة توزّعوا على هذه الفرق لأسبابٍ مختلفةٍ وبشكل منظمٍ فعملوا على وضع آرائهم ومواقفهم من خلف تلك الفرق الإسلامية.
          هذا بالرغم من أن تفاوتاً في عدد الفرق الغالية قد حصل بين فرقةٍ إسلاميةٍ وأخرى حيث أنَّ الغلاة أنفسهم قد وجدوا في هذا التوزيع أسلوباً عملياً لتحقيق أهدافهم وإمعانهم في التستر.
          إنّ عملية ظهور الفرق الغالية في داخل الفرق الإسلامية تقع حين يأتي واحدٌ أو أكثر من رجال الغلو برأيٍ أو يفسّر ظاهرةً أو نصّاً بشكلٍ يختلف عن تفسير ورأي الفرقة الأصلية فيلتف حوله آخرون فيكوّن هذا الرأي والملتفون حوله فرقةً جديدةً تعمل في مسارٍ معيّنٍ يرتبط بالفرقة الأصلية بشكل من أشكال الارتباط ويعمل بعيداً عن هذه الفرقة ثم يعود إليها من أجل ضمان التستر والمحافظة على حركته من المحاسبة والمعاقبة. إنَّ عمل الفرق الغالية في مجال الفرق الإسلامية كان عملاً منظّماً ومُرَتَّباً بشكلٍ دقيقٍ وقد وجد الغلاة في عملية الانتشار على كل الفرق الإسلامية أسلوباً يحقق أهدافهم. ويوضِّحُ ابن حزمٍ انتشار هؤلاء الغلاة على كل الفرق الإسلامية وعملهم وراء كل واحدة منها فيقول: (وقد تسمَّى باسم الإسلام مَنْ أجمَعَ جميعُ فرق الإسلام على أنّه ليس مسلماً مثل طوائف من الخوارج غلوا فقالوا: إنَّ الصلاة ركعةٌ واحدةٌ بالغداة وركعةٌ بالعشي فقط، وآخرون استحلّوا نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات بني الأخوة وبنات بني الأخوات، وقالوا: إنَّ سورة يوسف ليست من القرآن وآخرون منهم قالوا بحد الزاني والسارق، ثم يُستتابون من الكفر فإن تابوا فبها وإلا قُتِلُوا، وطوائف كانوا من المعتزلة ثم غلوا فقالوا بتناسخ الأرواح وآخرون قالوا: إنَّ شحم الخنزير ودماغه حلال. وطوائف من المرجئة قالوا :إن ابليس لم يسأل قط النظرة ولا أقرَّ بأنَّ خلقه من نارٍ وخلق آدم من ترابٍ، وآخرون قالوا: إنّ النبوة تُكتَسَب بالعمل الصالح. وآخرون كانوا من أهل السنة ... فقالوا قد يكون في الصالحين من هو أفضل من الأنبياء ومن الملائكة "عليهم السلام" وإنَّ مَنْ عرفَ الله حقّ معرفته فقد سقطت عنه الأعمال والشرائع وقال بعضهم بحلول الباري في أجسام كالحلاج. وطوائف كانوا من الشيعة ثم غلوا فقال بعضهم بألوهية على بن أبي طالب والأئمة من بعده ومنهم من قال بنبوّته وبتناسخ الأرواح كالسّيّدِ الحِميَريّ الشاعر وغيره، وقالت طائفة منهم بألوهية أبي الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بن أسد، وقالت طائفة بنبوة المغيرة بن أبي سعيد مولى بني بجيلة وبنبوة أبي منصور العجلي وبزيغ الحائك وبيان بن سمعان التميمي وغيرهم)(1).


رابعاً: العوامل الخارجية ودورها في صناعة الشعوبية والزندقة عن طريق الداخلين الجدد في الإسلام من أصحاب الديانات والحضارات الأخرى.
          دخل في الإسلام أصنافٌ أخرى من الناس، من أهل الأديان والفلسفات المنتشرة في ذلك الحين (مثل اليهودية والمجوسية والفلسفة اليونانية)، دخلوا خوفاً، فلم تخالط بشاشةُ هذا الدين قلوبَهم، ولا اقتلعت جذورَ الحقد والعصبية من قلوبهم، ولا استأصلتْ من قلوبهم الحنينَ إلى أديانهم وأفكارهم المندثرة.
          وبجانب هؤلاء دخل الإسلامَ بعضُ الدُّهاة والماكرين من أصحاب هذه الديانات تظاهروا باعتناق الإسلام وهم يضمرون في أنفسهم الكيد والحقد، والمكر والخديعة، ويتحيّنون الفرص للانقضاض على هذا الدين الذي انتصر على أقوامهم وأديانهم. وقد عملت هذه الفئة من الماكرين في الخفاء لايجاد الطرق التي تؤدي الى استجلاب القلوب إليهم وإلى أفكارهم وافتراءاتهم ... وكانت طرق هؤلاء الخبثاء كثيرةً ومتنوعةً تدل على خبثهم ومكرهم، فقد كانوا يلبسون لكل مناسبةٍ اللبوسَ الخاص بها. فهم قد يلبسون مسوح الصلاح والزهد تارةً، أو مسوح الحرص على تعاليم الدين تارةً أخرى، أو الحرص على آل بيت رسول الله r.
           ولكنّ العزف على وتر القومية والعنصرية أو ما يسمى (بالشعوبية) كان أخطر وسيلة اتبعها هؤلاء لاستمالة القلوب إليهم، خاصةً قلوب الفُرس، الذين كان بعضهم لا يزال يتمنى رجوع دولتهم وأمجادها.
          ولن نكون مجانبين للحقيقة إذا قلنا إن الحقد الشعوبيّ كان المحركَ الأول والمهمَّ في ظهور الفكر المنحرف ... لذا نجد الشعوبية تنتهي في كثير من الحالات بالخروج على الإسلام وبالزندقة ، فهي تبدأ من التهجّم على العرب إلى مهاجمة العربية وتنتهي بالهجوم على الإسلام ... ومن هنا كانت الشعوبية في التاريخ الإسلامي دليلاً على الزندقة ومتممة لها، ذلك أن كلتا الحركتين ترتبطان ارتباطاً عضوياً.
          ويؤِّيدُ هذا أنّ الشعوبيين على اختلاف مشاربهم وأفكارهم، حاولوا جهدهم أن يوجِّهوا مؤامراتهم وحملاتهم وهجماتهم على الإسلام ليقوّضوا دعائمه، متخذين من الزندقة والمبادئ الفارسية والألحادية أسلحة يوجهونها الى عقائد الإسلام ليدخلوا كثيراً منها عليها. والدليل على ذلك أن الزنادقة من الشعوبيين نفثوا سمومهم عن طريق نشر الجدل، وزعم التأويل للآيات القرآنية، الذي أَثَّرَ في ضعاف النفوس وأصحاب الأهواء، أو عن طريق وضع الحديث على لسان رسول الله r تأييداً لعقائدهم وأفكارهم.
          ويبدو أنَّ دُعاة الشعوبية على اختلاف أصنافهم، وجدوا في المغالاة بالعقائد والأفكار وسيلةً لترويج تعاليمها بين السذَّجِ من عامّة الناس، لذا نجدُ أنّ زنادقة الشعوبية، روجوا الأفكار الباطنية، بل نجد أنَّ الكثير مِن مؤسّسي الفرق الباطنية المنحرفة كانوا من الشعوبيين الزنادقة. ونستطيع القول إنَّ الزندقة عملت على النفاذ الى المجتمع الاسلامي عن طريقين: الطريق الأول القيام بثورات وحركات ضد الدولة الإسلامية، أمّا الطريق الثاني فكان أكثر خطراً من الأول، لأنه جاء عن طريقٍ سلميٍ، ببث السموم والأفكار المنحرفة عن طريق الكتابة والشعر والترجمة واللهو والمجون وغير ذلك من الوسائل الهدامة. ويَتَّضحُ مِن هذا أن الزندقة وأفكارها الهدامة كانت مِعولَ هدمٍ في تاريخ الإسلام، تطل برأسها بين الحين والآخر، وتبث سمومها هنا وهناك ... ومن هنا فإنّني رأيتُ ]الكلام للدكتور محمد الخطيب[  أن دراسةَ الشعوبية والزندقة دراسةً موضوعيةً توصلنا إلى نتيجةٍ مهمّةٍ، وهي أنَّ تاريخ الأمة الإسلامية سلسلة مترابطة يؤدي بعضها الى بعض، وبالتالي فإنَّ دراسة الشعوبية والزندقة وأثرهما في ظهور الأفكار والعقائد المنحرفة في هذه الفترة من تاريخنا، ضرورةٌ ماسّةٌ تكشف لنا خطر هذا العدو، الذي لا يزال بين أظهرها، وأن تبدل وتغير في أسمائه ومسمّياته([22]).
          وينقل الدكتور عبد الله سلوم السامرائي([23]) كلاماً طيباً للدكتور علي سامي النشار، فيما يتعلق بأثر الديانات الأخرى وأهلها على الإسلام فيقول: وإنَّ تصادماً عنيفاً حصل بين الإسلام وبين الديانات الأخرى في ذات الإنسان العربي، ويوضح الدكتور علي سامي النشار صورة هذا التصادم ونتائجه بقوله: (قابلت اليهودية الإسلام أول نشأته على حدود يثرب، واشتبكت معه اشتباكاتٍ عقليةً عنيفةً ... وبدأ الجدال بين الإسلام والمسيحية في هضبة الحبشة في حقيقة المسيح وفي الكلمة ... ثم أتى وفدٌ نصرانيٌ من نصارى نجران إلى المدينة وجادل النبيَّ ... ثم وصل الإسلام الى الشام والعراق ومصر، فبدأت المسيحية تنازعه تنازعاً فكرياً شديداً وهنا بدأ التفكير الفلسفي الحقيقي في الإسلام ... والمذاهب الغنوصية قابلها الإسلام في جميع البلاد التي دخلها بلا استثناءٍ قابلها فيما بين النهرين وفي العجم وقابلها في مصر في شكل يوناني وفي شكل الأفلاطونية المحدثة، وقد بدأ معول تلك المذاهب يهدم في بناء الإسلام منذ قوض عقائدها وطقوسها القديمة وكانت من أخطر المذاهب الهدامة التي جالدت الإسلام وحاربته بالسيف والقلم )([24]).
          وكان من نتيجة ذلك أن أعلن فريق من هؤلاء إسلامه وكان منذ البداية يضمر عداءً مستحكماً للدين الجديد محاولاً أن يتّخذ من إسلامه ستاراً لغاياتٍ معاديةٍ لهذا الدين.
خامساً: من العوامل الخارجية دخول الفلسفات والمعتقدات الغريبة عن طريق الترجمة وأثر ذلك في تكوين الفِرَقِ في العالم الإسلامي.
لقد كان للكتب الفلسفية المترَجَمةِ أثرٌ واضحٌ في الخلاف، إذ غزا الفكرَ الإسلاميَ كثيرٌ من المنازع الفلسفية والمذاهب القديمة في الكون، والمادة ، وما وراء الطبيعة المحسوسة، وظهر من علماء المسلمين من نزعوا منزع الفلاسفة الأقدمين وأخذوا بطريقتهم.
وظهر في العصر العباسي أقوام شكّيّون ينزعون في الشك منزع السوفسطائيين الذين ظهروا في (اليونان) و(الرومان).
وانبثق حول هذا المذهب أفكارٌ مختلفةٌ، وكان لذلك أثره في التفكير الدينيّ نفسه، فقد وجدنا مفكِّرين يفكرون في العقائد الاسلامية تفكيراً فلسفياً، كما نرى في المعتزلة الذين نهجوا مناهج الفلاسفة في إثبات العقائد الإسلامية، وأنَّ علمَ الكلام على منهاج (المعتزلة) ومَنْ يردُّون عليهم من علماء السنة هو مجموعةٌ من الأقيسة المنطقية والتعديلات الفلسفية والدراسات العقلية المجردة([25]).
وقد كان ما ذكره الدكتور محمد أحمد الخطيب في كتابه عن تناسخ الأرواح فيما يتعلق بالترجمة من المعلومات المفيدة الدقيقة ما يَحسُنُ ذكره في هذه الدراسة ومن ذلك قوله: ومع أنَّ المؤثّرات الفرعونية والهندية والاغريقية والفارسية كانت بالتأكيد القنوات التي وصلت منها تعاليم التناسخ الى المحيط الإسلامي، إلا أنَّ السؤال الكبير الذي يطرح في بحثنا هذا: من هم المسؤولون عن وصول أفكار وعقائد أهل التناسخ الى المجتمع الإسلامي بكل هذا الزخم بعد بذرة ابن سبأ؟ وجواب ذلك بالتأكيد هو دور الترجمة والنقل، التي كان لها الدور المهم في نقل أفكار وعقائد أهل التناسخ، ولقد استطاعت هذه الترجمات أن تشغل الكثيرين من أهل الفكر فيما نقلوه إلى المجتمع الإسلامي، مما جعل بعضهم يتقبل التناسخ والتجسيد والحلول وغير ذلك، ويتخذها معتقداً يعتقد بها. لقد بدأت حركة الترجمة من اليونانية الى اللغة العربية في العصر العباسي الأول حوالي سنـة 132هـ / 800م، وكان جميع المترجمين – باستثناء أفرادٍ معدودين – من النصارى، وكان بعضهم من أتباع المذهب الأرثوذكسي، أما غالبيتهم فكانوا نساطرةً أو يعاقبةً. وكانوا غالباً ينقلون عن نُسَخٍ سريانيةٍ وأحياناً عن الأصل اليوناني مباشرة. وأشهر مَن عمل على نقل التراث الأجنبي الغريب الى المحيط الاسلامي هم السريان، فالسريانُ النصارى هم الذين عبّدوا الطريق أمام الفلسفة اليونانية في دخولها الى مناطق ما بين النهرين (العراق) قبيل الفتح الاسلامي في القرن السابع الميلادي. لقد نقل هؤلاء الثقافة اليونانية من الاسكندرية وأنطاكية، ونشروها في الشرق، وحملوها الى مدارس الرها، ونصيبين، وحران، وجنديسابور. ومن أسماء المترجمين المشهورة في العصر العباسي: يوحنا بن ماسويه، وجورجيس بن جبريل، وقسطا بن لوقا، وحنين بن اسحاق، واسحاق بن حنين، ويحيى بن عدي.
إلا أنّ الملاحَظَ في مشاهير المترجمين هؤلاء، أنهم لم يكونوا مجرد تراجمةٍ أو مُقَلِّدين مناقدين للمؤلفين، بل إنَّ بعضهم، مثل حنين إسحاق ويحيى بن عدي، قد أُثِرَ عنهم مؤلفاتٌ علميةٌ وفلسفيةٌ مهمةٌ تميل إلى الاهتمام بالقضايا الالهية والفلسفية. لهذا فقد أثَّرَ أمثالُ هؤلاء المترجمين في مجموعات من المفكرين، من خلال الفكر الأفلاطوني الذي اعتنقوه مثل: الفارابي، وابن سينا، والكندي، وغيرهم([26]).
مُلاحَظة هَامَّة جِداً:
تجدر الاشارة في نهاية الحديث عن العوامل الخارجية الى أنَّ الدكتور محمد الدسوقي كان قد سمّاها (القوى المضادّة)، ولعلّ مضمونها واضحٌ من العنوان الذي تحمله، وقد نقل الدكتور الدسوقي كلاماً طيباً عن الإمام محمد عبده فيما يتعلق بهذا الموضوع وعلق عليه تعليقاً مختصراً لطيفاً فقال([27]):
إنَّ مِن هؤلاء مَن حاول أن يقاوم الإسلام بالعلم بعد أن عجز عن مقاومته بالقوة والعدة، وفي هذا الوقت يقول الإمام محمد عبده: (وكان قد  التحف بالإسلام ولم يتبطَّنْه أناس من كلِّ ملّةٍ دخلوه حاملين لما كان عندهم، راغبين أن يصلوا بينه وبين ما وجدوه فثارت  الشبهات بعد ما هبت على الناس أعاصير الفتن، واعتمد كلُّ ناظرٍ على ما صرح به القرآن من إطلاق العنان  للفكر، وشارك الدخلاء مَنْ حقَّ لهم السبقُ من العرفاء، وبدت رؤوس المشاقين تعلو بين المسلمين)([28]). كذلك تتمثل تلك القوى في التراث الدينيّ و الفكري ّ للأمم التي دانت بهذا الدين، وهو تراثٌ وثنيٌ في جملته، ومن ثم كان من وراء ما ظهر في المجتمع الإسلامي وبخاصّةٍ في الدولة العباسية من دعاوى  الإلحاد والزندقة، وإثارة العقائد والمبادئ  الفاسدة، ويروى أنَّ المهديَ راعه هذا فأصدر أمراً للمتكلِّمين بوضع الكتب في الردِّ على شبهات الملاحدة، وإبطال مزاعمهم. وترتَّب على هذا الصراع الفكري بين الإسلام والقوى المضادة تشعب قضايا العقيدة، ودخول كثير من المقررات الفارسية والوثنية واليهودية والمسيحية إلى الفكر الإسلامي، مما أدى إلى تشويه هذا الفكر، ولاسيما في مجالي الكلام والفلسفة.  





المبحث التاسع
العوامل الداخلية ودورها في تكوين الفرق في العالم الإسلامي 
أولاً:   الرياسة وحب السلطان:
إن كثيرين ممن يرغبون في السلطان ينتهون إلى آراء تتعلق بالحكم، هي منبعثةٌ من رغباتهم الخاصة، ويدفعون في تأييدها حتى يُخَيَّل إليهم أنهم مخلصون فيما يدعون إليه، وأنّ ما يقولونه هو محضُّ الحّق والصواب، وقد تكون العصبية القومية أو العنصرية سبباً في الاختلاف، وهي داخلة في حب الرياسة  والسلطان ... وقد يكون لحاكمٍ أنصارٌ يدعون إليه فيندفعون في نصرته اندفاعا، ويعلنون آراءه في هذا الاندفاع، وقد يخدعون أنفسهم بأنّ ما يدعون إليه هو الحق. وإنّ هذا الصنف هو من أخطر الناس على الناس.
ثانياً : التعرض لبحث كثير من المسائل الغامضة:
إنَّ شيوع التفكير الفلسفي بين علماء المسلمين في إثبات العقائد قد جرهم إلى دراسة مسائل ليس في استطاعة العقل البشري أن يصل إلى نتائج مقررة ثابتة فيها، كمسألة إثبات صفات الله تعالى ونفيها، ومسألة قدرة العبد بجوار قدرة الرب، وغير ذلك من المسائل، فان البحث في هذه المسائل يفتح باباً واسعاً من أبواب الاختلاف؛ إذ تختلف  الأنظار، وتتباين المسالك، ويتجه كل اتجاها يخالف الأخر، وربما كان أكثر المسائل التي وقع الاختلاف فيها  بين علماء الكلام من هذا القبيل!..([29]).
ثالثاً :الأسباب السياسية:
وينبثق معظمها من الفتنة الكبرى التي أدّت الى مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما رافق ذلك .... وقبل أن نفصّل القول في هذا الحدث الخطير ونتائجه وكيفية مساهمته في نشأة الفرق الإسلامية، فإننا نلفتُ نظر القارئ الكريم الى أنّ هذه الدراسة استعرضت ما يزيد على أحد عشر كتاباً من الكتب الحديثة التي تناولت موضوع نشأة الفرق في التاريخ الإسلامي، فما وجدنا أوضحَ ولا أسلس و لا أسهل لطلبة العلم  ممّا كتبه الدكتور محمد أحمد الخطيب، نفعنا الله بعلمه وأمدّ في عمره، في بحثه لهذه المسألة وللآثار المترتبة عليها، ويعلَّلُ الدكتور الخطيب سبب التفصيلات والعناوين والمراجع الكثيرة التي ذكرها عند مناقشته لهذه الفتنة، بأنّ الفتنة وما رافقها من أحداثٍ هي لُبّ الموضوع، والسبب الرئيس والمباشر في نشأة الكثير من الفرق الإسلامية، وكنّا قد استأذنّا هذا الاستاذ الفاضل صاحب الخبرة الطويلة في التأليف موضوع الفرق والأديان و تدريسها في الجامعة الأردنية بأنّ نُضَمِّنَ ما كتبه من كلامٍ هامٍ في كتابه (الفرق الإسلامية ) في هذه الدراسة  المتواضعة ، فكانت إجابته الموافقة، جزاه الله خيراً و نفعنا بعلمه... فأخذنا عنه خلاصة ما كتَبَهُ في موضوع ( الفتنة الكبرى و دورها في نشأة الفِرَق ).....


المبحث العاشر
مبحثٌ خاصٌّ في الفتنة
أولاً: الفتنة الكبرى، مقدّماتها، أحداثها، نتائجها
"لقد قويت الوحدة الإسلامية في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، حتى أنه ما كان يحدث خلافٌ إلاّ انتهى الى وفاق، واستمرت الحال كذلك إلى أن ظهرت الفتن في القسم الثاني من خلافة الخليفة الثالث ذي النورين عثمان بن عفان، فاتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم، وانشقت الوحدة من غير تلاق، إذ ركبت الأهواء الرؤوس، وقامت الفتن "([30]).
          وقد كانت الفتنة التي أَدَّتْ إلى مقتل عثمان رضي الله عنه، وما صاحبها من أحداثٍ وما أعقبها من اضطراباتٍ، موضوعاً خاض فيه كثيرٌ من المؤرخين وأصحاب المقالات والفرق، حاول كلُّ منهم أن يستكشف الأسباب التي أدت الى الفتنة، وخاض بعضهم في الحكم على من عاصروا هذه الفتنة من الصحابة والتابعين، وتوقَّفَ آخرون عن إصدار أحكامٍ على هذا أو ذاك.
ولعلَّ من أسباب اضطراب المؤرِّخين المعاصرين حول أحداث الفتنة هو أنهم اعتمدوا في استقاء أحداث الفتنة على بعض كتب التاريخ مثل كتاب الطبري، دون أنَّ يأخذوا في الاعتبار أنَّ الطبريّ وغيره من المؤرخين أوردوا في كتبهم هذه إلى جانب الروايات الصحيحة، العديدَ من الروايات الموضوعة والمكذوبة والواهية لأنهم أوردوا كل ما سمعوه وتركوا لمن يأخذ عنهم أن يميز، عن طريق السند، بين المكذوب والصحيح والثقة والضعيف)([31])
إنَّ سيرة عثمان رضي الله عنه وسياسته يشهدان أنَّه كان خليفةً من أعظم خلفاء الإسلام، فلم يكن قد حاد عن الحق في سيرته ولا فارق الجادة عن الخلافة، ولا خالف قواعد الإسلام في حكمه، ولكن النفس البشرية أعمتها الضلالة، وأبطرتها نعم الحياة، ولم يهذبها الإيمان، فانزلقت إلى مخاطر الخروج والمخالفة، فعميت بصائرها، وضلت عقولها في تلك الفتنة العمياء([32]).
إنَّ علاج تلك المعضلات التي فاجأت عثمان رضي الله عنه بعد ولايته، وتصدَّى لها بالعزم والسداد والسرعة مع الحيطة والأناة لدليل على قوة شخصيته ونفاذ بصيرته، وكان له بذلك أكبر الفضل في تثبيت مهابة الدولة بعدما أصابها من الوهن والتخلخل عند مقتل عمر رضي الله عنه، وكانت ثمرات تلك الوقفات الرائعة:
                ‌أ-   إخضاع المتمردين وإعادة سلطة المسلمين على بلادهم.
              ‌ب- ازدياد الفتوحات الإسلامية إلى ما وراء البلاد المتمردة منعاً لازدياد الهاربين إليها وانبعاث الفتن والدسائس من قبلها.
              ‌ج-  اتخاذ قواعد ثابتة يرابط فيها المسلمون لحماية البلاد التي خضعت للمسلمين.
               ‌د-   إنشاء قوة بحرية لمواجهة أي هجوم بحريٍّ ولغزو الجزر المحيطة بالمسلمين.
فهل كانت تلك الفتوحات العظيمة والسياسة الحكيمة والضبط للأقاليم يمكن أن يتحقق لو كان عثمان رضي الله عنه ضعيفاً غير قادر على إتخاذالقرار كما يرغم بعضهمُ ؟؟([33]).
لقد كانت الأوضاع هادئة في أولى سنيّ خلافة عثمان، رضيَ الله عنه ،ولكن في السنين الأخيرة تنادى رؤوس الفتنة من أمثال عبد الله بن سبأ وأتباعه، وأخذوا يفترون على عثمان وولاته الكذب، وكانوا كلما افتضحت لهم مقالة سوء أظهروا مقالة أخرى، وكانت إثارة تلك المقالات بين الناس من قبل هؤلاء ضمن خطّة أعدّوها لإثارة الفتنة عن طريق إقصائه عن الحكم أو قتله.
ويمكن تقسيم تلك المآخذ التي أخذها أهلُ الفتنة على عثمان كما يلي:
أولاً: ما نُسِبَ إلى عثمان، رضي الله عنه من إيثار أقربائه، وذلك بإسناد الولايات إليهم وعزل كبار الصحابة عنها، وتولية الأحداث منهم، ومنحهم الأموال، ورد عمه الحكم بن أبي العاص بعد أن نفاه النبي r. ويمكن القول: إنَّ أبرز العمَّال الذين ولاهم عثمان، رضي الله عنه، من أقاربه قد أثبتوا الكفاية والمقدرة في إدارة شؤون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان، وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان، ومنهم من تقلّد مهام الولاية  قبل ذلك  في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما([34]). ومن هؤلاء:
  1. معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، "وقد وَّلاه عمر رضي الله عنه حينما استخلفه مكان أخيه يزيد الذي توفي في طا عون عمواس على بلاد الشام"([35]).
بل قبل أن يكون معاوية رضي الله عنه من عمال عمر وعثمان رضي الله عنهما، كان أحد الذين استعان بهم رسول الله r، حيث اتخذه كاتباً للوحي بين يديه.
  1. عبد الله بن أبي السرح –رضي الله عنه -، وقد ولاه عثمان، رضي الله عنه، مصر، يقول ابن هشام فيه: وقد حسن إسلامه بعد ذلك وولاه عمر بعض أعماله ثم ولاه عثمان([36]).
  2. الوليد بن عقبة رضي الله عنه، وقد كان أحد الذين استخلفهم عثمان على الكوفة. وهو أحد الرجال الذين استخدمهم الخليفة الصديق رضي الله عنه، وكان الواسطة بين الخليفة وبين خالد بن الوليد في نقل الرسائل الحربية في وقعة المذار بين المسلمين والفرس([37]).
وكما يقول الطبري، "فقد كان أحبّ الناس في الناس وأرفقهم بهم، وقد أمضى خمس سنين وليس على داره باب"([38]).
أما قول أهل الفتنة إن الوليد قد شرب الخمرة وهو والٍ على الكوفة، فهو مع ثبوته ليس مأخذاً على عثمان، بل كان من مناقب عثمان رضي الله عنه، أن أقام عليه الحد وعزله عن الكوفة، حيث ذكر الإمام البخاري هذه الحادثة في مناقب عثمان.
ومن ينظر في كتب التاريخ يلاحظ أنّ عثمان، رضي الله عنه، لم يولِّ أقاربه على جميع الاقاليم والأمصار، وإنما أسند الولاية الى خمسة منهم، عزل اثنين وهما: (الوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص)، وبقي ثلاثة ضمن ثمانية عشر عاملاً ... ولو كان عثمان رضي الله عنه أراد أن يجامل أحداً من أقاربه على حساب المسلمين لكان ربيبه محمد ابن أبي حذيفة أولى الناس بهذه المجاملة، ولكن الخليفة أبى أن يوليه شيئاً ليس كفؤاً به([39]).
أما قول أهل الفتنة بأن عثمان كان يمنح أقاربه المال، فيمكن القول بأن سيرته في أقاربه وذويه تمثل جانباً من جوانب الإسلام الكريمة الرحيمة ... فقد رأى عثمان من رسول الله r وعلم من الحال ما لم ير أو يعلم غيره من منتقديه، وعقل من الفقه والدين ما لم يعقله مثله من جمهرة الناس، وكان مما رأى شدة حب رسول الله r لأقاربه وبرّه لهم وإحسانه إليهم وقد أعطى عمّه العباس ما لم يعط أحداً عندما ورد عليه مال البحرين، وولى علياً وهو ابن عمه وصهره، ولعثمان في رسول الله r أعظم القدوة([40]).  
ومما ذكره أصحاب الفتنة في حق عثمان، أنه ردّ عمه الحكم بن أبي العاص الى مكة، وكان الحكم قد نفاه رسول الله r من مكة الى الطائف.
"وغاية ما في الأمر أن عثمان ردّ الحكم اعتماداً على الوعد الذي تلقّاه من رسول الله r، فطلب من أبي بكر في خلافته أن يرد الحكم، فاعتذر أبو بكر، وعلى هذا النهج سار عمر أيضاً في خلافته، إذ اعتذر لعثمان بما اعتذر به أبو بكر" ([41]).
فلما ولي عثمان الخلافة قضى في أمر عمه الحكم بعلمه الذي علمه من رسول الله r.
ثانياً: ما نسب اليه من أشياء استحدثها، وخالف فيها من سبقه، مثل: جمعه القرآن في مصحف واحد، واتخاذه الحمى، وإتمامه الصلاة بمنىً، وإتمامه سُنَّةَ القصر في الصلوات الخمس، وزيادة الأذان الثاني يوم الجمعة، وترك القصاص من عبيد الله بن عمر قاتل الهرمزان.
          أمّا جمع الناس على مصحف واحد، فلا يمكن أن يكون مأخوذاً على عثمان، بل منقبة لعثمان، فقد استطاع بذلك أن يمنع مادة الخلاف بين المسلمين وجمعهم على مصحف واحد، وكما يقول ابن العربي "وأما جمع القرآن، فتلك حسنته العظمى، وخصلته الكبرى، وإن كان وجدها كاملة، لكنه أظهرها وردّ الناس إليها، وحسم مادة الخلاف، وكان نفوذ وعد الله بحفظ القرآن على يديه([42]).
          أما كونه حمَى الحِمَى – أي جعل أماكنَ معينةً محميةً لإبل الصدقة – فيعلِّلُ عثمان، رضي الله عنه، ذلك بقوله: "وإني ما حميت حمى قلبي ... ثم لم يمنعوا من رعيةٍ أحداً واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون من يليها وبين أحد تنازع ... ومالي من بعير غير راحلتين، ومالي ثاغية ولا راغية، وإني قد وليت، وإني أكثر العرب بعيراً وشاءً فما لي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجمي، أكذلك؟ قالوا: نعم([43]).
          إذن فقد كانت حمايته لأماكن رعي إبل الصدقة ليس إلاّ لمصلحة بيت مال المسلمين، ولم يفعل ذلك من أجل إبله ولا غنمه.
          ويردُّ ابن العربيّ على هذه التهمة بقوله: "وأما الحمى فكان قديماً، فيقال، إن عثمان زاد فيه لما زادت الرعية، وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت الزيادة للحاجة"([44]).
          أما إتمام عثمان، رضي الله عنه، الصلاة بمنىً فقد فعل ذلك لعدة أمور ذكرها المؤرخون وأهل الحديث، أما الأمر الأول فقد قاله عثمان رضي الله عنه عندما فنّد اتهامات أهل الفتنة: "ألا وإني قدمت بلداً فيه أهلي فأتممت لهذين الأمرين: الإقامة واتخاذ الأهل"([45]). وأما الأمر الثاني فقد نقله ابن حجر فقال نقلاً عن الزهري: "إنما صلّى عثمان بمنى أربعاً لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام، فأحبّ عثمان أن يعلمهم أن الصلاة أربع، وما روى البيهقي أن عثمان أتمّ بمنى ثم خطب فقال: إن القصرَ سُنّة رسول الله  r وصاحبيه، ولكن حَدَثَ طغام فخفت أن يستنوا، وعن ابن جريح أن أعرابياً نادى عثمان بمنى: يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين([46]).
          ويرد ابن العربي الاتهامات عن عثمان فيقول: "فأما ترك القصر فاجتهاد، إذ سمع عثمان أن الناس افتتنوا بالقصر وفعلوا ذلك في منازلهم، فرأى أن السنة ربما أدّت الى اسقاط الفريضة، فتركها خوف الذريعة"([47]).
          أما قولهم أنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة، فيجاب على ذلك بأن سنة الخلفاء الراشدين من سنة النبي r، فقد روى الإمام البخاري عن طريق السائب بن يزيد "أن عثمان زاد الأذان الثاني في خلافته لما كثر الناس بالمدينة ". (أخرجه البخاري، كتاب تقصير الصلاة).
          فعُلِم مما رواه البخاري أن المصلحة اقتضت زيادة الأذان الثاني ليعم الإخبار، نظراً لاتساع المدينة وكثرة من فيها، وإلا لو كان الأمر خلاف السنة لأنكر عليه كبار الصحابة، وهم موجودون في المدينة، كما أن علياً رضي الله عنه، لم يأمر بإزالة هذا الأذان لما صار خليفة([48]).
ثالثاً: ما نسب إليه في معاملة المعترضين عليه من الصحابة. كأبي ذر وعمار بن ياسر وعبد الله عن مسعود.
          "أما نفي أبي ذر رضي الله عنه الى الربذة فقد ثبت، ولكن لم يكن بفعل عثمان بل باختيار أبي ذر الذي آثر أن يبتعد ويعتزل حينما وقع بينه وبين الناس ما وقع بسبب بعض آرائه"([49]).
          ويؤكد هذا ما أخرجه البخاري عن زيد بن وهب قال: "مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر، قلت: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله" (التوبة 34) فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك، فكتب الى عثمان يشكوني، فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا عليّ حبشياً لسمعت وأطعت"([50]).
فأبو ذر كان رجلاً صالحاً زاهداً، وكان من رأيه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلاً عن حاجته فهو كنز يكوى به في النار.
          "أما الزعم بأن عثمان ضرب عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، ومنع الأخير عطاءه فهذا كله مما ليس له أساس واضح وموثق ولم تثبت روايته ولم تصح"([51]).
          ويعلق ابن العربي على هذه الافتراءات فيقول: "وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور، وضربه لعمار إفك مثله، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبداً، وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن يشتغل بها، لأنها مبنية على باطل، ولا يبنى حق على باطل"([52]).
وهذا القدر من الافتراءات إن صحّت، ما كان ينبغي أن يقود الى الفتنة ويؤدي الى قتل عثمان رضي الله عنه، "إذ أنه لا يتعدى في غاية ما يكن أن ينتهي إليه أن يكون اجتهاداً من الخليفة فيما يراه من مصلحة المسلمين"([53]).
          وإذ كان الأمر كذلك فما هي إذن الأسباب والمؤثرات الحقيقية التي حركت الفتنة؟ هذا ما سنبنيه في السبب الثاني من أسباب الفتنة وهو:  

ثانياً: دور عبد الله بن سبأ اليهودي في الفتنة ونشر الأفكار الهدّامة
          وعبد الله بن سبأ كان يهودياً من أهل صنعاء، أسلم في زمن عثمان رضي الله عنه، وتنقل في البلاد الإسلامية فمر بالحجاز ثم البصرة والكوفة والشام، ولكن اكتشف أمره وأبعد من هذه الأمصار جميعاً حتى أتى مصر واستمال في هذه البلاد قلوب بعض الناقمين على الولاة، وبدأ يبث بينهم بعض العقائد المنحرفة كرجعة الأنبياء والأوصياء، وأن كل نبي كان له وصي، وأن علياً وصيّ محمد، وانتقل بعد ذلك الى الطعن في الخليفة عثمان وأنه أخذ الخلافة بغير حق، واستثار بعض من وقعوا تحت تأثيره إلى النهوض وزين لهم الطعن على الولاة والخروج عليهم في صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستطاع أن يكوّن خلايا سريّة في تلك الأمصار تجري بينهم وبينه مكاتبات ، ويَحيكُون مؤامرات ويضعون الخطط للثورة والخروج على الخليفة"([54]).
          وهكذا تفاقمت الفتنة وتجمعت عناصر المؤامرة، وبدأت عناصر من الأقاليم والأمصار كالكوفة ومصر والبصرة يبثّون في الظاهر بعض الظلامات والشكاوي من الولاة الى الخليفة، ويخططون في الباطن للقضاء على الخلافة الاسلامية، وقد شعر كبار الصحابة بالخطر حينما توافدت جموع الدهماء الى المدينة، فحاولوا تهدئة الثائرين وأن يستمع الخليفة الى شكاياتهم والمظالم التي زعموها، وفعلاً وعد الخليفة بأن يرد الحق الى نصابه وأن يقيم العدل وينصف المظلوم، وأن يختار لإمارة المسلمين من يرضونه ويُرضي الله تعالى. وبهذا هدأت الأمور وتفرّقت الجموع قافلة الى الأمصار، ولكن لم تلبث أن عادت مرة أخرى مدّعية أن الخليفة عثمان قد نقض العهد الذي قطعه على نفسه، وأنه كاتب عامله على مصر سراً يأمره أن يؤدب المتظلمين بدلاً من أن ينصفهم "([55]).
          ورغم تأكيد الخليفة وقسمه بأنه لا صلة له ولا علم بذلك الكتاب المزعوم الى والي مصر، "فإنَّ جموع الثائرين المحيطة ببيته لم تقبل منه إلا أن يعتزل، أو يُسلّمهم مروان بن الحكم باعتبار أنه هو الذي كتبَ الكتابَ إلى والي مصر، أو يعزلوه عنوة. ورفض عثمان رضي الله عنه كلا الخيارين ورأى معه بعض الصحابة أن لا يعتزل حتى لا يضع سابقة تسول لكل مجموعة من الغوغاء أن تخرج على أميرها فتعزله"([56]).
          وكان جواب عثمان عن مطلبهم بتسليم مروان بقوله: لا أفعل. ولذلك قال ابن العربي معلِّقاً على رفض عثمان: "ولو سلّمه لكان ظالماً، وإنما عليهم أن يطلبوا حقَّهم عنده على مروان وسواه، فما ثبت كان هو منفذه وآخذه والممكن لمن يأخذه بالحق، ومع سابقته وفضيلته ومكاتنه لم يثبت عليه ما يوجب خلعه فضلاً عن قتله... وأضاف قائلاً: وأمثل ما روى في قصته – أي مروان – أنه تألّب عليه قوم لأحقاد اعتقدوها"([57]).
          ولم يبق إذن لعثمان رضي الله عنه "إلا الصمود في وجه الثائرين، الذين شدّدوا الحصار على بيت الخليفة حتى منعوا عنه الماء، وأخيراً تسوّروا عليه الدار وقتلوه في وضح النهار، ويؤكد مسار الأحداث أن هذه الفتنة أشعلها وخطط لها ونفذها طوائف من المدفوعين بأغراض شخصية أو أهواء ذاتية، وأن خيار المسلمين من الصحابة لم يشتركوا فيها من قريب أو بعيد، ولم يدخل واحد منهم في دم عثمان ولم يرض بقتله، وإنما قتلته رضوان الله عليه طائفة من المفسدين في الأرض"([58]).
ثالثاً : أثر الفتنة وعبد الله بن سبأ في ظهور الفرق
          لقد أدى مقتل عثمان رضي الله عنه الى فتح أبواب الفتنة على مصاريعها، ولم تجد البيعة لعلي رضي الله عنه في استقرار الأحوال، فقد طالب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه علياً قبل أن يبايعه بالخلافة أن يقتص من قتلة عثمان رضي الله عنه، ولكن علياً كان يقول: "أدخل فيما دخل فيه الناس وأحاكمهم الى أن أحكم فيهم بالحق"([59]).
          "كما إنَّ جماعةً من الصحابة على رأسهم أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم، خرجوا على علي رضي الله عنه، واتّجهوا الى البصرة مغاضبين، واحتج هؤلاء جميعاً لموقفهم هذا بدم عثمان وذهبوا الى أنه لا بد من القصاص من قتلته، ولم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على علي منعه من قتل قتلة عثمان وترك الاقتصاص منهم"([60]).
          وحاول عليٌ أن يردَّ هؤلاء الى الصواب، "مبيناً أنه لم يشترك في قتل عثمان، رضي الله عنه، ولم يُظاهِرْ عليه، ودعا على قاتليه باللعنة، وبذل أميرُ المؤمنين عليٌ جهده في إقناع أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير بأنه لا بد من خضوع الناس لإمام واحد يحتكمون إليه ويعضدونه حتى تقوى شوكة الدولة وتتمكن من تتبع قتلة عثمان، وإقامة حدود الله فيهم ... وبين لهم أن هؤلاء القتلة لهم شوكة في جيشه، فلا يمكن قتالهم أو النيل منهم وبعث القعقاع بن عمرو إليهم، الذي استطاع أن يقنعهم بالصلح ويتفق معهم على ذلك"([61]).
          وهكذا اقتنعت أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير بالمصالحة وراجعوا موقفهم بعد أن تبين لهم خطؤه، وقد سرّ أمير المؤمنين علي لمراجعتهم موقفهم وموافقتهم على الصلح([62]).
          ولكن سرعان ما تحركت عناصر الفتنة حينما علمت بنبأ الصُّلح، "وخشي من كان في معسكر علي ممن شارك في مقتل عثمان مغبة هذا الصلح عليهم، كما كان معسكر أم المؤمنين عائشة يضم عناصر لا يريد أن تهدأ الفتنة، ومن ثم سعى هؤلاء جميعاً الى إشعال نار الحرب ولم يشعر الصالحون في المعسكرين إلاّ والمناوشات قد بدأت قبيل صبيحة اليوم الثاني للاتفاق، فظن كل فريق أن الفريق الثاني قد غرر به وغدره، وانتهى الأمر بموقعة الجمل الشهيرة التي سقط فيها عشرة آلاف من الطرفين، وقتل فيها طلحة والزبير بأيدي مدبري الفتنة من المعسكرين"([63]).
          وقد بيّن الطبري في تاريخه أنَّ الذي أشار على أصحاب الفتنة بأن يؤجِّجوا القتال بين الطرفين هو عبد الله بن سبأ، ومما ذكره عن ابن سبأ قوله: "يا قوم إنّ عزّكم في خلطة الناس فصانعوهم، وإذا التقى الناس غداً فانشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر ..."([64]).
         
ويعلِّقُ ابن العربيّ على هذه الفتنة فيقول: "وقدم علي البصرة، وتدانوا ليتراءوا، فلم يتركهم أصحاب الأهواء، وبادروا بإراقة الدماء، واشتجر الحرب، وكثرت الغوغاء، وكل ذلك حتى لا يقع برهان، ولا يقف الحال على بيان، ويخفى قتلة عثمان"([65]).
          ويقول ابنُ كثيرٍ: "وعندما أشرف علي من جهة، وطلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى على الصلح، وبعدما نادى علي بأنه مرتحل فلا يرتحل معه أحد أعان على قتل عثمان، اجتمع رؤوس الخوارج كالأشتر النخعي، وشريح ابن أوفى، وسالم بن ثعلبة، ومعهم زعيم السبئية عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، وباتوا يتشاورون فانتهى أمرهم الى الأخذ برأي ابن سبأ، وهو أن يثيروا الحرب بين المعسكرين في الغلس"([66]).
          وهكذا أسهمت السبئيةُ في القتال بشكلٍ فَعّالٍ، وكان عملها إشعال نار الحرب كلما فترت، "ومن خلال هذا العرض يتبين بما لا يدع مجالاً للشك أثر ابن سبأ وأعوانه في موقعة الجمل، حيث لم يقتصر دورهم عند إثارة الفتنة الأولى التي كانت سبباً في مقتل عثمان، مما كان له أسوأ النتائج على وحدة المسلمين"([67]).
          وبعد وقعة الجمل تفرّغ عليٌّ لأمر معاوية وأهل الشام، والتقت سيوف المسلمين مرةً ثانيةً في معركة صفين، وكادت كفّةُ عسكر عليٍ أن ترجح، لولا رفعُ المصاحف من قبل جيش معاوية والدّعوة إلى التحكيم، وبهذا تمّ التحكيم بين الطرفين، ورضي علي بأبي موسى الأشعري مندوباً عنه في لجنة التحكيم.
          وفي بداية الهدنة "ظهر من بين صفوف جيش علي مَنْ رفَضَ الهدنة ورأى أنها مخالفة للقرآن، وقَويَ هذا الرأي وكسب له أنصاراً أعلنوا في النهاية العصيان والخروج، بل كَفَّروا علياً، رضي الله عنه، وكلَّ مَنْ قبل الهدنة ورضي بالتحكيم ... ورفع هؤلاء شعار: لا حكم إلا لله ... وقد قوي أمر هؤلاء الخوارج حينما فشل التحكيم، وانصرفت جهود علي لاستصلاحهم بالحجة ثم بالقوة حين لم تجد الحجة"([68]).
وفي هذا الوسط المضطرب، بدأت تتبلور جماعةٌ تشايع علياً وتنادي بحقِّه وحقِّ أولاده من بعده بالخلافة، وتحمل الدعوة إليهم. وهكذا تولَّد عن هذه الفتن والإضطرابات فرقتان أو جماعتان هما: الخوارج والشيعة.
          "ولكن لم يقف أمر الافتراق عند هذه الفرق ... بل سرعان ما تحولت تلك الآراء مذاهب ... وتحول الأمر الى خلاف فكري ... ومن هنا بدأت محاولات تحديد معنى الإيمان، أو الشروط التي ينبغي توافرها حتى يعد الشخص مؤمناً، وحكم مرتكب الكبيرة، وهل هو مؤمن عاص أو كافر خارج عن الملة كما زعمت الخوارج، الى غير ذلك من الأبحاث المتعلقة بهذا الجانب العقائدي. وظهر في إطار هذه الأبحاث جماعة المرجئة الذين اتخذوا رأياً في الطرف المقابل لآراء الخوارج، ثم نشأت مذاهب عقائدية كلامية كالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية"([69]).
قائمة المراجع
  1. ابن حجر العسقلاني / الإصابة في تمييز الصحابة / طبعة سنة 1328 هـ / مطبعة السعادة ـ القاهرة.
  2. أبو الفتح محمد الشهرستاني / الملل والنحل / ط2 – 2002 / دار الفكر.
  3. أبو بكر ابن العربي، العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة / المكتبة العلمية / بيروت.
  4. أبو جعفر محمد بن حرير الطبري / تاريخ الرسل والملوك / ط2 ـ 1971 / دار المعارف ـ القاهرة.
  5. أحمد محمد الجلي / دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين / مركز الملك فيصل للبحوث / 1986/ الرياض.
  6. بسام سلامة العموش / تحقيق كتاب البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان للسكسكي / ط1 -1988 – مكتبة المنار.
  7. سيف الضبي الأسدي ابن عمر / الفتنة ووقعة الجمل / ط2 ـ 1977 / دار النفائس / بيروت.
  8. عبد الرحمن بدوي / مذاهب الإسلاميين / ط2 - 2005 / دار العلم للملايين / بيروت.
  9. عبد الرحمن حسن الميداني / العقيدة الاسلامية وأسسها / ط4 – 1986 / دار القلم / دمشق.
10.  عبد القاهر البغدادي / الفرق بين الفرق / ط4 – 2003 / دار المعرفة / لبنان.
  1. عبد الله سلوم السامرائي / الغلو والفرق الغالية في الحضارة الاسلامية / دار واسط للنشر.
  2. عرفان عبد الحميد / دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية / ط2 – 1997 / دار البشير ومؤسسة الرسالة / بيروت.
  3. محمد أبو زهرة / الأمام الصادق / دار الفكر العربي / القاهرة.
  4. محمد أبو زهرة / الإمام زيد / دار الفكر العربي / القاهرة.
  5. محمد أبو زهرة / تاريخ المذاهب الاسلامية / ج1 ، ط 1987 / دار الفكر العربي ودار الحديث.
  6. محمد أحمد الخطيب / الشعوبية والزندقة وأثرهما في ظهور العقائد والفرق المنحرفة / ط1–1994/ مكتبة الأقصى – عمان.
  7. محمد أحمد الخطيب / الفرق الإسلامية / ط1 – 1996 / منشورات جامعة القدس المفتوحة.
  8. محمد أحمد الخطيب / تناسخ الأرواح أصوله وآثاره وحكم الإسلام فيه / ط1 – 1994 / مكتبة الأقصى – عمان.
  9. محمد الدسوقي / منهج البحث في العلوم الاسلامية / ط1 – 1984 / دار الاوزاعي.
  10. محمد أمحزون / تحقيق مواقف الصّحابة في الفتنة / ط1 – 1990 / دار طيبة ـ الرياض.
  11. المعجم الفلسفي / مجمع اللغة العربيّة في القاهرة / عالم الكتب / بيروت.




([1]) انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة "ذهب".
([2]) المرجع السابق نفسه.
([3]) المعجم الفلسفي، ص 135.
([4]) المرجع السابق نفسه، ص 174.
([5]) اخرجه ابن ماجة، حديث رقم 3991.
([6]) أبو زهرة، الإمام زيد، ص 12، دار الفكر العربي، القاهرة.
([7]) المرجع  السابق نفسهُ، ص 12.
([8])محمد أحمد الخطيب، الفرق الإسلامية، ص 7، ط1، 1996، منشورات جامعة القدس المفتوحة.
([9]) أبو زهرة، الإمام الصادق، ص 7، دار الفكر العربي، القاهرة.
([10]) أبو زهرة، [م. س]، ص 7.
([11])الخطيب، [م. س]، ص 8.
(1)  صحيح مسلم بشرح النووي / كتاب الجهاد والسير – باب غزوة بدر .
(2) المرجع السابق نفسه .
(1)  موطأ الإمام مالك / العقول ، باب ميراث العقل ، تنوير الحوالك 2/190 ، وسنن ابن ماجه / كتاب الدّيّات – باب الميراث من الدية 2/883
([12]) حديث صحيح رواه الترمذي / كتاب الفرائض – باب ميراث الجدة 4/420
([13]) رواه أبو داوود في السنن / كتاب البيوع – باب النهي عن العينة .
([14]) سورة البقرة / الآية 228 .
([15]) سورة البقرة / الآية 228.
([16]) بسام العموش / تحقيق كتاب البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان للسكسكي الحنبلي ص5 ، 6 ، بتصرّف، ط1، 1988، مكتبة المنار، عمان .
([17]) سورة الأنعام / الآية 153 .
([18]) الكلام لابن حزم يرحمه الله .
([19]) المرجع السابق نفسه نقلاً عن ( الفصل في الملل والنّحل ) لابن حزم 4/227
(1)  عبد القاهر البغدادي / الفرق بين الفرق ص9 – 13 ، بتصرّف ، ط4، 2003، دار المعرفة، بيروت.
(1)  المرجع السابق نفسه .
(2) الخطيب [م. س]، ص24 .
(1)  عبد الرحمن بدوي، مذاهب الاسلاميين ص34، ط2، 2005، دار العلم للملايين، بيروت .
(1)  البغدادي [م. س]، ص 14 ، 15 ، بتصرّف ، .
([20]) الخطيب، [م. س]، ص25
([21])  المرجع السابق نفسه .
(1)   عرفان عبد الحميد، دراسات في الفرق والعقائد الاسلامية ص7، ط2، 1997، دار البشير، بيروت.
(2)  المرجع السابق نفسه ،ص 7
(1)  عبد الرحمن حبنكة الميداني، العقيدة الاسلامية وأسسها ص701 ، 702 ، بتصرّف، ط4، 1986، دار القلم، دمشق.
(1) محمد أحمد الخطيب، تناسخ الأرواح أصوله وآثاره وحكم الإسلام فيه ص32 ، 33 ، بتصرّف ، ط1، 1994، مكتبة الأقصى، عمان. 
(2)  عبد الله سلوم السامرائي، الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية، ص 80، دار واسط للنشر، دون رقم طبعة.
(1) السامرائي، [م. س]، ص80 ، 81 ، 82 ، بتصرّف .
([22]) محمد أحمد الخطيب / الشعوبية والزندقة ، وأثرهما في ظهور العقائد والفرق المنحرفة ص3 ، 4 ، 5 ، بتصرّف، ط1، 1994، مكتبة الأقصى، عمان.
([23]) انظر كتابه ( الغلو والفرق الغالية في الحضارة الاسلامية ) ص 20.
([24]) انظر كتابه ( نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ) ص 13 ، 14 ، 15 ، بتصرّف .
([25]) محمد أبو زهرة،  تاريخ المذاهب الإسلامية،  ص14، ج1، طبعة عام 1987، دار الفكر العربي، القاهرة.
([26])محمد الخطيب، تناسخ الأرواح أصوله وآثاره وحكم الإسلام فيه ص34 ، 35 .
([27])محمد الدسوقي، منهج البحث في العلوم الإسلامية، ص 339 ، 340 ، بتصرّف، ط1، 1984، دار الأوزاعي.
([28]) نقلاً عن / رسالة التوحيد ص29 / تحقيق أبو رية ط1 / دار المعارف .
([29]) أبو زهرة ، المرجع السابق نفسه ، ص 8-11 بتصرف .
([30]) أبو زهرة، ابن تيمية، ص 164.
([31]) أحمد الجلي، دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين، ص 11 – 12، منشورات مركز الملك فيصل للبحوث عام 1986، الرياض.
([32]) محمد أمحزون، تحقيق موقف الصحابة من الفتنة، ج1، ص 40، ط1، 1990، دار طيبة، الرياض.
([33]) المرجع  السابق نفسه، ص 408.
([34]) المرجع السابق، ص 408.
([35]) أبو بكر "ابن العربي"، العواصمٌ القواصم، ص 81، المكتبة العلمية، بيروت.
([36]) ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ج2، ص 317، طبعة عام 1328 هـ، مطبعة السعادة، القاهرة.
([37]) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج3، ص 351، ط2، 1971، دار المعارف، القاهرة.
([38]) المرجع السابق، ج4، ص317.
([39]) أمحزون ، [م. س]، ص 424ـ بتصرف.
([40]) المرجع السابق نفسه، ص 429.
([41]) إبن العربي، [م. س]، ص 77.
([42]) إبن العربي، [م. س]، ص 66.
([43]) الطبري، [م. س]، ج4، ص 347.
([44]) ابن العربي، [م، س]، ص 72.
([45]) الطبري، [م. س]، ص 346.
([46]) إبن حجر العسقلاني، الفتح، ج2، ص 571.
([47]) ابن العربي، [م. س]، ص 78 – 79.
([48]) أمحزون، [م. س]، ص 451.
([49]) الجلي ، [م. س]، ص 22.
([50]) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب من أدّى زكاته فليس بكنز.
([51]) الجلي ، [م. س]، ص 20 – 21.
([52]) إبن العربي، [م. س]، ص 63 – 65، بتصرف.
([53]) الجلي ، [م. س]، ص 23.
([54]) الطبري، [م. س]، ص 340 – 341.
([55]) سيف ضبي الأسدي، الفتنة ووقعة الجمل، ص 60، ط2، 1977، دار النفائس، لبنان.
([56]) إبن العربي، [م. س]، ص 126 – 129، بتصرف.
([57]) المرجع السابق نفسه، ص 110 – 111.
([58]) أمحزن، [م. س]، ص 28.
([59]) ابن حجر، [م. س]، ج12، ص 284.
([60]) ابن حجر، [م. س]، ج13، ص 56.
([61]) الجلي ، [م. س]، ص 29 – 30.
([62]) الأسدي، [م. س]، ص 144 – 147، بتصرف.
([63]) الجلي، [م. س]، ص 30.
([64]) الطبري، [م. س]، ص 494.
([65]) ابن العربي، [م. س]، ص 156 – 157.
([66]) إبن كثير، البداية والنهاية، ج7، ص 239 – 240.
([67]) أمحزون ، [م. س]، ج2، ص 130.
([68]) الجلي، [م. س]، ص 32.
‑([69]) المرجع السابق، ص 33.

هناك تعليق واحد:

  1. مقال رائع جداً عن كيفية التعامل مع المراهقين..
    لا يفوتكم ⬇⬇
    https://noslih.com/article/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%84+%D9%85%D8%B9+%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%82%D9%8A%D9%86+..+%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%87%D9%85+%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%8B%D8%A7

    ردحذف