الكأس المسموم لحزب التحرير المهموم

إعداد وتقديم الدكتور راجح السباتين

حَجْرُ حزب التحرير على عقول أتباعه

وتربيتهم على التَّقليدِ الأعمى

الحمدُ لله ربّ العالمين ، و الصّلاة و السلام على رسوله المبعوثِ رحمةً للعالمين . و بعدُ ؛ فإنّ من المُفيد بل الواجب قبل الشروع في الحديث عن حزب التّحرير و الردّ على بعض آرائه و أفكاره و ادِّعاءاته الإشارة إلى المراجع العِلميّة التي سيتمّ الرّجوع إليها لبناء الردود على هذا الحزب . و لعلَّ أبرز و أهمّ هذه المراجع ما يلي :
أولاً : حزب التحرير و آراؤه الاعتقاديّة عرضاً و نقداً . و هي رسالة دكتوراه للباحث موسى بن وصل بن وصل الله السّلمي . و هي رسالةٌ علميةٌ ضخمةٌ فريدةٌ تمّت بإشراف الأستاذ الدكتور محمود محمد مزروعة ، نُوقشَتْ سنة 2007 في قسم العقيدة بكليّة الدعوة و أصول الدّين  في جامعة أمّ القُرى .
ثانياً: فكر حزب التحرير ، دراسة تحليلية . و هي رسالة ماجستير للباحث المجتهد المتميّز رائد ناصر أبو عودة . وهي رسالةُ علميّةٌ متميّزة تمّت بإشراف الدكتور الفاضل خالد حسين حمدان ،  نُوقشَتْ سنة 2009 في قسم العقيدة و المذاهب المعاصرة بكليّة أصول الدين في الجامعة الإسلامية بغزّة .
ثالثاً : قراءات في فكر حزب التحرير الإسلامي . و هو كتابٌ نافعٌ من تأليف الأستاذ جواد بحر النتشة  و تقديم الدكتور حسام الدين موسى عفانة . الطبعة الأولى سنة 20007 / النّسخة الإلكترونية المحوسبة .
رابعاً : الردُّ على حزب التحرير ، مناقشةٌ علميةٌ لأهمّ مبادئ الحزب و ردٌّ علميٌّ مفصَّلٌ حول خبر الآحاد . و هو بحثٌ موسَّعٌ هامُ للشيخ  و الدّاعية المعروف عبد الرحمن بن محمد سعيد الدّمشقيّة ، النّسخة الألكترونية المحوسبة ، بلا سنة نشر.

خامساً : الدّعوة الإسلامية فريضة شرعية و ضرورة بشرية . و هو كتابٌ هامٌّ نشره الدكتور الشهيد عبد الله عزّام ، رحمهُ الله ،  تحت اسمٍ مُستعارٍ هو ( الدكتور صادق أمين ) و قد صدرَ هذا الكتابُ عن جمعيّة عُمّال المطابع التّعاونية سنة 1982 . 

كان من الأسباب المُباشِرة لثورات بعض الشُّعوب على حُكّامهم الظّالمين أنّ هؤلاء الحُكّام ألبَسُوهم أثواب الظُّلم و الحرمان و أوقَعُوهم في الفقر و الحاجة و العَوَزِ و حاولوا إخضاعهم للقَهْرِ و السُّلطان بتربيتهم على التقليد الأعمى و إطاعة الأوامر دون نقاشٍ ، حتّى أنّهم منعوهم من التّعبير عن آرائهم و مطالِبِهم طيلةَ ما كانت هذه الآراءُ و المطالِبُ تتعارض مع نهج هؤلاء الحُكّام و أحزابهم الحاكمة المُسْتَبِدَّةِ و طريقتهم في سياسة النّاس...
و لعَلَّهُ من المُؤسِفِ و المُحْزنِ بَل و المُسْتَغْرَبِ و المُستَهْجَنِ أن نرى بعضَ الأحزاب و الجماعات الإسلاميّة ، التي تنتقدُ هؤلاء الحُكّام و تُعارِضُهم ، تمارسُ هذا الاستبدادَ و القمعَ الفكريَّ بحقِّ أتباعها و مُنتَسِبيها !! فعلى سبيل المثالِ ، جاء في إحدى نشرات حزب التّحرير الإسلامي ، و الذي هو مدَارُ بحثنا و دراستنا هذه ، ما نصُّه: "إلّا أنّ الحزب في صُحُفِه ونشراته ومناقشاته لا يحملُ أيَّ رأيٍ يخالفُ الرأيَ الذي تبنّاه مطلقاً، وهذا بالنسبة للحزب، وكما ينطبق ذلك على الحزبِ فإنَّهُ ينطبق على أيِّ شابٍّ من شباب الحزب، فلا يصحّ لأيّ شابٍّ أن يؤلّفَ كتاباً، أو يصدرَ صحيفة، أو يكتبَ مقالاً، أو يناقش أحداً مجرّد مناقشةٍ بأيّ رأيٍّ يخالف آراءَ الحزب، فإنِّ كلّ شابٍّ قد تبنّى آراء الحزب تبنيّاً فلا يَحِلُّ له أن يخالفها، لا فكراً، ولا قولاً، ولا عملاً، وإذا صدَرَ منه شيءٌ من ذلك يُعَالَجُ ثم يُنذَرُ، ثم يُتّخذُ بحقّه الإجراءُ المقتضى"(1).كما جاء في نشرةٍ أُخرى لحزب التّحرير ما نصُّه :
"فكلّ فكرٍ يتبنّاه الحزب يكون فكراً متبنّى مِن كلّ عضوٍ من أعضائه، ولهذا كان من الخطأ الفاحش، بل من الجهل أن يقول حِزبيٌّ هذا رأيُّ الحزب أقوله، أما رأيي أنا فليس كذلك، فإنه لا يُوجَدُ لحزبيٍّ رأيٌّ غيرُ رأي الحزب؛ لأنّه هو الحزب وذلك باعتبار الحزب كُلَّاً فكريّاً شعورياً ... وحتى لو أنّ الحزبيَّ مجتهدٌ مُطلَقٌ وتبنّى الحزبُ رأياً خلاف رأي هذا المجتهد المطلَقِ فإنّ عليه أن يترك رأيه فوراً؛ لأنه بمجرّد تبنّي الحزب رأياً صار هذا الرأيُ الذي تبنّاه الحزب هو رأيه لا الرأي الذي استنبطه، وإذا لم يترك رأيه فعليه أن يتركَ الحزب فوراً؛ لأنّه خرج عن جُزئيةِ الحزب ولو بمفهومٍ واحدٍ؛ إذ خرج عن معنى التبنّي من حيثُ هو ... فالشابّ حين دخل الحزب اطّلعَ على عقيدته وعَرَفَ بعض ثقافته وبعض أفكاره المتبنّاةِ، فرضي بها وسلّم بها والتزمها، سواءٌ أكان ذلك عن قناعةٍ تفصيليةٍ أم قناعةٍ إجماليةٍ في الحزب ككُلٍّ، فبعدَ دخوله في الحزب تبنّى طبيعياً وآلياً كلَّ ما تبنّى الحزب من آراء قبل دخوله، سواء عرفَها أم لم يعرفها، وتبنّى كلَّ رأيٍ سيتبنَّاه الحزبُ في المستقبل، فالمسألة إذن ليست القناعة بكلِّ رأيٍ، ولا القناعة بآراء مُعينةٍ، بل القناعة بالكلِّ بكلِّ ما يحدث فيه من تفصيلات ... فالقضية ليست قضيةَ تقليدٍ، ولا قضيةَ اتّباعٍ، ولا قضيةَ اجتهادٍ، حتى يُبحَثَ فيها أخذُ الرأي وتبنّيه على صعيد القناعة وعدم القناعة، أو على صعيد قوَّة الدليل وضعف الدليل، بل القضيةُ كُتلةٌ يدخلُ فيها بشرط أن يتبنّى ما تتبنّاه، فإن قبل الشرط التزم، وإن رفضه لا يدخل الحزب"(2).
وهكذا يُربِّي الحزبُ أتباعه على التقليد الأعمى والاتِّباع لجميع أفكار الحزب وعقائده، ولو كانت هذه العقائد والأفكار مخالفةً للصواب، فعلى الحزبيِّ ألّا ينظر إلى القناعة وعدمها، ولا ينظر إلى دليل المسألة هل هو قويّ أو لا؟ بل عليه أن يأخذ بكلّ رأيٍ للحزب ولو لم يكن مقتنعاً به، ولو كان دليل الحزب على هذا الرأي ضعيفاً!!!
وقد أثّر هذا المبدأ الذي جاء به الحزب وأوجبه على كلّ حزبيٍّ، أَثَّرَ في أتباعه وأورثهم اللددَ في الخصومة بدون وعيٍ، والتعصُّبَ المقيتَ لآراء الحزب ولو كانت تناقض البدهيات وتخالف المسلَّمات؛ لأنّهم أصبحوا يُسَلِّمون بهذه الآراء بدون وعيٍ، وليس معهم في كثيرٍ منها حُجةٌ ولا برهان، إلا أنّ الحزب تبنّى هذا الرأي أو ذاك!!
يقول داود عبد العفو سنقرط: "نزل التحريريون إلى الناس بقوةٍ يحملون بعض الكتب للشيخ النبهاني، وكثيراً من التعاريف التي كانوا يحفظونها عن ظَهر قلبٍ ... فإذا جلستَ إلى التحريري تناقشهُ، وقُلْتَ له: يا أخي، الإنسان يجب ... قطعَ عليك حديثك وسألكَ: ما هو الإنسان؟ عرِّف الإنسان .... وإذا قلتَ: إنَّ الدولة التي ... قطعَ حديثكَ وسألكَ: ما هي الدولة، عرّف الدولة، وهكذا ... وكانوا لا يرضون إلا بالتعاريف التي يحفظونها عن ظَهر قلبٍ، حتى إذا كان التعريفُ يختلف ولو اختلافاً صغيراً عمّا كانوا يحفظونه، كانوا يعيدون تعريفهم على مسامعكَ، ويطلبون منكَ مواصلة النقاش، حتى يُرهقوك دون طائل!! وكثيراً ما كان النقاش معهم يخرج عن النقاش الموضوعي الهادئ الرصين إلى المهاترات وتبادل التُّهَمِ، التحريريون كانوا يحملون الإسلام، ولكنهم ما كانوا يحملون أسلوبه المتسامح في النقاش والطرح"(3).
ومن المخالفات التي رَبَّى الحزبُ الناسَ عليها، وأصبحت سِمةً عليه: تركيزه على الفكر، واعتناؤه الزائد به، وإهماله الجوانب الروحية والإيمانية؛ مما أضعفَ جذوةَ الإيمان في نفوس أتباع الحزب.
ولهذا أخطأ حزب التحرير عندما تجاهل التربية النفسيَّة والروحية للأفراد، مما أدى إلى جفافٍ روحيٍّ عند أفراد الحزب وعدم التزامٍ تامٍّ بأحكام الإسلام(4).
وكفى حزب التحرير تفريقاً لوحدة الأمة حكمه على ديار المسلمين اليوم بأنها جميعاً ديار كُفرٍ، "وهذا القول يُعتبر منطلَقاً لمزيد من التهوّر، وانطلاقاً للسير إلى خُطى الخوارج(5)، والبدعة تكون في أول الأمر ذراعاً، ثم تصير باعاً"(6).
يقول عبد الرحمن دمشقية: "وسألتُ أحدَ أعضائهم: ما تعتبرُ مكة والمدينة؟ هل هما دارا إيمانٍ أم دارا كُفرٍ وحربٍ؟! فقال: هما دارا حرْبٍ وكُفْرٍ، قلتُ: أفيجوز أن يقول الحاج: أنا ذاهب لأحجّ في ديار الكفر؟. وأين دارُ الإيمان إن كانت مكة والمدينة دارَيْ كفر؟! وسألَهُم سائلٌ: هل يوجَدُ دارُ إسلامٍ في العالم كلّه اليوم؟. قالوا: لا، قال: أنا أريدُ الهجرة، فإلى أين أهاجر؟. فعجزوا عن إجابته"(7).
وهذا القول الذي تبنّاه الحزب، جعل حزب التحرير يتقوقع على نفسه، وينعزل عن الأمّة، ويهجر جميع الأعمال التي تقوم بها الأمَّةُ من أجل الوحدة والاجتماع على الحقّ؛ لأنّه يرى أن المجتمع الإسلامي اليوم ليس مجتمعاً إسلامياً أصلاً، ولذلك لابدّ من استئناف الحياة الإسلامية فيه، وأيُّ عملٍ للوحدة وجمع الصف قبل ذلك فإنها عند الحزب لا فائدة من ورائها، وإنما هي مجرّد ضياعٍ للجهد والوقت!!!
ومع تفريق حزب التحرير لوحدة الأمة بالتحزّب والتعصب، وانعزاله عنها وتركه المبادرات التي تسعى لوحدتها، مع ذلك كله يزعم الحزبيون في نشراتهم وكتبهم أنهم يسعون لوحدة الأمة ولَمّ شملها !!!
يقول عبد الرحمن دمشقية: "وقد فرّق الحزبيون المسلمين أحزاباً، وغطّوا هذا المنكر بتكثير الكلام عن وحدة المسلمين، وإنما الحزبيون هم المفرِّقون الحقيقيّون بحزبيَّتِهم لوحدة المسلمين، فلا يليق بهم التحدّث عن وحدة المسلمين؛ لأنّهم ارتكبوا جريمة التحزيب التي شقت الصفّ، وسيّست وجه الدين، وآلت إلى التخريب ... إنّ أول عاملٍ في وحدة المسلمين إنما هو في توحيدهم على منهجٍ واحدٍ وفقَ كتاب الله وسُنّة نبيه r ... إن تعدد الجماعات هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لِتعدُّدِ المناهج وانحراف المفاهيم والعقائد، وقد جرّب المسلمون كلّ شيء ولم يتوحّدوا، ولو جرّبوا هذا الطريق لوجدوه كفيلاً بتوحيدهم"(8). و الذي نراهُ في دراستنا هذه استناداً لتاريخ حزب التحرير و واقعه و نظرته السّوداء لوجوب الطّاعة العمياء لأفراد الحزب أنّه حزبٌ يُمارس واحدةً من أسوأ أنواع الإدارة الديكتاتوريّة في تعامله مع أفراده و أتباعه؛ إذ كيفَ يمنعهم من الدِّفاع عن آرائهم لمجرَّد أنّها تُخالفُ رأيه ؟؟
أين حريّةُ التعبيرِ عن الرأي ؟ أين القبولُ بمبدأ تعدُّد الصّواب ؟؟ أين احترامُ الآخر و الاعتراف به و برأيه ؟؟ و نترك للقارئ الكريم أن يتخيّل نوعَ الحُكم الذي سوفَ يمارسه هذا الحزبُ و مَنْ ماثَلَهُ من الأحزاب لو أنّه ، لا سمَحَ اللهُ ، وصل إلى السُّلطة !!
استبدادٌ و ديكتاتوريّةٌ و قمْعٌ لكُلِّ آراء المُخالفين .. ثُمَّ تنظيرٌ أجوفُ عن الشُّورى و المَشورة !! و إنّ لنا في حاكم كوريا الشماليّة الشّاب الطّاغية " كِم جونغ أُون " لعبرةً و درساً و موعظةً ؛ حيثُ لا صوتَ يعلو على صوت الحزب و لا رأيَ يعلو على رأي الحزب !! و صدقَ جلَّ في عُلاه ( كلُّ حزبٍ بما لديهم فَرِحون ) . و قبلَ أن نختمَ الحديثَ في هذا الموضوع الهامّ نرى ، في هذه الدّراسة ، أنَّ من حقِّنا أن نتساءلَ عن المُنجَزات التي حقَّقها هذا الحزب خلال ما يزيدُ على اثنتينِ و ستّين سنةً مِن تأسيسه ؟؟ و الجوابُ الوحيد ُالصّحيحُ على هذا السّؤالِ الفسيحِ الفصيحِ هو تقديمُ الحزب المزيدَ من شباب المُسلمين المُغَرَّرِ بهم إلى أعواد المشانق بعدَ تسميم أفكارهم و إغرائهم بالدّعوة الحمقاء الفجّة للخروج السِّلميِّ على الحُكّام.. و كأنّ هناك حاكماً على وجه الأرض يرضى أن يتمَّ الخروجُ و التمرُّدُ على حُكمهِ، سِلميَّاً كان هذا الخروج أو عنيفاً مُسلَّحاً !! و لَعَمري هل يقبل حاكمٌ اليومَ أن يُنازعه أحدٌ أو يُقاسمَهُ الحُكمَ و السُّلطان ؟؟ و إنّ لنا في ( الربيع العربي ) و أحداثِ اليمن و سوريا و مصر و العراق لعِبْرَةً ، بَلْ قُلْ: عبرات و مواعظ و دروس ... إنّهُ الكأسُ المسمومُ لحزب التحرير المهموم الذي شرِبَ منه شبابُنا فكانت النتيجةُ ما نسمعُ اليومَ و ما نرى...

آثارُ حزب التّحرير السّيِّئَةُ على الدّعوة الإسلامية

لقد كان لحزب التحرير آثارٌ سيّئةٌ على الدَّعوة الإسلاميّة، نُجملها في الأمور التالية:

1) حصْرهُ الدّعوة الإسلامية في الفِكر وحدَهُ، وإهمالُهُ الجوانب الروحية والأخلاقية:

يقول النبهانيُّ: "فلا يجوز أن تُحْمَلَ الدعوةُ إلى الأخلاق في المجتمع؛ لأنّ الأخلاق نتائج لأوامر الله، فهي تأتي من الدعوة إلى العقيدة، والى تطبيق الإسلام بصفةٍ عامةٍ؛ ولأنّ في الدعوة إلى الأخلاق قلباً للمفاهيم الإسلامية عن الحياة، وإبعاداً للناس عن تَفَهُّم حقيقة المجتمع ومقوّماته، وتخديراً لهم بالفضائل الفردية يؤدي إلى الغفلة عن الوسائل الحقيقية لرقيِّ الحياة.
ولهذا كان من الخطر أن تُجعلَ الدعوة الإسلامية دعوةً إلى الأخلاق؛ لأنّها توهم أن الدعوة الإسلامية دعوةٌ خُلُقيةٌ، وتطمسُ الصورة الفكرية عن الإسلام، وتحولُ دونَ فهم الناس له، وتصرِفُهُم عن الطريقة الوحيدة التي تؤدي إلى تطبيقه، وهي قيام الدولة الإسلامية ... والحاصل أنّ الأخلاق ليست من مقوِّماتِ المجتمع، بل هي من مقوِّمات الفَرْدِ، ولذلك لا يصلح المجتمعُ بالأخلاقِ، بل يصلحُ بالأفكار الإسلامية والمشاعر الإسلامية، وبتطبيق الأنظمة الإسلامية"(9).
وهذا والله من عجائب النبهانيِّ أن يجعل الدّعوة إلى الأخلاق قَلباً للمفاهيم الإسلامية عن الحياة، وإبعاداً للناس عن تفهّم حقيقة المجتمع ومقوّماته!!!
كيف يكون ذلك والأنبياء والرسل - عليهم الصّلاة والسلام - الذين هُمْ أعلمُ الدّاعين إلى الله تعالى بمواقع المصلحة، وأعظمهم نصحاً لأممهم، دَعَوا إلى الأخلاق، بل كانت الدعوة إلى الأخلاق مِن صُلْبِ دعوتهم!!!
ومما يوضح مدى عناية النبي r بالدّعوة إلى الأخلاق: قوله r: "إنما بُعِثْتُ لأتمِّمَ مكارم الأخلاق". وقول النبهاني في الجواب عن هذا الحديث: بأنه يتعلّق بصفات الفرد لا بالجماعة(10) سَفسطةٌ لا معنى لها؛ لأنّ المجتمع إنما يتكوّن من أفرادٍ، فإذا كانت الأخلاق من مقوّمات الفرد كانت بالضرورة من مقوّمات المجتمع(11).
والحاصل أنَّ إهمال الدعوة إلى الأخلاق وقصر الدّعوة على الفكر وحده ضَربٌ للدعوة الإسلامية في إحدى مقوّماتها، كما أنّ له أثراً سيّئاً على المجتمع، وهذا الأثر ظهر على أتباع الحزب قبل غيرهم، بحيث "ترى شيوخهم وشُبَّانهم ليس عليهم ما يميّزهم كمسلمين، فهم يحلقون لحاهم وشواربهم - أحياناً - ولا يهتمُّون بصلاة الجماعة أو غير ذلك مما يميّز المسلم في الظاهر عن غيره"(12).

2) زعمُهُ أنّ دعوةَ غير المُسلمين، والدّعوة إلى الأخلاق الإسلاميّة، والقيامَ بالأعمال الخيريّة متوقِّفٌ على قيام الدولة الإسلامية (الخِلافة)(13):

ادّعى حزبُ التحرير أنّ دعوة غير المسلمين، والدعوة إلى الأخلاق، والقيام بالأعمال الخيريّة من مَهمَّة الدولة الإسلامية، وليست من مهمَّة الأفراد ولا التكتُّلاتِ، بل يجب على التكتلات الدعوية أن تقتصر على الفكر، ولا تشتغل بمثل هذه الأمور.
جاء في كتاب "مفاهيم حزب التحرير" - وهو من منشورات الحزب - ما نصّه: "وهؤلاء - أي غير المسلمين - تكون الطريقة العَمَليّة لدعوتهم أن يُحْكَمُوا بالإسلام من قِبَلِ الدولة الإسلامية حتى يروا نورَ الإسلام، وأن يُدْعَوا إلى الإسلام في بيان عقائده وأحكامه حتى يدركوا عظمة الإسلام، ولذلك كان لزاماً أن تحملَ الدعوةَ إلى الإسلام دولةٌ إسلاميةٌ"(14).
وجاء في موضع آخر منه، ما نصّه: "وأما الدعوة التي تحملها جماعةٌ أو كُتلةٌ فهي أعمالٌ تتعلّق بالفكر، ولا تتعلّق بالقيام بأعمالٍ أُخرى، ولذلك تأخذُ الناحية الفكرية، لا الناحية العملية، فتقوم بما يفرضه عليها الشرع في مثل هذه الحال، حتى توجد الدولةُ الإسلامية، ثم تبدأ الناحية العملية في الدولة، ولذلك فهي مع كونها تدعو مسلمين إنّما تدعوهم لتفهّم الإسلام حتى يستأنفوا الحياة الإسلامية ... فتعمل الأمة في مجموعها العملَ المنتِجَ تحت قيادة كتلة الدعوة حتى يصلوا إلى الحكم فيوجدوا الدولة الإسلامية، وحينئذٍ تتخذ حياة الرسول r في المدينة قدوةً للسير بحسبها في تطبيق الإسلام وحمل الدّعوة له"(15).
ويقول النبهاني: "إنّ الأمر في قيام دولةٍ تستأنفُ الحياةَ الإسلامية عن عقيدةٍ، وتطبّقُ الإسلام في المجتمع بعد أن يكون متغلغلاً في النفوس متمكنّاً من العقول، وتحمل الدعوة الإسلاميّة إلى العالم ... إن الذين يسلكون طريق الدعوة الإسلاميّة لإيجاد الدولة الإسلاميّة، إنّما يعملون للوصول إلى الحكم ليجعلوه طريقة لاستئناف الحياة في البلاد الإسلاميّة، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم"(16).
وهكذا يُعَطِّلُ النبهانيُّ وأتباعهُ دعوةَ غير المسلمين، والدعوةَ إلى الأخلاق الإسلامية، والقيامَ بالأعمال الخيريّة بحجّة أنّ هذه الأمور من أعمال الدولة الإسلامية (الخلافة)، وليست من أعمال الأفراد ولا الجماعات!!!
و لا شكَّ في  أنّ هذا القول و المَسْلَكِ تحجيماً للدّعوة الإسلامية وإضعافاً لها، حيث عُلِّقَتْ هذه الأمور على أمرٍ لا ندري متى يكون!!
ثم إن استدلال الحزب على ما ذهب إليه بأن النبي r لم يكن يقوم بهذه الأمور وهو في مكة(17)، غيرُ صحيح؛ فإنّ النبي r دعا إلى الأخلاق وهو في مكة، والدليلُ على ذلك حديث أبي سفيان بن حربٍ لما وجَّهَ له هرقلُ مجموعة من الأسئلة عن النبي r، منها قوله: ماذا يأمركم؟. فأجاب أبو سفيان بقوله: (يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصّلة)(18). فهذا دليلٌ صحيحٌ صريحٌ في دعوة النبي r للأخلاق وهو في مكة.
وما جاء في كتاب مفاهيم حزب التحرير من أنّ "الرسول r كان يدعو للإسلام في مكة وهي مملوءة بالفسق والفجور، فلم يعمل شيئاً لإزالته، وكان الظلم والإرهاق والعوز ظاهراً كلَّ الظهور، ولم يُروَ عنه أنّه قام بعملٍ ليخفّف من هذه الأشياء، وكان في الكعبة والأصنام تُطِلُّ فوق رأسه، ولم يُروَ عنه أنّه مسَّ صنماً منها ... ولكنه حيث صارت لديه دولةٌ، وفَتَحَ مكةَ، لم يُبقِ شيئاً من تلك الأصنام ولا من ذلك الفسق والفجور، ولا الظلم ولا الإرهاق، ولا الفقر ولا العوز"(19). لا يعني أن النبي r لم يدعُ لإزالة الفسق والفجور، والتمسّك بمكارم الأخلاق، وإنّما لم يعمل شيئاً - عليه الصلاة والسلام - لإزالة هذا الفجور والفسوق؛ لأنه لم يُمَكَّنْ من ذلك عليه الصلاة والسلام، كما لا يخفى.

3) عدمُ تقيُّدِ الحزب بآداب الدّعوة من الموعظة الحَسَنة والمُجَادَلَةِ بالتي هي أحسن، والحكمة في الطَّرحِ:

"فكثيراً ما كان النقاش مع الحزبين يخرج عن النقاش الموضوعي الهادئ الرصين إلى المُهَاترات وتبادُلِ التُّهَمِ، فالتحريُّريون كانوا يحملون الإسلام، ولكنهم ما كانوا يحملون أسلوبه المتسامح في النقاش والطرح"(20). وعند الحزب إمَّا أن يتقيّدَ الخصمُ بكلّ مفاهيم الحزب وأفكاره، ولو كان من غير اقتناع، وإما أن يُصبحَ عدواً لهم!!
وهذا الأسلوب العنيف لا شكّ أنَّ له آثاراً سَيِّئَةً على الدّعوة الإسلامية من التنفير وعدم قبول الحق، وغيرها ... خاصة في البلدان غير الإسلامية التي تَنْسِبُ أيَّ تصرف يصدر من المسلم إلى الإسلام. فعلى سبيل المثال صرَّحَ حزبُ التحرير في منشوراته وندواته وخطبه في بريطانيا بأنه يريد إقامة الخلافة الإسلامية من بريطانيا! كما قام بعضُ الشباب المسلم في إحدى مُدنِ بريطانيا بعقد اجتماعٍ لمُسَاندة الشعب البوسنيّ، قد شارك في هذا الاجتماع كثيرٌ من المتحدّثين، وحضره كثيرٌ من غير المسلمين، فبدأ الحزبيّون في بداية الاجتماع بتوزيع المنشورات على الحاضرين، وجعلوا عنوان هذه المنشورات بحروفٍ كبيرةٍ قوله تعالى: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ...) الآية(21)؛ ممّا أدَّى إلى قطع الاجتماع تماماً(22).
كما أشغلَ الحزبُ أتباعهَ من الشباب المسلم البريطاني بالمصادمات مع خصومهم، وخاصّة من المسلمين هناك، والذين هم ليسوا على مبادئ الحزب، كلُّ ذلك أثَّرَ على الدعوة الإسلامية في هذا البلد، ووجد اللوبي الصهيوني هناك الفرصةَ مواتيةً للتنفير من الإسلام والمسلمين.
يقول عبد الرحمن دمشقية: "ثمَّ قُدِّرَ لهذا الحزب أن ينتقل بسلبياته ومنهجه المستعجل إلى بلدٍ غربيٍ شغلته الماديةُ المعاصرةُ عن التعصُّب الصّليبي القديم، حيث الحاجة إلى بعث التعصب الصليبي القديم لِيقابلَ البعث الإسلامي المتنامي في كلّ مكان، وتضليل الجالية المسلمة هناك، والتي صارت جزءاً من المجتمع الغربي.
فقد قدّمَ هذا الحزبُ خدماتٍ جليلةً لمن يريدون بعث هذا التعصُّب مِن حيثُ لا يريد، وصار تهوّره وكلامه عن الخلافة مبّرراً لإقفال مُصَلَّيات الطلبة في الجامعات، وتحجيم نشاطهم، والمنع من إقامة المحاضرات والدروس بحجَّةِ سدّ ذرائع الشَّغَبِ الذي قام به أتباعُ الحزب في الجامعات البريطانية، حيث وقعت عدّة حوادث أسفر بعضها عن بعض حوادث القتل.
وهذا كمينٌ شيطانيٌ تسبّب بالجمود في دعوة النصارى في بلاد النصارى بعد أن بقيت الفرصة الذهبية للدعوة سانحةً قبل نشر الحديث عن الخلافة وتفاصيل المبادئ التي يديم الحزب النقاش حولها، كمسألة الخلافة، وخبر الواحد، وعذاب القبر ...
وقد أدى هذا التهور والشَّغبُ دوره، واستغلّته أجهزةُ الإعلام أسوأَ استغلالٍ حيث صدرت أصواتٌ تنادي بين الصليبيّين بإراقة دمهم بالسيف، وليس من الحكمة أن يسمعَ النصارى ضرورةَ قتلهم قبل أن يسمعوا دعوةَ التوحيد ممن طلب اللجوء إليهم للأمن من الاضطهاد الذي هرب منه في بلاده!
وهذا مُخالِفٌ لحال السَّلَفِ الذين هاجروا إلى الحبشة ليأمنوا على أنفسهم من ظلم قريش واضطهادها، فأحسنوا جوارَ مَنْ أحسنَ مجاورتهم وَآمَنَهُمْ من الفزع والملاحقة ... ولك أن تتصوّر المسألة بافتراضها بشكلٍ عكسي على النحو الآتي: لو أننا استقبلنا في بلادنا الإسلامية نصارى يدعون إلى (الجهاد المقدس) وبعودة الحملات الصليبية بزعامة الكنيسة ضدّ الإسلام، ولإراقة دم المسلمين، كيف يستقبل الناس هذا الموقف؟!...
إنّ الدور الذي لعبه الحزبُ كان له أثرٌ سلبيٌ في امتصاص طاقات الشباب المسلم المتطلّع إلى قيام الإسلام، وإهدارِ هذه الطاقات بإشغالها في أمورٍ تصرفهم عَمَّا يمكن أن يقوموا به من الدعوة بين مجتمعٍ لا يحرّم الدّعوة إلى الإسلام، وتجعلهم يعيشون على أمل انتظار مجيء الخلافة بما يشبه انتظار الشّيعة للمهدي المنتظر"(23).

دفاعُ حزب التحرير عن الانحرافات الاعتقاديّةِ لرؤوس فِرقَةِ
المُعتزِلَة والردُّ عليه

يقول حزب التحرير: "ولهذا لم يخرجوا عن أهل الإسلام، وإنما توسَّعوا في الاستدلال وأطلقوا لأنفسهم العنان في البراهين، ولكن لإثبات ما يقوِّي الإيمان، وللحرص على تنزيه الله. ولهذا لم يحصل منهم (أي من واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد وأبي هذيل العلاف، والنظّام) أيُّ انحرافٍ في العقائد على اختلاف معتقداهم، فكلُّهم مسلمون مدافعون عن الإسلام"(24).
ونرُّد على هذا القول ببيان ما يلي:
أولاً:ذِكرُ بعضٍ من انحرافات واصل بن عطاء:
إنَّ البِدعَ التي دعا إليها واصل بن عطاء كثيرةٌ، ومنها:
1.     أنَّهُ زَعَمَ أنّ الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، وجَعَلَ الفسقَ منزلةً بين منزلتَيْ الكفر والإيمان"(25).
2.     أنه كان يشك في عدالة عليٍّ وابنيه وابن عباس وطلحة والزبير وعائشة وكُلِّ مَنْ شهدَ معركة الجَمَل من الفريقين. ولذلك قال: لو شَهِدَ عندي عليٌ وطلحةُ على باقةِ بَقْلٍ لم أحكم بشهادتهما لعلمي بأنَّ أحدَهما فاسقٌ، ولا أعرفه بعينه، فجائزٌ على أصله أن يكون علي وأتباعه فاسقين مُخلَّدين في النار، وجائز أن يكون الفريق الآخر الذين كانوا أصحاب الجمل في النار خالدين ... فشكَّ في عدالة علي وطلحة والزبير مع شهادة النبي r لهؤلاء الثلاثة بالجنة مع دخولهم في بيعة الرضوان(26)!!!!
وعَقَّبَ على ذلك أبو منصور البغدادي فقال: "فكيف يكون مقتدياً بالصحابة مَنْ يُفَسِّقُ أكثرّهم ويراهم من أهل النار ومَنْ لا يرى شهادتهم مقبولةً فكيف روايتهم! ومَنْ ردَّ روايتهم وشهادتهم خرج من سمتهم ومتابعتهم، وإنما يقتدي بهم مَنْ يعمل برواياتهم ويقبل شهاداتهم كدأب أهل السّنة والجماعة"(27)
3.     أنه أخذ برأي مَعْبدٍ الجهنيّ في القَدَرِ، إلاّ أنه قال بأنَّ اللهَ عالمٌ بالأشياء قبل وقوعها؛ ولكنَّ أفعال البشر ليست بمشيئتهِ وإرادته ولا مِنْ خلقهِ سُبحانه وتعالى(28).
4.     قوله بنفي صفات الله(29).
ولقد قال بمثل هذه الأقوال عمرو بن عبيد(30).   
ثانياً: ذِكرُ بعضٍ من انحرافات أبي الهذيل العَلَّاف:
إنَّ من البدع التي دعا إليها أبو الهذيل العلاَّف:
1.     قوله: "إنَّ الباري تعالى عالمٌ بعلمٍ وعلمُه ذاتهُ، وقادرٌ بقدرةٍ، وقُدرَتُهُ ذاتهُ، وحيٌّ بحياةٍ، وحياتهُ ذاتُه. وإنما اقتبسَ هذا الرأيَ من الفلاسفة الذين اعتقدوا أنَّ ذاتَه واحدةٌ لا كثرةَ فيها بوجهٍ، وأنَّ الصفات ليست وراءَ الذات معاني قائمةٌ بذاته بل هي ذاتُه(31)، فعنده عِلْمُ الله هو الله فَجَعَلَ الله عِلْمَاً(32)، وأنَّ وجهَ اللهِ هو الله(33)!!!
2.     قوله بتقسيم كلام الله عز وجل إلى ما يحتاج إلى مَحَلٍّ، وإلى ما لا يحتاج إلى مَحَلٍّ، وسائر كلامه حادثٌ في جسم من الأجسام"(34).
3.     قوله: "بأن الحُجَّةَ لا تقوم فيما غاب إلا بخبر عشرين، فيهم واحدٌ من أهل الجنة أو أكثر، ولا تخلو الأرضُ عن جماعةٍ هم أولياء الله معصومون لا يكذبون ولا يرتكبون الكبائر فهم الحُجَّةُ لا التواتر، إذ يجوز أن يكذب جماعة ممن لا يحصون عدداً إذا لم يكونوا أولياء الله، ولم يكن فيهم واحدٌ معصومٌ(35).
4.     تكذيبه لرواية ابن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي r  "السَّعيد من سعد في بطن أمِّه والشقي من شقي في بطن أمِّه "(36).
5.     قوله: "بفناء مقدورات الله عز وجل حتى لا يكون بعد فناء مقدوراته قادراً على شيءٍ؛ ولأجل هذا زَعَمَ أنَّ نعيم أهل الجنة وأهل النار يفنيان، ويبقى حينئذٍ أهل الجنة وأهل النار خامدين لا يقدرون على شيء، ولا يقدر الله في تلك الحال على إحياء مَيّتٍ ولا على إماتة حيٍّ؛ حتى ولا يقدر على تحريك ساكنٍ ولا على تسكين مُتحرِّكٍ، ولا على إحداث شيءٍ، ولا على إفناءِ شيءٍ مع صحّة عقول الأحياء في ذلك الوقت!! وقوله في هذا الباب شرٌّ من قول مَنْ قال بفناء الجنة والنار كما ذهب إليه جَهْمٌ، لأنَّ جهماً، وإن قال بفنائهما، فقد قال بأن الله عز وجل قادرٌ بعد فنائهما على أن يخلق أمثالهما؛ وأبو الهذيل يزعم أنَّ ربه لا يقدر بعد فناء مقدوراته على شيء"(37).
6.     ومن قوله: "إن الأرواحَ أعراضٌ تفنى ولا تبقى وقتين فإذا ماتَ المَيّتُ فلا روح هنالك أصلاً وهذه مقولة فاسدة"(38).
ثالثاً: ذِكرُ بعضٍ من انحرافات النَّظَّام:
إنَّ مِن البِدَعِ التي دعا إليها النَّظَّامُ المعتزليُّ ما يلي:
1-      قوله: "إنّ الله تعالى لا يُوصَفُ بالقدرة على الشرور والمعاصي وليست هي مقدورةً للباري تعالى(39).
وأما في أمور الآخرة فقال: "لا يوصف الباري تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئاً وعلى أن يُنْقِصَ منه شيئاً وكذلك لا يُنقصُ من نعيم الجنة ولا أن يُخرِجَ أحداً من أهل الجنة وليس ذلك مقدوراً له وقد ألزم عليه أن يكونَ الباري تعالى مطبوعاً مجبوراً على ما يفعله"(40)!!!
2-      قوله: "إنَّ نظمَ القرآن وحُسنَ تأليف كلماته ليس بمعجزةٍ للنبيّ r؛ ولا دلالةً على صدقه في دعواه للنبوة، وإنّما وجهُ الدّلالة منه على صدق ما فيه الإخبار عن الغيوب، فأمَّا نظمُ القرآن وحسن تأليف آياته فإنّ العباد قادرون على مثله، وعلى ما هو أحسن منه في النظم والتأليف! وفي هذا عناد منه لقوله تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(41) (42).
3-      قوله: في الإجماع " إنّه ليس بِحُجَّةٍ في الشرع، وكذلك القياس في الأحكام الشرعية لا يجوز أن يكون حُجَّةً وإنما الحجّةُ في قول الإمام المعصوم"(43)، و"تجويزه إجماع الأمة في كل عصرٍ في جميع الأعصار على الخطأ من جهة الرأي والاستدلال يلزمه على هذا الأصل أنْ لا يثقَ بشيءٍ مما اجتمعت الأمة عليه لجواز خطئهم فيه عنده"(44).
4-      ميلُه إلى الرَّفضِ ووقيعته في كبار الصحابة. حيثُ قال أولاً: لا إمامةَ إلا بالنصِّ والتعيين ظاهراً مكشوفاً، وقد نصَّ النبيُّ r على عليٍ، رضي الله عنه، في مواضع وأَظهَرَ إظهاراً لم يشتبه على الجماعة إلا أنَّ عُمَرَ كتمَ ذلك وهو الذي تولَّى بيعة أبي بكرٍ يوم السقيفة(45).
5-      وزعم أنَّ أبا هريرةَ كان أكذبَ الناس"(46).
6-      زعمُه أنّه لا يُتَفَضَّلُ على الأنبياء عليهم السلام إلا بمثل ما يُتفضَّلُ به على البهائم لأنَّ باب الفضل عنده لا يختلف فيه العالمون وغيرهم وإنما يختلفون في الثواب والجزاء لاختلاف مراتبهم في الأعمال؛ وينبغي للنظَّام على قول هذا الأصل أن لا يغضبَ على مَنْ قالَ له: حَشَرَكَ اللهُ مع الكلاب والخنازير والحيَّات والعقارب إلى مأواها، ونحن ندعو له بهذا الدعاء رضى به لنفسه"(47).
7-      "إنكاره لانشقاق القمر ؛ لأنه " يُكْرَهُ ثبوتُ معجزة لنبيِّنا "، عليه السلام، حَسْبَ اعتقاد النَّظَّام، كما أنكرَ معجزته في القرآن"(48).
8-      قوله: "إنَّ الروحَ التي في الجسد هي الإنسانُ وهي الفاعلةُ دون الجسد " .و بناءً على قوله هذا " لزمهُ أن يقول إنَّ الروح هي الزانيةُ والسارقة والقاتلة فإذا جُلِدَ الجسدُ وقُطعتْ يدُهُ صار المقطوعُ غيرَ السارق والمجلودُ غيرَ الزاني"(49)، وفي هذا تكذيبٌ للقرآن.
فلقد امتلأت الكتب العلمية بذكر انحرافات رؤوس المعتزلة في العقائد مثل أبو هذيل العلّاف والنظّام وخاصةً كتابَيْ "المِلَلُ والنِّحَلُ" و"الفَرْقُ بين الفِرَقِ"، وهذا يخالف ما يقوله حزب التحرير من أنَّ أبا هذيل العلاف والنظام لم يحصل منهم أيُّ انحرافٍ في العقائد !!!

رابعاً: دفاعُ حزب التحرير عن انحرافات كُلٍّ مِنْ جهم بن صفوان وغيلان الدمشقيّ!

من المُستغرَبِ والمُستهجَنِ أنّ حزب التحرير يعتبرُ الجهمَ بن صفوان وغيلان الدمشقي من علماء المسلمين(50). فهذا قولٌ غريبٌ انفردَ به هذا الحزبُ الغريبُ، إذ يرفعُ من شأن جهم بن صفوان، ويعتبرهُ عالماً من علماء المسلمين!!! رغم أنّ علماء التابعين حكموا بتكفيره تَعْييناً، ونصُّوا على ذلك تحذيراً للأمة مِنْ بعدهم وذلك لكَثرةِ ضلالاته وانحرافاته التي خالفَ فيها أهلَ السنّة والجماعة، وقد سُطِّرت هذه الضلالاتُ في الكتب التي تَرجمتْ لجهم بن صفوان، وفي كثيرٍ من الكتب التي تتكلم عن العقائد وبالذات الكتبُ التي تكلَّمت عن الجهميّةِ. ولهذا عندما ذُكر الجهم عند عبد الله بن المبارك فقال: "عجبتُ لشيطانٍ أتى إلى الناس داعياً إلى النار واشتقَّ اسمه عن جهنَّم"(51).
ذِكرُ بعضٍ مِن ضلالات و انحرافات جَهْم بن صفوان:
لقد أجملَ لنا الإمام عبد القاهر البغداديّ ضلالاتِ جهم بن صفوانٍ في كتابه "الفَرْقُ بينَ الفِرَقِ"، فقال: "الجهميةُ أتباعُ جهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال وأنكرَ الاستطاعات كلَّها، وزعمَ أن الجنة والنار تَبيدان وتفنيان، وزعم أيضاً أنَّ الإيمانَ هو المعرفة بالله تعالى فقط وأنَّ الكفرَ هو الجهلُ به فقط، وقالَ: لا فِعْلَ ولا عَمَلَ لأحدٍ غير الله تعالى وإنما تُنسبُ الأعمالُ إلى المخلوقين على المجاز، كما يُقالُ: زالت الشمسُ ودارتِ الرحى من غير أن يكونا فاعلين أو مُستطيعَيْن لما وُصِفَتا به، وزعمَ أيضاً أنَّ عِلمَ الله تعالى حادثٌ وامتنعَ من وصف الله تعالى بأنَّهُ حيٌّ أو عالِمٌ أو مُريدٌ . وقال لا أصفه بوصفٍ يجوزُ إطلاقه على غيره كشيءٍ موجودٍ وَحَيٍّ وعالمٍ ومُريدٍ ونحو ذلك؛ ووصفه بأنه قادرٌ ومُوجِدٌ وفاعلٌ وخالقٌ ومحي ومميتٌ لأن هذه الأوصاف مُختَصَّةٌ به وحده . وقال بحدوث كلام الله تعالى كما قالته القدريةُ ولم يُسمِّ الله تعالى متكلماً به"(52).
وقال بخلق القرآن، فقد قال عبيد بن هاشم: "أَولُ مَنْ قال القرآن مخلوقٌ جَهْمٌ، فأرسلت إليه بنو أمية فطلبته، يعني قتلته"(53).


ذِكرُ بعضِ أقوال العُلماء في جَهمِ بن صفوان:
لقد جاء الحُكم بتكفير الجهم بن صفوان من عدة علماء من أمثال أبي حنيفة وأحمد ووكيع وغيرهم(54)، فَكُتبُ العلماءِ في تكفيره فالله يحصيها، اتفقت أصناف الأمة على تكفير جهم بن صفوان، ولقد نقل اتفاق أصناف الأمة الإمام عبد القاهر البغدادي على تكفيره(55).
مناقشة قولهم: إنَّ غيلانَ الدَّمشقيَّ عالمٌ مِن عُلماءِ المُسْلمين:
نجدُ أنَّ حزب التحرير يرفع من شأن غيلان الدمشقي، ويعتبره عالماً من علماء المسلمين، رغمَ كثرة انحرافاته التي خالف فيها أهلَ السنّةِ والجماعة، وقد سُطرت هذه الانحرافات في الكتب التي ترجمت لغيلان الدمشقي فلابد أن نذكر شيئاً عن شخصية غيلان الدمشقي، وأقوال علماء المسلمين فيه.
التعريف بغيلان الدمشقيِّ:

هو غيلان بن مسلم الدمشقي، أبو مروان: من البلقاء تنسب إليه فرقة "الغيلانية" من القَدَرية، وهو ثاني مَنْ تَكَلَّمَ في القَدَرِ ودعا إليه، لم يسبقه سوى معبدٍ الجَهنّي، وكان يقول بالقدر خيره وشره مِنْ العبدِ، وله رسائل، قال ابنُ النديم إنها في نحو ألفيِّ ورقةٍ. وكان في صباه من أتباع الحارث بن سعيد، المعروف بالكَذَّابِ. وقيلَ: تاب عن القول بالقدر على يد عُمَر بن عبد العزيز فلما ماتَ عمرُ جَاهَرَ بمذهبه فطلبه هشامُ بن عبد الملك، وأحضرَ الأوزاعيَّ لمناظراته فأفتى الأوزاعي بقتلهِ، فصُلِبَ على باب كيسان بدمشق، كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا تُرِكَ داعياً وهو لا يقبل الحقَّ: إمّا لهواهُ، وإما لفسادِ إدراكهِ فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدةٌ وضررٌ عليه وعلى المسلمين. والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه وناظروه وَبيَّنوا له الحق كما فَعَلَ عُمر بن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه ثم نكث التوبة وبعد ذل فقتلوه، وقال رجاء بن حيوة: قتلُهُ أفضلُ مِنْ قتل ألفين من الروم(56).

-------------------------------------------------------------
قائمة الهوامش
(1)  انظر: الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، سليم عيدالهلالي، ص376، طبعة سنة 2004 ، الدار الأثرية ، عمّان .
(2)  نشرات في التكتل الحزبي، تقي الدين النبهاني ، ص186،ط4 ، 2001.
(3)  سبيلي إلى الله، لداود عبد العفو سنقرط، ص68-70.
(4)  أثر الجماعات الإسلامية الميدانيّ خلال القرن العشرين، محمد سالم عبيدات، ص250-251، ط 1 ، 1989 ،مكتبة الرسالة الحديثة ، عمّان .
(5)  يختلف الحزب عن الخوارج بأنه لا يحكم بكفر المسلمين، وإنما يختصّ الكفر عنده بالدار.
(6)  حزب التحرير مناقشةٌ علميةٌ لأهمّ مبادئ الحزب، عبد الرحمن دمشقية، ص46، ط1 ، 1977، مكتبة الغرباء للطباعة و النشر، استانبول .
(7)  المصدر السابق، ص47.
(8)  المصدر السابق، ص92.
(9)  نظام الإسلام، تقي الدين النبهاني، ص202-207، ط 6 ، 2001 ، من منشورات حزب التحرير .
(10)        انظر: التكتل الحزبي، تقي الدين النبهاني، ص18، ط 4 ، 2001 .
(11)        الهلالي، ( م. س ) ص375.
(12)        الهلالي، ( م.س ) ص376.
(13)        الحزب يريد بقيام الدولة الإسلامية: قيام دولة واحدة في العالم الإسلامي كلّه، أي قيام الخلافة، وليس قيام دول، وقد صرّح النبهاني بذلك. انظر الدولة الإسلامية، للنبهاني، ص9.
(14)        مفاهيم حزب التحرير، ص72، ط 6 ، 1978،من منشورات حزب التحرير .
(15)        المصدر السابق، ص74-75.
(16)        الدولة الإسلامية، تقي الدين النبهاني، ص9-10، بتصرف يسير، ط1، 1953 ،دار الأمة للطباعة و النشر ، بيروت .
(17)        انظر: مفاهيم حزب التحرير ( م.س)، ص74-75.
(18)        أخرجه البخاري في صحيحه، (كتاب بدء الوحي)، برقم (7).
(19)        مفاهيم حزب التحرير، ص75-76.
(20)        سبيلي إلى الله، لداود عبد العفو سنقرط، ص68-70، بتصرف يسير.
(21)        سورة المائدة: جزء من الآية (51).
(22)        انظر في هذه الحوادث الغريبة من الحزب وغيرها:
 Hizb al-tahrir and the search for the Islamic Caliphate. p; 171
(23)        دمشقية،( م.س) ص17-18.
(24)        الشخصية الإسلامية،تقي الدين النبهاني ، ج1، ص121 ،ط 5 ، سنة ، دار الأمة للطباعة و النشر ، بيروت 2003 .
(25)        انظر: الفَرْقُ بينَ الفِرَق، عبد القاهر البغدادي ،  ص98، ط 3 ، 1978 ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت .
(26)        المرجع السابق، ص305 و ص306.
(27)        المرجع السابق، ص307.
(28)        انظر: المِلَلُ والنِّحَلُ، الشهرستاني ، ص 20 ، ج1 ،  دار المعرفة، بيروت 1404هـ،
(29)        المرجع السابق، ص45.
(30)        البغدادي ( م.س)، ج1، ص51 و 99 و 306.
(31)        الشهرستاني ، ( م. س ) ، ج1، ص48.
(32)        انظر: الإبانة عن أصول الديانة،ج1،ص144، ط1، 1397، دار الأنصار.
(33)        انظر: الفِصَل في المِلَل والنِّحَل،ج2، ص127 مكتبة الخانجي، القاهرة.
(34)        البغدادي،(م.س) ص108.
(35)        المرجع السابق، ص48.
(36)        شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة،الإلكائي، ج4، ص592،طبعة سنة 1402ه، دار طيبة للنشر ، الرياض .
(37)        البغدادي،(م.س) ص102-127.
(38)        الفِصَل في الملل والنحل، ج2، ص127.
(39)        الشهرستاني،(م.س) ج1، ص52.
(40)        المرجع السابق.
(41)        سورة الإسراء، 88.
(42)        البغدادي،(م.س) ص128.
(43)        الشهرستاني،(م.س) ج1، ص52.
(44)        البغدادي،(م.س) ص129.
(45)        الشهرستاني، (م.س) ج1، ص52.
(46)        البغدادي،(م.س) ص119.
(47)        المرجع السابق، ص140.
(48)        المرجع السابق، ص135.
(49)        المرجع السابق، ص118.
(50)        انظر: الشخصية الإسلامية للنبهاني، ج1، ص121.
(51)        شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، الإلكائي،ج3،ص382، دار طيبة، الرياض  1402، الناشر دار طيبة للنشر والتوزيع.
(52)        الفَرق بين الفِرق، لعبد القاهر البغدادي، ط3، 1978، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ص199.
(53)        شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ج3ـ ص379.
(54)        انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي،ج11،ص376 الناشر دار الكتاب العربي، بيروت لبنان، درء التعارض العقل والنقل، ج3، ص274، مجموع الفتاوى، ج7، ص508، المحلي لابن حزم، مكتبة دار التراث ج11، ص 121-122، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ج3، ص379.
(55)        الفَرق بين الفِرق، ص199.
(56)        انظر: لسان الميزان، ج4، ص424، الشريعة  للآجري، ط1، (1403هــ-1983م)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص228، ص374، العقد الفريد لأحمد الأندلسي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ج2، ص219، 220.

هناك 3 تعليقات:

  1. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  2. كلما قرأت. من ينتقد حزب التحرير يزيدني قناعة أنه على حق

    ردحذف
  3. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف