ركن مقالات الدكتور راجح السباتين



الدكتور راجح السباتين
"فلتنهضْ .... أيُّها المُحَارِبُ العظيم"
قرصُ الشمس الخريفيّة في طريقة إلى الاكتمال ... وها هي قطرات الأمل تنساب من على غصن الحياة مُعلنةً عن يوم آخر صامتٍ كالشجر، مُنخفضٍ عن مستوى سطح بحور الكراهية التي تحيطُ بهذا الوجه العربي الذي تجسدت فيه آلام الزمن وأوجاع الأمم حال النهوض والانهيار ... ما من فرحةٍ يُسمع صوتها في الديار. وما من نورس يجرؤ على الطيران في سمائنا الواسعة ... كلُّ مَنْ شهد معركة النور الأخيرة مع الظلام يعلم بأنّ انهزام النور كان سبب هذا الصمت المخيف، وكلُّ مَنْ شهد تلك المعركة يذكر كيف انهار آخر العمالقة المدافعين وسقط عند أقدام "أقزام الكراهية" الذين ائتمروا عليه وعرفوا كيف يسقطونه!! والآن، وبعد كل هذه السنوات من الصراع المرير لم يتبقَّ فارسٌ واحدٌ من فرسان جيش المحبة، حتى ذلك "المحارب العظيم" الذي كان رمزاً لأسطورة الكفاح، لم يتبقَ منه سوى ظلّه بعد أن سافرت آماله أدراج رياحٍ ترحل ولا تعود وانخنق حُبُّهُ في الواقع العربي المتقلِّب وتلاشت زفراته الثائرة وذهبت مع مياه الأمطار ممتزجةً بتراب الأوطان ذاويةً في أراضيها إلى أعماقٍ بعيدةٍ ومجهولةٍ.
بانهيار المحارب العظيم انهارت آمال أنصار المحبة، وبذهابه ذهبت أحلامهم الثائرة وسالت دماءً مع الماء في أزقة الشوارع والمخيّمات باكيةً على رحيل هذا الفارس الذي اضطرته وقائعُ الانكسار العربي للترجل عن فرسه والسير في بحر الرمال المتحركة....
وهكذا، وبعد هزيمة النور هذه لم يبق في الميدان سوى أقزامٍ يشعرون يقيناً بأنهم يعيشون في عصرٍ ليس بعصرهم، أقزامٍ ضعافٍ دفعتهم الرياح من حيث لا يشعرون فوجدوا أنفسهم وقوفاً على خشبة المسرح، نجوماً في سماء جمهورٍ بائسٍ يائسٍ فقد مِنَ الحياة كلّ معانيها ... يا أعداء المحبة والإنسانية والعقل، يا من لا تتوقفون عن خَوض حروب الكراهية هذه، ألا تتعبون؟ ألا تعترفون بهدنةٍ أو استراحةٍ يُلقي فيها المتحاربون السلاح ليلتقطوا ما تبقى فيهم من أنفاس؟؟؟
مَن غيرُكَ لهؤلاء المتعملقين رادع!! ومنَ سواك لإفسادهم مانع؟ ألا فلتنهض أيها المحارب العظيم ... ألا فلتنهض وقسماً لن تكون وحدك في الساحة بعد الآن، فريحك الدافئة عادت تدفعنا للمضي قدماً نحو القمة حيث كنا، وصوتك الحرّ الثائر يتردد فيملأ صداه الوجود من حولنا محطماً جدران اليأس الصامت تاركاً إياها أكواماً من الركام لا قدرة لها على البدء من جديد .... لا لن تنطفئ شموعنا بعد الآن مهما تتراكم على رئتيها أكوام الظلام الثقيلة، وستبقى أنوار المحبة صامدةً آخذةً في شق طريقها وسط ركام صخورك يا ظلام.
يا أنصار المحبة والنور، عودوا للالتفاف حول "المحارب العظيم" وأعينوه على البدء مرةً أخرى، فلا زال هنالك متسعٌ من الوقت لاستدراك ما فات. كما أنّ هنالك بقيةً باقيةً لاحتمال ولو ابتسامةٍ واحدةٍ بريئةٍ جريئةٍ تُعلن تحدِّيها لكل الذين ائتمروا علينا واغتالوا ابتسامتناً وقتلوا فرحتنا واقتحموا علينا عاطفتنا المكنونة، فحطَّموا منها ما قدروا على تحطيمه، وأحرقوا بعضها الآخر، وتركونا ضياعاً عمياناً نتلمَّسُ ما يمكن تَلمُّسه من خيطان الأمل القليلة في طرائق البغضاء، عودوا لتعود الفرحة بصوتها الساحر فوق جبالنا الممتدة من جديد، وليعود النورس حراً في سمائنا الواسعة من جديد، عودوا لتعود إلى الوجه العربي أفراح الزمن وأمجاد الفتوح عودوا لا زال هنالك أمل ... عودوا فلا زال هنالك أمل ... عودوا ....
...........................................................................................................

الدكتور راجح السباتين
هواءٌ باردٌ ... وذكريات دافئة
جاء المساء وسكنت الطيورُ في أعشاشها وخلدت همومُ الفلاح والعامل والنجَّار إلى النوم ... جاء المساء وصَفت النفوسُ مُتَّجهةً نحو خالق السموات طالبةً العفو والمغفرة .... نامت الورود والأشجار، لكنّ الذكريات استيقظتْ في نفسي وعبقتْ في أرجاء قلبي ذكرى رحيلها وأخذت استذكرها وأقول: كُلَّما تذهبين بعيداً تأخذين جزءاً منّي معكِ ... وكلّما تهاجرين ينكسر في طيف ذكراك قلبٌ أخضرُ لم يبدأ المشوار بعد .... كلّ كلمةٍ قلِتها لا تزال عالقةً في ذهني مرتبطةً به ... قلبي كلُّه يصبو نحوكِ تماماً كأنه طفلٌ صغيرٌ يركض إلى أمّهِ. ذهبتِ فجأةً وسافرت مرتحلةً دون أن تخبري أياً من الناس بذلك، عودي لماذا لا تعودين؟؟ كلماتٌ ودعواتٌ أتلفَّظُ بها لعلّ الهواء ينقلها إلى مسامعكِ ... قد استغني عنك بهؤلاء الناس الكثيرين الذين يربطني بهم حبٌّ لا أول له ولا آخر، لكنكِ تبقين على الدوام أغلى وأعزّ الأرقام في معادلة حياتي ... تمطر الدنيا ذكريات فأختبى منها التجيء إلى مظلّة الحنين والشوق، لكنها مظلةٌ واهيةٌ كثيرة الثقوب، ثقوبٌ دقيقةٌ تتسلل الذكريات من خلالها كما قطرات ماء الشتاء في قبعات مزارعي الحي الغربي ... أمشي في البلدة الريفية المجاورة والطقس باردٌ ماطرٌ وأنفخ في يديّ بعض الهواء الساخن لربما تدفآن. يداي باردتان لكنّ صدري دافيء؛ ذلك أنه يشتعل بهذه الذكريات الهنيئة التي لطالما عشناها أياماً ولحظاتٍ في بلاد الأمل والرجاء ... موسيقى الطيور المهاجرة وصفيرها يذكرانني بالأنشودة الريفية التي اعتدنا أن نصرخ بها عندما كنا نذهب لجمع حطب الموقد ... هدوء الغروب الأحمر يثير في نفسي طيف الصمت الذي كان يظلنا عندما نجلس مع الأهل والأصدقاء ... أحبّ هذا الجدول الصغير لأنه يذكرني بعينيكِ الواسعتين عندما كانتا تفيضان بالدمع في تلك الأيام، كم كنتُ أهواكِ وأنت غاضبةٌ على وشك البكاء ... لا أريدُ أن أتكلم أكثر ... لقد ذهبَ الصّحبُ والأحباب والأصحاب ... لا أريد أن أتكلم ... لقد انتهت المعركة وانجلى ضبابها ... وبانَ وجه الحياة باسماً من جديد ... كنتُ وسأبقى أحبكِ أكثرَ من الفجر وأهواك أكثر من زهور البساتين وشقائق النعمان إذ تتفتَّحُ ربيعاً ساحراً في بواكير نيسان الجميل.
دلائلُ الإعجاز تتفلَّتُ من عينيكِ، ودقائقُ الإبداع تنبثق من جبينك أيتها الرائعة أيتها الهانئة الرقيقة ... يا مَن فاخر كلُّ ما فيها بالأصالة والحسن والإبداع وروح الطيبة ... لقد تناثر حبنا في أطراف الكون تماماً كما هو حال الغيوم الوردية الخفيفة التي تتطاير حول الشمس وقت الغروب. لا أدري لماذا استذكر شجر الزيتون عندما أراكِ؟ ألأنكِ أصيلةٌ مثله؟ ولا أدري لماذا ترفُّ في ذهني صورة حقول الأقحوان عندما أسمعُ صوتك؟ ألأنكِ رقيقةٌ مثلها؟ ولا زلتُ أجهلُ لماذا يفيض ذهني بجداول الريف ودور الطّين الأحمر التي تنكشف في قريتنا الخضراء عندما تمرُّ ذكراكِ في أفق ذهني لماذا ... لماذا؟!!
............................................................................................................

الدكتور راجح السباتين
الحبُّ بين الخسائر المؤلمة وتحدّيات العودة والنهوض
تذوب الشمس في بحور الكراهية، فيختنق بعدها الأمل وتتساقط أوراق اليأس رويداً رويداً، وتسدل الستارة السوداء ببطءٍ معلنةً عن انتهاء المسرحية ... لا ذِكْرَ لحبٍ صادقٍ في هذه الأيام يا أبنائي ... كُلُّهم ممثّلُون يُجيدُ واحدهم لعب دوره في هذه المسرحية بإتقانٍ وبراعةٍ متناهيةٍ لا تُدانيها براعة ... لقد وقع الحب في كمائن المصلحة والنفوذ والكبرياء مراتٍ عدةً وكان يخرج كلَّ مرةٍ مُنهكاً فاقدا لجزءٍ من قُوَّتِه إلى أن فقدها في النهاية.
ما بقي من الحب شيءٌ يستحق أَنْ يُذكر، حتى تلك الحكاية البريئة بين أطفال قريتنا في كلِّ موسمِ حصادٍ أتى الموتُ عليها وأدرك اليَبَسُ جذورها فقتلها من الداخل. لا خلود لحب بعد اليوم بالمرة، لأنْ لا طهارةَ ولا براءةَ لحبٍّ بعد اليوم بالمرة ... أين الطهارة والبراءة عنان؟ لقد باتا مجرَّدَ كلمتين تدلاّن على ذكرى عابرةٍ مضت واندفنت تحت رمال التاريخ. وتلوح في الأفق صورةُ عينين خضراوين مزَّقتِ الرياحُ شراعهما وذهبت مياه البحر الزرقاء بلونهما وأغرقته في الأعماق البعيدة المظلمة ... انتهى كلُّ شيءٍ وانجلى وجه الليل بعد طول مكوثٍ عن خسارةٍ مؤلمةٍ فقدتُ فيها كلَّ أسباب النصر والشوق والحبّ والأمل ... مَنْ يُعيد إليَّ الحياة من جديد؟؟ مَن يعيُد إليّ العينين الخضراوين اللتين فقدتهما في عاصفة بحر الحياة التي لا ترحم؟؟ مَنْ يعيد إليّ تلك الذكريات الغالية التي لوّحتها الأيام وتلاعبت بها رياح السنين؟؟ أبكي وأبكي مواسياً نفسي بالقول: إنَّ الدموع حين تخرج، تأخذ في طريقها تراكمات الآلم والحروق والوجع ليرتاح الواحد منا بعدها ممّا كان يثقله ويُتعِبُهُ، وانتظر بعد ذلك سماع موسيقى الفرح صادرةً عن جروح قلبي لتعلن عن بدايةٍ جديدةٍ فهل تراني أسمعها؟؟
............................................................................................................

الدكتور راجح السباتين
الجمالُ مسافرٌ يعشق التّرحال
كزهور شقائق النعمان النديَّةِ التي بدأت تطل برؤوسها على أطراف درب الحياة ... وكالفرحة الزرقاء التي ننتظرُ قدومها من سنين إلى سنين ... وكالأمل المشرق الذي ننتظر أن يقطفنا من حينٍ إلى حينٍ، هكذا جئتِ إلى حياتي يا ذات العينين الخضراوين الواسعتين. عيناك برقٌ لامعٌ بشَّر بقدوم موسم المطر حيثُ لا مطر، ونبأٌ عظيمٌ جاء إلى بلادٍ نائيةٍ انقطع عنها الخير ... مَن أنتِ أيتها المجهولة الجميلة؟ قيل إنّكِ قادمةٌ من مملكة النسيان، وإنك حديثة عهدٍ بديارنا، وقد قيل فيما قيل: إنك لن تُطيلي المكوث في قريتنا الخضراء، فهل هذا صحيح؟؟ أصحيحٌ أن الحال لن يطول بالجمال في قريتنا؟ أصحيحٌ أنّ الجمال مسافرٌ يعشق الترحال دوماً؟ كوني معي لننطلق نحو أملٍ بلا حدود ... كوني معي لنلقي بفرحتنا في أماكن الحياة كلِّها سنلقيها لتستريح على شفتي طفلٍ صغيرٍ بريءٍ يفتح عينيه الزرقاوين الصغيرتين ليبدأ المسير على درب الإسلام في بداية حياته ... سنلقيها عند أقدام أُمٍّ حنونٍ جلست قبالة شمس الغروب تنتظر عودة ابنها الغائب من العمل. هناك يا سمرائي الحسناء سنقف بجانب تلك الزهرة اليتيمة التي نبتَتْ خلف جدران الزمان المتداعية إلى السقوط، لنبعث الحياة في كلِّ قلب يائسٍ أو فاقدٍ للأمل ... ها قد جاء ربيعٌ عربيٌ آخر، أخضرُ بلون عينيكِ الجميلتين باسمٌ يكاد أن يتكلم كما وجُهكِ ... كثيرة هي الأشجار التي نبتَتْ في قريتنا هذه السنة وكثيرةٌ هي الينابيع التي تفجَّرت في حقولنا هذه السّنة، وأني أراها تكرهُ القيود والحواجز والسدود كما عيناك القادمتان من خلف الحدود.
طال ضياعي في ظلام الحياة باحثاً عن طريقي إلى أن امتنَّ الله علىَّ بكِ سراجاً منيراً يأبى إّلا أن يبددَ بنوره ما تراكم على طريقي من أكوام الظلام.
..........................................................................................
الدكتور راجح السباتين
عيونٌ بيروتيّةٌ في عالم النسيان
على رمال شاطئ قريّة الإمام الأوزاعيّ جلستُ مرتمياً في أحضان الذكريات إلى عادت بي عشرين سنةً إلى الوراء أو ما بعد الوراء ... هذه الكلمات مهداةٌ لذات العينين الخضراوين التي ما تجاوزت من العمر ربيعة الثاني عشر حتى قطفها الموت في الحرب المجنونة والمواجهات المسلَّحة السّخيفة التي لا تكفّ عن الاشتعال بين الحين والآخر في بيروت التي أتمنى أن أراها تنعم بالسلام لأعود إليها من جديد ...
هذه كلماتي إليك يا محبوبة العمر، أخطّها بدموعي واستخلص حبرها من دمائي وأبثّكِ إياها نديةً من قمرتي المتواضعة المليئة بأنوار بيروت الساطعة المحفوفة بأشجار عينيك الخضراوين اللتين لا تكّفان عن طرح الثمر ... إنها الكلمات التي جمعتُها من أحلام الأطفال الفقراء في حيّنا وسرقتُ حروفها من دموع الحسناوات اللواتي يتجولن في شوارع "المنارة" بائعاتٍ الياسمين والعطور والريحان اللبناني الفواح ... جاء المساء وخلدت شمس بيروت الحمراء إلى النوم بعد يومٍ مُتعبٍ طويلٍ، فبقيت سماؤنا العذراء هنالك وحيدة "غريبةً" غارقةً في جمال الشفق الأحمر حتى النهاية ... والطيور المهاجرة لا تكف عن السفر والارتحال بين الغيوم الخضراء التي تراكمت في عينيك الدافئتين من جديد ... أتعبتني ذكرياتنا الغالية فحملت وسادتي وأويت إلى مدائن عينيك بحثاً عن مكانٍ أنام فيه لكن دونما جدوى!!!.
آلمتني الحروب وأتعبني طول السفر والترحال لكنني لا زلت مصمّماً على العودة إلى بيروت موطن لقائنا الأول ومحطة انطلاقتي الأوسع ... يا ذات العينين الخضراوين، ألغيركِ تنحني أزهار النرجس ويذلُّ كبرياؤها؟؟ أم لغيرك تغني طيور المهجر في طريقها نحن أشجار لبنان الواحد مرةً أخرى؟؟ لكّ ولبيروت وحدكما الدفء في عالم البرد هذا ...
لك ولبيروت النورُ الساطع في دنيا غشيها الضّباب وأضعف الرؤيةَ في أحيائها ... لبيروت الوحيدة في زمان التكرار المتماسكة في دهر الانكسار .... ولك أيتها المتميّزة في حياةٍ انطمست فيها المعالم وشاعت فيها الأشباه والنظائر ... لك "ولبيروت"؛ فأنتِ بيروت وبيروت أنت. ِأيتها الاستثناء الأجمل في عالم النسيان.
...........................................................................................................

الدكتور راجح السباتين
عائدٌ إلى زقاق المخيم
قُلتِ إنّكِ سترحلين. فما لي أراكِ اليوم تتحدثين عن الرغبة في العودة والبقاء بين أضلع قلبي الأربعة من جديدٍ؟؟ وقلت إِنّكِ عازمةٌ على المضيّ بعيداً وإنكِ ما عدتِ بحاجةٍ إليَّ، فما بالُ دموعٍ جرت من عينيك أراها تنسكب فلا تتوقف إلا بعد جفاف رمق الحياة الأخير؟؟
أكتب إليك هذه الكلمات وفجرٌ آخر على وشك الولادة في سمائي.
أكتب إليك هذه الكلمات التي تعبّرُ عن شعوري وشعور كل أولئك الفقراء والمحرومين الذين أحبّوا الأشياء وتمنّوها لكنهم لم يحصّلوا أياً منها لمجرد أنهم فقراء، فقراء لا يملكون من دنياهم سوى قلوبٍ مُحِبّةٍ ما عادت تقدر على الخفقان في زمان الكبرياء والنفوذ والتمثيل.
ما الذي جرى وطرأ بحيث ذَلَّلَ كبرياءكِ ودفعك إلى العودة إليّ من جديد؟ ستقولين إنَّ ذكرايَ لا زالت تسكن قلبك، وستقولين بأنني محفورٌ في وجدانك باقٍ فيه إلى ما لا نهاية.
سيدتي، بكل ما تبقّى في كياني من ألمٍ وانكسارٍ وتمزّقٍ أقول: لقد عُدتِ متأخرةً، عُدتِ بعد أن تناثرت أشلاءُ الأمل المقتول على يديك بسكين الكبرياء والاستعلاء ...
ستقولين: مالي أراكَ لا تنظرُ إلى عينيَّ اللتين تعشقهما، أم أنّ هنالك واحدةً أخرى؟؟ فأقول: لا، ليس هنالك مُتسعٌ في قلبي لغير أبنائي وتلاميذي الذين أحبهم مثل حقول السنابل الخضراء. وداعاً يا سيدتي، سأمضي في طريقي مع الأولاد حتى أراهم رجالاً يقوم على أكتافهم مجد الوطن. سأتفرغ لصناعة الأجيال وصقل مواهب الأولاد، سأمضي وصدري مليء بعشرات الذكريات البريئة الطاهرة، سأمضي وأنا رافضٌ تمام الرفض لنصوص "المسرحية". ولئن سألتِ عن وجهتي فإنني عائدٌ من حيثُ أتيتُ؛ سأعود إلى زقاق المخيم حيث الفقراء، الطيّبون، وحيث رائحة الخبز الساخن لا تكفّ عن الانبعاث من مخابز الطابون، سأعود إلى بيتنا المستأجَرِ وأعمل على المحافظة على ما تبقّى في خلاصتي من مشاعر صادقةٍ وذكرياتٍ فَوّاحةٍ بما يعبقُ في بيتنا من روائح الخبز المُحَمَّصِ والبطاطا المسلوقة والبرتقال اللبناني، سأعود فلا بدَّ أن فئران المطبخ افتقدتني وقلقت بسبب طول غيابي، سأعود ... نعم سأعود.
............................................................................................................

الدكتور راجح السباتين
حُبٌّ لا يعرفُ الحدود
لا زلتُ أذكرك تطلِّينَ عليَّ بثوب المدرسة الأزرق وعينيك الخضراوين الواسعتين كما كل حقول الدنيا .. كُنّا صغاراً لا يعرف الكذب إلى قلوبنا طريقاً وكانت صورة وجهك الباسم تستغرق وقتي وتستنزف لحظاتي وأبجديات مستقبلي كلها ...
لطالما عشقتُ رؤية الابتسامة مرتسمةً على وجهك الصّغير لأعيشَ بدوري على ذكراها أياماً وأياماً .. كنتِ صغيرةً نعم، لكنّي ظللتُ أراكِ أكبر الناس وأحلاهم ... أَلَمْ أُخبركِ يوماً إنكِ مدينتي الواسعة المليئة بالشوارع والناس والأضواء؟ كنتُ على الدوام أكثر أولاد الصف فقراً وكان بنطالي يجمع عدداً غير قليلٍ من الثقوب والرّقعات ومع كل هذا كلِّه وذاك بقيتِ ترفضين أن تتحدثي إلى غيري من الأولاد؟
لا زلتُ أذكركِ أيتها الحسّاسة الصغيرة التي خصَّها الله بثورة الذوق وأعظمية الجمال ... أنتِ الوحيدة التي ثَمَّنَتْ وجودي في هذا العالم آنذاك. وأنتِ الوحيدة التي حافظت على ما تبقّى عامراً في ذاتي من جدران المحبة والأمل والقابلية للعطاء ... أمّا الآن فقد رحلتِ ودُفنتِ في أحضان بيروت الأكثر دفئاً في عالم الاغتراب والبرودة، وما بقي من حكايتنا التي كانت أحمى من الجمر سوى رمادٍ ساكنٍ أخرس انعقد لسانه فعاد حائراً لا يدري كيف يعبّر عن أحداث المأساة التي وقعت؟ وما أكثر أكوام الرماد في دنيانا هذه! إنها الأكوام الخرساء التي أسكتتها الحيرةُ وأخذها الذهول هي الأخرى فما عادت تقوى على الحديث وما عادت تحتمل استذكار الوقائع وما عادت تتفاءل بشيءٍ مُشرقٍ في هذا الوجود!! أنا ما نسيتكِ وكيف أنساكِ وقد كانت ولادتي ما بين عينيك الخضراويين اللتين آوتا كل المظلومين والفقراء!! عيناك الخضراوان هما موطني الأول فكيف أنساهما؟ ها أنا لا زلتُ أحيا على ذاكركِ وأُحييها كل عامٍ لتبقى مصدر سعادة لي ولكل مُخلصٍ في دنيا الممثلين والممثلات، وفي داخلي صورتك الصغيرة تردد بصوتٍ دافئٍ صغيرٍ: إنَّ للتفاؤل زاويةً ضيقةً صغيرة تمرّ منها أشعةُ شمس الأمل الساطعة كما تمرّ من خلال نوافذ الغيوم في أيام الخريف الباردة. وإنّ مكوث الليل مهما طال فإنّه لا بدَّ إلى رحيلٍ ليأتي بعده وجهُ الصباح حاملاً البشرى الخضراء والفرحة الزرقاء وكلّ الألوان الباسمة الحلوة التي نحبها .. وأخيراً فإن حجارة اليأس مهما كثرت وتراكمت فوق بعضها البعض فإن ماء الأمل لا بدّ مشققها لينبع بالحياة على أنقاضها وركامها، ولذلك فلننتظر، لننتظر قدوم ماء الأمل والحياة، ولنعمل على حفظه إن جاء ...
..........................................................................................................

الدكتور راجح السباتين
فراشاتٌ ... وعناكب
في هذا المجتمع الذي لا يعترفُ بالصّواب إلا لنفسه ولا يقرُّ الحق إلا لمَنْ سار بسيره ولحق بركبه يجد (ابنُ الحق) نفسه في ضيقٍ خانقٍ تنوء باحتماله الجبال، ولكن ما العمل؟ وماذا تقول الفراشة البيضاء وقد وُلدت في عالم العناكب التي لا تفقه سوى نصب الشباك وانتظار الفرائس لتجهز عليها وتستهلك أجزاءها جزءاً جزءاً؟؟؟ ما العمل وقد كان ميلاد (ابن الحق) الرقيقة مشاعره في غابة من الوحوش الصغيرة والكبيرة يحكمها مبدأ "القوة هي الحق"؟؟ وبعد، فماذا تقول الفراشة الجميلة التي حملت على جناحيها أحلى لوحات الحياة؟ ماذا تقول للعناكب؟ وعمّا ستحدثها؟ هل ستحدثها عن جمال الأزهار وروعة عبيرها وشفافية شذاها تحت أنوار الشمس المتساقطة من أعلى؟؟ أم أنها ستحدثها عن بدائع التكوين وعظمة الخلق في دنيا البراءة والجمال؟؟ ولئن حدّثتها، فهل ستفهمُ العناكب مقصود كلماتها تلك؟ لست أدري ...
ثورة الفراشات
ما أصعب الحياة في واقع مجتمعنا المعاصر! إنّه مجتمع العناكب البشرية التي احترفت نصب الشباك وتحطيم أحلام "الفرائس" والإجهاز على ما تبقى من أنفاس الحياة في وجدانها ... بعد ظلمٍ وطول احتمالٍ واستبدادٍ مجبولٍ بالإذلال ما عادة الفراشات تقدر على الصمت أكثر، فقد وصلت لدرجةٍ شعرت فيها بأنَّ الأشياء كلّها فقدت مذاقها الحلو، وطابعها الفريد المتميز، وتصدَّعت ألوان الحياة على جدرانها، ما عادت الفراشات تحتمل وقد أخذها الحنين لماضي الحرية والكرامة وأجهدتها مرارة المذاق الحاضر فاتخذت قرارها بقول (لا) مهما كان الثمن.
من حق الفراشات أن تعترض وتنتفض، من حقَّها أن تتمرد على وحوش الغابة وتعلن الثورة على عناكب كوكب الأرض.
أيتها الفراشات، أجمعي حُسنكِ ولملمي كبرياءكِ واستدعي أنصار الجمال من أرجاء المعمورة وهاجمي العناكب من كلِّ الأطراف ... لتنمو على أنقاضها براعم ثمرٍ جديدٍ حلو المذاق، يبشِّرُ بفجرٍ آخر وأملٍ جديدٍ ينمو فلا يموت ويسير فلا يتوقف، وينتصر ولا يُهزم بعدها أبداً.
...........................................................................................................

الدكتور راجح السباتين
عيناكِ والشتاء ... وأشياء أُخرى
كخطوط أشعة الباهتة التي تخترق زرقة السماء وسواد غيومها في أيام الشتاء الماطرة، وكزهرةٍ صغيرةٍ اخترقت سطح الأرض اليابس وطرحت أنقاضه على جانبيها النديَّيِن لتعلن عن نفسها وعن وجودها في عالم الأشياء الكبيرة، أعلنِت عن وجودكِ في عالمي البعيد ...  
عيناكِ مقتلي وسبب وجعي وأكبر نقاط ضعفي ... هاتان العينان لا أدري لماذا أحبهما كثيراً ولا أدري أيَُ عاقلٍ يحبُّ مقتله؟؟ ألأنّهما خضراوان واسعتان كعيون فناجين القهوة؟؟؟ أم لأنّهما كأسماك الزينة تسبحان دوماً في بحور أفكاري؟ أم لأنهما تبعثان لمحةً غريبةً تشقّ طريقها إلى قلبي مباشرةً؟ أم لأنهما عيناكِ؟؟ كيف لا وأنت تحاصرين بهما حدود العراق وبلاد الشام وبيت المقدس وتسجنين فيهما دونما رحمةٍ كلَّ مَنْ وطأ أرض العشق دون إذن مرورٍ أو جواز سفرٍ أو إقامةٍ أو تصريح عمل؟؟
جاء الشتاء وسقطت الأمطار مرّةً أُخرى وها أنا أجول في رحاب عينيك مرةً أخرى. أحبُّ الشتاء لأنه يثير في قلبي ذكراكِ ويوقظ الحنين في داخلي مرّةً أخرى؛ فالغيوم السوداء التي تملأ الأفق تعيدُ إلى مخيلتي تركُّز الخُضرة وكثرتها في عينيك، والرياح الباردة تنثر في جسدي مشاعر الحب وأحاسيس العاطفة. وهذه الأرض التي تمتلئ ببرك الماء المتساقط من أعلى تذكرّني بتلك الرمال الرطبة التي كنا نمرُّ من على سطوحها سوياً.
لقد أَثَّرَ جمالُ عينيك وروعتهما في نفسي أثراً لا يقل عن ذاك الذي تبثه مياه الشتاء في الأرض حين ترويها وتُذهب الظمأ عنها. كلما أرى عينيك أستذكر قول السيّاب:
 عيناكِ غابة نخيلٍ ساعةٍ السَّحَر                                 أو شرفتان يراح ينأى عنهما القمر
............................................................................................
الدكتور راجح السباتين
أشرعةٌ مزَّقتها الحياةُ
عينان ثمينتان في زمان الرخص، عينان صادقتان تراكمت في داخلهما غيوم كثيرةٌ تحمل قصة صراعٍ أبدي مرير بين أمواج متلاطمة تتكسر في وجه صخور شاطئ النسيان ... هنالك أبصر الحب أول أنوار الحياة قرابة الميناء الحجري المهجور، هنالك وُلدَ الأمل فتياً بين أكوام الحديد والحجارة والصدأ في مقبرة السفن القديمة العجوزة وأشرقت أنواره لتبثّ الحياة في أنفس المراكب الخشبية التي لا تنفك تحدث الزائرين عن قصص الغواصين والكنوز والمعارك من قبل البحار ... وتجوب طيور النورس البيضاء بنشيدها الساحلي المشهور لتحتفل على طريقتها بميلاد هذا الحب البريء الأول في تلك المقبرة الموحشة المخيفة.
كانت هذه هي القصة التي يُحدّثني عنها دوماً القبطان العجوز "صفوان". الذي أخذ البحر منه ابنته الصغرى منذ سنتين مضتا ... كثيراً ما تدور أحداث القصة في رأسي، ولست أدري على أيّ مدىً يمكن أن يكون صحيحة؟ أنها غريبةً غريبة؛ وإلا فهل يُعقل أن يُولد الحب ويرى بصيص الأمل وسط تلك الأشرعة التي تتمزق فوق شطآن إلياس العاصف بأهل المحبة الصادقة المذيقهم طعم الألم ليل نهار؟؟ أيعقل؟ أيعقل أن تلوح بارقة أمل من أفق مقبرة السفن تلك التي تنبعث علائم الموت من كل تحت حجر هرم فيها؟؟؟
أيعقل أن أعيش لذلك اليوم الذي أرى فيه ابنة القبطان الصغرى تلعب بين أفنية المراكب وعلى رأسها قبعة القبطان البيضاء المرسومة على مقدمتها مرساة ذهبية تلمح تحت أنوار الشمس الساطعة؟؟ أم هل يعقل أن أعود للسكن في تراب تلك العينين من جديد؟؟؟ لست أدري.
............................................................................................................

الدكتور راجح السباتين
جمال الشتاء
أوراقٌ خريفيةٌ صفراءُ تناثرت هنا وهناك على وجه الطريق للرطب المبلّل بقطرات مياه الشتاء البارد الحنون، أشجارٌ عاريةٌ تنظر إلى السماء بوجهٍ شاحب أصفر وكأنها لم تذق طعم الدفء منذ أيام بعيدة.
الطريق القروية متعرجة طويلة عانق ترابها الأحمر الدّاكن هدية السماء اللطيفة أنه المطر، الذي كانت قطراته ضاحكةً تسقط بتتابعٍ وانتظام، وعلى جانبي هذا الطريق القديم ظهرت بعض الأعشاب الخضراء اليانعة، التي كانت هي الشتاء، ويا لهذا الأعشاب الصغيرة فهي على الرغم من قسوة الرياح، وشدة البرد إلا أنها بقيت واقفةً هناك تنظر إلى السماء نظرة المتأمل الحالم وقد انتشرت من حولها انتشرت الأكواخ الخشبية الفقيرة في أنحاء القرية وكانت كلهّا صامتً لا أثر للحياة فيها سوى دخان المواقد  الخشبية القديمة المتصاعد من مداخن أسطحها المهترئة معانقاً السماء الواسعة بهدوء وسكونٍ ولطفٍ.
وكانت عيون الأطفال الصغار تنظر من وراء زجاج النوافذ ترقبُ سقوط الأمطار وتجوال الرياح بين البيوت بنظراتٍ مثيرةٍ للدهشة مستغربة جمال المنظر في الخارج.
وما أرى نظراتهم تلك إلا دليلاً على السعادة التي تغمرهم قلوبهم حتى لقد كادت عيونهم تنطق لتعبر عن جمال المنظر وتحكي عن روعة الحال وتحدّث عن الهناء الذي كان يملأ صدورهم، نعم، فلا شيء أفضل.

...................................................................................................................................................................
أفكارنا، آمالنا، أحلامنا
لن تتساقط على الطريق

                                                                     د. راجح سباتين

درَجَتْ عادةُ الناس على اتّخاذ الأصحاب والإخوان والأصدقاء كلٍّ حسْبَ الدرب المسلوكة فيها هذه الصحبة أو الأخوة أو الصداقة؛ فمنهم من كان له صديق في العز والجاه، ومنهم من كان له صديق في رحلة الحظ والتوفيق، ومنهم من كان له صديق في درب الفقر الطويلة المتعرجة، ومنهم من كان له صديق في دروب الفرح والسرور والمرح… أمّا أنا فلا أراني كنتُ صديقاً لصديقي إلا في دروب المشاكل والنكد ولا أراه كان صديقاً لي إلا في دروب الأحلام والفشل؛ فإننا ما سِرنا في محاولة إصلاح مسألةٍ إلا ورأينا الفساد فيها قد ازداد، لا لشيءٍ ولكن لأننا تدخَّلْنا وحاولنا الإصلاح! وما خرجنا في سبيل الله يوماً إلا وارتفعت ضحكات الفرح ثمّ وقعت على رأسينا أطناناً من الهم والغم والنكد! وما زُرنا مريضاً ساعةً من يوم ودعونا له بالشفاء إلا وانتقل إلى رحمةِ ربه في ثاني يوم لزيارتنا، إن لم يكن في اليوم نفسه! وإنّي وصديقي هذا لنعتقد أصحَّ اعتقادٍ أنّ العالم من حولنا مليء بالخطأ والغلط، ولكنَّ فيه متسعاً لبعض الصواب، الذي نريد أن نحشر أنفسنا فيه. ونعتقدُ فيما نعتقد أنَّ العالم من حولنا مليءٌ بالحزن والأسى إلا أن فيه موضع قدم لشيء من الفرح والسّرور الذي نطمع أنا وصديقي أن يزورنا يوماً قبل الألفية الرابعة…

          لقد تعاهدت مع صديقي على التمسُّكِ بهذا النهج الذي اخترناه لأنفسنا مهما كان الحزن الذي ينتظرنا في نهاية المطاف، ومهما تعاظم حجم الاتّهامات لنا بأننا نسيرُ في طريقٍ مسدودٍ وأننا ننفخ في قربةٍ مقطوعةٍ وأنّنا بدعوتنا لهذا الدّين إنما نسيرُ عكس اتجاه الزمن وندور بعكس عقارب الساعة وأنّ الإصلاح الذي ننادي به مجرد سرابٍ وأوهامٍ سرعان ما تتبدد لتكشف عما وراءها من صحارى قاحلةٍ جرداء…
سلامُ الله عليك يا صديقي، وعفا الله عنك وأنت لا تَنفكُّ عن مساءلتي عن أولئك البشر الذين يسعدون ويكبرون وتكبر معهم مشاعر الكيد والكراهية لهذا الدِّين كلّما رضعوا المزيد من حليب الخنازير! ماذا عسايَ أفعل؟ وهل أخبرتُكَ يوماً أنني أحمل مفاتيح القلوب أو عصا موسى، عليه السلام، التي هزم بها السَّحَرةَ وفلق بها قلب البحر الأحمر؟ مطالبُ الناسِ يا صديقي كثيرة ورغباتهم أفقيةٌ مُستعرضةٌ تبدأ ولا تنتهي، وأنَّى لمسكينٍ مثلي أن يُرضي خواطرهم ويجلو الأحقاد من قلوبهم؟؟ شماتتهم تشعرني بالغُربة وتصيبُ روحي بالبرد فأجدني في شَوقٍ لا ينتهي إلى الشمس التي تُمدني بالحياة وتغُذِّيني بشعاع الكفاح والرغبة في الاستمرارية. الشمس في عُرفي عنوانٌ كبيرٌ تندرج تحته كل الحروف والكلمات والعناوين الباحثة عن الدفء والحنان. الشمس عندي هي الحياة؛ لأنها أوضحُ وأسطعُ وألمعُ مِن كل شيء في دنيانا، دنيا سماسرة الظلام الذين يكرهون الوضوح والسُّطوع والصراحة… كُنّا يا صديقي، قد اتفقنا مرةً ومرةً ومرةً على أننا نعيشُ في غير أيامِنا، أيام الإسلام والعروبة، وأننا نحيا في نهايةِ عهد البشر بالحياة على الأرض، بناءً على ما تواترت عليه الأحاديث  النبوية الشريفة والتي دلت بشكل قاطعٍ ويقينيٍ على أن الساعة قد اقتربت لا شك فيها.
          أعتقدُ يا صديقي أننا قُمنا بواجبنا على أكمل وجهٍ ممكنٍ، واعتقد أننا ألقينا بذورنا في الأرض المناسبة والمكان المناسب ولئن كان هذا الزمان زمانهم غير المناسب. نحن بانتظار الثمر سوياً يا صديقي، نحن على طريق النور والحق واليقين سوياً يا صديقي، ولا لن نتساقط على الطريق كما تساقط العشراتُ قبلنا، لا لنْ نتساقط وكيف نتساقط؟ وجذورنا في أرضِ الله وفروعنا في سماء الله، وماؤنا قرآنه الحكيم الذي أُشربناه في صدورنا منذُ ريعان الشباب منذ التقينا سوياً…
          كُنّا منذ البداية قد اتفقنا على القيام والنهوض في سبيل الله، سبيل الله الصعب الذي حُفّ بالمكاره والمخاطر والملوّثين والموبوئين والمتلوّنين مِمن يتنفَّسُون الكراهية والأنانية ويعيشون على امتصاص أحاسيسنا ودمائنا.
          كفكف دموعك يا صديقي وانظر إلى الطّرف الآخر من هذه الحلبة الدّامية إلى الطرف الآخر من هذه الحلبة الدامية، انظر إلى الجانب المشرق ولا يحزنك قول أولئك الذين يسارعون في الشر وأولئك الذين يخافون على أبنائهم من الصلاة واللواتي يخفن على بناتهنَّ مِن الحجاب والسير على درب الهدى وصراط الله المستقيم.
          أعاهد الله ألا أجعلهم يهنؤون لحظةً يُسيئون فيها إلينا من قريبٍ أو بعيدٍ. إنها حربٌ يا صديقي، لا يردُّ النار فيها سوى النار ولا يُسكت فيها المدافع فيها غير المدافع ولا يُنكّس الراية فيها غير الراية، إنها رايتُنا بمشيئة الله. كُتب علينا أن نركض يا صديقي وكُتب لنا أن نبكي بدموعٍ هي أثمنُ ما في هذا الوجود، إنها الدموع التي سالت من خشية الله وفي سبيل الله…
          واذكُرْ على الدوام صورة الأولاد الصغار وهم يتزاحمون للصلاة في المساجد واذكر على الدوام صورة البنات الصغيرات اللواتي لم تتجاوز الواحدة منهنّ سن الحادية عشرة وهن يتسابقن للصلاة وقراءة القرآن عند سماع النداء للصلاة.
          هذا من فضل الله علينا وعلى الناس، هذا من نِعَمِ الله علينا وعلى الناس، هذا هو النصر الأكيد ولئن جاء بطيئاً… هذه هي البداية في عودة أبنائنا وبناتنا إلى الحق خُطوةً خُطوةً بعد أن ساروا طويلاً في درب الباطل خطوةً خطوةً.
          اذكر هذا كلّه يا صديقي واعلم أننا وبالرغم من كلّ ما عانيناه من صدٍّ ومحاربةٍ وتضييقٍ، وبالرغم من كل المواجهات التي خضناها فكان البعض منها لصالحنا وكان بعضها الآخر غير ذلك… أقول بالرغم من ذلك كله فلن نيأس يا صديقي، لن نيأس. ولتذكر يا صديقي حكاية النصر الأول للداعية القدوة الأول محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، أنظر كيف وقفَ وحيداً في مواجهة فِكر مجتمعٍ كاملٍ من أصحاب الفوضى والمصالح والنفوذ والجبروت، انظر كيف أعدّوا العدة لحربه وقتاله وأخرجوه من بلده وحاربوه في نفسه وماله وعياله، وبسطوا له أسباب العداوة والبغضاء وقذفوه بِتُهَمِ السّحر والجنون والشّعر الذي ما كان ينبغي له، وأذكر بداية انتصاره بأن تجمّع حوله مَن تجمَّع من الأخوة والأصحاب والأصدقاء الذين عاهدوه كما تعاهدنا وناصروه كما تناصرنا وآزروه كما تآزرنا، وكانوا معه في الحلوة والمُرَّةِ والعذاب والنعيم والشدَّة والرخاء، ثم أمدّه الله ببشائر النّصر واليقين، البشارةَ تلو البشارة حتى كان نصره الأكيد وحتى أشرقت شمس الإسلام على كل ذرَّةِ ترابٍ في جزيرة العرب وما جاورها من الجزائر والبلدان. هي ذاتها حكاية الدعوة إلى الله يا صديقي وهي ذاتها حربُنا مع أصحاب الجاهلية يا صديقي ولكنّ الذي اختلف أساليبُ الجاهليين الجدُدِ في حربنا، ولئن كُنَّا قد اخترنا لأنفسنا السّير على هذا الدين المستقيم والدروج على منهج النبيّ، صلّى الله عليه وسلم، في الدعوة إلى الله فأقلُّ القليل أن نحتملَ مثلما احتملَ وأن نصبرَ كما صبَر وأن نرابط كما رَابطَ وأن نتوكل على الله كما توكّل،وليكن عزاؤنا كما كان عزاؤه وعزاءُ صاحبهِ أبي بكر (لا تحزن إنَّ الله معنا)…
.................................................................................................................................................................
يا صديقي في رحلة الإصلاح…
الدكتور راجح سباتين
سلامٌ من الله تعالى عليك ورحمةٌ وبركاتٌ، وبعد؛
فقد جاوزتْ فترةُ أخوّتنا وصحبتنا العشرين سنةً كنتَ خلالها نِعم الأخ وحُسنَ الصديق وحبّذا الرفيق… مع امتداد الوقت وانقضاء دقائق الزمن، واستدارة عقارب الساعة وعقارب البشر لكي تلسعنا بإبرها السامة، كنت ألحظُ نموّكَ فِكراً وإحساساً وتركيبةً شخصيةً ولا زلتُ ألحظُ ذلك وأنا في غاية الاطمئنان إلى سلامة النّهج الذي اخترته لنفسك (نهج السلامة العامّة والابتعاد بالمحاورة عن منطقة الجزاء) ومع اعتقادي بأنّ ثمار هذا النهج لا تتأتّى بسرعةٍ أو سهولةٍ إلا أنني مطمئنٌّ، كما قلت، على أنّ هنالك ثماراً ستأتي ولو بعد حين… بالرغم من صعوبة الدرب الذي اخترنا لأنفسنا الدروج عليه وبالرغم من المشقّة البالغة التي تحيط بنا وبكلّ الذين يحملون "لا إله إلا الله" في قلوبهم وعلى ألسنتهم وعلى جوارحهم وبالرغم من هذه الأشواك والمسامير وكسرات الزجاج التي تتناثرُ حتى تكاد تغطي وجه الطريق إلا أنّني لا أحملُ في نفسي مقدار ذَرّةٍ مِن قلق، وكيف القلق؟ ونحن ندعو إلى الله ونعمل صالحاً ونعلنُ على رؤوس الخلائق أننا من المسلمين. واعلم أنّ المسلم، يا صديقي، صاحبُ هدفٍ وغايةٍ وليس أيّ هدفٍ أو غايةٍ وإنما العلياءُ وجنّةٌ عرضها السموات والأرض أُعِدّت للمتقين، وإنما أكتبُ إليكَ هذه الكلمات لتقف بها على بعض من الأمور التي تُتعبني وتشغلني وتأخذ وقتي كلّه إلا قليلاً، أناجيك بها وألتمسُ عندك حسن المشورة والعون…
          يا صديقي في رحلة الإصلاح، حذارِ من لسعات العقارب… حذارِ من عضّات الحيّات حذارِ… الجميع يرصدون أفعالنا وأقوالنا، وأعراب المدنيّة المزيّفون ينتظرون سقوطنا… ونصارى نجران الجدد يتربّصون بنا الدوائر تماماً كما كانوا يتربّصونها بقدوتنا وحبيبنا صلّى الله عليه وسلم…
          وفوق هؤلاء كلِّهم وأولئك نرى خصمنا الأكبرَ أعداءَ أنفسهم أبناء جلدتنا الذين يعادون الدعوة ويُحادّون الله ورسوله من حيث لا يشعرون… نراهم مجموعاتٍ كُبرياتٍ متفرعاتٍ مُتشعباتٍ؛ فمنهم عدوّ الصلاة الذي يراها عودةً بأبنائه إلى العصور الوسطى! ومنهم عدوّ القرآن الذي يؤمن ببعضه ويكفرُ ببعضه الآخر! ومنهم عدوّ الحجاب الذي يراه عُقدةً ومقتلاً ونقطة ضعفٍ يرغبُ في نسيانِها وتجاهُلِها وحماية زوجته وبناته منها ما استطاع إلى ذلك سبيلا!
          ومنهم الأمهاتُ العجائز اللواتي يقفنَ سدوداً منيعةً وجُندياتٍ محارباتٍ لكلّ دعوة إصلاحٍ تستهدف أبناءهن أو بناتهن؛ العجائز اللواتي يحاربن شرع الله بأسلحة المدنيّة المقنّعة والألوان المبهرجة والملابس المزركشة وهنّ يعلمن علم اليقين أنّ ذلك كلّه إلى زوال. تظنُّ الأمهات العجائز أنفسهنّ شيئاً مُميزاً أو نجماتٍ لامعاتٍ فيجاهدن في سبيل جعل بناتهنّ يسرنَ على نهجهن واتخاذ أسلوبهنّ وتجربتهنّ في (التحرّر) أسلوبَ حياةٍ ومنهجَ مستقبلٍ وهنَّ لا يدركن أنهنَّ يسرنَ على دروب الهالكين ويسكُنّ في مساكن الذين ظلموا أنفسهم…
          يا صديقي في رحلة الإصلاح، كم يثقلني هَمُّ مخاطبة الآباء والأمهات، هؤلاء المحمولين على ظهر الزمان، الذين نزع الله من قلوبهم الرحمة والحنان، فأثـقلوا حاضرنا وحاضرهم ومستقبل أولادهم بالأوجاع والألم والخُسران!
          كم يُثـقلني الحديثُ عن هموم الطفولة البعيدة عن الإسلام والأمان! ما الذي يمكن أن نتوقعه من مستقبل لأطفالٍ بلا طفولةٍ وبلا إرادةٍ؟ أيُّ نوعٍ من ألوان العذاب يمكننا أن نتخيّل لهم في غدهم الآتي؟ لا أرى في هذا الأفق سوى السواد الذي يرفض أن يتلوّن، والضيق الذي يكره أن يتّسع، والدموع التي عاهدت العيون على التّواصل ما تواصل الليل والنهار، وعلى الاستمرار ما استمرت الحياة وعلى الكراهية ما دام الأمل ينبُضُ بالحياة في أرضنا؛ أرض العرب المقهورين الحزانى الذين كانت أمنياتُ السّعادة حراماً عليهم حلالاً على من حاربهم وعاداهم من الشعوب والأمم.
          يؤسفني، يا صديقي في رحلة الإصلاح، العَودُ للحديث عن الأمَّهات الضالاّت المُضِلاّت الباطلات المُبطلات اللواتي تُصرُّ الواحدة منهُنّ على جعل ابنتها الصغيرة نسخةً عنها فتسلبها من ألوان الحرية ما تسلب، وتحرمها من أحلام الطفولة ما تحرم وتؤكد على ضرورة تسجيل ابنتها لوقائع يومها حتى تعود صديقتنا الصغيرة في أمسها لِتُكرِّرَ على مسامع أمّها ما حدث معها بالكلمة والحرف، وبالشهقة والزفرة، وبالهمسة والصرخة تماماً كأنها آلةُ تسجيلٍ أو أداةُ تصويرٍ لا تملك في وجودها إحساساً بالوجود ولا تستشعرُ في ذاتها إحساساً بالذات. هي محرومةٌ من التحكُّم بمشاعرها؛ ليس لها أن تحبّ أو تكره، ليس لها أن تقبل أو ترفض، ليس بيدها أن تكون أولا تكون إنّما الأمر لأمها أولاً وآخراً؛ فلا يجوز لها أن تحبّ إلا إذا رغبتْ أمُّهَا بذلك وليس لها أن تقبل إلا إذا وافق هوى أمها ذلك، وليس لها أن تكون إلا إذا وافق هوى أمها ذلك. ما سمعنا في الملّة الأولى عن أمهاتٍ ينزلن من السماء! ولا حدّثنا أساتذتنا عن أمّهاتٍ كانت فيهن النبوّة…
جروحنا في رحلة الإصلاح يا صديقي كثيرةٌ واسعةٌ مؤلمةٌ، وحكايتنا في رحلة الإصلاح كحكاية المكتوف الذي ألقوه في الماء وقالوا له: عليك بالسّباحة ما استطعت وإياك إياكَ والغرق!
كلما تجذبني هذه الدّوامة أراني أحنُّ إلى المهجر والغربة والابتعاد عن دائرة الألم، ولستُ أدري هل كانت رغبتي في الهجرة هروباً من الاستمرار في مصارعة الواقع العربيّ بلا طائل؟ أم أنها قناعة صحيحة جاءتْ بعد تجاربَ طويلةٍ مريرةٍ مبدؤها الدموع ومُنْتهاها الحَزَنُ؟
          يا صديقي في رحلة الإصلاح، آلمتني المُتداخلات والمتناقضات، وأنهكني ما يدور في عالم (أبناء المدارس) من مشكلات القهر وحكايا الألم… إنما أريدُ أن أراهم في أحلى صورةٍ وأحسن حال، أريدهم أن يكبروا بسرعة ليأكل الوطن من خيرهم وثمارهم مبكّراً، أريدهم أن ينضجوا قبل الأوان وكُلّي خوفٌ من طعنةٍ جديدةٍ أو صدمةٍ مفاجئةٍ تذهبُ بما استجمعتهُ من قوةٍ وتوازنٍ وحُسن تقدير، فتعيدني إلى أبجديات الكراهية والأسى والفوضى وتُثبتني في أرض المعاناة والألم…
          أعذرني يا صديقي إنْ أنا أثقلتُ عليكَ بهمومي، أعذرني فما أمرَّ من أن أشهد انخناق الطفولة في عيون هؤلاء الأولاد الصّغار! وما أصعبَ من أن أنتزع نفسي من جراحات الألم التي تملأ هذا السّجن العربي الكبير!
          أعذرني يا صديقي، وكن على ثقةٍ بنصرٍ أكيدٍ جديدٍ قادمٍ ليجلو كلَّ ما سلف من تراكمات الفشل وتساؤلات النفس واتهامات القلب وأوهام الانهيار الذي لا تتبدّى أسبابه إلا بعد حين…

.................................................................................................................................................................
إحباطات التجديد بين المعلمين والعبيد

الدكتور راجح سباتين

          كنتُ قد امتهنت التعليم ستَّ عشرةَ سنةً، ذقتُ خلالها العذابَ ألواناً والماء علقماً ورأيتُ نجوم الليل تتلألأ وسط النهار وكأنها آلافُ الشموس. وفقدتُ صوتي ولوني وسمعي وبصري، ولم تبقَ في دماغي سوى بقايا من الأفكار الحمقاء آثرتُ أن أنسحب وأنجو بها وأعيش معها البقيّة المتبقِّية من عمري الذي ذهبَ مع الريح والمجد العربيِّ الذي ذوى وهوى، وما عاد أحدٌ يذكره بخيرٍ في زمن الصَّمت الأمريكي المطبق والحرية الجاثمة على صدورنا حتى تطلع الشمسُ من مغربها… وقد ترددتُ زمناً طويلاً قبل أن أدفع بكلماتي هذه إلى الطباعة وأخرجها إلى حيّز النور، اختزنتُ فيها أحاسيسي ومشاعري التي لازمتني طيلة السنوات الماضيات، إضافةً لما عاينته وعشته من واقع عشرات المعلِّمين في عهدٍ تناسى فيه الناسُ حميدَ الأخلاق وسادَ بينهم مَنْ كان عدواً لأهلها، وفي عهدٍ علا فيه صوتُ "الدراهم والدنانير" على كلّ صوت…
          طيلة سنواتٍ مضتْ من التعب والمحاولة والكفاح لم يختلف واقع معلّمينا في ظلّ هذه القوانين عن واقع العبيد أيّام الإقطاعية الظالمة التي كانت وستبقى وصمةَ عارٍ في جبين أبناء آدم إلى يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
          شعور المعلمين هو ذاتُهُ شعورُ العبيد الذين يتجدَّدُ ذلُّهم كل حينٍ وحينٍ، شعور العبيد الذين كانت العزةُ حراماً عليهم حلالاً على غيرهم…
          وإنّما هي عبوديةٌ معاصرةٌ مع اختلافٍ شكلّيٍ طفيفٍ في لون العبيد وتفصيلات ملابسهم ونوع القيود التي تحيط بهم والعلاقات التي تربطهم بالأسياد الذين عاثوا في أرض الله فساداً…
          الويلُ كل الويل لِمَنْ حدّثته نفسهُ بالحرية… العذاب شرُّ العذاب لمن همَّ في خاطره ولو لجزءٍ من الثانية أن يكون شيئاً غير الذي يريدُ له الأسياد أن يكون… والحريقُ بئسَ الحريقُ لمن ظهرَ على جارحٍ من جوارحه أيٌ من بوادر التمرّد أو الثورة…
          الويلَ كلُّ الويلِ لمن شَعَرَ من العبيد أنّه متميزٌ أو حاول أن يُشعر الآخرين بذلك، فجزاءُ هذا العبد أنه سَيصلى سعيراً ويدعو على نفسه ثُبُوراً وينقلب إلى أهله مشلولاً؟ ذلك أنه استهان بالأنظمة والقوانين وتعدّى رغبات الأسياد الموجودين وجاوز مالا يُتَصَوَّرُ تجاوزه من الحدود.
          كلماتي دموعُ ألمٍ وقلمي خنجرُ قهرٍ ولساني لسانٌ لكلّ أولئك الذين يحلمون بالحرية ولا ينفكُّ حلمها السّاحر يراودهم في منامهم يوماً بعد يوم، ولكن كيف السبيلُ إلى الحرية والخوفُ يأتي العبيدَ من كلّ الجهات مِن فوقهم ومِن تحتهم وعن يمينهم وعن شمائلهم؟
          كيف السبيلُ إلى الحرية والعبيد منقسمون بين خائفٍ وشجاعٍ وقانعٍ ورافضٍ ومستقيمٍ ومائل؟ كيف السبيلُ إلى الحرّية وبعضُ العبيد قد استمرأ العبودية واستلذّ طعمها حتى حين؟
          هنالك من كلِّ بُدٍّ مجموعة من العوامل التي سَبّبتْ لنا هذه النكبات والآلام كلّها… أعتقدُ أنَّ الجهل يكون أفضل من كل أنواع المعرفة الإنسانية عندما يأتيكَ أعرابِيٌّ ورثَ عن أبيه أرضاً فباعها ثمّ استثمر المال المكتسب في مشروع (مدرسة) وكانت حكمة الله تنصّ على أن تَكونَ واحداً من الموظَّفين في مدرسة هذا الأعرابيّ الأخرق الذي يعشق التحكُّمَ بهواكَ وعقلكَ وضميركَ عن بُعدٍ تماماً وكأنك جهازُ تلفازٍ ينيركَ وقت يشاء ويُلغيكَ وقتَ يشاء!! تصوّر، يا رعاك الله، أن يُكتبَ عليك أن تعمل لدى أعرابّيٍ مثل هذا يُلغي وجودكَ وفكركَ وعلمكَ ومنهجكَ وحضارتَك وشهادتكَ الجامعيةَ التي ذقتَ الأمرّين للحصول عليها، تصوّر أن يلغي هذا الأعرابي كلّ هذا الكفاح والقيم والمكتسبات لمجرد أنكَ خالفتَ رأيه! ومن ذا الذي أعطاهُ هذه السُّلطة وهذا النفوذ؟ إنه مجتمعنا وقوانيننا، وأنها شريعةُ المال والعيال والعقل المريض! إنها شريعة مَنْ مَلكَ القرش ساوى قرشاً ومن فقده فهو لا يساوي شيئاً دونه!.
          أعتقدُ أنَّ مرارةَ الجلوس في غرفة اجتماعات سيّدنا الأعرابي عندما يرأس الجلسة أضعافُ مرارةِ العلقم والحنظل. وأعتقدُ أنَّ الضغط النفسيَّ الذي يُصيبُ المعلمين في تلك الجلسات أثقل من ضغطِ الفيل العجوز على صدر نملةٍ عمرها يوم واحد. كل ذلك تشعر به وأنت ترى الخائنَ يحمل شعارات الأمانة وتستشهدُ الجبان يرفع لافتات المروءة والشجاعة وتستحضرُ صورة المؤتمرين الذين احترفوا لبس الأقنعة وتبديل الوجوه كل حين وحين.
          لطالما تساءلتُ بيني وبين نفسي: أما كان خيراً لي لو بقيتُ على جهلي منذ الطفولة وما طرقتُ أبواب الكتاتيب وحلقات العلم والمدارس والجامعات؟ أما كان خيراً لي لو التصقتُ بمعلّمٍ يشربني  مهنة الحدادة أو السباكة أو النجارة عوضاً عن معلم اللغة العربية الذي جعلني أعشقُ اللغة وأهوى الحروف وأُدمِنُ على قراءة دواوين الشعر والمقامات؟
          ما كان ينقصني لو أنني بقيتُ في قريتي أزرع القمح وأداعبُ السنابل وأمازح الغنم على رأس جبلٍ أو في سفح وادٍ من وديان العرب التي نسيها الزمان؟
          ما كان ينقصني لو أنني بقيتُ في الريف الأخضر النقي وركلتُ هذه المدنيّة الحمقاء المزَّيفةَ بقدمي وبقيتُ أعبدُ الله حتى يأتيني اليقين؟
          ما الذي أغراني بالذهاب إلى المدينة والانتساب إلى أهلها المُلَوَّنين؟ لماذا لا أتركُ هؤلاء العبيد وأخلعُ بدوري ثوب العبوديّة وأتناسى مهنة التعليم وأعودُ لمصاحبة الأغنام؟
          وأراني اليوم أجلسُ وفي ذاتي وَجهانِ مختلفانِ وشخصيةٌ مزدوجةٌ لا يقبلُ وجهاها الالتقاء بحالٍ من الأحوال! وكيف حدث ذلك؟ ومن أين جاءني هذا المرض؟ مِن التعليم طبعاً، ومَنْ تسبب في ذلك؟ هم مِن كلَّ بُدٍّ بائعو الكلام، المطوّرون التربويون في بلادنا، أصحاب "الكروش" والقروش الذين يطلبون إلى المعلم أن يكون وردةَ ياسمينٍ فواحةً، وهم لا يقدِّمون له سوى الشقاء ولا يحيطونه إلاّ بصحارى قاحلة تمتدُّ ما بين المشرق والمغرب! يُغرِقون المعلم بالمتناقضات والمتفاوتات ويأمرونه أن يكون أحرصَ الناس على التوازن والعدالة والثبات!
          في عالمنا الثالث، يا رعاكَ اللهُ، ترى العجبَ العُجاب والغريب المستغرَبَ! عندما ينظر الإنسان بمنظار الواقع في عالمنا الثالث فليسَ بوسعه سوى أن يرى العدالة ظلماً، والإبداع إحباطاً، والآمال يأساً، والأفراح أحزاناً… عندما ينظر بمنظار الهاربين من مواجهة الواقع الشاردين إلى بلاد الخيال فإنه يرى الرقود أيقاظاً ويرى الحمقى عباقرةً واللصوص أشرافاً، بل أبعدُ من ذلك فإنه يرى الموتى أحياء، والأفيالَ عصافيرَ تطيرُ في سماء الله الواسعة البعيدة.
          يا أمتي، يا أمّة العرب والمسلمين، ما هكذا علّمنا الإسلامُ أن نصنعَ بمَنْ أحسنَ إلينا وصقل عقولنا وحارب في سبيل صنع العقول العربية والأنفس المؤمنة والذوات العزيزات.
ما هكذا نقابل الإحسان والمعروف… ما هكذا نعامل معلّمينا ما هكذا…
          أيها المعلمون الأفاضل، نُعيدُ عليكم ما علّمتمونا إياهُ من كلمات الأمل ونحن على مقاعد الدراسة نعيدُ عليكم كلامكم فنقول: عند نهاية الثلث الأخير من الليل تنبلجُ أضواء نهارٍ جديدٍ وظيفتُه أن يمحو الظلام ويجلو الأحزان ويأتينا بحلو الأحلام ويزرع في أفئدتنا الرغبة في العطاء بعيداً عن هذا الضّيق الخانق والعيون الشاردة والقلوب الهاربة والهموم التي تحاصر الوجه العربي من كل جانب… فشكراً لكم، شكراً.
          شكراً لكم لأنكم صنعتُم لنا الحياةَ ورسمتم طريقَ المستقبلِ بريشة المحبّة حِبرُها الحنان والأمل والرجاء وملأتم الدروب ورداً وغرستم في عقولنا بذور البحث عن مستقبلٍ أفضل، وكنتم أحرص الناس على ربطنا بجذورنا، جذور الأصالة والعراقة والنَّخوة العربية، التي أضحت يومنا هذا هدفاً لكل حاقدٍ ومتآمر وباحثٍ عن تسديد الديون.
          معلمونا شموسٌ لا تغيب وأقمارٌ لا تحتجب وينابيع لا تعرفُ من الحياة شيئاً سوى التدفق والعطاء…

....................................................................................................................................................................
وصيّة أستاذنا، الذي فارق…

د. راجح سباتين

          تيقّن صاحبنا أنه مُقبِلٌ على الرحيل، وأنّ الغربة في شوقٍ للقائه بعد طول انتظار، وقد آلمته دموعُ أصدقائه الصغار وطلاب مدرسته الذين يعلّمهم وعصرت دموعه التي سالت دونما إذنٍ من أو رغبةٍ، فكتب لهم كلماته التالية والتي تجمِّعت بعد شقاءٍ عظيمٍ وتعاسةٍ قاتلةٍ ومحبةٍ جاوزت حدود المستحيل…
          لست أرغبُ في كثرة الحديث عن الرحيل ولكنني يا أحبّائي أحبُّ دوماً أن أتحدّث عن بدايةٍ جديدةٍ. كنتُ ومنذ بواكير طفولتي أكره الحديث عن الرحيل، وأكره أكثر ما أكره أن أترك أصدقائي وأقْراني وأن أكون الوحيد الذي يغادر تجمّعاتهم البريئة وحارتهم الواحدة ومخيمهم الترابي ويذهب للبحث عن بدايةٍ جديدةٍ في مكانٍ جديدٍ… وأذكرُ فيما أذكر أنني كنتُ أيامها من أدهى أولاد الشارع ومن أبرعهم في إسالة الدموع وتوظيفها لكسب تعاطف المحيطين بي من الكبار والصغار… ومع تقادم الأيام وكثرة التجارب وتوسّع المدارك بدأتُ ألمس فائدة الرحيل وأتذوق حلاوة التعرف على صُحبةٍ جديدةٍ وطعم النجاح في مكان آخر، هذا إضافة لعدم القدرة على امتلاكي قرار الرفض أو الموافقة عندما تقرر عائلتنا الرحيل من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، أو من مدينةٍ إلى أخرى أو من حيّ إلى آخر… ولمّا كبرتُ كبرتْ معي هذه المشاعر والأحاسيس ولا زلتُ إلى يومي هذا أكره الحديث عن الرحيل ولا أقبلُ التغيير بسهولةٍ، ولا زالت كلمة المرارة أكثر الأوصاف التي أراها مناسبة لأصف بها الرحيل، ولكنني تعلمتُ أنّ في كل بدايةٍ جديدةٍ خيراً وأن في كلّ تجربةٍ جديدةٍ فائدة وأن مع العسر يُسرا…
          دعوني لا أرى الدموع في عيونكم بعد يومي هذا ودعوني لا أشعر بأنكم نقطة من نقاط ضعفي التي يستغلّها خصومي للضغط عليّ من جديد… دعوني أرحل لأرسم بدايتي مع أطفال آخرين وبحروف أخرى على مسرح آخر وفي مسرحيةٍ أخرى… لا أريدُ أن أرى هذا الهمّ والحزن على وجوهكم من قريب ولا من بعيد، فأنتم تعلمون كما أعلم أنّ الهموم والأحزان لا تناسب هذه الوجوه العربية الصغيرة.
          يا أخوتي الصغار إنّ لنا في هجرة رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، ورحيله من مكة إلى المدينة دروساً لا تنقضي فوائدها؛ فقد خرج عليه السلام من مكة مع أنّ مولده وطفولته وصباه وشبابه كانوا فيها وكان يقول مخاطباً مكة: "والله إنكِ أحبُّ بقاع الأرض إلى قلبي…" ولكنه تركها ورحل، تركها وخرج إرضاءً لله تعالى، وبحثاً عن الأفضل والمستقبل… يا أصدقائي، أعلم أنّ الرحيل معادلةٌ صعبةٌ ولكنّني أعلمُ في المقابل أن البحث عن المُستقبل يفضلُ حُبّ الالتصاق بالماضي ألفَ الف مرةٍ. ومن يدري فَلربّما قضت إرادة الله تعالى بالتقائنا مرة أخرى ولرُبّما كان مصيرنا أن نعود للتجمُّع كما النجوم تتجمّع وللتألُّق كما النجوم تتألق… يؤسفني تمام الأسف أنّ الأوضاع باتت على غير النحو الذي كنتُ أرتضي وأنّ الرياح قد جرت بما لا تشتهي سفني، ولكن لا بأس إن كان هذا هو قدرنا لا بأس فإنّا مُلاقوه ولو بعد حين… أعلم يا أخوتي الصغار أنني أنا الذي اخترتُ المواجهة والاحتكاك وأعلم كذلك أنني أنا الذي ارتضيتُ لنفسي أن أكون في خطِّ النار، ويخفف عني في ذلك اعتقادي بأن نيل الشهادة في خطّ النار أشرف وأعظم مائة مرة من الموت بين خطوط الجليد وتحت رُكام الثلوج والصقيع الذي غطىّ كل معالم الحضارة والثورة والتفوق في بلادنا العربية… لا يتركنَّ أحدكم الأمل ولا يحيا دونه فهو الشعار الذي رفعناه منذُ التقينا وهو الوقود الذي أمدّنا بالطاقة في أيامنا الحلوة كلّها، وهو وحده الشعار الذي نرفعه عندما نفترق وعندما نلتقي من جديد إن شاء الله، ولا يغفلنّ أحدكم عن التوكل على الله لحظةً فهو السقف الذي أظلنا وحمانا طيلة العهود السالفة، وهو السلاح الوحيد الذي كان وسيلة الحسم في معاركنا مع "أهل الحضارة" على امتداد اللحظات والدقائق وتعاقب الليل والنهار فيما سلف. إنني أكتبُ كلمات الألم هذه وأنا أشعر بأنَّ الشمس في طريقها للاندثار وأن الكواكب آخذة في الانتثار، أكتُبُها وأرى حبّات المطر متجمدة معلّقة بين السماء والأرض… كان همّي الأكبر ولا زال أن أراكم في أحسن صورة وأفضل حال. أردتُكُم أن تكونوا أحسنَ مني وأجود. أردتُكم أن تعيشوا طفولتكم بكل ما تحملهُ في مدلولات البراءة والجمال وأن تبتعدوا عن تلك الوحوش الكبيرة التي تعمل جاهدةً لإخراجكم من شرنقة الطفولة قبل الأوان، وما كانت حروبي إلا دفاعاً عنكم. كنت أدعوكم للصدق والاستقامة والأمانة بينما كانت الوحوش تدعوكم للكذب والانحراف والدَّجَل، كنتُ أدعوكم للبراءة والجمال والمحبّة بينما كانت الوحوش تدعوكم للمراهقة والطيش والابتذال مُستترةً باسمِ الحب، هذا الحب المظلوم في عالمنا العربي المحكوم عليه بالإعدام في عهد الرّخص والمادة والفراغ القاتل… أعترف بأنني لا أعرف كيف أواجه هذه الوحوش بأسلوب المدنيَّة المزيَّفِ. وأعترف بأنني لا أقدر على ما قدروا عليه من مصلحة ونفوذ ومال… لكنني، والله، أعرفُ أنني أحبكم وأعرف أنّ إلهي خيرٌ من آلهتهم؛ ذلك أن إلهي يقبل التوبة بينما آلهتهم لا تقودكم إلا إلى دروب الندم، إلهي يدعوكم إلى قصور الآخرة وروضات الجنّات والأنهار الجاريات بينما آلهتهم تدعوكم إلى قصور الدنيا المبنية على زبد الماء وقواعد السّراب ودروب الشوك ومُستنقعات الوحل البشرية. إلهي يدعوكم إلى النُّور الذي يضيء القلوب وينيرُ العقول ويتسع للشمس والأرض والقمر، وهم وآلهتهم يدعونكم إلى الظلام الدّامس الذي يقتل الأمل ويأكل الأحلام ويبعثُ التشاؤم في أرجاء الأرض كلّها.
          المعركة لم تنتهِ بعد، وإن هي إلا جولةٌ خسرتها ضمن حربٍ قوامُها مائة جولة… آلمتني هموم الأطفال وأثقلني ألمهم وأخذت دموعهم من شبابي الشيء الكثير؛ فقد كنت أراهم يغرقون ويداي الصغيرتان لا تكفيان وحدهما لانتشالهم من هذه الدّوامة القاتلة. آلمتني وعود الهواء وقطرات الدّماء، آلمني واقعنا المعاصر بكل ما اختلجهُ من الذل والعبودية للتلفاز والصورة والدينار والدرهم…
          وفي نهاية المطاف أجدني أقفُ على قارعة طريق في مُخَيَّمِ الوحدات أعرضُ همومي للبيع فلا أجدُ من يشتري وأعرض آلامي للتوزيع فلا أجد من يشترك، وأنثرُ أحلامي الوردية على أرصفة الطريق الموحلة فلا أجدُ من يُبالي…

..................................................................................................................................................................
لماذا نخافُ على بناتنا من الحجاب؟؟

الدكتور راجح سباتين

          إنني أكتبُ هذه الكلمات وأنا أستذكر الخوف الذي كنت أراه في عيون الكثيرات من الأمهات اللواتي كُنّ لا يترَّددنَ من إبداء خوفهنّ الزائد على بناتهنّ من لبس الحجاب، ولكلٍّ منهنَ أسبابها الخاصّة أو العامّة التي تتخذها درعاً يحول بينها وبين الحجاب، ويدفعُ عنها وعن ابنتها من الأذى ما يدفع!! ولئن بسطتَ، يا رعاك الله، هذه الأسباب وأبديتَ استعدادك التام لمناقشتها وحلّ عُقدتها فإنك ستقفُ على أسبابٍ خمسةٍ، أبرزها أن منهنّ مَن تعتقدُ أن الحجاب ليس واجباً على الفتاة إلاّ بعد زواجها. ومنهنّ مَن تعتقد أنّه ليس واجباً في أصله. ومنهنّ مَن تظنُّ أنّ ارتداء ابنتها للحجاب سببٌ مباشرٌ في الحدِّ من جمالها ومنعها من الزواج، وفي ابتعاد الخاطبين والأزواج عنها. ومنهنّ من تحمل انطباعاً سوداوياً عن الحجاب مبعثُهُ ما تراه من السلوك الخاطئ السيّئ لبعض الفتيات المحجَّبَات اللواتي كان الإسلامُ بريئاً منهنّ (على حدّ قولها). وبعد كلِّ هؤلاء المُعتقِدَات تأتيك مَن تقول: إنّ الحجاب يحدُّ من حركة المرأة ويقيدها ويكون عائقاً لها سواء عن الحركة والتنقل أو عن التفكير!‍‍‍‍!!
          ولئن تأملتَ يا رعاكَ الله، فيما سبق من الأسباب لوجدتَ أنها لا ترتقي لتكون أسباباً حقيقيةً مُقنعةً، ناهيك عن تعارضها مع الإيمان بالله تعالى وحسن التوكل عليه والإيمان بقضائه وقدره، ولوجدت كذلك أنها تدلّ دلالةً واضحةً على جهل الناس بأمور دينهم وتدلّ على عدم فهمهم لألفِ باء الإسلام… وإنني، ومع يقيني الكامل بوهن وضعف هذه الأسباب فإنني أجدُني مُضطراً لدفعها أو الردُ عليها سبباً سبباً، لا لقوّتِها أو عقلانيتها ولكن لأنها الأسبابُ الأكثر انتشاراً في أوساط الناس وأبرزُ ما تتذرعُ به الكثيرات ويتخذنه حُجّةً لترك الحجاب…
          أمّا القولُ بأنّ الحجاب ليسَ واجباً على الفتاة إلاّ بعد زواجها فمردودٌ وذلك لأن الأمر به موجه لكل مسلمةٍ بالغةٍ عاقلةٍ بغضّ النظر عن وضعها الاجتماعي كما أنه أمر مُوجّهٌ لولي أمر المرأة من الرجال يُلزمها به سواء أكان هذا الرجل أخاً أو أباً (أو ما شابه) للمرأة. ولكنّنا وللأسف نناقش هذه المسائل في زمن النساء وعهد الرخاصة وانخفاض الأسعار، إنه العهد الذي غاب فيه الرجالُ وانطمست معالم حضورهم وعبدوا نساءهم واتخذوهنّ أرباباً من دون الله تعالى يأتمرون بأمرهنّ ولا يجرؤون على مخالفتهنّ أو عصيانهن، فكانت مرجعيتهم رأي نسائهم لا رأي الإسلام والحكم عندهم ما تراه نساؤهم لا ما يراه الإسلام … إلا مَن رَحِمَ ربي…
          أمّا القولُ بأنّ لبس الحجاب ليس واجباً على المرأة أصلاً، فهو كلامٌ لا يستقيم ولا يقوى، وما على القائلات بذلك سوى التصفح في كتاب الله تعالى وأحاديث الحبيب المصطفى الكثيرة والتي وردت وتحثّ بمجموعها على وجوب لبسه. أما الظنّ بأنَّ الحجاب يحدّ من جمال المرأة ويمنعها من الزواج ويبعد عنها الخاطبين والأزواج فإنه ظنٌّ مرفوض من ناحيتين؛ الأولى أنَّ الحجاب إنما يحدد ويوضح جمال المرأة ويحصره في موضع تكريمها ألا وهو الوجه، وهو أَوَّلُ ما ينظر إليه الباحث عن الخطبة أو الزواج، وأما الناحية الثانية التي يُرفض لأجلها هذا الظن فهي تعارضه مع الإيمان بقدر الله تعالى وما كتبه للإنسان من مستقبلٍ ومصيرٍ؛ فكم مِنْ جميلةٍ وفائقة الجمال والأناقة بقيت عزباء وعاشت عزباء إلى نهاية عمرها؟ وكم من أميرةٍ وذات جاهٍ بقيت عزباء وعاشت عزباء إلى نهاية عمرها؟ وكم مِنْ ثريةٍ وذاتِ مالٍ بقيت عزباء وعاشت عزباء إلى نهاية عمرها؟ فهل يصحّ بعد ذلك وهل يستقيم أن نُلصقَ سبب عدم زواج أولاتِ النسوة بالحجاب؟ والله إن هذا الكلام لعجبٌ عُجاب!
          وأما السبب قبل الأخير في إعراض البعض عن الحجاب والذي تقدم ذكره متعلقاً بالانطباع السوداويّ عن الحجاب والذي كان مبعثه السلوك الخاطئ السيئ لبعض الفتيات المحجّبات فإنني أرى، من وجهة نظري الخاصة، أنه سبب يستحق أن نتوقف عنده ونُبَيِّنَ فيه أوّل ما نُبِيِّنُ أنّ الإسلام غيرُ مرتبطٍ بالأشخاص أبداً، وأنّ أحداً لا يملك الحق في أن يُمثل الإسلام؛ إنما يُمَثّل كلُّ شخصٍ نفسه فقط. فلو أن إنسانةً محجّبةً قامت بعملٍ سَيّئٍ مثلاً فإنها بذلك لا تمثل حكم الشريعة الإسلامية ولا يدل فعلها هذا على أن المحجبات كلهنّ يفعلن مثل هذا، لا. ثُمّ لماذا يلتفت الناس إلى بعض الأفعال السيئة الخاطئة التي تقوم بها بعض المحجبات ولا يلتفتون إلى آلاف الأفعال الصائبة الجيدة التي تقوم بها المحجّبات الأُخريات؟ لماذا يلتفت الناس إلى السلبيِّ ويُعمِّمونه ولا يلتفتون إلى الإيجابيّ ويعّممونه؟ لعمري إنها أغلوطة التعميم المتسرع!
          وأمّا آخر الأقوال والمتعلقة بأنَّ الحجاب يحدّ من حركة المرأة ويقيدها ويكون عائقاً لها سواء عن الحركة والتنقل أو عن التفكير، فإنه قولٌ باطلٌ يرفضه واقع المرأة المسلمة المحجَّبَةِ التي نراها في كلِّ مكانٍ، في السوق والشارع والمدرسة والجامعة، في السيارة والحافلة والطائرة، نعم ففي كل مكان يُمكن أن تَصلَ إليه تَوقَّعْ بل اعلم، يا رعاك الله، أنَّ الحجاب وأهله موجودون هناك…
ولئن كنتُ قد ذكرتُ أبرز ما يصد البعض عن الحجاب فإنني أجدُ لزاماً عليّ أن أذكرَ وأوضح أبرز الأسباب التي لأجلها ندعو إلى الحجاب.
          قال لي صاحبي وهو يحاورني: اذكر لي بعضَ الأسباب، التي تجعلكم تدعون إلى لبس الحجاب، وتنادون بنجوميَّتِه وتحرصون على ألمعيَّتِهِ، لماذا هو مُتحقِّقٌ واقع، ليس له رافع؟ ولما تخوضون لأجله هذه الحروب الفكرية؟ وتعقدون للدفاع عنه تلك المؤتمرات الوطنية والندوات العربية والمناظرات العالمية؟
فقلتُ له: نحن، يا رعاك الله، ندعو إلى الحجاب لأربعةٍ من الأسباب:
أولها: قياماً بواجب الدعوة إلى الإسلام والذي هو فرضُ عينٍ على كل مُسلم ومُسلمةٍ، ولكم هو جميلٌ هذا الواجب! ولكم هي مُستقبلِّيةٌ هذه الدعوة.
ثانيها: حرصاً منّا على صون جمال المسلمة وشرفها وعفافها، رعاها الله وحماها.
ثالثها: حرصاً منّا على انتشار الأخلاق الحميدة ومكافحة كل أنواع الرذيلة والفساد، هدّ الله أركانه وقطع أذياله.
رابعها: لأن للحجاب نوراً في الوجه في الدنيا والآخرة، جَعَلنَا الله من أبنائها.
ولئن أُعطيتُ الفرصة للتحدّث عن الحجاب أمام العالمين فإنني ألفتُ نظرهم ونظر المسلمين، على وجه الخصوص، إلى الملاحظات الهامّة التالية التي أرى كلَّ واحدةٍ منها عنواناً يصلحُ لأن أكتب في شرحه مقالةً أو رسالةً أو بحثاً يطول ويطول وملاحظاتي هي:
Þ     لكل أمّةٍ زينةٌ ولباس، ولباسُ المرأة في ديننا الحجاب.
Þ     كلُّ الذين يكرهون الإسلام يكرهون الحجاب، ذلك أنه عنوانٌ من العناوين الكبيرة الدالّة على هذا الدين.
Þ     وكلُّ الذين يحاربون الحجاب إنما يحاربون الإسلام ويحاربون الله الذي فرضه وأمر به، من حيث يشعرون أولا يشعرون.
Þ     الحجاب يزيدُ الجميلةَ جمالاً ويجعلُ في وجه غيرها شيئاً من الجاذبيّة والنّور.
Þ     الحجابُ يزيد في شخصية المسلمة قُوَّةً ويجعل لحضورها مزيداً من الوزن والقيمة.
Þ  للحجاب نورٌ وحلاوةٌ، لا تراها ولا تشعر بها إلا مَنْ لبستهُ عن قناعةٍ ومحبةٍ وطاعةٍ لله تعالى، هذا النور يجعلها عالية الهمة واثقة الخطوة عزيزة الشأن.
Þ     العلاقة بين الحجاب والصّلاة تكامليةٌ تتميميّةٌ تنتجُ عن هذه العلاقة الوثيقة راحةٌ نفسيةٌ عظمى يبحث عنها الناس أجمعون.
Þ     الطريق إلى الحجاب يبدأ بالكلمة الطيبة اللطيفة ولا يبدأ بالكلمة المؤذية الثـقيلة، كما أنَّ هذا الطريق يبدأ بالإقناع لا بالإكراه.
Þ     ليس الحجابُ قماشاً قدر ما هو سلوكٌ وأدبٌ والتزامٌ مع الله.
Þ  إن أنتِ اتخذت القرار بلبس الحجاب فيتوجبُ عليك قبل ذلك وبعده أن تتخذي قراراً بالانتصار على شياطين الإنس قبل شياطين الجنِّ لأن حربَكِ بعد ذلك لن تكونَ إلا معهم.
Þ  الحجاب تحدٍّ واضحٌ، وحدٌّ فاصلٌ بين النفس اللّوامة والنفس الأمّارة بالسوء فكوني مع الأولى وفوزي بالجنة واتركي الثانية تنتظر عذاب الحريق وبئس الختام…
.........................................................................................................................

حكاية الأستاذ الأسطورة الذي رفضَ أن يصمت
د. راجح سباتين
في هذه الأيام التي يتحدث فيها الجميع عن سلامٍ قادمٍ ليجلو في ساعاتٍ مئات السنين من الأحقاد والكراهية المترسّبة!! وليجمع بين أحفاد أجدادٍ كانت الحروب حرفتهم والقتال همّهم وشغلهم الشاغل!! في هذه الأيام التي تناسى فيها الناس فلسطين وأصبحوا يسمّونها "إسرائيل" وحُذفِتْ فيها أناشيدُ طفولتنا (فلسطين داري ودرب انتصاري) من كتب اللغة العربية وحُذفتْ معها قصص طفولتنا (باسم شجاع ذاك الفتى الذي تحدّى الجنود الصهاينة وكتب على جدران الحارة أمام ناظريهم "فلسطين عربية"...) أقول: في هذه الأيام المرّة يتفجّر في داخلي الحنينُ إلى أستاذٍ حذَّرنا من وقائع هذا اليوم قبل ما يزيد على إحدى عشرةَ سنةً سبقت يومنا هذا. إنه أستاذُ التاريخ الشابّ الذي كان أولَّ أستاذٍ أتعلّق به في حياتي. ما كان ليعرف الخوف أبداً، كان على الدوام يحدّثنا بصوتٍ مرتفعٍ وحرارةٍ حارقةٍ عن الجهاد وفلسطين، وحروبنا مع الصهاينة، وعن حقيقة بني إسرائيل وذبحهم الناس وقتلهم الأنبياء، وكان على الدوام يركّز على الصهاينة واغتصابهم لأرضنا الطّهور، ثم يختتم حديثه المشوِّقَ دوماً بابتسامة ساخرةٍ ونظرةٍ حنونٍ قائلاً: يا أولاد، إنْ لم آتِ إلى المدرسة في الغد فاعلموا أنهم اقتادوني خلف الشمس؟ ويقهقه بصوته الأجشّ ثمّ يقول: لا بأس، لا بأس لأن الشعبَّ يوماً إن أراد  الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر، ولا بدّ للّيل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر. ومَن يدري يا أبنائي فلربما اختارتكم إرادة الله لتكونوا الجيل الذي يجلو الليل ويكسر القيد؟؟ كنتُ أفهم من كلامه أنه يرى فينا الأمل والمستقبل وأنه يحترم الطلاب ومشاعرهم، على خلاف معظم أساتذة مدرستنا أيامها.
رحم الله ذاك الأستاذ، أذكر عندما كنّا صغاراً، أنّ أسئلة امتحاناته كانت صعبةً جداً وأذكر أنّه كان يعلّل ذلك بقوله: إنّ السؤال الصعب يعلّمكم التفكيرَ، والتفكيرُ وحده هو الذي يقودكم إلى الثورة ... ما كنتُ لأفهمَ كلماته تلك إلا السّاعةَ. وما كنتُ لأدركَ كم كان مخلصاً وشجاعاً إلا يومي هذا!! وأذكرُ ممّا أذكرُ أنه جاءنا يوماً بامتحانٍ من سؤالٍ واحدٍ، وكان السؤال يقول: متى بِيْعت فلسطين؟ من هو البائع؟ كيف تمّت الصّفقة؟ ومن هم الوسطاء؟؟؟ قبل أن يختفي، كان ذاك الأستاذ الشاب حديث حيّنا كلّه، وقد ذاع صيته واشتهر حتى جاوز حيّنا إلى ما جاوره من الأحياء والمناطق الشعبيّة الترابيّة. وفي الحقيقة لقد كان يستحق كلّ ما ناله من شهرةٍ واحترامٍ؛ ذلك أنَّ شخصيته كانت فريدةً وعقله حرّ ونفسه أبيّة ... أي أستاذي، كان قدرُكَ أن تنضجَ في زمان الأنذال. وكان قدرك أن تكون رصاصةً لمدافع شعبنا الفقير المتعطّش للحرية والإسلام والكرامة. ليس ذنبك أنّ الناس خذلوك، وليس ذنبك أنهم شجّعوك وحرّضوك وثوّروك فلمّا قُمتَ للمواجهة وجدتَ نفسك وحيداً في الساحة، ووجدتَهمُ قد ولّوا الأدبار!! لا بأس، أستاذي لا بأس فهذه عادة الأعراب مُذْ خلقَ الله الجزيرة ونثرَ على سطحها التراب وملأها بمن ملأها به من الأعراب الذين انطبق عليهم الوصفُ بأنهم أشدُّ كفراً ونفاقاً. لقد كان هذا الأستاذ نموذجاً حياً للثورة المستمرّة التي لا تَقبلُ في غرف قصورها ضيوفاً إلا الشهداء والأبطال والأفذاذ. ولم يكن مثالاً "للثورة الحمقاء" أو "الفلسفة التي قتلت أهلها" كما يحلو لفلاسفة العبوديَة أن يسمّوه. لقد كان رجّل فكرةٍ وموقفٍ. ويكفيه نجاحاً أنّنا وبعد مرور هذه السنوات كلِّها لا زلنا نذكره، ولا زال الكثيرون منا يحفظون كلماته ويعلِّمونها أبناءهم وبناتهم وتلاميذهم ويتمنّون على الله أن يكون هذا الأستاذ حياً، وأن يلتقوا به ولو بعد حين...
لقد جرت العادةُ أنّ التلاميذ كلّما يكبرون ويتقدّم بهم العمر وتركض يهم الأيام نحو المستقبل فإن احتياجهم إلى معلّميهم وأساتذتهم يقلّ. لكننّي أجدُ نفسي اليوم على خلاف ذلك؛ إنني أشعر أنّ حاجتي لأستاذي القديم اليوم أشدُّ منها إليه وأنا طفل صغير؛ إنني بحاجةٍ إليه ليساعدني على فهم ما يجري من الأمور وتحليل ما يدور من الوقائع، وقبل هذا كلِّه وذاك فإنني بحاجةٍ إليه ليأخذني صوتهُ الحرُّ الثائر الحارُّ إلى أحلام الحرية والطموح والأمل بالانتصار على هؤلاء الظالمين الذين يأتمرون علينا ويتلاعبون بقُوتنا ويقامرون على مبادئنا وآرائنا على طاولات ساداتهم.
على خلاف معظم أساتذة التاريخ الذين رأيتهم، لم يكن أستاذي أستاذَ تاريخٍ أحمق ولم يكن واحداً من أولئك الذين يظنون أنهم لا زالوا يعيشون في الكهوف والمتاحف، والأهمّ الأهمّ أنه لم يكن واحداً من أولئك (الموّظفين) الذين يخبرون الناس أنَّ "هتلر" أحرق ستة ملايين يهودي!! وأنَّ الجيوش العربية حاربت الصهاينة بذخيرةٍ صالحةٍ جيدةٍ عام ثمانية وأربعين!! لا، لا، لم يكن واحداً من هؤلاء، لأنه كان يرفض أن يبيع فكره وعلمه مقابل حفنةٍ من تراب النقود الرخيص في عهدٍ ساد فيه الرخصاءُ وأصبحُ يشار إليهم بالبنان.
وهكذا انتهت قصّةُ أستاذنا الجريء، انتهت قصة أستاذنا الأسطورة ... وتعاقبت علينا بعده أجيالٌ من أساتذة التاريخ الحمقى والمعلِّمين. كلهم حدّثونا عن بطولات عمر وتحريره لبيت المقدس، وعن عبقرية خالدٍ وعن صرخة صلاح الدين، كلهم حدّثونا عن محاربة الظلم والاستبداد ووجوب الثورة على الظالمين، لكننا كنّا نصعق في كلّ مرّةٍ عندما يسألهم أحد طلاب الصفّ عن سبب انحطاطنا وفقرنا وانكسارنا "لإسرائيل" وتذِّللنا "لأمريكا" فيصمتون ويمتد بهم الصمت، ولمّا كنّا نلحّ في طلب الإجابة وفي سؤالهم عن سبب صمتهم المفاجئ والمتناقض مع كلامهم عن "البطولة والتاريخ" كانوا يقولون: إننا نصمتُ لنحافظَ على سلامتكم!! لكننا كنّا نعلم أنهم يكذبون، فقد كانوا يصمتون ليحافظوا على سلامتهم وحدهم وليحافظوا على سلامة لقمة خبزهم وشربة مائهم، حتى ولو كانت هذه السلامة على حساب جهلنا وقّلة معرفتنا للحقيقة والواقع، فتأخذنا عندها دوّامةُ اليأس والإحباط إلى حدودٍ بعيدةٍ يصعب علينا وصفها ونقول: رحم الله أستاذَ التاريخ، رحم الله أستاذَ التاريخ، ورحم الله من جاءنا بعده من الأساتذة؛ فكلُّهم موتى، كلُّهم موتى وإن ساروا على الأرض وشربوا الماء واستنشقوا الهواء ...
................................................................................................................................

حكاية "درويش العربيّ" وحربُ الأحلام الممنوعة

د. راجح سباتين
جاء من بين أكوام حلوم الأطفال الفقراء في حيّ نزال. وكان منذ بواكير طفولته يبحث عن قلبٍ دافئٍ يُعينه على السكون والاستقرار بعيداً عن هذا الاضطراب والترحال الذي يشغل حياتنا المعاصرة كلها.
وُلِدَ لأسرةٍ فقيرةٍ مكافحةٍ، ثمّ ورث عن أبيه المتوفّى حملاً عائلياً زائداً مما أوجب عليه الرجولة قبل أوانها. وزاده ألماً أنه وُلَدِ في مجتمع الكراهية وعصر الأنانية المُفرطة. كان يستهويه الجلوس على ظهر الصخرة العتيقة في جانب الجبل الأخضر فيبقى هنالك يتأمّل مأذنة المسجد القريبة تاركاً روحه تغرق في بحور جمال ذلك المنظر الأخّاذ دون أن يُعيرَ للساعات والدقائق أيَّ اهتمامٍ يُذكر.
هناك كان صاحبنا يجلس ليريح نفسه من عناء الحياة والمشكلات والهموم، كان يهرب من ضغط الحياة التي لا يهمّها أَعاشَ هذا الطفل أم مات!!.
لطالما حَدَّثني عن رغبته في أن يرى الناس كلّ الناس متحابيّن تجمعهم المحبّة الصادقة والأمنيات الحلوة بدلاً من هذه الفرقة والألم وهذه الكراهية التي لم تبق رياحها أنفاً إلا دخلته ولا قلباً إلا ونالته بدرنها القدْرَ الذي نالت.
كان صاحبنا، وهو طفلٌ صغيرٌ، يظنّ أنّ العالم جميل كما هي بلدته الصغيرة "كُفر عقب" على مشارف "مخيم قلنديا". وكان يظنّ أنّ الناس في "العالم الخارجي" طيِّبون متعاونون كما كان حال الناس في "مخيم قلنديا". لم يكن درويش في طفولته يحمل من الهموم سوى الإمساك بإحدى الطائرات الورقيّة ذوات الخيطان الطويلة الممتدّة من أرض "كفر عقب" إلى السماء الفلسطينية البعيدة التي نالها الألم هي الأخرى ...
سألتُه ذات يوم: ما قصّتكَ وهذه الطائرات الورقيّة يا صاح؟ وما سرّ تمسّكك بها وقد جاوزت من عمرك السابعة والعشرين؟؟ فقال: هذه الطائرات تحملُ على أجنحة أوراقها أحلى ذكريات طفولتي يا صديقي؛ فعندما كنت طفلاً صغيراً في "كفر عقب" كنت أجلس على صخورها أتأمل جمال الغروب وأديم التأمل في تلك الظلال السوداء البعيدة التي كانت لا تكفّ تتراءى لي من غير وضوحٍ في آفاق السماء البعيدة على امتداد لحظات الغروب. لم أكن أعرف حينها كيف يصنع الأولاد الطائرات لكنني كنتُ مغرماً بها وكنت أتمنى لو أمسكُ بخيطان إحداها وأطيّرها عالياً كما يفعل بقية الأولاد. وذات يومٍ عندما كنتُ أنظر، كعادتي، إلى الأولاد الذين يرسلون طائراتهم صوب السماء، لاحظ أحدهم، وقد كان سميناً وكبيراً، رغبتي والحزن الذي يملأ عينّي فعرض عليّ أن أمسك بخيوط طائرته بشرط أن أحافظ على توازنها في الهواء ... أحسستُ حينها أنها فرصة عمري، فقفزتُ من مكاني وركضتُ وركضتُ إلى الخيط وأمسكته بشغفٍ وكُلّي تصميمٌ على ألاّ أتركه مهما كان الثمن ... وسكت درويش قليلاً ثم قال: كلما أرى هذه الطائرات تتّجه إلى الأعلى، إلى السماء أستشعرُ الأمل يندفع في عروقي من جديدٍ، وأحسُّ أن آمالي ستكبر وتحقق تماماً كما كبرت هذه الطائرات الورقية وتحقّقتْ بعد أن كانت مجرد مجموعةٍ من الأوراق والصمغ والأخشاب والخيطان ....
كانت هذه البراءة والجماليّات والآمال من نصيب الماضي والتاريخ، أمّا الآن فقد انقلبت أحوال درويش رأساً على عقب واعتصرته الحياةُ بألوانٍ شتّى من القسوة والعذاب حتى أضحى واقعه مُرّاً صعباً لا يُحتَمل؛ فقد مكث صاحبنا بعد تخرّجه من الجامعة سنوات عديدة بلا عمل، وحاول أن يجد لنفسه عملاً، أيَّ عملٍ حتى ولو لم يكن لشهادته الجامعيّة صلّةٌ به من قريبٍ أو بعيدٍ، إلا أنّه لم يفلح ولم يستطع الاستمرار في واقعنا المعاصر، واقع المصالح والتآمر والنفاق الاجتماعيّ النامي مع نموّنا والمزداد مع ازديادنا ... متطلبّاتُ الأهل وحاجاتهم في ازديادٍ، وإمكانياته الماليّة لا تنفك عن الالتصاق بالصفر. أثمانُ الملابس والمشارب والمآكل في نموٍ متواصلٍ متسارعٍ وصاحبنا لا يجد من فتات الخير شيئاً يستر به عورة حاجته.
ها هو ذا لم يتواصل مع عمل ولم يحقق دخلاً ماديّاً يُذكر، ولم يحقِّقْ أيّاً من أحلامه ولم يفِ بوعده لعائلته بحياةٍ أفضل بعد التخرّج من الجامعة. لم يمتلك سيارةً ولا مالاً ولا بيتاً!! وكيف السبيل إلى ذلك وقد رفض صاحبنا أن يبقى يعمل عند أخٍ يتآمر على أخيه، ولم يستطع أن يستمر في العمل عند مديرٍ يظلم موظّفيه ويختلس أموال شركته، أو عند خازنٍ يبيع للناس بضاعةً مغشوشةً تالفةً لم تعُدْ صالحة لاستعمال البشر؟؟؟
كيف السبيل لأن يحقّق درويش أحلامَه وهو لم يكن بالذي يقتات على حساب أرزاق الناس؟ فشريعته ما كانت لتسمح له أن يكون عميلاً للدوائر صغرت أو كبرت؟؟ كيف السبيل لتحقيق أحلامه وقد رفض الانضمام لطابور المعلمين الخامس أصحاب الدروس الخصوصية، ورفض الانضمام إلى أصحاب الأحزاب التي "تمثّل" دور المعارضة ببراعةٍ فائقةٍ ثم تجلس على طاولةٍ واحدةٍ مع السادة الكبار لتقتسم وإياهم قُوتَ الشعب صباح مساء؟؟ كيف السبيل لتحقيق أحلامه وقد كان شاباً شريفاً ذا مبادئ لم تسمح له يوماً بأن يكون عضواً من أولئك الكثيرين الذين ينتفعون من جماعاتٍ تحمل اسم الله وتختفي وراء تعاليمه ثم تقوم بتوزيع الأرباح بينها على نحو ما يسمح به "الفقهُ الحزبيُّ" من "نصابٍ" أو "نسبةٍ" أو "أسهُمٍ" أو "درجةِ قرابة"؟؟؟
لقد حارب أعرابُ المدنيّة المزيفون درويش، حاربوه في أحلامه وواقعه ومنعوه من تذوّق طعم النجاح حتى ولو كان هذا النجاح في لحظات غفوته. لقد طاردوه حيثما حطّ أو ارتحل، وما كان لهم همٌّ سوى ازهاق هذه الأحلام البرئية التي تتفتّح على أنوار المحبّة وتذوّق الأمرّيْن قبل أن تتنفّس هواء الأمل!! لقد منعوا أحلامه وأعدموها مع أنها لم تَعْدُ في خطورتها أحلامَ طفلٍ صغيرٍ يعبث بالمراكب الورقيّة ولا يكفّ عن إلقائها على ظهر مستنقعات الماء في أزقّة الشوارع والمخيّمات!!!.
لقد كُنا معكَ يا درويش، وكنّا خلفك بكل ما نملك من كلماتٍ ومشاعر ولكن معذرة يا درويشُ معذرةً؛ فكلماتنا لم تقو على الوقوف في وجه مدافعهم، ومشاعرنا لم تقدر على التجمّع لمواجهة نفوذهم ومصالحهم، معذرةً أيها الحلم البديع لأنك تبَّددتَ وما كنا لك بمستنقذين.
كانت هذه حروفاً وكلماتٍ ونقاطاً تجمَّعتْ كما هي عادتها كلَّ يوم لتقصّ علينا حكايةً مؤلمةً عن إنسانٍ آخر انكسر في شارعنا العربيّ دون أن يعينه أحدٌ منّا. وكانت تلك صورةً من حرب الأحلام الممنوعة في الوطن العربيّ، هذا الوطن الذي كان عربيّاً في يومٍ من الأيام لكنّ سادته أبوا إلا أن يبيعوه للغرباء وللأعاجم ولكَلّ من اغترف من شرفهم قدراً وافياً من المستشرقين والمستغربين حتى أضحوا سادةً بلا أوطان، وباتت شعوبهم شعوباً بدويةً راحلةً تغترف الماء وتلتقط الكلأ في بلادٍ ليست تملكها ...
كم أنت صعبُ يا زمن المعادن!! وكم أنتِ مؤلمةٌ يا ديموقراطية الوجوه!! كم أنت بعيدة عن واقعنا أيتها الأحاسيس!!!.
أيها الشباب العربيّ، إلى متى سيدوم الهروب إلى متى؟؟؟ أيتها الأمّة العربيّة لماذا لم تصغي إلى درويش؟؟ لماذا لم تستمعي لهمومه وآلامه عندما حَدَّثكِ عنها؟؟ الأنّه كان مخلصاً معطاءً أحبّكِ بكل ما في الكون من محبةٍ؟؟؟ أم لأنه كان ينبض بالأمل على نارٍ هادئةٍ تماماً كقلب العذراء في عهد حبّها الأول؟؟؟ أم لأنه لم يكن واحداً من الأثرياء السماسرة وأصحاب "المحسوبية" الذين يتكلّمون عن العزّة والكرامة والشرف وهم عنه أبعد ما يكون؟؟
أيها الشباب العربيّ، تمَّردْ على هذا الواقع المرير وعُدْ منتصبَ القامة رغم أنف أمواج الانكسار التي تُغرِقُ شارعنا بالهزائم تلو الهزائم.
أيها الشباب العربيّ، اعمل على إحياء أحلام درويش الممنوعة المقتولة، فجّرها وفجّر كل ما أحاطوها به من جدرانٍ وحواجز، وأنا واثقٌ أنّ أحلامك ستموج رغم أنوفهم كما القمح الأخضر في طريقه إلى الاستواء والاصفرار ولو بعد حين.
أيها الشباب العربي، اصبرْ فإنّ أنهاركَ، بإذن الله، في طريقها لترى نور الشمس وتفتِّتَ كلَّ ما القوا به عليها من صخورٍ وترابٍ. اصبر فإنّ الله مع الصابرين، وبشرّ الصابرين ولو بعد حين.
.................................................................................................................................

"سأبقى أكتبُ كلماتي"

د. راجح سباتين
كان صفير الغربان مسموعاً عند أطراف وادي الحياة، وماله سوى الصمت من رفيقٍ .... ولا تبدو من أهل الوادي علامةٌ تدلّ على أنهم موجودون؛ فالصمت مطبق والبرد قارس والفراغ مخيف. هناك وبُعيدَ انقطاع آخر الخيوط في نسيج الزمن تبخّرت قطرات الحياة واختلطت فيها الأوراق؛ فأمسى العاقل مجنوناً وغدا المجنون للعاقلين أستاذاً، ولبس الناسُ أثواباً ليست لهم وأقنعةً زائفةً أتقنوا الاختباء وراءها ... عندها فقط أخذت الشمسُ تبكي بدموعٍ هي أثمن ما في هذا الوجود، وكفّت عن رسم لوحات الأمل الشرقيّة في سماء كانون، فعاد بارداً مُثلجاً ميّتاً كما كان. وكيف لا تبكي الشمسُ وقد شهدت انكتام صوت الحقّ الرافض في عهد الخنوع؟ وشهدت استسلام البحر الذي كان رمزاً للهيجان والثورة والغضب المتفجّر في وجه كل الذين يكرهون "الزيتون"؟؟
وفي زاويةٍ قريبةٍ من نور الشمس كان أحد الفتيان، يُقال له صِدّيق، يجلس خلف جدران الوقت في بُستان القرآن المهجور يكتب كلماته ببراعةٍ ويرسم حروفه بريشةٍ حبرها النّور، ويردّدها على مسمع كلّ مَن يراهُ من الناس مبشّراً إيّاهم بقدوم النّور من وراء تلال الظلام وبزحف المحبّة على أسوار قلاع الكراهية، إلا أنّ الناس لا يستمعون له!!!.
لمن تكتب كلماتك يا صِدّيق؟؟ وهل بقي فيهم مَن يحتمل في قلبه ذكراً لمحبةٍ صادقةٍ؟؟ لمن ترسم حروفك يا صِدّيق وهل تبقّت في ضمائرهم قطرةٌ من الإنسانيّة؟ ألا تكفّ أيّها الحالم؟ ألا تملّ أبداً؟ لا، لن أكفّ حتّى أرى الناس مع بعضهم من جديدٍ، لن أهدأ حتّى أرى الخلق يحبّ واحدهم الآخر مرّةً أخرى، ولن أملّ إلا بعد أن تفارقني علامات الحياة وتنسال من شراييني أٌخريات قطرات الدماء. سأبقى أكتب كلماتي وأطلقها رصاصاً حيّاً يوقظ البراكين، لتعود تمور في باطن الأرض ثائرةً حُرّةً تكره النسيان وتجرف في انطلاقتها كلّ مَن تبقّى من "أقزام" على جوانب الوادي. سأبقى أكتب كلماتي وقوداً لثورة الجيل القادم كي ينطلق نحو الأمل انطلاقة الفهود السوداء في ليل الكفاح وفجر الحريّة الأحمر الذي سقطت عند أقدامه الحدود وانهارت أمامه الجدران والسدود. سأكتبها لتكون رصاص المدافع العملاقة التي تُسقِطُ بعظمتها سماءَ العبوديّة والظلام من فوقنا، حتّى تبان سماؤنا الحقيقيّة بلونها الأزرق الخالص الممتلئ بمحبّة الحياة والمتجلّل بإرادة الانتصار على كلّ ظالمٍ في هذا العالم.
وهكذا وفي غمرة هذه الكلمات الخالدات فوجئ صِدّيقٌ بطعنةٍ قاتلةٍ من طلقات رشّاشٍ اخترقت ظهره واستقرّت في أحشائه مازجةً دماءه برمال الوادي الكثيرة التي أخذت تغلي من أمله المقتول وفرحته المقهورة المعصورة في أعماقه.
لا زلتُ أذكرُه كيف كان يصرخ بالحقيقة ثم صمت هكذا ... كيف غُدِرَ من الخلف ... كيف غرقت ابتسامته ... كيف انتهى. كانت تلك حكاية صدق الحرّ "الثائر" الذي رفع قلمه بندقيّةً علياء تطلق رصاصها على كلّ الجبناء في كوكب الأرض، صِدّيق ذي العينين الخضراوين المرتسمة صورته في أحشاء كلّ أمّ حنونٍ قدّمت للوطن شهيداً من أبنائها. هنا في كوكب النسيان حيث تنسدّ الطرائق وتتقطّع السُّبَّلُ بكلّ طَمُوحٍ أو صاحب أمل، هنا سقط صدّيق شهيداً فارتوت الصخور من دمه الغزير وأنبتت ورداً شائكاً أحمر، وسنبلاً مائجاً أخضر يُعطي للأرض لوناً أصيلاً كذاك الذي اكتست به أيّام أجدادنا الطيّبين الأوائل.
يا أيّها الشّركاء، يا أبناء الظلام، يا مّن تربيّتم على "الطعن من الخلف" لقد قتلتم صِدّيقاً وقدرتم عليه نعم، لكنني أؤكد لكم أنّكم لن تقدروا، أبداً، على الجيل القادم الذي شرب من كأس صدّيق حتى ارتوى. جيل الغضب قادمٌ للمطالبة بثمن دماء صِدّيق، ولهيبُ النار منبعثٌ من عيونه. جيل الفناء قادم إليكم مدّاً كاسحاً وصوتاً هادراً ليُقلِقَ منامكم ومنام كلّ المؤتمرين على مصير الفقراء في هذه الأمّة، ألا فانتظروا، ألا فانتظروا.
.....................................................................................................................

عندما يبكي كبير الأصنام

د. راجح سباتين
هذه كلمات جيلٍ ضائعٍ غائبٍ لم يُؤخذْ رأيه في شاردةٍ أو واردةٍ عندما اتّفق سادته مع "الأغراب" على رسم مستقبله. إنها كلمات الجيل الذي نام ثم استيقظ ليجد نفسه في أحصان عدوّه، وسلاسل العبوديّة محيطة بجسده المُنهك الضعيف من كل ركنٍ وزاويةٍ. وإنما هي رسالة نبثها باسم الفقراء المسلمين العرب الذين يعيشون مجرّدين من كلّ شيءٍ على هامش الحياة. نبثّها باسم كل شريفٍ رافضٍ انتزع حروفَ مستقبله من بين كلمات سطور "السادة العبيد" الكبيرة المتزاحمة.
يا هؤلاء، يا مَن خَنتم الأمانة ونقضتم العهد مع كلِّ شيءٍ يتصل بالضمير من قريبٍ أو بعيدٍ، ماذا ستكسبون غداً عندما يقوم الناس لربّ العالمين؟؟ وبماذا ستجيبونه عندما يسألكم لماذا أحللتم أنفسكم دار البوار وكنتم من الهالكين؟؟
أيها "السادة العبيد"، ما النّفعُ الذي ستعود به عليكم صكوك التآمر على الناس في ليلةٍ صبُحها يوم القيامة، حيث لا مكان للاختباء أو الفرار؟؟ حروف غدركم ناءت بها السطور، وعجزت شياطين الأرض عن الإتيان بنصوصٍ فيها من القذارة ربعُ ما في نصوصكم! تخجل الأرض من زرعكم، زرع الأذى والكفران!! ويخجل الزرع من ريحكم، ريح العقم والسواد!! أخرُجوا من هذه الأرض أو عودوا إلى ملّة أهلها التي حفظتهم طيلةَ هذه السنوات التي تعاقبت من عهد أبيهم آدم حتى يومنا هذا ... أيها الناس، وعودُ الله وُعود محبّةٍ وأشجار طيبٍ أصولها ثابتةٌ وفروعها في السماء، أمّا وُعود هؤلاء فوعودُ ذُلٍ وأشجارُ خُبْثٍ هشّةُ الأصول منكسرةٌ سهلةُ الاقتلاع.
أيها "السادة العبيد" هزّوا الأذناب واقرعوا الأجراس، وأطفئوا هذه الشموع التي صنعتموها من لحم شعوبٍ فقيرةٍ متهالكةٍ، واسمروا ما شئتم على أنغام القهر والأنين في عهد الصّمت العربيّ المُطْبق. افرحوا ما شئتم يا رماد البشرية الضعيف، فريحُ الله قد هَبّتُ ريحُ الله قادمةٌ لتشتدّ بكم وتشتدّ حتى تجعل كل ذرةٍ فيكم تتمنى لو أنّ بينها وبينكم بُعد المشرقين المذهل.
جيلُ الغد قادمٌ بفؤوس المجد ليحطّم هذه الأصنام التي أنتم لها عاكفون، وستسقط أصنامكم وتتهاوى قطعاً من السّراب عند أقدام جيل الثورة الآتي، وسيبكي عندها كبير أصنامكم بدموعٍ حارةٍ مُحرقةٍ سالت بعد فوات الأوان. ولسوف تغشى وجوهكم قطعٌ من الليل مظلمة. حينها تنقلب قمم سلامكم إلى قيعان من النيران المتأججة التي لا يُسكِتها سوى أمرٍ من ربَ العالمين، هو الربّ الذي تكلّمتم باسمه في بلاد "سادتكم العبيد" مع أنّه منكم بريء. هو الربّ الذي تركتم عهده وراء ظهوركم وظلمتم عباده وأشبعتموهم ألماً وكفراً وقهراً. لقد كنّا شهوداً عليكم عندما فعلتم ذلك أفلا تذكرون؟؟ ألا تذكرون أننا قلنا لكم يومها: لن تحزننا أقوالكم؛ ذلك أنّنا نوقن بأن العزّة لله جميعاً وبأنّ أثواب الذلّ التي حكتموها لنا لا لن يلبسها أحدٌ سواكم.
إننّا نعلن رفضنا لواقعكم ووقائعكم وتوقيعاتكم على صكوك العبوديّة التي لا تفتؤون تحلمون أن تجعلوها قلائد في رقابنا. ولهذا؛ لأننا ارتضينا لأنفسنا أن نكون في صفّ الله تعالى لا في صفّ غيره، فإنّ العاقبة لنا وإنّ الله مُعزُّنا ومُذِلُّكم ومُلبسكم أثوابكم ومُسقيكم ماء ذلكم فهنيئاً لكم ذلك، هنيئاً لكم.
أيّها الناس، إننا على عهد الله باقون، إنّنا نبحث عن يومٍ أفضل ومستقبلٍ تُفتِّتُ أنواره تلال هذا الظلام الذي تراكم. يا مَنْ اتخذتم القرار بالسباحة ضَدّ التيار وأكّدتم عزمكم على رفض الانجراف والتبعيّة مدّوا أيديكم إلينا.
إلينا يا من رفعتم رؤوسكم في زمن المذلّة والنكوص على الأعقاب. هيا بنا سويّاً لنسحق العبيد الذين لبسوا الأقنعة وتجمَّلوا بثياب الحرير وظنوا أنّ الخلق لا يعرفون مَنْ يكونون؟ ومن أيّ أصلٍ ينحدرون؟ ولأيّة سلالةٍ من الممثلين ينتسبون؟؟؟
هيا بنا لنسحق الأقزام المتعملقين في عالمٍ تتراقص أخيلةُ الفناء أمام ناظريه في أيامه الأخيرة هيّا بنا، هيّا بنا.

...................................................................................................................................

أحلامٌ بلا جذور

د. راجح سباتين
فِقهُ التواضع ما أحوجنا إلى فقه التواضع! وجماليّات التواضع ما أحلاها جماليّات التواضع! هي ذاتها الأبجديات التي تكوّنتْ من مجموعها مفردات حياة الإنسان الأول أبينا آدم وأمَّنا حواء اللذين تواضعا في اللباس والمأكل والمشرب والمسكن وعاشا معاً دهوراً طويلةً وكانا أوّلَ معلّمَيْن الأوائل لنا بالرُّغم من بدائيّة كل ما حولهما في بداية النسل البشريّ على كوكب الأرض.
أيُّها العربيّ المتطاولُ في زمن التردّي، والمتعملق في غير زمن العملقة، قل لي من أنت؟ وماذا تريد؟ أتريدُ التطاول وقومُكَ يعشقون الانحدار؟ أم أنّك تريد الارتقاء وقومُك قد اصطلحوا على أن يكونوا في الدّركِ الأسفل من وجوه الحضارة الماثلة؟
هذا حديثي حديثُ الحسرة أبثُّه للمكتوفين في زمن الانفلات، المُنبعثين بأفكارهم وحرّيتهم خلفَ آفاق القهر وجدران الظلام وزمان الصمت الجاثم على صدورنا ليلَ نهار، جبلاً ثقيلاً لا يقبل الزحزحَة عن يمينٍ أو يسارٍ، فمن زحزحة فقد فاز فوزاً عظيماً، لا لشيءٍ إلا لأنه استردَّ من حريّته شيئاً ولو كان قليلاً.
ما أجملَ أن يستردَّ الإنسانُ شيئاً كان منه مسلوباً، كم يشعرُ حينها بأهمّيَته! ولكم هي عظيمةٌ هذه الأهمية! فهي تحمل في طيّاتها بواكير حكاية انتصارٍ نادرٍ في أعقاب هذه الهزائم الكُبرى المتواترة علينا منذ أمدٍ بعيد. هزائمنا حديثُ الأقوام الآخرين، حديثُ السادة الكبار الذين سلبونا كلَّ حروف الثقة والنَّصر مُذْ كُنّا أجنّةً نسبح في بطون أمّهاتنا. هزائمنا تبدأ من الداخل من صدورنا من ذاك القلب المتواري خلف سورٍ من أضلاع الصدأ. قلبٌ بلا جذورٍ، وإرادةٌ بلا جذورٍ ووجودٌ بلا جذورٍ! ماذا يمكن أن نتوقّع بعدَ كلّ ذلك؟ وبماذا يمكن أن نحلم بُعيدَ ذلك؟ ستكون من دون شكٍّ، أحلاماً بلا جذور!!.
..................................................................................................................................

يسألونك عن أبناء المدارس

(الجزء الثاني)
الدكتور راجح سباتين
          يعود صاحبنا للحديث عن تجربته مع أبناء المدارس مرة أخرى بعد انقطاع دام سبع سنوات كاملة، لكنه يعود هذه المرة وهو مثخن بالجروح والآلام والهموم التي تحاصره من كلّ وجهٍ وجانب. هذه المرّة كانت التجربة مع الوجوه الصغيرة والنجمات اللامعات في إحدى المدارس الخاصّة؛ مدرسة حديثة الولادة، صغيرة السنّ، صنعت سمعةً طيبةً في سنتها الأولى ثم راحت تعيش صراع البقاء وتحدي التميُّز ومعادلة الكينونة والموت التي يعاني منها البشرُ مذ وطأت أقدام آدم وحواء عليهما السلام هذه الأرض… للمرة الأولى وخلال تسع سنوات من السير على دروب التربية والتعليم يتلقّن صاحبنا دروساً صعبةً مريرةً كان فيها الطالب لا الأستاذ والتلميذَ لا الشيخ وذنبه في ذلك أنه لم يُعطِ الأمور تقديرها الصحيح ولم يُعطِ لكلِّ طفلٍ الوزن الذي يستحقه ولم يرسم لكل وجه الصورة الحقيقية التي لا تليق إلا به. تميّزت التجربة هذه المرّة بالقدرة العجيبة التي امتلكها صاحبنا على احتمال الألم وامتصاص الحسرة ومواجهة أصحاب الطرائق الملتوية الطويلة.
          ما عاد الأولادُ أولاداً وما بقيت البنات صغيراتٍ وما عادت المدارس مدارس يا رعاك الله. اجلس إلى ابن الثالثة عشرة خالطه، تحدّثْ إليه، صارحه واستمع إليه تجده أستاذاً في علم (الواقع) يتقنُ كل ألاعيب الكبار ويمتلك الموهبة في إيقاعك في كلِّ مشكلة قد تخطر ببال البشر في عصرنا هذا.
          يستطيع أبناء مدارس اليوم أن يحللوا شخصيتك ويحكموا على مشاعرك وأحاسيسك ويقيّموا عطاءك بالنجاح أو الفشل ونسبة هذا النجاح أو ذاك الفشل!! يعرفون لغة العشّاق ويلقّنونك دروساً مجانية على مُستوىً مُتقدّم في أحاديث العشق وفنونه وألوانه. يدركون أن الوردة الحمراء ترمز إلى الحبّ وأن البيضاء تشير إلى الصفاء وأن الصفراء ترمزُ إلى الغيرة، لا أراك الله إياهمُ يوم "فالنتاين"؛ فهم ينتظرون هذا اليوم وكأنّ الاحتفال به أمرٌ قد تنزّلت به الملائكة من عند الله من فوق سمائه السابعة!!! إن احتجتَ إلى تقريرٍ أو بحثٍ أو دراسةٍ عن عالم السينما والغناء والرقص فلا أنصحك بمرجعٍ سوى هؤلاء الأطفال الصغار؛ فهم يحفظون عن غيب أسماء الأفلام التي نالت وتنال جوائز "الأوسكار" كلّ عام ويفصّلون لك القول في اسم "الفيلم" وأحسن ممثّل وأحسن مخرج وأفضل "سيناريو" وما إلى ذلك من الجزئيّات ودقائق الأمور التي لا يلمُّ بها إلاّ من كان ذا خبرةٍ وتجربةٍ وعلمٍ ومعرفةٍ!!! خاسرٌ من يتحداهم في هذه المواضيع لا محالة خاسر.
          سيظنُّ كلُّ من يقرأ هذه الكلمات أن أبناء المدارس اليوم قبيحون وأنهم ذوو وجوه خاشعةٍ عاملةٍ ناصبة تصلى ناراً حاميةً وتُسقى من عينٍ آنيةٍ وأنْ لا طعام لهم إلا مِن ضريعٍ وأنه لا يُسمنُ ولا يغني من جوع. ولكنّ الحقيقة المدهشة التي تصدمُ كلّ من يزعمُ القدرة على تحمّل الصدمات الحقيقية أنّهم بريئون جميلون يعيشون في بيوت العزّ والرفاهية وأن وجوههم ناعمةٌ لسعيها راضيةٌ في جنّة الطفولة العالية التي لا تَسمعُ فيها لاغية، فيها عينٌ بل عيونٌ جارية فيها سُررٌ مرفوعة وأجهزةُ تلفازٍ وتحكّمٍ حاميةٍ. فيها أكواب "البيبسي" و "الكوكا كولا" التي تكفيهم حتى عام ثلاثة آلاف وثمانية… إنْ أنت تجرأتَ أن تدعوهم إلى الله والإسلام سيفاجئونك بفهم كاملٍ خاصٍ فريدٍ لمفاهيم (الحلال) و (الحرام) و (المعروف) و (المنكر) وينبهونك إلى ضرورة التزامك بمنهج (ادعُ إلى سبيلِ ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) ويذكّرونك بِ (ولو كنتَ فظاً غليظ القلب لانفضّوا مِن حولك)!! ويقولون في ختام هذا الحوار السريع الذي أداروه من طرفٍ واحدٍ أنهم يعرفون كل ذلك جيداً ولكنّهم ومع احترامهم لك ولما تدعو إليه، لا لن يتّبعوا إلا ملّة آبائهم الأوّلين وملّة أمهاتهم القديمات اللواتي يفهمن الحضارة والحياة والتقدّم والمدنيّة على نحوٍ يعجز عن فهمه "ابن خلدون" و "دانيلفسكي" و "توينبي"!!!
          الويلُ لك كلُّ الويل إنْ أنتَ تحدّثت عن الحجاب أو الزكاة أو حرمة الذهاب إلى المسابح المختلطة، عندها ستكون مطروداً من رحمة كلّ ذي رحمةٍ منهم وستكون عدواً لكل باحثة عن الحروب من أمهاتهم وستكون، يا رعاكَ الله، بئسَ الرجل وتعسَ المعلم ولن تُنعتَ إلاّ بما يُسمّم هواك من الألقاب ويُقلقُ فؤادك من الكلمات والألفاظ التي كان العربُ ولا زالوا أبرع الخلق في استخدامها. وبعد ذلك سيشرعون في حربك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا لاستنقاذ أولادهم من محيطك!!! وسيبذلون الغالي والرخيص في سبيل إخراجك من حياة أولادهم وإبعاد تأثيرك عنهم وإلغاء كلّ ما تدعو أولادهم إليه من سموم كالتفكير الحرّ والاستقامة والحجاب وتطبيق الإسلام في حياتهم اليومية!!!! إن جيلنا هذا جيل "أمريكي" خالص، من أعلى شعرات رأسه حتى أخمص قدميه. أعترفُ لكم بالنصر أيُّها العرب "المتأمركون" أعترف لكِ بالنصر يا أمهم أمريكا، وأعترف بهزيمتي وهزيمة العرب مجتمعين وأعتقدُ أن الهزيمة لم تُبقِ عربيّاً إلا ونالته وأصابتهُ حيث تُؤلمُ الإصابة. يؤلمني أن أعترف بانتصار العلمانية والإباحية وجيل البيضة والحجر… يا طابور المعلّمين الخامس استيقظ. يا أصحاب الدروس الخصوصية اتقوا الله في هذا الجيل واجعلوا غرفة الصفّ مكان لقائكم إيّاه وابتغوا إلى الله الوسيلة. أعجبُ كيف يهزم طفلٌ "في الصف السادس" معلماً جامعياً ذا مالٍ وعيال وشهادات وخبرات!! كيف ينتصرُ هذا الطفل على من فاق أباه سِنّاً وعِلماً؟؟ أهي مشكلةُ أستاذ مع طالب؟؟ أم أنه صراعُ جيلٍ مع جيلٍ؟؟ أم أنّه صراعٌ بين حضارةٍ وحضارة؟؟ لا بل قل بين حضارتنا وحضارات أبناء الظلام؟؟؟؟ أيُّها الناس، إنّ أولادنا يعادوننا من حيث لا نشعر، إنّهم يعلنون التّمرد على كل قيمة عندنا ومبدأ من حيث لا ندري!! أفلا تنظرون إلى تجارب الأقوام الأخرى في خسارتهم لأجيالهم وعداوة أولادهم لآبائهم ومحاربة بناتهم لأمهاتهنّ؟؟ هل أتاك حديثُ الشذوذ والسّحاق؟ هل أتاك حديث الكآبة والانتحار والأمراض النفسية التي تبدأ فلا تنتهي، والتي تنتشر فيعجز كلُّ أطباء الأرض عن علاجها ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً!!
          جلستُ إلى محمدٍ ابن الصفّ السّابع في إحدى المدارس التابعة لوكالة الغوث، فقلت له: يا محمد كيف أنت والمدرسة؟ وكيفَ الأولاد والأساتذة؟؟ فقال وهو لا يُبدي أيّة علامة تدل على الاهتمام أو المبالاة: كلّ أولاد الصفُ مدخّنون، وهناك أولاد يحملون "الشفرات" والأدوات الحادّة. المعلمون كبارٌ في السن ويخافون من بعض أولاد الصف لأنهم أقوياء ومشاكسون، حتى أن أستاذ اللغة الإنجليزية يسمع شتيمة الأولاد له مراتٍ عديدة ولكنّه يتظاهر في كل مرةٍ بأنه لم يسمع شيئاً؟!!!.
          جلستُ إلى دعاء ابنة الصف العاشر في إحدى المدارس الأخرى، فقلتُ لها: يا دعاء، كيف أنتِ والمدرسة؟ وكيف البنات والمُعلمات؟؟ فقالت، والحسرة تأكل لسانها وتأخذ نصف كلماته، وعيناها حائرتان مدهوشتان: بالنسبة لبنات الصف فأنصحك بنسيان السؤال عن أحوالهنّ لأن سؤالك جاء متأخراً ولأن محاولة إصلاح الفساد الذي هنّ فيه ضربٌ من أضربِ الجنون والعبث؛ ذلك أنهنّ كالفراش المبثوث الذي يحوم حول الضوء ويحوم وهو لا يعلم أن هلاكه واحتراقه في هذا الضوء الذي جذبه وأعجبه حتى قاده في النهاية إلى الموت؛ فهذا حال بنات المدارس اليوم؛ يركضن خلف الأضواء والأغنيات وكلّ ما يلمع وهنّ لا يعلمن أنهنّ يركضن إلى موتهنّ ونهايتهنّ السّريعة من حيثُ لا يشعُرنَ!!! أما المعلمات فلا هَمّ لمعظمهنّ سوى اللهث وراء لقمة العيش وتحصيل المزيد والمزيد من النقود، فهنّ في حال ضياعهن هذا لا يختلفن عن بني إسرائيل حال ضياعهم في صحراء التيه أربعين عاماً !! ولا يفترقن كثيراً عن قريشٍ قبل الإسلام ومن جاورها من القبائل التي كانت تعبدُ الأصنام وتسجدُ لها، فالذي اختلف لدى معلّماتنا هو المادة التي يُصنع منها الصّنم؛ إذ تحولت من أصنام الحجارة والخشب إلى أصنام الدنانير والذهب!!! أيها الناس، كلّنا مشتركون في جريمة القضاء على هذا الجيل الصاعد. كلّنا متآمرون على مستقبلهم بدءً بالإداريين الذين يسنّون قوانين التعليم ويحمونها ومروراً بالمعلمين الأدوات وانتهاءً بالآباء والأمهات. نحنُ الذين فشلنا في جعلهم يحسّون بمعنى الإسلام وحلاوته وقيمته في وجودنا وجرّدناهم من التفكير بكل قيم العروبة ومعانيها ، نحن الذين وجّهناهم نحو أمريكا وعظّمناها في عيونهم وقلوبهم وجعلنا منها كعبتنا الثانية. نحن الذين جعلنا منها أمّاً لكل يتيم أو باحث عن أمل، نحن… نحن…!!!
          إنّ الطفولة أصعبُ مرحلةٍ عمريةٍ يمكن أن يتعامل معها الباحث أو المربّي أو المعلم. وهذه الصعوبة نابعةٌ من اتصاف أصحابنا الأطفال بمجموعةٍ من الصفات المتضادّة وخليط من المتناقضات عجيب! ما أصعبها من معادلة تلك التي تجمعُ البراءة والشقاوة، والجمال والكذب والانجذاب والتنافر والعطاء والأنانية والتوازن والاختلال والاستقامة والانحلال!!!
          لقد أرهقتني هذه المتناقضات وأتعبتني مشقةُ السفر في عالم الطفولة والمدارس، ووالله ما أعانني على مواصلة المشوار، بعد العزيمة في التوكل على الله تعالى، سوى أنوار المحبة التي كنت أراها في عيون هؤلاء الصّغار والشوق الحارّ الذي كانوا يحيطونني به…
          شكراً دعاء هرماس، ليلى دبّاكة، نور عثمان، لانا آغا، مشعل أبو شخيدم، محمد نجيب، علاء هرماس، سامر النوباني، حسين الروسان، وائل سلامة (أبو وليام)، سميرة أبو هديب، منال المجالي، نيفين العيسى. شكراً، ميس الحوراني، لبنى الزبن، شذى غنايم، لينا قطيشات، رنا كنعان.
          شكراً أقولها من جذر قلبي لهؤلاء الصّغار العمالقة، شكراً لهؤلاء النجوم الذين رفضوا أن يتركوا سمائي مظلمةً مُوحشةً.
          لا يُخجلني أن أعترف في الختام أن هذه الجولة لم تكن لنا وأنّ هذا الزمان كان علينا وأعترفُ كذلك أنّ المواجهة أخذت من أولادنا وبناتنا، وراحتنا وأحلامنا كلّ ذي قيمةٍ وثمنٍ، ولكنني أذكركم على الدّوام بأن هنالك جولاتٍ كثيرةً قادمةً، وأنّ أيامنا آتيةٌ لا ريب فيها، وأن أجيالنا في تكاثرٍ ونمو وازدياد وأنّ أحلامنا العربية لن تعرف الجفاف أبداً أبداً.
          سأبقى على عهدي مع الله تعالى ما حييتُ، سأبقى أذكِّر الأولاد بنور الله وناره وبنعيمه وعذابه وبثوابه وعقابه، وسأسعى ما استطعتُ لأكون بإذن الله، مفتاحاً لما تغلّق من أقفال القلوب القاسية ونوراً لما خبا من سراج العقول النامية.
          كنتُ وحدي منذ البداية، وها أنا الآن وحدي وقد عاهدتُ الله على الصبر والوقوف في وجه هذه الابتلاءات والحروب.
          أنا على عهدي، وكيف لا أكون كذلك وأنا أستشعر وجود الله تعالى خلفي بتوفيقه ورضاه؟؟ كيف لا أكون على عهدي وأنا أدعو إلى النور والمحبّة والتّفوق والأمل وجنّةٍ عرضُها كعرضِ السماوات والأرض أعدّت للمتقين، كيف لا أكون كذلك؟ كيف لا أكون؟؟
...................................................................................................................................


أيُّها العَرَبِيُّ الحَزين
د.راجح سباتين
عندما تحاصرك الوجوه المريضة، وتجهزُ آلام القهر على صدرك لن تجد لنفسك مهرباً سوى إلى طبيعة الله الجميلة التي تأخذك من حضن هذه الآلام لتنسى في ربوع بلادها ما تراكم على قلبك من نكد أبناء بلادك الذين احترفوا النّكد ولازموا الهمّ، وكان الغمُّ غيوماً لسمائهم البعيدة المتعالية…
وعندما تطبقُ وعود الكذابين على دماغك فتقتل كل جزيئات أحلامك وتخنقُ قلبك لن يراودك، حينها، شعورٌ سوى الرغبة في أن ترفض وتتمرد وتثور وتعمل على إفشالهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا…

أيُّها العربي الحزين، عندما تشعر بأنّ من حولك يضايقون روحك ويؤلمون كلّ ذرة للبقاء فيك وعندما تشعر بأنّ أشباه الأصدقاء وأرباع الرّجال يعملون جاهدين لاستخلاص كلّ ما يمكنه أن ينقذ فؤادك ويمدّك بطاقة المحبّة من جديد. وعندما تشعر، يا رعاك الله، أنّك تحيا بلا هدفٍ بعد أن شتّت اليأسُ كل محيط الأهداف ستشعرُ حينها بضعفك وذوبانك وحاجتك الصّارخة للعودة إلى الله من جديد… وحينَ تهبّ رياحُ اليأس على روحك فكنْ على ثقةٍ بأنها ستجعلك تنسى أوراقك وكتبك وكلماتك وأرقامك وحروفك… تصوّر، يا رعاك الله، أن تحيا من غير الحروف التي هي صنعتُك، وحِرفتك وحاضِرُك ومُستقبلك!! كم تغدو حياة الجاهلية موحشة حينها! ولكم يتقوّى التشاؤم في ذاتك آنذاك، وستعمل على تسلية روحك بأنشودة التشاؤم (قد أفلح المتشائمون، الذين هم في التشاؤم مُغرقون، والذين هم لحقيقة المسرحية فاهمون، وللخروج عن نصوصها عاشقون…).
وبعد؛ فأين تمضي أيها العربي الحزين؟؟ وقد نسجوا من فوق رأسك شباك العنكبوت وحاكوا من حول بيتك شباك العنكبوت، وأغلقوا فمك وقيّدوا عقلك بشباك العنكبوت. أين تمضي؟؟ وأنت ترى الأمل غارقاً في زمان لا نجاة فيه إلا لمن سبح وفق شروط العنكبوت. وستبقى، أيّها العربي الحزين، ما حييت كارهاً للحقيقة، متهرباً من مواجهة الواقع، مختبئاً خلف نظّارتك السوداء لئلا تُعرف هويتك، مُفضِّلاً السّراب على الحقيقة، مؤثراً الرّاحة على التّعب، وسيصعب على عينيك أن تتخيلا شكل النّور بعد أن ألفتا صحبة الظلام هذه العقود الماضيات. وستركض في عالم الأشياء حتى تصل في النهاية إلى "لا شيء". وستبكي كلّما سمعت في مذياعك الصغير حكاية عن الأمل والسعادة وكل طير يطير. وسيصعب عليك هذا الوجود وأنتَ لا تملك إحساساً بالوجود.
أيها العربي الحزين، عندما تخلصُ نفسك إلى نفسك وتشتاقُ روحك إلى روحك وتجلسُ وحدك في لحظات الصّفاء النادرة المعدودة وتجرؤ على مواجهة نفسك ومصارحتها ستدركُ حجم الغربة التي تعيشها وستدركُ ألم المسافة البعيدة الممتدة بينك وبين روحك وستدرك أنّ بينك وبين ذاتك مئات البحار والمحيطات والجبال والأراضين التي تمنعك من مجالستها أو معاتبتها أو حتى الاشتياق إليها.
أيُّها العربي الحزين، ندرك، يا رعاك الله، كم تشتاقُ إلى نفسك العربية الأصيلة التي غابت شمسُها وتركتْكَ في ظلامٍ موحش وبردٍ قارس تتلمس فيه الدفء والحنان فلا تمسك في ختام الأمر إلا بالبرودة والقسوة والجفاء.
أيُها العربي الحزين، أنت بحاجة إلى مصالحة مع ذاتك وعهدٍ مع ربّك تبارك وتعالى، وعودةٍ إلى دينك وفهمٍ صحيح مريح له؛ فلا رافعَ ولا مُعزّ ولا ناصر لك إلا هو، ولنعمّ هو. وأنت تُدرك تماماً أن كلّ ما يحيطُ بك غيرُ آبهٍ بك. ونحنُ ندركُ حجم الغربة التي تعيشها وتتراءى لناظرينا حدود الغابة التي تضمّك ومَن حولك مِن عبدة النّساء والقروش والدنانير البارعين في هندسة المباني الكلامية ورسم لوحات الأمل الوهمية، ذوي الوجوه الصفراء المسودّة الذين يعتبرونك هدفاً متحركاً وفريسة أحلّ الله صيدها…
لقد رأيناك عندما كنت تبكي ولمسنا حرارة دموعك التي حفرتْ على خديَّك الأحافير، ورأيناك كيف لجأتَ إلى المسجد القريب في محاولة منك للنهوض واستجماع القوى من جديد، وكُنّا على علمٍ آنذاك أنّ تركيز الألم فوق وسعك وقُدرتك على التّحمل ورأيناك عندما ركضتَ إلى طاولتك وأقلامك وأوراقك، وسمعنا صوت الجدران تطاردك لتطبق على صدرك ولكنّنا، وللحقيقة، استشعرنا بوارق الأمل تلوح في أفق الحقيقة عندما ركضت نحو الهاتف تنشدُ صوت زوجتك وتسرق الأمل من حروفها وتحيا بما تمدك به من الحبّ والحنان بالرغم من تباعد المسافات وتطاول الأزمان بينكما. واستشعرنا بوارق الأمل من جديد عندما رأيناك تُهاتف بعدها صديقك الواحد الأوحد بشوق ولهفة، ولكم سررنا عندما شهدناه قد غضب وثار وألقى النّصح مذكراً إيَّاك بعهد الأخوّة والتوكّل والمحبة واليقين، وذكّرك بأن مع العُسر يسراً، وبأن التوكل على الله وحده يعلو مهما تطاولت من حوله السُّقف، وبأن المحبة غالبةٌ مهما طالت جولات انتصار الكراهية والشرور.
أيّها العربي الحزين، لا يؤلمك ما تراه في مجتمعنا المتهالك من تقدير وتوقير للحمير، فقد أدرك الناسُ، على ذمة الراوي، بعد مُضيّ العُمر جماليّات التعامل مع الحمير، وثبت لديهم بالتتبع والاستقراء أنّ كبير الأساتذة، سيد العارفين إنما هو شيخ الحمير…
ولا تندم، يا رعاك الله، على ما فاتك في ماضيك القريب من عداوة للحمير وآعمل على تغيير طبعك هذا، وحاول ما حييتَ أن تتكيفَ وتتعايش مع الحمير، فقد ثبت بالدليل القاطع والبرهان الساطع أنْ لا قيام ولا بقاء لمجتمع المدنيّة والتحضر إلا بوجود الحمير، حمير الأنس وحمير الجنّ وحمير الحمير. ولتعلم أيّها العربي، أنّك لست في الحزن وحدك؛ فنحنُ شركاؤك. نحنُ كذلك شِئْنا أم أبيْنا؛ فقد غيرّ الدينارُ هويّاتنا وديننا وجنسنا فلا ننتمي إلاّ إليه ولا نعترف إلاّ به ولا نقيم وزناً إلا لمن حمله في جيبه آحاداً وعشرات ومئات وألوفاً… وفوق هذا وذاك فقد طمسَ الدينارُ معالمنا وداست أقدامُ الأعراب رقابنا وغدونا لهذا الذلّ قابلين مستمرئين ولكننا، وللحقيقة، تبدّلنا اسمه بأسماء أخرى وقعّدنا القواعد ورسمنا الثوابت ورفعنا الشعارات للتعامل مع واقع الذل والهوان وأُشربنا في قلوبنا قول القائلين (وأرضهم ما دُمت في أرضهم) و (دارهم ما دُمت في دارهم) وقد برّرنا أفعالنا وتصرفاتنا هذه على أنّها فنٌّ حيوي لازم للتعامل مع الواقع والمحافظة على الرزق وضمان المستقبل الآمِن!!! متناسين أن هنالك رباً استوى على عرشه فوق سمائه السابعة تكفّل بأرزاقنا وأرزاق أبنائنا ووعدنا باليُسر بعد كلِّ عُسر وأمرنا بعزّة النّفس والحفاظ على الكرامة في كلِّ حالٍ ومآلٍ…
ولمّا تناسينا ما تناسينا خرجنا من دائرة وعد الله وطردنا أنفسنا من رحمة الله وصرنا كالبهائم بل أضلّ سبيلا، وكان من الطبيعي عندئذٍ أن تنقلب رؤوسنا وتتحرك ثوابتنا وتتجمّد في قلوبنا النيران، وكان من البديهيّ أن ترتفع المرارة لتكون الأستاذ الأعظم الذي يتفنّن في تلقيننا دروساً جديدة بحروفٍ جديدة وعلى ألواحٍ جديدة بطبشورٍ أسود يُلغي كلّ ألوان المرح ويمسح كلّ وجودٍ للجمال ويهدمُ كلّ أساساتِ الأحلام وتنتشرُ المرارةُ انتشار الهواء لتكون حديث الناس الوحيد…
        ........................................................................................................................

من جماليات الحياة في أرض العرب

أشواقٌ وغروبٌ ... وبحرٌ لا نثق به
د. راجح سباتين
عند الغروب أرى وطني، وعند الغروب ألحظُ ريحه تدخل أنفي فتثيرُ عشرات الذكريات وتُلقيني في أحضان الحنين. وعندما أرى وطني فإنّني أراكِ وأرى فيكِ ذاتي تتأرجح برقّةٍ ودلالٍ في نسيم الخليج العربي الدافئ. عند الغروب فقط تنبعث الحياة فتنطلق بواخرها ويدبُّ النشاط في مطاراتها ومحطّات قطاراتها من جديد.
النّهار عندنا يا سَيّدتي العربية الجميلة يبدأ عند الغروب، وقيمة الصّيف كلّها تتلخّص في وقت الغروب.
والحياة عندنا يا سيدتي العربية الجميلة، تبدأ عند الغروب.
والحبُّ يخفق في قلبي شوقاً إليكِ وللأولاد عند الغروب.
وتتراءى لي في الأفق البعيد صورةُ أولادنا يلعبون الكرة خلف حقول السنابل المتراقصة عند أقدام صحن الشّمس البرتقالي الباهت البعيد ... وتتألق دُنيانا، دنيا العرب في لحظاتٍ فريدةٍ تهرب فيها عن عيون "السادة الأمريكان" الذين حرّموا عليك الضّحك وحتى الابتسام.
وترتسم على لوحات الجدران البعيدة آمالٌ تأخذ طريقها نحو النّور، كتلك الخرائط والرسوم والخواطر المحفورة بدمع كلِّ مظلومٍ خطّها على جدران السجون ... ويعلو صوت العصافير الحرّةٍ فوق أزاهير الأقحوان في كلِّ وادٍ من وديان أرض العرب، ونطير بآمالنا وأحلامنا لنزور كلَّ ركنٍ في بلاد التين والزيتون وطور سينين. ويأخذنا الشوق إلى حقولها الخضراء التي يُحيط بها الجَمالُ من كلّ جانبٍ وتجري من تحتها الأنهار عذبةً لكلِّ شاربٍ، وتحتشد الخيولُ العربيةُ الأصيلةُ السمراءُ على جنباتها لتعلن للعالم كلّه عن جماليات الحياة في أرض العرب ... ونطير بآمالنا وأحلامنا لننظرَ بُعيدَ ذلك إلى طفلٍ عربيٍ أسمر المعالم تمتد عيناه السوداوان وتتسعان لتأخذا في أحضانهما كلَّ هذا الأفق الواسع البعيد، ولنرعى أمّاً عربيةً مكافحةً حنوناً، تستيقظ قبل الشمس وتنام قبل القمر فتكون قد ملأت في المسافة الممتدّة بينهما كلِّ الكرة الأرضية محبةً وحناناً ونشاطاً وعطفاً، حالُها حالُ كلِّ أمّهاتنا العربيات الممتدَّات من بقايا الجيل الأصيل القديم. ونطير بأحلامنا إلى الساحل وتأخذنا الأشواق إلى الساحل وترمينا الذكريات عند صخوره العتيقة المُخضَرّة دوماً المبَلّلة بماء مجد العرب الغابر وعناد بحره الثائر الذي ارتضى كلَّ ما ارتضى إلا أنْ يصمتَ أو يخاف. وكيف يصمت البحر وموته في الصمت؟؟ وهل يملك البحر أن يخاف أو يتراجع بعد كلِّ هذي الثورة وهذا الغضب المتفجّر إلى يوم يبعثون؟؟؟
حكايتنا مع البحر يا سيّدتي العربية الجميلة، هي حكاية الإنسان مع الحياة بكلِّ ما تحملها من الخبايا والحكايات والقباحة والجمال. غير أننا لا نثق بالبحر، ذلك أنّه لا يتردّد في إظهار غدره وخيانته لنا ولكلّ الذين أخلصوا له من البحّارة وقادة السفن وأهل الساحل والجزائر. حتى جرائد النّخل التي كانت صديقته لسنواتٍ طويلاتٍ انقلبَ عليها وضربها بهوجائه وأغرقها بمائة مرّات ومرّات، لكنّها عادت كما عُدنا، وتوازنت كما توازنّا بعد كلِّ ذاك الانحناء القسريّ وتمالكت نفسها وانتصبت شامخةً من جديدٍ لكي تعلِّمَنا وتعلِّم العرب كافّةً ألاّ نيأس أو نموت ولكي تعلّمنا أنّ بعد كُلِّ ضربةٍ قاضيةٍ بدايةً جديدةً وأملاً جديداً يغمر بأنواره كلّ المطعونين الذين لم يتعلّموا الدرس مِن أولّ مرة ....
............................................................................................................................
أشواقٌ بلا حدود
د. راجح سباتين
مضت أيامٌ طِوالٌ تعاظَم خلالَها حُبّي لكِ وللأولادِ، لدرجَةٍ فَاقتْ حُدَودَ الأحلام وجَاَورت فضاَء المُستحيل ... أدركتُ خلالها أصالة المحبّة التي تربط بيننا وحجم العَهد الذي قطعناهُ سوّياً أن نظلّ رفاق الدّرب إلى أن يَرِثَ اللهُ تعالى الأرضَ ومَن عليها...
زيْتُونَتي الخَضْرَاءُ أَنْتِ
رُمَّانَتي الحَمراءُ أَنْتِ
تُربَتي البُرتُقاليَّةُ العَربَّيةُ أَنْتِ
مِن جُذورِ عينَيكِ الخضراوين تنبعثُ أصُولُ النَّخيلِ لتملاَ كلَّ أرضِ جزَيرَةِ العَرب في عَهدٍ ماتَ فيهِ الشّجر، وجَفَّ الماءُ ... وانعدمَ الثَّمرُ ...
يَا جَوهَرتي في عَهدِ الزُّجَاجِ
ويَا بسْمَتي في عَهدِ العبُوس وَالتَولّي ابقَيْ مَعي ...
إبقَيْ شعاعَ ضوئي في وديَان الظَّلامِ التي ابتلعَت كُلَّ معالمِ الحضارةِ والمدنيّة الحَاضرة.
أنتِ مَقلمتي التي تَحتضُن كلَّ أقلامي التي بها أكتُبُ وأتحدَّثُ وأُعَبِّرُ عن وجُودي وذَاتي ...
أنتِ محِبَرتي التي تُعانق ريشتي النَّاطقَةَ باسمِ الحُبِّ واسْمي ...
أنتِ علبةُ ألواني أرسمُ بحروفي على وَجْنَتيكِ كُلَّ ألوانِ المحبَّةِ والفَرَحِ في هذَا الوُجُودِ الحزين.
تنَاثرتِ الحُروف ... وتباعَدتِ المسَافَاتُ وعَلاَ صَوْتُ الشَّوْقِ عَلى كُلِّ صوتِ.
كتبتُ هَذِه الكلماتِ لأُعيدَ التعبيرَ عن حُبّي وشَوْقي، كَتبتُها لأُجَدِّدَ بَها حُبّي وعَهْدِي.
كَتبتُها مُذكِّراً إياكِ ونَفسي بوجُوب شُكِر الله تَعالى عَلى مَا تَفَضّلَ به عَلينا من أنواع النِّعم الظّاهرةِ والباطنةِ، ومَا فتحهُ علينا مِنَ الخَيرات الحاضرَة والقَادَمِة والتي سَبقَتْ.
كتبتُها ولا أرتضي لها سَقْفَاً إلاّ رضىَ الرّحَمانَ الذي وَعَدَنا باليُسر بعدَ كل عُسْرٍ، وبالنَّصرِ الأكيدِ ولو بَعْدَ حِين ...
............................................................................................................................
لو أنَّ زمانَكِ وافق زماني ...
د. راجح سباتين
هي ذاتُها أحاسيسُ الشَّوق يا سَمرائي تتجدََّدُ كلَّ حِينٍ وحينٍ وتأبى الآنِئَسار خلفَ قُضبانِ الذكريات ... وهوَ ذاتهُ وقوعُ الشَّوقِ الموُجِعُ الذي يُراودني طيفُهُ كلَّما خَلَوْتُ بنفسي أو خَلَت بي...
في بلاد الشَّمسِ وصحرائِها المُتَرِاميةِ الحارَّةِ أَجدُني في حاجةٍ شَديدةٍ لِعَينيكِ الخَضْرَاوينِ أَعصرُ فيهمَا شَرَابي وأُسْقى مَائي فَلاَ أظمأُ حتَّى حِينْ.
بَوارقُ العَودة مُنْبعِثَةٌ من أُفُقِ الأَمل، وهمساتُ الشَّوقِ تتحدَّثُ عن عودٍ وشِيكَةٍ ولقاءٍ قريبٍ ... ومَا قيمةُ وجُودِنا إِنْ نَأَتْ بينَنا المسافاتُ وما قَطَعَها هذا النَّوعُ من اللِّقاءِ القريب؟؟؟ حِننَ تُخِّيمُ الظَّلْمَاءُ وترمِي بثوبِها الأَسْود الدَّاكنِ على مشارق بلادِنا ومَغاربها، وحين تُعانِقُ حبَّاتُ المطرِ تُرابَ بلادِنا بعدَ طولِ انِحباسٍ، حيَنها سَاتيكِ في عَرَباتِ الفجِر السَّريعةِ المُشْتَاقةِ دوماً لوصُولٍ آمِنٍ مُريحٍ ...
مَسحَ اللهُ دموعَكِ كَما مَسحتِ دُمُوعي....
وشَفَى الله جرُوحَكِ كَما شَافيتِ جُروحي....
وخَفَّف الله عنكِ مِثل الذي خَفََّفْتِ مِن أحمالي الثِّقَالِ حينَ آمتلاتْ قلوبُ الناس بالضَّبابِ وانعدمتْ الرُّؤيَا واختفتِ الاتجاهاتُ وتداخَلتْ الوجوهُ وعَجِزتِ المعَالِمُ الأصِيْلةُ عن التَّميُّز والوضُوحِ.
لوَ أنَّ زمانَكِ وافَقَ زَماني ....
ولو أنِّ مَكَانَكِ طَابَقِ مَكَاني حتّى تَشهدي ما أحملهُ لكِ من المحبّة والشّوق ...
ها أنا ذا أعودُ إليكِ وأركضُ في دنياكِ من جديدٍ بعد أن طالَ بي الغيابُ وشَدَّتنيْ الهُمومُ ورَسَبْتُ في امتحانِ الشَّوقِ مِن يومي الأَوّل. وهَا أنتِ ذِي تَعودينَ إلى عَينيّ مِن جَديدٍ بعدَ أنْ طالّ على الناسِ الأَمَدُ، وقَسَتْ قلوبُهم فهي كالحجارةِ بل أشدّ قَسْوَةً
 ... ...................................................................................................................................
"حَديثُ الرّيحان في آخِرِ الزَّمَان"
د. راجح سباتين
يا رَيْحانتي الخَضراء الحَالمِة، أبثُّكِ أحاديث المحبّة والأشواق والألم اللذيذ التي أراها لا تليقُ إلاَّ بكِ ولا تنطبقُ إلاّ عليكِ. وقد ثارت رائحةُ ذِكراكِ العذبة كرائحة الرّيحان في الحديقة الفلسطينيّة العطشى التي طال عَذابُها تحت حرارة الشمس إلى أنْ بعثَ اللهُ تعالى لها مَن يقومُ على سقايتها ورعايتها، ويعملُ على تدليل أوراقها ... حتّى يغربَ آخرُ أنفاسِ هذا الزَّمان ...
إليكِ أعودُ، ولئن طالت الغُربةُ وتطاولتْ ساعاتُ الهروب.
وتحت جفنيكِ احتمي ما دامَ الخوفُ في دُنيا العروبة والعَرب ...
أرأيتِ إلى ريحانتين تتجاذبان حديث المودّة والحُبِّ على عتبة الغروب في بيت جدّتي العتيق؟؟ كذلكَ كان مَثَلُنَا وسيبقى، ما بقيَ الزَّمانُ والمكَانُ ...
أرأيتِ إلى الطُّيور الحزانى البواكي التي تشقُّ طريق الحنين والعودة إلى أعشاشها عندما يبدأ النّهارُ بالهروب نحو أطراف الأرضِ البعيدةِ؟؟؟ كتلكَ عودتي إليكُم ولو بعدَ حِينٍ ...
أم أنّكِ رأيتِ الآباء المُنْهَكينَ مِن برد الشّتاء القارس يسيرون في دروب الشّتاء القاسية نحو بيوتهم والشَّوقُ إلى الأولادهم يحذوهم ويُعينُهم على المسير؟؟ ذلكَ بَعضٌ مِن شوقي وحنين رُوحي إليكم، في زمانٍ آنطفأت فيه الأشواقُ وماتَ الحنين ... هيّا نجدّد بيعةَ الحُبِّ... هيّا نُعيد رَسمَ حُروف دَربنِا ...
هيَّا نعين أولادَنا على صُعُود درجات سُلَّمِ المحبَّة، والطُّموحِ، والبحث عَن التجديد.
أترينَهُم يكونونِ كَما كُنَّا؟؟ ويتعاهدون كَما تعاهَدْنا؟؟ ويكبرُونِ بحُبِّهم لله تعالى كما كَبُرْنَا؟؟ أترينَهُم يهرُبونِ إليكِ وينشُدون عنَدكِ المحبّةَ والحَنانَ والنّصيحةَ الصَّادقةَ كُلمّا أطبقتْ مِن حولِهم أبوابُ المحّنِ والشّدائد كما كنتُ أفعلُ؟؟
أم ترينهُم يفهمونِ معادلة "الأشواكِ والوُرود" بالطّريقة التي فَهِمَناها؟؟ ويتكيَّفون مع "السَّهل والصّعب" و"الحُلوة والمُرَّة" كما عِشنا وتكيَّفنا على الدَّوام؟؟
أمْ أنَهم يكونونِ
 غير ذلك؟؟؟ 
..................................................................................................................................
"شُكْراً لَكِ"

د. راجح سباتين
كُنَّا سَوِيّاً على امتداد لِحظاتِ الجوعِ والخوفِ والبحث عن الأَمانِ والمُستقبل الأفضل. ولا زلنا نعيشُ في بُستان الورود التي زرعتُها وإياكِ وَرْدَةً وَرْدَةً خَلفَ جُدرانِ الأَمل والتَوكُّل الذي أقمتُه وإِيَّاكِ لبنةً لبنةً رُغْمَ أنفِ كُلِّ مَن اعتَرضَ طريَقنا مِن الأَشْوَاك والعَناكبِ والخَنافِسِ البَشرَّية الملوَّنة المريضةِ ....
اليومَ، وبعدَ انقضاءِ السَّنةِ الخامسة عشرة يَقفُ قَلمَي لِيَعْتذَر إليكِ بكُلِّ ما أُوتَي مِن كلمات الأدب ِ والجمالِ والحُروف الشفّافة قائلاً: سَيِّدتي ذاتَ العينين الخَضْرَاوين شُكراً لكِ على محبَّتِكِ التي كانت حِبْري وطَاقَتي وشمسي .... شُكراً لكِ على حُبٍّ لا يَعرفُ ولا يَعترفُ بها الحدود ... شُكراً لكِ على نورٍ لا ينطفيءُ، وأحاسيسَ لا تموتُ ... شُكراً لكِ على انتمائكِ لي وللأولاد ولبَيتنِا الصَّغيرِ الدافئ ... شكراً لكِ إذ احتملتِ عُمَر وأخويه وأباهم؛ فالقدرةُ على احتمالِ هذه الشّريحةِ من الناس لا يُعطيها الله تعالى إلا لخاصّة أوليائهِ وعبادِه...
فشُكراً لكِ شُكراً ...


..................................................................................................................................
متى تشرقين من جديدٍ؟
د. راجح سباتين
لمّا جَنَّ الظلامُ على بلادنا وارتسمَ وجهُ القمر في سَمائِهِ الصَّافية من جديدٍ، هَبَّتْ رياحُكِ على روحي فمزّقت أشرعتها وأبقتني راكداً على ظَهْرِ بحرِ الظُّلماتِ، تتلمَّسُ مجاذيفي طريقَ العودة دُونَما جَدوى ...
وقَلَّبتْ ريحُكِ الموجَ ضِدّي فأخذ يمتدُ ويتماوجُ لِيحمِلَ مركبي مُشعراً إيَّايَ بدوامةِ الشَّوقِ التي لا تنتهي ... حاولتُ جَاهِداً أن أتوازنَ، ولكنْ دون فائدةٍ تُذكُر.
هَا نحنُ أولاءِ، باعدتْ بيننا المسَافَاتُ مَرّةً أُخرى، وتَطايَرت في سَمائِنا حروفُ الشَّوق مِن جديدٍ، وعاد الشَّوكُ لينتثِرَ على درُوب لقائنا وقد جفَّتْ مِن حولهِ الورودُ.
وغدوتِ كالقطار؛ ما إن تتوقَّفي حتّى تعودي للآنطلاق من جديدٍ...
أنتِ الرِّئةُ التي يتنفّسُ بها قلبي....
أنتِ عَيني التي بها أُبصرُ الأشياءَ وأُمُايزُ بين الألوانَ وأُدركُ حَقائقَ الأمور ...
رَنينُ الشَّوق أنتِ وخَفْقُ القلبِ أنْتِ.
غَابَ وجُهكِ فغَابَتْ شمسُ الوجُوه.
متى تُشرقينَ مِن جديد؟؟ وهَل في العُمر مِن زيادةٍ تحتملُ ساعاتِ الشَّوقِ وضُغوطَ الانتظار؟؟؟
قَطّعَ صوتُكِ أوصالي.
وطَغَتْ صورةُ عينيكِ.
على كُلِّ الصّورِ.
وعلى كُلِّ العُيونِ.
وعلى كُلِّ ما يمُكنُ أَنْ يَكُون ...
................................................................................................................................

لوحات بكائيّة في زمن الانكسار

الدكتور راجح سباتين
كانت الغيوم الهلكى تتراكض بتثاقلٍ واحدةً خلف جارتها في أطراف سمائنا البعيدة، حتى أنّها أمست غيرَ قادرةٍ على التجمُّعِ ولو لتشكيل لوحةٍ باسمةٍ في كبد السماء. وكانت رياح الموت العقيمة قد حاكت أثواب الحزن السوداء واستخلصت لنفسها أشدّها دكنةً وبؤساً. حينها كان أبناء آدم يقفون على أنقاض كلمات المحبة وتبعثر حروفها باحثين عن شيءٍ مجهولٍ لا يعلمون عن ذاته القدر الكثير، كلُّ الذي يعلمونه عن ذاك الشيء أنه سيعيدهم إلى الحياة من جديد‍‍!!
نعم، ها نحن أولاء نقف حائرين محاولين مرةً أخرى في طيّات هذا الزمن الثـقيل الصعب. مرةً أخرى أكتُب كلماتي وأُعيد صياغة خواطري وتركيب عاطفتي فأجد أنَّ أولاد المدرسة هم الحبُّ الوحيد الذي يمتصّ همّي ويذهب به ويتلقىّ عني ضربات الألم. أجدهم منثورين من حولي بطريقةٍ ربّانيةٍ غريبةٍ لم يألفها عالم الكراهية والأنا من قبل. كنت آتي في الصباح مشبعاً بما تراكم على دماغي من مشكلات اليوم السابق فيفاجئني أحدهم بابتسامةٍ فتيّةٍ رائعةٍ، ويتقدم منّي قائلاً بلهجةٍ ريفيّةٍ شفّافةٍ: هذه وردة للأستاذ الوردة، فلا أملك إلا أن أقبل هذه الهدية الخفيفة المحمل، الطيبة الريح، وأجيب بابتسامةٍ عجوزٍ رسمتها أنامل السخرية على شفتيّ قائلاً: شكراً يا حبيبي، وفي داخلي يتردد صدى الفقر واليأس صارخاً: متى؟ متى يكون لي ابنٌ؟ متى؟؟ وهكذا أعود لأجد نفسي داخل دوامة الأمنيات والأحلام من جديد!! وتنسال دموعي بحرارةٍ لتحدّث الشهود عن حلمي الذي تبدّد في المحيط العربي الفقير؛ في يوم من الأيام، ومنذ زمن بعيد كان عندي حلمٌ أخضرُ كما عيناها، نديٌّ كما أوراق الورود، مشرق كما الشمس الخريفيّة التي تكافح لاختراق أثخن أكوام الغيوم ثم تشرق بُعيدَ ذلك راسمةً في سمائنا أحلى اللوحات وأرقّها… لقد حاربني أعراب المدنيّة ووقفوا في وجهي ما استطاعوا حتى بدّدوا ذلك "الحلم الأخضر". هذي هي الحقيقة التي لطالما هربتُ منها؛ لم يتبقّ في داخلي سوى أطنانٍ من الانكسارات التي تثـقل كاهلي وتدفعني نحو الشيخوخة قبل أوانها، ونحو اليأس في غير وقته، فأهوي هيكلاً أجوف مليئاً بصوت أمواج اليأس التي تتلاطم ما بين جدران روحي آخذةً إيّاها في رحلاتٍ أبديةٍ نحو عالم الوحدة والقهر وبكاء المحروقين الذين رسموا الأمنيات ببراءةٍ فحطّمتها أصابعُ الواقع الأسود.
لستُ أدري أهي بداية النهاية؟ أم أنها مجرد نهايةٍ للبداية؟ أم ماذا؟؟ كلهم يقولون: (لا بأس) (كلّما ضاقت ستفرج). وكلُّ ذرّةٍ في قلبي تتساءل: أَفرجٌ بعد هذا الضيق السرمديّ؟ أم بداية بُعيدَ النهاية؟ كلُّ شيءٍ يتناقص، كلُّ المؤشرات تتجه نحو الخلف مكملةً استدارتها لتعود إلى الصفر من جديد! أيعقل هذا؟ أيعقل أن أعودَ صفراً كما بدأتُ؟ تساؤلاتٌ تدهشني وتغمرني حتى لا أجدُ لرئتيّ تحت مائها منفساً؟ ما عاد هنالك مَنفسٌ فقد استخلصته الوحوش الكبيرة لأنفسها… وهكذا، وفي الختام أبقى وحيداً على خشبة المسرح لا يؤنسني سوى نصوص الحياة "التراجيدية" التي خُطّت بأنامل الفقر، وتتردد في جو ذاك المسرح الفارغ إلا مِنّي، كلماتٌ تقول: كلهم يذهبون بحلّتهم البهية وملابسهم الأنيقة وعطورهم الثمينة للقاء أحبّتهم، وتبقى خلفهم روائحُ العطر تعبق في جوّ الفقير المسكين الذي لا يملك ثمناً لعطورٍ نفيسةٍ أو لملابس أنيقة!! كلّهم يذهبون ويبقى الفقير راكداً وحده والدموع تنساب على خدّيه بصمتٍ فرضهُ واقع الذلّ والفقر وتمجيد الناس لأعراب المدنيّة المزيّفين. وبعدُ؛ فأين تمضي أيها الفقير الشفّاف؟ وهل بقيتْ لديك قدرة على المسير؟ ستقول بأنك يجب أن تمضي لتعطي المزيد. ولكن، هلاّ ساءلتَ نفسكَ: هل تبقّى هنالك ما يُعطى؟ وهلاّ ساءلتها: هل تبقّى هنالك مَنْ يستحق أن يُعطى؟؟
          أيها الفقيرُ الشفّاف، نعلم علم اليقين أنَّ المؤامرة جاءت أكبر منك هذه المرة، ونعلم كذلك أنّك توقّفتَ رغم إرادتك بعد أن نفذ منك وقود الحياة لا بأس عليك لا بأس، فكلنا في هذا الواقع متوقّفون. كلنُّا سنركع في محطّة قطارات الحياة، لنودّع أعزّاء علينا فقدناهم ودموع الفراق لا تنفكُّ تفيضُ من أعيننا بغزارةٍ وحرارةٍ كما عيون الماء في وجه الأرض وسننهض بعدها لنركض بأملنا وقلوبنا وحسرتنا خلف ذلك القطار دون فائدةٍ ترجى، فلا بأس عليك، لا بأس.
..............................................................................................

بسم الله الرحمن الرحيم
صورة العرب والمسلمين في الدماغ الغربي المعاصر
الدكتور راجح سباتين
ذات يوم وعندما كانت الكاتبة الأمريكية "غريس هاليسل" في طريقها بالطائرة من تكساس إلى واشنطن كان يجلس بجانبها رجل أعمال لاحظ أنها تقرأ موضوعاً عن الشرق الأوسط فقال: إنني زرت كثيراً من تلك الأقطار كمصر والسعودية والأردن، وغيرها، وقال: إن شركتنا لا تسمح لأي واحد منا بركوب طائرة أمريكية إذا كانت الرحلة إلى ما وراء البحار، فقالت غريس: أنها خسارة لشركات الطيران الأمريكية، فوافق الرجل على ذلك قائلاً: إن هدف شركتنا هو حمايتنا من عمليات إرهابية محتملة!!
وفي مقابلة أجراها معه الكاتب الأمريكي المعتدل "جون وايزمان" وسأله فيها عن العرب، قال "ستيف مالوري" من شبكة (N.B.C): العرب هم أولئك الناس الذين يعتمرون الكوفيات، ويركبون الجمال أليس كذلك؟ وهؤلاء ليسوا جيرانك في كاليفورنيا أو كنساس!!
إرهابي، يعتمر الكوفية، ويركب الجمال، بهذه الصور الثلاث التي تحمل مؤشراً أولياً عن فحوى موضوعنا نبتدئ الكلام عن الصورة العربية في الدماغ الغربي المعاصر، وترجع بواكير الحديث عن هذه الصورة إلى أيام المد الإسلامي العثماني تجاه القارة الأوروبية التي كانت متفككة متناحرة تسودها الحروب الداخلية آنذاك، حينها كان أبناء أوروبا ينظرون إلى الجنود الأتراك (المسلمين) على أنهم بربريون لا يفقهون من الحياة سوى القتل والذبح وسفك الدماء!! وأنهم قطعوا الجبال والصحارى البعيدة وجاؤوا من أقصى الشرق ليسيلوا دماء المسيحيين، ويذبحوا الشباب من أبنائهم!! وإلى جانب هذا الخوف من المد الإسلامي فقد تضافرت عوامل عدة أدت إلى تثبيت هذه الصورة عن العثمانيين والمسلمين والعرب في عقول أبناء أوروبا، ومن هذه العوامل على سبيل المثال الأعلام الذي استخدمه ملوك وأمراء الولايات الأوروبية لحث الناس على قتال العثمانيين، فقد نشط الإعلام في نشر صورة قاتمة للعثمانيين فحواها أنهم راغبون في القتل، قساة، ولا يتسامحون مع أبناء الدين النصراني لأنه لا يتفق مع الدين الإسلاميّ! ومن هذه العوامل كذلك مستشرقون ورحالة غربيون زاروا بلاد العرب ولكنهم كانوا غير نزيهين ورسموا صورة خيالية عن العرب في عقول الأوروبيين ومن هؤلاء Stanly Poola و Erick Lenkolen و Jweel Carmichel. أما العامل الثالث الذي ساهم في رسم هذه الصورة فكان بعض الكتب الخرافية التي يعتريها الطابع القصصي الخيالي والتي أظهرت العربي على أنه عاشق النساء والرقص والأوهام، من هذه الكتب (ألف ليلة وليلة)، (والشاطر محمود والجنيّة) (علاء الدين والمصباح السحري).
واستمرت هذه الصورة السوداء للعربي تكبر وتنمو مع مرور الزمن وتعاقب الكتاب الحاقدين على الإسلام والعرب كالكاتب الفرنسي (مونتيسكيو) صاحب كتاب "روح الشرائع" الذي أكد في كتابه عدة مرات على أن الاستبداد هو الصبغة الأكثر ملازمة للدين الإسلامي وأن الحكومة المستبدة هي ذلك النوع من الحكومات الأكثر ملاءمة للإسلام!.
أما في القرن التاسع عشر فقد تولى الأمريكيون الأمور وأخذوا على عاتقهم مسؤولية تعميق صورة العربي السوداء ونشرها في العالم، فها هو الرئيس الأمريكي "ثيودور روزفلت" يزور مصر في الرابع والعشرين من آذار لعام 1910 ويصرح فيها بمنتهى الوقاحة بأن الشعب المصري متعصب لدينه… وأنه ينصح المصريين بالاستسلام لبريطانيا لأن الشعب المصري لم يصل بعد على الدرجة التي يستحق فيها أن يحكم نفسه بنفسه!!
دعونا الآن نقف لنشير إلى مسألتين؛ أما المسألة الأولى فهي أن الغربيين لا يفرقون بين المسلم السني والمسلم الشيعي كما أنهم لا يفرقون بين المسلم والعربي، فهما كما يقال وجهان لعملة واحدة. أما المسألة الثانية فهي أن المد اليهودي تنامى وتعاظم في أوروبا وأمريكا حتى اكتسح معظم وسائل الإعلام الغربية العالمية، ولذلك لا يستغرب أحدنا إذا علم على سبيل المثال أن مجلة "News Week" الأمريكية اليهودية من الألف إلى الياء، نعم فناقل الخبر إليها يهودي وصناع الخبر فيها يهودي والمحررون فيها يهود. ولنعد الآن لنواصل الحديث عن صورة العربي في الدماغ الغربي في فترة ما بين الحربين الكونيتين لنقول: لقد ظهرت على الساحة الغربية مواصفات دنيا جديدة يتسم بها العربي ومن هذه المواصفات تلك التي احتلت الصفحات الأولى في الصحف والمجلات الأمريكية بعيد حرب (1967) ومنها:
أولاً       : أن العربي يميل إلى المبالغة والتأكيد.
ثانياً      : أنه رومانتيكي.
ثالثاً      : أنه لا يحتفظ بالسر.
رابعاً     : أنه شديد الحساسية لكرامته.
خامساً   : يبالغ في تقدير ذاته.
سادساً   : أنه متعصب.
سابعاً    : أنه متدين.
وقد تأصلت هذه المواصفات في أنفس الأمريكيين بعد حرب (1973)، أما في الثمانينات فكانت المواصفات التي تطلق على العربي أقسى من سابقاتها في الأعوام الماضية، ونذكر منها: أن العربييعاني من عقدة النقص والدونية Inferism  وذلك بسبب عدم قدرته على الوصول إلى المستوى الذي وصل إليه الإنسان الأوروبي المتحضر. هذا إضافة لكون العربي فاقداً للثقة بالنفس Lack-Trust متخلفاً "عقلياً وحضارياً" يفتقر إلى النظام في حياته؟؟؟
ولو جئنا إلى تلخيص شامل لصورة العربي والمسلم في الدماغ العربي الحاضر لوجدناها نابعة من النقاط التالية:
أولاً      : المسلم إنسان انتحاري يقتل باسم الله ببرودة أعصاب متناهية
Killing with the name of God!!!
ثانياً      : المسلم خاطف طائرات (Hi-Jacker) ويضربون قضية تفجير طائرة الوفد الإسرائيلي في ميونخ بألمانيا مثالاً على ذلك هذا عدا عن حديثهم عن قضية تفجير طائرة Pan-American-103 فوق سماء لوكربي كشاهد معاصر على كلامهم!!
ثالثاً      : الإسلام دين السيف والحروب المقدسة (Holy war) ويقصدون بذلك الجهاد في الإسلام ويضربون نداءات الجبهة الإسلامية للإنقاذ - في الجزائر - مثالاً على ذلك وقد نشرت مجلة (Time) الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 26/حزيران/1991 ملفاً كاملاً عن الإسلام بعنوان سيف الإسلام - وهل يتوجب على العالم أن يخاف من الانبعاث الإسلامي؟؟ هذا عدا عن الإنتاج الأمريكي لفيلم يحمل عنوان "سيف الإسلام" (Sward of Islam) ويقع في جزأين.
رابعاً     : المسلم إرهابي وهو على الدوام ضد أمريكا وضد الغرب، ويضربون مثالاً على ذلك حادث تفجير مبنى قيادات قوات المارينز في جنوب لبنان عام (1987).
خامساً   : المسلم معادٍ للسامية (Anti-Semitic) التي يزعمها اليهود!!
سادساً   : المسلم متخلف، غير متحضر (Uncivilized) ومعه نقود كثيرة لا يدري ماذا يفعل بها، ويضربون أهل الخليج مثالاً على هذا التخلف ويقولون بأنهم يستخدمون الجمال مع أنهم يمتلكون أحدث أنواع السيارات ولعل كتاب (Oil Sckieks) لصاحبته ليندا بلادفورد أوضح دليل على هذا الكلام.
سابعاً    : المسلم متطرف جداً (What a Radical) ويضربون الحكومة في السودان شاهداً على كلامهم.
ثامناً     : المسلم مولع بالنساء وكثرة الزوجات.
تاسعاً    : المسلم شرير وجبان وقد ثبت جبنه في حروب العرب ضد إسرائيل، فبالرغم من أن إسرائيل واحدة والعرب كثيرون فقد هزمتهم في الحروب كلها، والسبب في ذلك هو جبن العرب!!؟
ولا يقتصر الاحتقار الغربي للصورة العربية على المجالات السياسية والاجتماعية والأدبية والثقافية لا، بل يتعداه إلى مجالات الغناء، ولنذكر على سبيل المثال أسطوانة فرقة (The Cure) التي وزعت في عام (1987) فقد كانت الاسطوانة التي تحمل عنوان (Standing on the Beach) تحتوي على أغنية رئيسية اسمها "قتل عربي" وأظن العنوان أوضح من أن يوضح!! وعدا عن الغناء فصورة التخلف والضعف تطارد العربي في كل مكان فها هو السيد (Rachid Kaci) ينشر كاريكاتيرا في مجلة (Middle East Report) في عددها الصادر بتاريخ (March-April 1990) يظهر الكاريكاتير صورة العربي راكباً على حمار يحلم بالسيارة وزوجته (المبرقعة) خلفه تسير حافية تحلم بحذاء؟! وأخيراً فها هي صحيفة (The Sunday Times) البريطانية تنشر عام 1987 كاركتير أظهرت فيه خنازير تحمل لافتات وتخرج في مظاهرة ضد الشرطة ويقول التعليق: حتى الخنازير تحتج على تسميتها عرباً!! تصوروا هذه هي صورة العربي في الدماغ الغربي المعاصر… نعم هذه هي
....................................................................................................................
ذاتُ الوجه العربيّ


د.راجح سباتين

أترين ذاك الطفل الصغير الذي خبّأ أحلامه البريئة على خدود القمر؟ ثم ذهب للنوم، ولما استيقظ وجدها قد انزلقت من هناك وسقطت على الأرض فتكسرت الى عشرات الاجزاء فأخذ يبكي بدموع غالية ثمينة. كهذا الطفل الحزين الباكي كنت اقضي ما كُتب لي من كلمات على سطور القدر الى ان التقيت بك وتعرفت الى وجهك الصغير البريء الذي  يزاحم الوجوه الكبيرة القبيحة بقوّة حتى يجد لنفسه بين ركام ضبابها سبيلا، انه الوجه الذي  لطالما حلمت به، فهو على صغر حجمه وقلة سنوات عمره يحتمل في كينونته ربيعاً مسافراً إبداعيا تكتسي به الأرض كل عام مرة، وخريفا يتيما فقيرا خلد الى النوم عندك بعد ان سلبه الناس البيت وحرموه المأوى.
       بين الوان لوحاتك الزيتية الشفافة تمّ اللقاء وتشققت جذور الامل فأنبت احلى نبتة سكنت باطن الارض مذ ولد الدهر الى يومنا هذا.
       ياذات الوجه العربي، احبك حب الصحابة لرفقة رسول اللهr واعشقك عشق الراعي الوديان والسهول، وحب البحار لسحب المرساة ورفع الشراع وصنع انطلاقة جديدة.
       لاتتعبي نفسك بالبحث عن ميلادي ومكان قدومي، فليس عليك سيدتي سوى ان تبحثي هناك لتجديني مختبئا تحت كل قطرة من قطرات روحك الصافية العذبة وتجديني حُبّا ملتفا تحت كل واحدة من رموش عينيك الاوسع بين رموش عيون بنات الارض.
       لست املك حقولا ولا بساتين ولست امتلك مقاليد الطريق الى روضات الجنات لا، ولئن تقدمت منـك وتحدثت اليـك بمـا احتملتِ من نفس صافية وجمـال فائق فلتعلمي انني لا أستحوذ الا على ما احمله بين اضلع قلبي من كلمات ملونة بريئة اظنها تليق بمقام وجهك الذي تراكمت حمرته الفاتنة عند اقدام الشمس في اخريات ايام الرحيل.
..........................................
حكايا الجذور



د.راجح سباتين





       أراك في ضحكات والدي وقهقهاته الساخرة من كل شيء في هذا الواقع المنكسر. أراك تنسكبين مع كل قطرة دمع تسيل على وجه أمي العربي الذي لايحمل في ثناياه صورة إلا للكفاح والتعب والشقاء المتسلسل مع سنوات عمرها المريرة المديدة.
       ألحظُ وجودك مع امتداد كل جسر من جسور عمّان العتيقة التي كان القطار يتخذ من سطوحها سكة يسافر من عليها الى كل الدنى. دعينا نصمت قليلا حتى نستمع الى همسات الارض التي تقص عنا الحكايا (حكايا الجذور..). أرى طيفك وانت مبتسمة يلازمني في كل كوب شاي حلو عذب يسكن فوق طاولة كتبي الصغيرة. وبعد؛ فماذا أقول يا جذري الثابت؟ وبماذا أصرح للسائلين عني وعنك بماذا؟ آهٍ لك ومنك ! آهٍ يا قلبي المُسافر ! آهٍ يا حبي ما أوسعك! وما أغربك بكل ما تحتمله ويختلجك من مشاعر الطمأنينة والقلق ومن أحاسيس المحبة والحزن وبما يتحرك في بحرك الغامض من موجات الأمل والألم.
       من عينيك الخضراوين تنبعث أنوار القناديل العربية في عصر تجبر فيه الظلام وتكبر. في عصر مثل عصرنا هذا تبدو الحاجة إليك واضحة وضرورية أكثر من غيره من العصور.
       اعتصرني الألم وأدمتني الجروح أثقلتني الحياة بنوائبها، فتلمّستُكِ إلا أنني لم أجدك بقربي. بحثت عنك من جديد فلم أجدك فعمدت إلى استخلاصك من المزيج الذي تجمع من مياه الأمطار وابتسامات الصبية الصغار وتماوج السنبل الأخضر في حقول القدس بغير ما ربيع!!!!
       أتيتك من وحي الضمائر النابضة وأكوام الفقراء المتناثرة على كلّ قارعة طريق علها تجد المأوى الذي تخلد إليه فتنال قسطا من الراحة. أتيتكِ في هؤلاء وناطقا باسمهم حال الفرحة والألم ألا  فاقبليني يغفر الله لك. عيناك كوكب اخضر يتوسط المسافة بين الشمس والقمر ويفرض نفسه بقوة ومحبة مالئا ما بينهما من فراغ بألوان الحياة المحبة والفرح وسعادة القلوب. زورقي آت من وراء أمواج الدموع التي تملؤني وتملأ بحور الانكسار العربي الحاضر كله. زورقي آت ليحملنا بأحلامنا الفضية نحو السعادة التي آثر أصحابها اعتزال أهل الارض وما يكيدون. زورق العهد آت ليحملك نحو ديار يوسف، عليه السلام، الذي انتصر بتوكله على الله على كل مكائد الخلق من قريب وبعيد، من ذكر وأنثى، من صغير وكبير.
.......................................................................................       

مُداخلاتٌ وخواطر في زمن المحبّة والمخاطر
أين كنتِ؟


د.راجح سباتين


لست ادري أين كنت هذه السنين كلها؟؟ ولكن الذي اعلمه تمام العلم أنك أشرقت أخيرا، وانك جئت بعيد كل هذا العذاب واكتملت الفرحة بان غرقتْ هذه القرى والصحارى البعيدة في غروب عينيك العربيتين الساحرتين اللتين تأخذان بجمالهما كل كائن لطيف شفّاف في هذا الوجود. اكرر جهلي لمكان قدومك إلا أنني اكرر وجوب المحافظة عليك ما استطعت؛ فأنت مستقبلي وفيك عودة الآمال التي سافرت وفيك انبعاث  الأحلام التي ماتت وبروز الأفكار والروائع التي كانت قد اندفنت يوما تحت رمال التقليد والتقاليد
الحب كائن بشري
       الحب كائن بشري مثلنا؛ له تاريخ ولادة  وسيرة ذاتية وتاريخ وفاة. له أجساد يولد فيها ويعيش وقلوب مهجورة يندفن تحت رمالها ويموت. الحب بلاد واسعة كما الشمس لاتحدها حدود ولا يمنعها حاجز ولايحيط بسرها بشر. إنها العاطفة البشرية السامية المجيدة التي لايمنعها اختلاف الأديان  او الأعراق أو الألوان.
أنتِ
أنت بدايتي الجديدة التي كتبها الله لي بعيد كل هذه النهايات، وانطلاقتي بعيد كل هذه الانكتافات، أنك انبعاثي الأول بعد كل ما تقدم من الاحباطات والانكسارات.
الميلاد
حرارة ما تنبعث من عينينك الواسعتين فتضفي على المكان نوعا من الدفء والأمان قضيت كل سنوات البرودة والاغتراب الماضيات بحثا عنهما. الآن استقرّ عرش قلبي وانتظمت دقاته بعد أن ارتمت حروف عينيك في سطور الليل الساكن الأسود وراحت في غفوة ملائكية ملآى بأحلام البراءة والإشراق التي تصعب ولادة مثائلها في واقع مرير كواقعنا العربي المعاصر. بعد الصعوبة والألم والكفاح تمّ الميلاد فكنت، وارتسمتْ المعالم فكانت تلك البراءة التي تسكن وجهك الصغير وتم الأمر بان كنت هادئة ناعمة ذات عقل راجح وأفُق واسع وصمت مديد.

عند حدود عينيك
أراني اليوم أكتبُ كلماتي لعينيك الخضراوين المشرقتين اللتين تضربان بخيوط النور على كل جدران الفقراء والبؤساء فتعيدان  لهم الحياة والأمل بعد طول غياب وانقطاع. سيدتي، باسم البشرية جمعاء أتقدم منك وفي يدي أحلى باقة من الزهور الملونة شهدها الجمال على مر سني عمره الطويلة قبل أن يقف مستسلما عاجزا عند حدودك التي استعصت على الاختراق. لم تشرق الشمس قط على مثل هاتين العينين اللتين تحملان صورة مصغرة حقيقية لخمائل مدينة بغداد القديمة الأصيلة التي بقيت واقفة على قدميها رغم محاولات العالم لتركيعها، دون جدوى. لازلتُ اذكر ذلك الموقف، ولازلت اذكر كيف كانت فيه البداية عندما تكشفت لعيوني معالم وجهك العربي التي تنطوي على أعذب نظرة تفلتت من سجون الجفون واحلى ابتسامة ارتسمت في اروقة بلاد الجمال محدثة ضجيجا أبديا لايهدا ولايعترف بالسكون.
......................................
يكفيني

د.راجح سباتين




       هي ذي باسمة في عصر المادة والمصالح التي تتطاول حتى تنال بشباكها كل الأقزام في مجتمع العناكب البشرية الصغيرة. هي نوري الوحيد الذي يرفض أن يخبو أو يسكن حتى يطل بإشعاع أمله على كل مظلوم وفقير ويائس في هذا الكون. هي نجمي اللامع في دنيا الجمال وقمري الحنون الدافء الذي لاينام حتى يطمئن الى نوم كل واحدة من النجمات الصغيرات الرقيقات من حوله. ميزها ان كل ما فيها مفعم بالحياة وحب العطاء، كقلب خافق بضربات نادرة في عهد الصمت المخيف. أنت حبي المتفرد الذي ولد وحفظته قدرة الله برغم كل ما كان يحيط به من الأسوار والأشواك والأحجار البشرية العمياء.
       سيدتي، يكفيني انك لي، يكفيني لامضي قُدما أن عينيك تضيئان لي الدرب طويلا مديدا حتى اصل الى ما أتمناه من أحلام وأمنيات. يكفيني أن الربيع يسكن عينيك ويظلني بأوراق شجرة الواسعة وثماره اليانعة  التي اشبع منها فلا أعود بحاجة لطعام بعدها أبدا… يكفيني ان ابتسامتك تملأ عليّ الدنيا بمائها ويابسها.
       ويكفيني أخيرا أن رموشك الطوال تتجمع وتتماسك، حتى تكون سقفا يحميني ويحمي الأولاد من كل الشرور والآلام والأمراض، يكفيني، يكفيني
.................................................................................. 

بداية جديدة


د.راجح سباتين




       في هذا الزمن الصعب الذي تساقط فيه الكثيرون على الطريق، ولم يبلغ هدفه سوى عدد قليل منهم، وفي هذه الايام السوداء التي اندثرت فيها معالم الانسان العربي وبات الاسلام غريبا حتى في بلاد المسلمين، يجد الواحد منا نفسه بحاجة الى تجديد كامل وشامل، تجديد في الروح، تجديد في فهم النصوص الشرعية، تجديد في النظرة الى الواقع، تجديد يكسر كل ما كان حولنا من جمود واحزان وظلام ومعاناة تبدأ فلا تعرف حدود الانتهاء. يتوجب على المسلم ان ينهض من جديد لينفض ماتراكم في ذكرياته من غبار الالم وحطام الحضارة، التي اساء اليها الكثيرون وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا.
       بعيدا عن المعنويات المنخفضة وبعيدا عن الانهزامية والاستسلام والخوف من مواجهة المستقبل والمجهول ستقف يوما واثقاً بالله مطمئناً بالله لترسم حروف بداية جديدة وعهد جديد واطلالة مشرقة ملؤها النور والمحبة والامل.
       وستنظر عندها الى ما مضى من الجروح والالام نظرة الواثق المستهزئ الباحث عن حروف النصر واليقين،  لتقول: رحم الله ايام الصبا، وتقول: وداعا للسّراب واليأس والخوف وداعا وداعاً.
       مع ثقتي المطلقة ويقيني الكامل بانك ستكون ذا شأن عظيم ومستقبل مشرق، باذن الله تعالى، الذي يجيب دعوة الداع ولو بعد حين.

.........................................................................................................................
                                  وجوه شمسية ثمينة

                         د. راجح سباتين

لم يتبق في عالمنا هذا سوى قلّةٍ من الوجوه الطّيبة، الشمسيّة، الثمينة التي نُحبُّ أن نراها كلَّ حينٍ وحينٍ. ولكنّ الظاهر لنا، أنّ هذه الوجوه تعشقُ الرحيل وتحب السفر إلى المجهول، لتترك قلوباً يعزُّ عليها الفُراق في حالة من الشوق والانتظار يَصعب على المخلوقات الترابية احتمالها…
          فليذهبوا كلهم ولتبقي وحدك هنا، ابقي حتى لا تنطفئ هذه الورود التي تتفتّحُ مُشرقةً رغم كلِّ ما تَجرَّعته من ماء الدموع ألا فلتبقي.
ما قيمة ليلٍ لستِ أنت سيدته؟
وما قيمةُ نهارٍ لا تنبعث عيناكِ في أفقه؟
ما قيمةُ كلماتي إن لم تكن سطوركِ حُضناً لها؟؟
وما قيمةُ وجودٍ ليسَ هواكِ يملؤُهُ؟؟
لم أكنْ أعلم أنكِ ثمينة بهذا القدر إلا الساعة.
ولم أكن أعلم أنَّ وجودك هو الوجهُ الآخر لوجودي إلا يومي هذا.
كل ما حولي دونكِ فراغٌ. أبحث عنك وأبحثُ فلا أجدك فأصرخُ باسمكِ بعدها وأصرخُ، وأنا أعلم علم اليقين أنَّ صوتي مهما علا وارتفع فإنه لن يصل الجنوب؛ حيث تسكنُ عيناكِ… حياتي اليوم سيدتي تلال من الذكريات والحنين تتطاير حَبّاتُ ترابها مع الريح رويداً رويداً حتى لا تُبقي من قوّتي شيئاً يستحقُّ أن يذكر، وما ذنبي في كلِّ ما تقدم؟؟ ذنبي أنني أحبكِ.




........................................................................................


كَيْفَ السَّبيلُ؟؟

                                                               د.راجح  سباتين

كيْفَ السّبيلُ إلى الإيمان والمرتدّون يملؤون الرّحب من حولنا؟؟

كيْفَ السّبيلُ إلى الله ونحن نرى الجاهليين الجُدد يعودون لعبادة الأصنام مرة أخرى؟؟
كيْفَ السّبيلُ إلى أسرةٍ مسلمةٍ، وأبناؤنا يحترفون الكذب وهم في سنّ العاشرة؟؟
كِدتُ أنسى كيف كنتُ أسرقُ نفسي مِنْ جراحاتِ الألم… كِدْتُ أنسى كيفَ كنتُ أهربُ إلى عينيك بعيداً عن ساحاتِ هذه الحروب التي ليستْ لنا وهذه الكراهية التي لا تناسِبُنا وهذا الفَسادِ الذي يحكُمُ حياتَهم ويُقيمُ دعائم بيوتهم…
كيْفَ السّبيلُ إليكِ بعدَ أنْ تقطّعت بي أسبابُ العودةِ؟؟
كيْفَ السّبيلُ إلى شمسِكِ وقدْ خَنَقَني ظلامهم بخيوطه وحباله؟؟
كيْفَ السّبيلُ إلى صَوابكِ بعد أن تراكمتْ كلّ أخطائهم هذه؟؟
       كوني معي، ساعديني، مُدّي يدكِ إليَّ وهيّا نفرُّ إلى الله تعالى، هيا نهربُ من دُنياهم السّوداء إلى دنيا الله المشرقة، هيّا نهرب مِنْ حرامِهم إلى حلال الله، هيّا نهربُ من مستعمراتهم الضيّقة إلى أرض الله الواسعة… كُوني سَنَدي وظَهري في هذه الرحلة المؤلمة فلمْ يبقَ في جسدي مُتّسع لمقدارِ حبة خردلٍ من الجروح، ولم تعد هنالك مِن أفراحي بقيّة تستحقُّ أن تُذكر… كُوني معي لنوقف الفساد الممتد إلى أبنائنا وبناتنا مع امتداد كلّ شبرٍ من تُراب الحضارةِ. قِفي بجانبي لنأخذَ على عاتِقِنا مسؤوليّة الإصلاح والتّوبة ولِنُمدّ أبناءنا بالسّلاح المُناسب في معركةِ الحضارة، كُوني معي … كُوني معي…
........................................................................................




أغربُ الغرائِب

                              د.راجح سباتين

       أغربُ الغرائِب أنْ يتساءلَ القمرُ عن شمسِهِ وقدْ حاصَرتها هذه الهُموم والغُيوم… وأغربُ الغرائِب أنْ يدنو القمرُ ليقارن نفسه بالنجوم!!!
       سيّدتي ذاتَ العينين  الخضراوين، يبقى القمرُ قمراً بكُلّ ما استحقّه من مزايا الرّوعة وخبايا العبقرية وبِكُلّ ما اتّصف به منْ ضروب التّفرد والجمال… وتبقى النجوم مجرد نجوم مهما لمعتْ وتألقتْ ونافَستْ وحاولتْ (عَبثاً) أنْ تكون معَ القمر في منزلةٍ واحدةٍ…
       وتبقى شمسُكِ شمساً حُرّةً عربيةً أصِيْلةً لا تَقْبلُ الاختباءَ ولا الانحناءَ ولا تعْترفُ بالانتماء لغير هذا القمر…

القمر ¬ ماما              الشمس ¬ بابا             النجوم ¬ بقية الناس