مراجعة مادة تاريخ العقيدة + مادة معابر الثقافة الإسلامية إلى الغرب


مراجعةٌ عامّةٌ هامّة لمادة "تاريخ العقيدة الإسلامية"
إعداد الدكتور راجح السباتين / جامعة طيبة / كلية العلوم والآداب بالعلا
للعقيدة في اللغة معانٍ متعدّدةٌ، منها:
1- عقد الحبل والبيع والعهد يعقده عقداً: شدَّه.            2- التصميم والاعتقاد الجازم.
3- عقدت الحبل فهو معقود، وكذا العهد، ومنه عقدة النكاح.
وبذلك يكون تعريف العقيدة: تصميم القلب والاعتقاد الجازم الذي لا يُخالطه شك في المطالب الإلهية، والنبوءات، وأمور المعاد، وغيرها مِمَّا يَجب الإيْمان به.
* المطالب الإلهية التي تندرج تحت معنى العقيدة *
أولاً: الإيمان بالله في ربوبيته وألوهيته، والإيْمان بأسْمائه وصفاته وغير ذلك مِمَّا يَجب الإيْمان به. فيجب على العبد أن يؤمن بوجود الله الحقيقي الإيْمان اليقينيِّ، غير شاكٍّ بأن الله فوق جَميع مَخلوقاته بذاته، كما يليق به سبحانه، وعلى الكيفية الَّتِي لا يعلمها العباد، إذ لا يعلم كيف هو إلا هو، ومع ذلك لا يخلو مكانٌ من علمه تعالى، بل هو مع جَميع مخلوقاته بعلمه وسمعه وبصره وبِجميع معاني ربوبيته على الوجه الذي يليق به، إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو سبحانه خالق كل شيء وحده، ومُدَبِّرُ الأمور وحده؛ إذ يدِّبرُ الأمر من السماء إلى الأرض، وهو بكل شيء عليم، أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.    فإيْمان العباد بهذه المعاني من معاني الربوبية، أي: إفراده سبحانه في ربوبيته؛ كما فَطَرَ العباد على ذلك، يُلزمهم هذا الإيْمان أن يُفردوه بأفعالهم كما انفرد هو بأفعاله؛ بِحيث يدعونه وحده سبحانه، ولا يشركون به شيئاً، بل لا يُعَلِّقُونَ قلوبَهم إلا به، ولا يلتفتون إلى أحدٍ سواه بالمحبة والخضوع والتذلل، بل لا يستحق كل ذلك إلا هو سبحانه. ويثبتون له ما أثبتَ لنفسه، أو أثبته له رسوله الأمين، صلى الله عليه وسلم، الذي أمنه على وحيه ودعوة الناس إليه وحده.
ثانياً: ويدخل في المطالب الإلهية الإيْمان بقدر الله السابق وقضائه النافذ، وأنه ما شاء الله كان وما لَمْ يشأ لَمْ يكن. وأنَّ ما أصاب العبد في علم الله لا يُخطئه، وما أخطأه فِي علمه لا يصيبه؛ إذ لا يقع شيء فِي ملكه دون قدره وقضائه وفعله.
ثالثاً: ومِمَّا يدخل في المطالب الإلهية الإيْمان بملائكته جُملةً وتفصيلاً تصديقاً لخبر الله تعالى، وهم جنود الله فِي سَماواته وأرضه، موظّفون في مُختلف الوظائف: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون) (التحريم: 6).
رابعاً: كما يدخل في المطالب الإلهية الإيْمان بكتبه الْمُنَزَلة على رسله بالهدى ودين الحق، وأنَّ تلك الكتب من كلام الله تعالى حقيقةً، وأن كلام الله لا نفاد له.
خامساً: كما يدخل في المطالب الإلهية الإيمان بالنبّوات. ونعني بالإيْمان بالنبوات الإيْمان برسل الله تعالى جُملةً وتفصيلاً، والإيْمان بنبيِّنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، بصفةٍ خاصّةٍ، وأنه خاتم الأنبياء، وأن الأعمال لا تُقبلُ مِن أحد إلا إذا جاءت موافقةً لهديه، صلى الله عليه وسلم، وأنه هو إمام المرسلين، وسيد الناس أجْمعين، صاحب الرسالة العامة إلى جَميع الثقلين الجن والإنس، وأنه يَجب تصديقه فِي كُلِّ ما أخبرَ به، وطاعته فيما أمر به، مع الانتهاء عمَّا نَهى عنه؛ إذ طاعته من طاعة الله، ومعصيتُه من معصية الله. (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) (النجم: 3،4) ومن معانِي الإيْمان بالرسل ألاّ يُعبد الله إلاَّ بِما جاء به، صلى الله عليه وسلم، وأن يُشْهَدَ له أنه بلَّغ رسالة ربه كاملةً دون أن يكتم منها شيئاً فِي نصح تام دونه كل نصح، وأنه أمينه على وحيه، وقد أدى تلك الأمانة على أكمل وجه.
        هذا بالجملة ما نعنيه بالإيْمان بالنبوات مع الإيْمان بآيات الرسل الْتِي تُعَرُف عند علماء الكلام بـ "المعجزات"، وهي أمور خارقة للعادة، يظهرها الله على أيدي الأنبياء؛ تصديقاً لَهم وتثبيتاً.
سادساً: كما يدخل في المطالب الإلهية الإيمان بالمعاد. ونعني به الإيْمان بالبعث بعد الموت، وإعادة الحياة الحقيقية إلى الأجساد، وما يتبع ذلك مِمَّا يَجري فِي عَرصَات القيامة وفِي الحياة الآخرة. بدءاً من البعث بعد الموت، وانتهاءاً إلَى الجنة ونعيمها الدائم الذي لا يزول، أو إلَى النار وعذابها الدائم الذي لا ينتهي. إذ يعيش الإنسانُ في هذه الحياة الدنيا وهو يكدح كدحاً سوف يلاقيه، ولا يذهب شيء سُدىً، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر. (يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) (الإنشقاق:6).
فيجب الإيْمان بتلك الحياة الآخرة بكلِّ ما فيها، وأنها حياة حقيقيّةٌ كهذه الحياة الدنيا، بل هي أكمل؛ لأنَّها دائمة بإدامة الله إياها. كما يَجب الإيْمان بالبرزخ الفاصل بين الحياتين، بين الحياة الدنيا وبين الحياة الآخرة.
من هنا نعلم أن العقيدة هي الإيْمان بالله وبِما يَجب لله عز وجل من صفات الكمال، وتنْزيهه عن النقائص وما لا يليق به؛ كالشريك، والصاحبة، والولد، والوزير، والمعين، ومن يتصرفون معه فِي هذا الكون...
أمّا أصل العقيدة؛ فمعرفَتُها فرضُ عينٍ، وأمرٌ لا بدَّ منه لكل أحد كما قلنا، بل هي أساس الدنيا؛ فالتقصير فِي ذلك المقدار تقصير فِي الإيْمان على ما تقدم.. فعلم العقيدة أول ما يجب على كل مسلم ومسلمة، بل هو من أوجب العلوم وأشرفها.
تاريخ العقيدة الإسلامية
وأما تاريخ العقيدة الإسلامية؛ فضارب في أعماق الدهور والعصور؛ إذ ما من نبيٍ أُرسِلَ؛ إلا صَدَّرَ دعوته بالعقيدة وجعلها زبدة رسالته. يقول الله عز وجل لنبيه وخاتم رسله: (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (الأنبياء: 25) ويقول سبحانه وتعالى: (ولقد بعثنا في كل أمّةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (النحل: 36). وهذا يعني أن الأنبياء- عليهم السلام- جَميعاً كانوا يستفتحون دعوتَهم إلَى الله تعالى بإصلاح العقيدة قبل كل فضيلةٍ يدعون إليها. لذا نَجدُ فِي سورة هود مثلاً عدداً من الرسل- عليهم السلام وهم نوح وصالح وشعيب ويوسف ومحمد صلّى الله عليه وسلم- افتتحوا دعوتَهم لأقوامهم إلَى الله بالدعوة إلَى العقيدة وإصلاحها وإلَى معنى كلمة الإيْمان وكلمة الإسلام وأصل العقيدة "لا إله إلا الله".
ويوضح كتاب الله تعالى تاريخ العقيدة الإسلامية عبر التاريخ الطويل مع أنبيائه ورسله، وأنه قد كانت العقيدة مفتاح دعوتِهم، وذلك يعني أن الأنبياء- عليهم السلام- دينهم واحد، وهو الإسلام: (إن الدين عند الله الإسلام) (آل عمران: 19). بعقيدته وأصوله، ولو اختلفت شرائعهم ومناهجهم، إذ جعل الله سبحانه- حكمةًً منه- لكل نبي شِرْعةً ومنهاجاً يناسب قومه وأحوالَهم وظروفهم وأزمانَهم، يقول الله تعالى: (ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكلٍّ جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجاً) (المائدة: 48).
فأمر العقيدة أمرٌ ملازمٌ للبشرية منذ هبط آدم أبو البشر إلى الأرض؛ فهو ملازم للبشرية عبر تاريخها. وكذلك فقد بَّين كتاب الله بأن الله استخرج ذرية بنِي آدم من ظهورهم، وذلك بعد أن استخرج ذريَّة آدم من صُلبه؛ كما ثبت بالسنة، وخاطبهم جَميعاً وهم فِي عالِم الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسهم بأن الله ربُّهم وخالقهم، وأنه لا إله إلا هو. قال الله- عزَّ مِن قائلٍ- : (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ برِّبكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) (الأعراف: 172). وعلى الرغم من هذه العقيدة التاريخية الموحدة بين جميع رسل الله؛ فقد وُجِدتْ في التاريخ فرقٌ مُختلفةٌ فِي عقائدها وأصول دينها أحيانا، ومناهجها أحياناً، وأسلوب دعوتِها أحياناً.
الفِرَقُ التي تكلَّمت في أصول الديانات
وقد تكلمت في أصول الديانات فرق مختلفة الاتجاه، وهي تنقسم إلى قسمين:
·       القسم الأول: وهي الفرق التي تكلَّمت في الديانات وهي لا تنتسب إلى ملّة الإسلام، وأهمها:
1- اليهودية.   2- النصرانية.          3- الدهرية.
4- الثنوية "هم القائلون بالأصلية: النور والظلمة".        5- المجوسية "وهم عباد النار".
6- الصابئة.   7- الهندوكية.  8- البوذية.  
9- الزنادقة "وهم طوائف من القرامطة الباطنيين.
10- معظم فرق الفلاسفة "وهم عشاق الحكمة فِي زعمهم؛ لأن لفظة "فيلو" معناه: مُحُّب الحكمة، ويسمُّون كبارهم: الحكماء، بينما يُسَمّون بقية الناس: عوامّاً ولو كانوا أهل العلم والمعرفة".
القسم الثاني:  وهي الفرق التي تكلمت في الديانات وهم ينتسبون إلى الإسلام، وسنأتي على تفصيل القول فيهم لاحقاً
ظهور الفرق
مضى عصر الصحابة الكرام- عليهم رضوان الله-، وهم مُجتمعون على نَهجٍ واحد، وهو العمل بالكتاب والسنة عقيدةً وشريعةً، وكذلك التابعون الذين ورثوا علم الصحابة، بيد أنه قد حدث فِي أواخر أيام الصحابة القول بالقدر. كما ظهرت الخوراج في أيامهم، وتشيعت الشيعة. هذه الفرق الثلاث ظهرت في أواخر أيام الصحابة في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
1- الخوارج أو الحرورية: تُعتبرُ فرقة الخوارج أول فرقةٍ ظهرت في أيام الصحابة، وفي عهد عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بالتحديد، بعقيدتهم الجريئة المتطرفة في الجرأة، واتجاههم الشاذ المنفرد، حيث اعتبروا عدَم ارتكاب الكبائر أصلاً من أصول الدين والإيْمان؛ فانطلاقاً من ذلك صرَّحوا بكفر مرتكب الكبيرة كفراً بواحاً ناقلاً من المِلّة، كما صرّحوا بِجواز الخروج على الإمام، بل كانوا يعتبرون ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد ظن الخوارج أنَّهم على شيءٍ فيما ذهبوا إليه عندما خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقاطعوا المهاجرين والأنصار الذين نطق بهم القرآن وبه نطقوا، وقام بِهم القرآن وبه قاموا، وهم خيرُ هذه الأّمة، حَتَّى حاورهم حبرُ الأمة وترجمان القرآن بِما رزقه الله تعالى من الفقه فِي الدين، وأثبت لهم خطأهم بِما ساق من الأدلة من الكتاب والسنة؛ فقد تاب على يده عدد لا يُستهان به، ألفانِ من ستة آلاف مقاتل يتهيئون لخوض المعركة، ولكن الله سلَّمَ، حيث تاب الله عليهم فتابوا، وهلك الباقون بعد إقامة الحجة عليهم بالأدلة الَّتي ساقها ابن عباس رضي الله، الذي بذل لَهم من النصح والإرشاد والدعوة إلى الحق بالأسلوب الذي ذكرنا.
2- الشيعة: الشيعة: من الفرق التي ظهرت في أواخر أيام الصحابة، وفي عهد الإمام علي رضي الله عنه بالتحديد، والتي بدأت غُلُوَّها بِحبِّ علي بن أبي طالب والتشيع له إلى حد المبالغة، والتي انتهت ببعضهم إلى تأليهه وعبادته، مِمَّا حدا بعليٍّ إلى إحراق جَماعة منهم بالنار، حيث لَمْ يجد بدّاً من ذلك؛ إذ لَمْ يؤثر فيهم الإنكار الشديد والمتكرر فأنشد علي في ذلك قائلاً:
لَمَّا رأيت الأمر أمراً منكراً                أججت ناري ودعوت قنبرا
وقد انتهز هذه الفرصة- فرصة تشيُّعِ الشيعة والغلوِّ في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه- يهودي خبيث يدعى عبد الله بن وهب بن سبأ، وهو من اليهود الذين كانوا بصنعاء باليمن؛ فأخذ يؤجج نار الفتنة بين المسلمين، وأحدث القول بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي، بالإمامة من بعده، وأنه خليفته على أُمَّتِهِ بالنَّصِّ؛ كما أحدث القول بالرجعة، أي: برجعة الإمام علي، رضي الله عنه، بعد موته إلى الدنيا، بل زعم أن عليّاً لَمْ يُقتَلْ، بل لا يزال حياً، بل لا يمكن أن يَموت؛ لأنه فيه الجزء الإلهي، وأنه هو الذي يأتي من السحاب، فيكون الرعد صوته... إلى آخر تلك الخرافات التي تحكيها بعضُ مصادر القوم ومَنْ تأثروا بهم، حَتَّى عُرِفَتْ هذه العقيدة عندهم بعقيدة الرجعة، أحدثها اليهودي ابن سبأ كيداً للإسلام والمسلمين، بعد أن ادَّعى أنه مسلم، وأنه متشيعٌ لآل البيت، ومُحبٌّ لَهم، وأما آل البيت الطيبون؛ فبريئون منه، ثُم تَبَنَّى هذه العقيدة الفاسدة الروافض. وابن سبأ مصدر كل عقيدة منحرفة ترددها الروافض اليوم.
وهذا؛ والكلام حول هذه الفرقة طويل الذيل، وقد كُتبَتْْ فيهم وفي عقائدهم ونقدها ونقضها كتابات كثيرة ...
3- القدرية: ومن الفِرقِ التي ظهرت في أيام الصحابة- رضوان الله عليهم- القدرية. فإذا أُطلقَتْ القدرية؛ فالمراد بها نفاة القدر، وهم أتباع معبد الجهني.
وقد تُطلقُ هذه اللفظة أحياناً على الغلاة في إثبات القدر، والذين بلغ بهم من الغلو في القَدَرِ إلى القول بأنَّ العبد مجبور على أعماله الاختيارية، يفعلها دون اختياره، بل لا قدرة له على أعماله، وهم المعروفون بالجبرية، وقد يطلق عليهم اسم القدرية.
نادى معبد الجهني بعقيدة القدرية لأول مرة في البصرة في أواخر أيام الصحابة، فنفى علم الله السابق وكتابه ومشيئته العامَّةَ، وصرَّح بأن الله لَمْ يعلم المقادير إلا بعد وقوعها، فضلاً عن أن يكتبها أو يشاءها، بل العباد يستأنفون أعمالهم من عند أنفسهم، أي يعملونها دون علمٍ من الله بتلك الأعمال؛ إلا بعد أن يُحدثهُ العباد، فلا تُعَدُّ أفعالُ العباد من مقدورات الله عز وجل، وإنما يختلفون: هل الله قادر على مثل أعمالهم أم لا؟ وهكذا بالغوا في نفي القدر، كما بالغوا في إثبات قدرة العبد، حتَّى جعلوه خالقاً من دون الله عزَّ وجلَّ، حيث يستقلُّ كلُّ عبدٍ بخلق أفعاله دون أن تتدخل قدرة الله في أفعاله الاختيارية.
* موقف بعض الصحابة الذين حضروا بدعة القدريّة منها *
لمَّا ظهرت بدعُة القدرية؛ بادرَ علماء السلف من الصحابة والتابعين إلى إنكار بدعة القدرية، والتحذير منها، والتبرؤ منها ومن أهلها، وذُّموها، وبَيّنوا للناس خطورتها على الإيْمان بالله تعالى؛ لأن الإيمْان بالقدر نظام التوحيد، ومن كفر بالقدر؛ فقد نقض توحيده.
هذا، وذكرت بعض مصادر التاريخ والسّيَرِ أنّ عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لما بلغته مقالةُ معبد الجهني؛ تبرأ منه ومن قولته المنكرة، وأعلن ذلك للناس، ونُقِلَ مثل ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، بل تمنَّى عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنْ لو تمكَّنِ من أحدٍ منهم، حتَّى يُدخِل رقبته في يده، فيدقها حتَّى الموت، أو يَجدع أنفه على الأقل، وكان يومئذ قد عمي، كلُّ ذلك غِيْرَةٌ منه على دين الله وعلى عقيدة المسلمين التي أخذت - لأول مرةٍ - تتعرض للأفكار الشاذة. وقد وردت آثار وأحاديث مرفوعة في ذمِّ القدرية وأنَّهم مَجوس هذه الأمة، بل هم أسوأ حالاً وأردأ، حيث يُثبتون خَالِقين كثيرين؛ إذ كلُّ عبدٍ من الجن والإنس والملائكة يخلق أفعال نفسه الاختيارية في زعمهم الفاسد.
والقدرية بالمفهوم المعاكس- الجبرية- تجعل العبد مجبوراً ومدفوعاً إلى الأعمال من خير أو شر، ثُمَّ يُجازى خيراً أو شرَّاً، وهي ضلالة أخرى.
والصواب وَسَطٌ بينهما، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة، وهو أنه لا خالق إلا الله؛ فالعبد وأعماله مَخلوقات لله، والعبد يأتي عمله باختياره، ويتركه باختياره، وهذا سِرُّ التكليف ومناط الجزاء خيراً أو شراً، والعلم عند الله، والمسألة مبسوطة في موضع آخر.

4- الجهمية: بعد عصر الصحابة، في أوائل المائة الثانية، حَدَثَ مذهب الجهمية. وأول من أحدثه الجعد بن درهم، حيث سُمِعَ منه لأول مرة في الإسلام القول بأن الله "لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً". فأفتى علماء التابعين بكفره؛ لتكذيبه كلام الله وكلام رسوله، صلّى الله عليه وسلم، فطورد حتى قُبِضَ عليه، ثم أُخذ إلى مُصلّى العيد يوم عيد الأضحى، فذُبِحَ في المصلَّى على رؤوس الأشهاد؛ وكان ذلك بإجماعٍ من علماء السلف، فجزى الله خالداً القسري وعلماء التابعين خير الجزاء على صنيعهم الناصح. وقبل أن يهلك الجعد أخذ عنه هذه العقيدةَ جهمُ بن صفوان، فأظهرها ودعا إليها حتى انتشرت، ولذا أضيفت إليه دون الأول، فقيل: العقيدة الجهمية.
وإذا أردنا أن نعرف سند هذه العقيدة الجهمية؛ فإن جعداً أخذها عن أبان بن سمعان عن طالوت ابن أخت لبيد الأعصم اليهودي الساحر الذي سَحَرَ النبي صلّى الله عليه وسلم.
وعلى كلٍّ؛ فإن جهماً قد أخذ يدعو ويناظر دونها، حتى عظمت به الفتنة، وأخذ يشكك كثيراً من الناس في صفات الله تعالى؛ إذ كان ينفي جميع صفات الكمال ـ وصفات الله كلها كمال ـ جُملةً وتفصيلاً، فأوهم الناس أن إثبات الصفات يتنافى مع التنزيه، وأورد على الناس شبهات مشكّكة. ومِمَّا ينبغي التنويه به أن الجهمية وإنَّ كانت في الأصل اسْماً أو لقباً للعقيدة التي دعا إليها جهم وأتباعه؛ إلا أن علماء السلف أطلقوا هذا اللقب فيما بعد على كلِّ مَنْ ينفي صفات الله تعالى أو بعضها، فُيطلقُ هذا اللقب على المعتزلي والأشعري ومن شابههما في نفي صفات الله كلها أو بعضها.
5- المعتزلة: قد حدثت عقيدة الاعتزال في أيام الإمام الحسن البصري التابعي المعروف؛ إذ كان واصل بن عطاء زعيم الاعتزال من جلساء الإمام الحسن، ولكنه اختلف معه في مسائل في العقيدة، فاعتزل مَجلسه في المسجد الذي يدرس فيه الحسن، ولَمْ يذهب بعيداً عن المسجد، وباعتزاله مَجلس الحسن؛ اعتزل المسلمين في عقيدتهم، وأٌطلِقَ عليه وعلى أتباعه أنهم معتزلة.
فزعمت المعتزلة أنهم يثبتون أسْماء الله تعالى مع نفي صفاته سبحانه، ولكن دون أن تدل على معانيها ... وقد انفردت المعتزلة بتطوير مذهبها دون سائر الطوائف، حيث زعموا وجوب التزام الأصول الخمسة التي ابتدعوها.
6- القرامطة: القرامطة من الفرق الباطنية المتفرّعة من الروافض. ظهرت القرامطة أول ما ظهرت بالكوفة، ثُمَّ انتشرت في العراق والشام وغيرهما من البلدان المجاورة، فصرَّحوا بتأويل ـ  تحريف ـ الشريعة كلّها، وأنَّها ليست على ظاهرها، بل لا بدَّ من صرف ظواهرها!
دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية
عمل شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية في سبيل تجديد منهج السلف، وتنشيط حركة الدعوة، عملاً يستحق أن يُطلقَ عليه بلغة العصر "كسر الجمود"؛ لأنه ظهر بدمشق على حين غفلةٍ من طوائف أهل الكلام وجَميع أهل البدع، وصدع بالحق؛ كما سيحدثنا عنه بعض المؤرخين، وأعلن الانتصار لمنهج السلف، فهاجم الأشاعرة الكُلاّبية والمعتزلة والروافض والمتصوفة والمتفقهة المتعصبة.
وقد قام الإمام بهذا الجهاد بعد فترةٍ عصيبةٍ مرت على السلفيين  ومنهجهم وهم يعيشون متفّرقين في زوايا العالم غرباء؛ فقد انصرف جُمهور الناسُ عن منهجهم إلى علم الكلام وليس للسلفيين صوت يسمع قبل ظهور هذا الإمام، حتى جُهِلَتْ حقيقةُ منهج السلف وعقيدتهم، فأخذ الناس في الخوض على غير هدىً في تفسير منهج السلف، بعيدين عن الحقيقة؛ بين قائل: إنه التفويض المُطلَقُ، وإنَّ السلف ما كانوا يفهمون معاني نصوص الصفات؛ وقائل: إنَّهم مشبهةٌ مُجسِّمةٌ. فظهر شيخ الإسلام ليصحح مفهوم العقيدة السلفية التي أصبحت غريبةً ولكسر ذلك الجمود في سير الدعوة السلفية التي وقف في سبيل سيرها عوائقُ متنوعةٌ من علم الكلام الذي أفسدَ القلوب بالاضطراب والشكوك، والتصوُّفِ الذي ردَّ الناس إلى ما يشبه الجاهلية الأولى في باب العبادة والعادات والتقاليد الموروثة؛ فجزى الله ذلك الإمام عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي به المصلحين المخلصين. ولمّا تصدّى للانتصار لمذهب السلف، وبالغَ في الردَّ على الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الصوفية والرافضة، افترق الناس فيه إلى فريقين:
1- فريق يُبَدِّعهُ  ويُضَلّله وينتقدُ عليه إثبات الصفات ومسائل أخرى، منها ما له سلف فيه، ومنها ما زعموا أنه خرق فيه الإجْماع ولَمْ يكن له فيه سلف، وكانت له ولهم خطوبٌ كثيرةٌ، وحسابه وحسابُهم على الله الذي لا يَخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
2- فريق يقتدي به، ويعِّولُ على أقواله، ويعمل برأيه، ويرى أنه شيخ الإسلام، وأجلُّ حُفّاظ أهل الملة الإسلامية، وله وإلى وقتنا هذا عدة أتباع في الشام وقليل بمصر.
وبعد؛ فلا ينبغي أن يغيب عن البال أن السلفيين قد خاضوا مع خصومهم المعتزلة معركة حامية الوطيس قبل أن تُوجدَ الأشعريةُ، وكانت المعتزلة- كما تقدَّم وكما يعلم الجميع- عقيدةَ دولةٍ قويةٍ كانت تدعو إليها بقوة سلطانها، ومع ذلك؛ فإن السلفيين قد قاوموها، ووقفوا في وجه تلك القوة؛ ممثلين في إمامهم إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ؛ لذلك أطلقوا عليهم أنهم حنابلة؛ نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل.
جهاد شيخ الإسلام
يوجزُ تقي الدين المقريزي ظهور شيخ الإسلام المفاجئ، فيقول:
وفور ظهوره اجتمعت الفرقُ الموجودة على مُحاربته، فحاربهم كلّهم وحدَهُ، مستعيناً بالله وحده، ومُلْجئاً ظهره إليه سبحانه، فَناظَرَ الفلاسفة فأفحمهم، وناظر المنطقيين فأسكتهم وألقمهم حجراً، وناظر علماء الكلام على اختلاف منازلهم ومذاهبهم فَحَيَّرَهُم فانقلبوا حائرين لا يدرون ماذا يفعلون، وخاصم المتفقهةَ المُتعصبةَ، فذبذبهم، فباتوا متردِّدين، وناقش المتصوفة وأسيادهم جماعة وحدة الوجود، فجهَّلهم، فلم يسعهم جميعاً إلا اللجوء إلى أسلوب المغلوبين العاجزين، الذين يريدون الانتقام من الخصم الغالب بأيِّ ثمنٍ وبأيِّ أسلوبٍ، فتقدموا إلى السلطة يشكون.
ومن هنا دخلت حياة شيخ الإسلام مرحلةً جديدةً: سجن، ونفي، وتهديد، بَيْدَ أنَّ ذلك كلّه لَمْ يؤثر في عمل الشيخ؛ فالتدريس مستمر، يُنفى من دمشق إلى القاهرة، فيتربع على كرسي التدريس لينثر درراً من المسائل العلمية، فيلتف حوله طلاب العلم، فيفيدون منه العلم أحكاماً وعقيدةً، فيتضايق الوشاة من الطوائف، فيتحركون بالشكوى وطلب النفي أو السجن، فيسجن الشيخ، فيتحول السجنُ مدرسةً ومسجداً وخلوةً، فيستغيث الوشاة بالسلطة، فَيُنفى الشيخ إلى دمشق، فيحيي المساجد بالعلم والمذاكرة، فترتفع أصوات الحاقدين بالشكوى، فيُنقلُ الشيخ إلى خلوته في قلعة دمشق... وهكذا دواليك؛ نفيٌ وسجنٌ وتدريسٌ وفتوى وتأليفٌ... هكذا قضى شيخ الإسلام حياته كلَّها في خدمة الإسلام والمسلمين، وإن كان أكثر الناس لا يدركون هذه الحقيقة.
مغالطة النُّفَاة في لقب التشبيه والتجسيم
بالغ النفاة في نفي صفات الله، حتَّى سمَّوا ذلك توحيداً كما تَقَدَّمَ، ثُمَّ أخذوا يبالغون في التشنيع، فأطلقوا على مَنْ يثبتُ الصفات أنه مُشَبِّهٌ ومُجَسِّمٌ، وهم يعلمون لولا المغالطة أن الأقسام العقلية ثلاثة:
1- إثبات الصفات.             2- تعطيل الصفات.            3- التشبيه.
فالتعطيلُ نتيجةُ المبالغة في التنْزيه على غير هدى، والتشبيه نتيجةُ المبالغة في الإثبات على غير هدى، وأَمَّا الإثبات؛ فهو الوضع الثابت، وهو الحقُّ، فالحقُّ دائماً هو الوضع الثابت، والباطل هو الأمر الطارئ، يأتي مخالفاً للثوابت.
* عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات *
بعد إضافة صفة الخالق إلى الخالق سبحانه، وإضافة صفة المخلوق إلى المخلوق، لا يوجد اشتراكٌ بين صفة الخالق وصفة المخلوق، بل صفةُ الخالق كما يليق به، وصفة المخلوق كما يناسبه ويناسب حدوثه. وهذا أمرٌ في غاية الوضوح عند أصحاب هذا الشأن؛ فَلْيُفْهَمْ جيداً؛ لأنه مُهِمٌ جداً، ومن ثبتت عنده هذه الحقيقية؛ استراح وأراح، وقبل ذلك؛ فهو قلق دائماً فلا يذوق برد اليقين.
فانطلاقاً مما قررنا؛ فإننا لا ننفي صفات الله عنه؛ خشيةَ أن تُطلق علينا المُعَطِّلَةُ أننا مُشَبّهةٌ ومُجَسِّمَةٌ، وهل نسبُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم؛ لئلا تُطلقَ علينا الروافضُ بأننا نواصب؟! بل نُحبُّ أصحاب رسولَ الله جميعاً، ونترضى عنهم؛ دون أن نفرِّقَ بين أحدٍ منهم، بل هل ننفي القدر ونكذّب به لئلا تصفنا القدرية بالجبر؟!
كلا، وكما أسلفنا: إن الاصطلاحات لا تغير حقائق الأمور في جوهرها. وما ألطفَ كلامَ العَّلامة ابن القيم في هذا المعنى وما أصدقه؛ إذ يقول في قوةٍ وشجاعةٍ "ولا نردُّ ما أخبر به الصادقُ عن الله تعالى وأَسْمائه وصفاته وأفعاله؛ لتسمية أعداء الحديث وأهله لنا حَشَويةً، ولا نَجحدُ صفات خالقنا وعُلُوَّه على خلقه واستواءه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطِّلَةِ مَنْ يثبتُ ذلك مُجِّسماً مُشبهاً.
وفاة شيخ الإسلام رحمة الله عليه
بعد ذلك الجهاد الطويل والتضحية المريرة توفي شيخ الإسلام في السجن في قلعة دمشق؛ أي في خلوته؛ كما سَمَّاها هو، رحمه الله، حيث تجرَّدَ فيها لعبادة ربه ومناجاته وتلاوة كلامه وتدبره، بعد أن ترك للقُرّاء مكتبةً عظيمةً، قد عجز الساعون في حصرها في معرفة مُحتوياتها بصورةٍ قاطعةٍ؛ إذ لا تزال مؤلفات الشيخ مُبعثرةً هنا وهناك، وموزَّعةً في العالم، وما جمعه "الشيخ عبد الرحمن بن قاسم" في تلك المجموعة العظيمة إنما هو جزء من تلك المكتبة، وقد عالج الشيخ، رحمه الله، في جلِّ مؤلفاته موضوع العقيدة والدفاع عنها. ويكفي مثالاً لذلك أن نذكر أبرز تلك الكتب من تلك المكتبة؛ منها:
1- "منهاج السنة".              2- "درء التعارض بين العقل والنقل".
3- "كتاب الإيْمان".             4- وبعض الْمُجلدات في مجموع ابن قاسم وغيرها.
هذا وقد ورَّث الشيخ علمه ومنصبه في الدعوة إلى الله والدفاع عن العقيدة تلميذه الفذَّ فريدَ وقته ابن قيم الجوزية، فقام الوارث على التركة خير قيام؛ عرف لها حقها، وهو أمين عليها، فلم يألُ جهداً في أداء الأمانة بالانتصار لمنهج السلف؛ إذ كتب في الدفاع عن العقيدة السلفية كتباً ورسائل، سلك فيها مسلك شيخه في إنكار المنُكَرِ وبيان الحق بالأدلة، ثُمَّ سُجن كما سُجن شيخه، بل توفي شيخ الإسلام والعلامة ابن القيم في السجن في قلعة دمشق.
ويعتبر نشاط ابن القيم في الدعوة والإصلاح امتداداً لجهاد شيخه؛ فقد نال من الأذى قسطاً مِمَّا نال شيخه؛ إذ لا بدَّ لكل مصلح من الأذى والابتلاء؛ لأنَّهم يعملون على منهج الأنبياء، فأشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثُمَّ الأمثل فالأمثل، ولكنه سبحانه، رحمةً منه ولطفاً بالعباد، يبتليهم على حسب إيْمانهم قوةً وضعفاً، فمَنْ كان في إيمانه قوة وصلابة؛ اشتد بلاؤه، ومَنْ كان في إيمانه رقة وضعف؛ خَفَّفَ عنه؛ كما صحَّ بذلك حديث النبي صلّى الله عليه وسلم.
وبعد وفاة شيخ الإسلام رحمه الله؛ انفرد في الميدان العلامة ابن القيم، وحمل لواء الدعوة والإصلاح، وواصل المسيرة بالدعوة، فرأى أنه قد حان الوقت للهجوم المباشر بل الدفاع عند نقطة الحدود؛ لأن الاكتفاء بالدفاع المجرَّدِ قد يُشعِرُ بالضعف، فهاجم الجاهلية بأنواعها في عقر دارها، فكتب في ذلك كتباً هجومية ميدانيةً هاجم فيها الخصوم في قوة المؤمن، فأزعجهم وزلزل أقدامهم، وأوقعهم في حيرة. منها:
1- "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة".         
2- "اجتماع الجيوش الإسلامية في غزو المعطلة والجهمية".
وواضحٌ أن اسميّ الكتابين وما احتويا عليه من العلم والأسلوب المستخدم فيهما؛ يُنبئُ أن العّلامة المجاهد لا يرى الوقوف عند مُجرد الدفاع كما قلنا، بل لا بدَّ من عملٍ ميدانيٍ يُشعر بالقوة والعزة والشجاعة. (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) (المنافقون: 8).
هكذا يكون الداعية إذا كان مُتجرداً لله ومنقطعاً إليه سبحانه وصادقاً معه وهو سبحانه عليم بذات الصدور. وهكذا واصل مسيرته في تجديد القرن السابع الهجري، وهو امتدادٌ لتجديد القرن الثالث الهجري الذي قام به الإمام الشيباني.
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
لخّصَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، منهجه فقال: الذي نعتقده وندينُ به هو مذهبُ سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان من الأئمة الأربعة وأصحابهم رضي الله عنهم، وهو الإيمان بآيات الصفات وأحاديثها، والإقرار بها، وإمرارها كما جاءت؛ من غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ ولا تعطيلٍ.
قال الله تعالى: (ومن يُشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتَّبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولّى ونُصْلِه جهنم وساءت مصيراً) (النساء: 115). وقد رضي الله لأصحاب نبيه ومَنْ تبعهم بإحسانٍ الإيمان، فَعُلِمَ قطعاً أنهم المراد بالآية الكريمة. فثبت بالكتاب أَنَّ مَنْ اتبع سبيلهم؛ فهو على الحق، ومَنْ خالفهم فهو على الباطل، فَمِنْ سبيلهم في الاعتقاد: الإيْمان بصفات الله وأسمائه، التي وصفَ بها نفسه في كتابه وتنْزيله، أو على لسان رسوله، صلّى الله عليه وسلم، من غير زيادةٍ عليها، ولا نقصانٍ فيها، ولا تَجاوزٍ لها، ولا تفسيرٍ ولا تأويلٍ لها بما يخالفُ ظاهرَها، ولا تشبيهٍ بصفات المخلوقين، بل أمرُّوها كما جاءت، وردُّوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلِّمِ بها، وأخذَ ذلك الآخرُ عن الأول، ووصَّى بعضُهم بعضاً بحسن الاتباع، وحذَّرونا من اتباع طريق أهل البدع والاختلاف، الذين قال الله فيهم: (إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لستَ منهم في شيءٍ) (الأنعام: 159). وقال: (ولا تكونوا كالذين تَفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران: 105). والدليل على أنَّ مذهبهم ما ذكرنا: أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وأخبار رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ نقل مُصدِّقٍ لها، مؤمنٍ قابلٍ لها، غيرَ مرتابٍ فيها، ولا شاكٍّ في صدق قائلها، ولمْ يؤولوا ما يتعلق بالصفات منها، ولمْ يشبّهوا بصفات المخلوقين؛ إذ لو فعلوا شيئاً من ذلك؛ لَنُقِلَ عنهم، بل زَجَروا من سأل عن المتشابه، وبالغوا في كَفّهِ؛ تارةً بالقول العنيف، وتارةً بالضرب.
ولمّا سُئِلَ مالك- رحمه الله- عن الإستواء؛ أجاب بمقالته المشهورة وأمر بإخراج الرجل، وهذا الجواب من مالكٍ في الإستواء شافٍ كافٍ في جميع الصفات؛ مثل النزول والمجيء واليد والوجه... وغيرها، فيقال في النُّّزول: النُّزول معلوم، والكيفُ مجهولٌ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤال عنه بِدعةٌ... هكذا يقال في سائر الصفات، وهي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة. فمذهب السلف- رحمة الله عليهم- إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها؛ لأن الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات، كما أنَّ إثبات الذات إثباتُ وجودٍ لا إثباتَ كيفيةٍ ولا تشبيه، وكذلك الصفات، وعلى هذا مضى السلف كلهم".
ولقد كانت دعوة الشيخ دعوة تساير الواقع، ولا تضرب في الخيال، ولا تميل إلى استعمال الأسلوب المُخَدِّرِ، ولكنها تُشَخِّصُ الداء، وتضعُ الدواء على الداء، وربّما اضطرت إلى عملية البتر؛ بصرف النظر عن الألم المؤقّت الذي قد يُؤذي المريض، ولكنّ العاقبة تبقى دائماً محمودة- على عكس الأسلوب الذي يُوهم المرضى أنّهم ليسوا بمرضى ولكنهم في غاية الصحة- ؛ لأنَّها تصارح المرضى بمرضهم، وتسعى في علاجه والوصول إلى الصحة والعافية؛ دون أن تلهيهم بالطموحات السياسية الكاذبة. وبذلك تراها تركِّزُ على مُحاربة أنواع من التقاليد المُتَّبَعةِ في المنطقة، وهي مجموعة من الوثنيات: دعوة غير الله، والاستغاثة بغيره، والذبح والنذر والتوسُّل المبتدع، وشدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، والبناء على القبور وكسوتُها وإسراجها والعكوف عند الأضرحة؛ لأنَّ بعضها شرك ظاهر، وبعضَها من وسائل الشرك، والنهي عنها من باب سد الذرائع، وهو بابٌ مهمٌ في الفقه الإسلامي كما يعلم طلاب العلم.
لم تَمُتْ دعوة عبد الوهاب بِموت مؤازرها الأمير محمد بن سعود أولاً، ثُمَّ موت مُجدِّدها المصلح ثانياً فالدعوة الإسلامية باقية وستبقى- بإذن الله- ما بقي الإسلام الذي هو أساسها حتَّى يرفع الله كتاب الإسلام من الأرض عندما يأذن الله بانتهاء الدنيا.
ولمّا توفي الإمام المجدد، وقبله الإمام المؤازِر محمد بن سعود، تسلَّم قيادة الدعوة رجال أمناء؛ دعوةً ومؤازرةً وتأييداً أو دفاعاً عنها، وهم علماء آل الشيخ وتلامذتهم، وملوك وأمراء آل سعود، واستمرت الدعوة في سيرها، تفتح البلاد وقلوب العباد، ولا تزال تسير سيراً حسناً وحثيثاً، حتَّى بلغت اليوم أماكنَ ما كان أنَّها تصلها في عرض الدنيا وطولها، وستواصل سيرها بإذن الله وتوفيقه، ولا يضرها من خالفها، حتَّى تزحزح جميع تلك الأفكار المعرضة لها؛ ليظهر نور التوحيد الخالص، وتحكم الشريعة أرجاء الدنيا؛ لأن العاقبة للمتقين.
* آثار الدعوة السلفية في البلاد السعودية *
وهذه الدعوة السلفية المباركة لها آثار محلية في الديار السعودية، وهي ملموسة لمس اليد لكل من يعيش في هذه البلد مواطناً أو وافداً على السواء، ولها آثار خارجية ليست أقلَّ وضوحاً من الآثار المحلية.
أما الآثار المحلية فيمكن أن نوجزها في فقرتين:
1- الفقرة الأولى: ومن أبرزها وأعمَّها نفعاً للبلاد والعباد: قيام دولة إسلامية سلفية في قلب الجزيرة العربية "الحكومة السعودية" الّتي أعلنت أنَّ دستورها القرآن الكريم، وحكمت شريعة الإسلام فعلاً، وليس مجرد دعوى، وحافظت على المقدَّسات الإسلامية، مكة المكرمة والمدينة النبوية، فمنحها الله من التوفيق والسداد والمنعة والمهابة ما لمْ يمنح غيرها، فتمتع المجتمع السعودي بما لا يتمتعُ به أيُّ مُجتمعٍ آخر من نعمة الآمان والاستقرار والرفاهية في الحياة.
2- وأما الفقرة الثانية من آثار الدعوة المباركة: فتتجسَّدُ في المنهج الدراسي المُتَّبَعِ في السعودية، فقد التزمت جهات التعلم في السعودية أن يكون المنهج المقرر بالنسبة للمواد الدينية هو المنهج السلفي في جميع المراحل، بدءاً من المرحلة الابتدائية إلى الدراسات العليا.
* آثار الدعوة السلفيّة في العالم المعاصر *
إننا نجد آثارها ظاهرةً اليوم في جميع قارات العالم تقريباً، وبصفةٍ خاصةٍ في القارة الإفريقية، التي انتشرت فيها المدارس السلفية بشكلٍ يلفت النظر، وقد فتحت فيها آفاقاً واسعة، فتلك المدارس المنتشرة هنا وهناك تدرس المنهج المتبع في السعودية نفسه، وهو المنهج السلفي الذي سبق أن تحدثنا عنه، وكذلك الحال في القارة الهندية، حيث توجد في بعض ولايات الهند وفي باكستان مدارس وبعض الجامعات الأهلية تدرس المنهج نفسه في المواد الدينية.
وقد كَثُرَ في العالم المعاصر مَنْ ينهجون المنهج السلفي، مؤمنين به، داعين إليه، يُعْرَفون في القارة الهندية بـ "السلفيين"، وبـ "أهل الحديث"، وفي بعض الدول العربية وغيرها يعرفون بـ "أنصار السنة المحمدية"؛ كمصر، والسودان، والصومال، وتايلاند، ويُعرفون في الشام بـ "السلفيين"، وكلُّهم ينادون بالعودة إلى الإسلام عقيدةً وأحكاماً بمفهومه الصحيح، التي كان عليها الرعيل الأول رحمة الله عليهم أجمعين.


 ****************************************************************

مراجعةٌ عامّة هامة لمادة "معابر الثقافة الإسلامية إلى الغرب"
إعداد الدكتور راجح السباتين / جامعة طيبة / كلية العلوم والآداب بالعلا
كانت أوروبا تعيش حياةً شاقةَ وسيّئةً، رغم ظهور قوى سياسية متعددة في بعض بلدانها.وقد طفحت أوروبا بالعيوب والآثام، وتحللت من النظافة وتهرّبت من العناية بالإنسان والمكان، وزخرت بالجهل والفوضى والتناحر، وشيوع الظلم والاضطهاد، وعاشت في ظلام وهمجيّةٍ وقسوة، وفشت فيها الأمية، ونشبت فيما بين شعوبها الحروب الطاحنة الضروس، فلم يُسمْع بحربٍ قامت لمئة عامٍ متواصلة إلاّ على أرضها. وتغوَّلَ الحكامُ على الشعوب بما عرف بعهد الإقطاع، وكانت للحروب مسرحاً وللاضطهاد ميداناً.
أمّا حيُاة الناس في أوروبا فقد كانت تعسه وشاقة وكئيبة، تموج دنياهم بالمناكر والسيئات، وهم عليها مقيمون وبها يتعاملون، بل لعلهم غدوا بذلك يتفاخرون ويتنافسون، وأضحى الحال عاماً وعلى كل مستوى وإطار.
بدأ هذا الدرك ـ من الهبوط الإنساني العام ـ واضحاً في جنبات حياتها، وملموساً في غاراتها على الشرق الإسلامي خلال قرنين من الحروب الصليبية ... بدت ظواهر هذا الهبوط في الفكر والعلم والثقافة، والخُلق وأسلوب التعامل والتصرف، والنظرة إلى الآخرين وإلى الإنسان والالتزام بالقيم والعهود وكانوا عُراةً في الفكر والنفس والخُلق.
كان حال أوروبا هكذا عاماً، حتى في الطبقات العليا عندهم من الزعماء والحكام والسادة والنبلاء والإقطاعيين والرهبان ـ محتكري المعرفة القليلة المحدودة ـ دلَّ على ذلك المصادر الوفيرة المتواترة الأخبار وعلى رأسها كتب غوستاف لوبون وول ديورانت والمؤرخ ترند.
شواهد من كلام مؤرخين مسيحيين أنصفوا الإسلام وحضارته
1. يؤكد عالم النفس والاجتماع الفرنسي (جوستاف لوبون) أن أثر المسلمين الحضاري، لم يقتصر على الشرق، وإنما كان تأثيرهم في الغرب لا يقل خطورة وأهمية فإذا كان أثر المسلمين قد تجلى في الشرق واضحاً في الدين واللغة، فإن أثرهم في الغرب قد تجلى في النواحي العلمية والأدبية والخلقية.
2. أما المستشرق الفرنسي (جان جاك سديو) فيقول في كتابه (تاريخ العرب العام): (ومهما يكن الأمر فقد نجح العرب نجاحاً باهراً في القيام بدور الوسيط بين مختلف الشعوب من الفرات حتى جبل طارق. وساعدهم على ذلك ما امتازوا به من نشاط ليس له مثيل وتسامح عظيم، ولا سيما تجاه اليهود ...).
3. ولقد أنصف (ديورانت) المسلمين إلى حد بعيد حين ذكر بأمانةٍ فضلهم على أوروبا وتأثر الغرب بالحضارة الإسلامية حيث يقول: (لقد ظل الإسلام خمسة قرون من عام 700م إلى عام 1200م يتزعم العالم كلَّه في القوة، والنظام، وبسطة الملك، وجميل الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والآداب، والبحث العلمي، والعلوم، والطب والفلسفة). ويقول أيضاً: (وكان الفن والثقافة في بلاد الإسلام أعم وأوسع انتشاراً بين الناس مما كان البلاد المسيحية في العصور الوسطى، فقد كان الملوك أنفسهم خطاطين، وتجارأ، وكانوا كالأطباء، وكان في مقدورهم أن يكونوا فلاسفة).
كانت أوروبا في العصور الوسطى تعيش في نفق مظلم، وفي جاهلية عمياء، بفعل رجال الكنيسة التي كانت أداتها حفنة من الحكام الطغاة المتسلطين، حيث سعت الكنيسة لحصر تفكير الناس داخل دائرة ضيقة من الخرافة والطقوس والمراسيم والتعاليم الكنسية واللاهوتية، وقيدت تفكير الناس في أوروبا وألزمتهم بحصر نشاطهم الفكري داخل حدودٍ معينةٍ، بعكس ما كان عليه المسلمون من نهضة فكرية عالية تشمل كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والطبية والاقتصادية والفلسفية والفلك والرياضيات.
... لم تفرق مدارس العلم وكليات المعرفة بالأندلس بين مسلم أو نصراني أو يهودي، ولا بين عربي أو قوطي أو جرماني، فقد كانت مناهل العلم مُشرِّعَةً أبوابها لكل ساعٍ لها أو باحث عنها. فقد اختار مسلمو الأندلس أن يوطدوا سلطانهم في إسبانيا عن طريق العلم، فانصرفوا نحو العناية بالآداب والعلوم والفنون، مما أتاح ذلك لأوروبا مورداً عذباً استساغت شرابه فظلت تنهل منه منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي حتى النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر.
معابر الحضارة الإسلامية العربية إلى الغرب
لقد سلكت الحضارة الإسلامية في وصولها إلى الغرب ثلاثة معابر هي: بلاد الشام وما ارتبط بمسرحها من حروب صليبية، وصقلية، والأندلس.
أولاً: بلاد الشام والحروب الصليبية
لقد بالغ كُتَّابُ القرن التاسع عشر في أهمية الحروب الصليبية وبلاد الشام كطريق نفذت منه الحضارة الإسلامية إلى الغرب غير آخذين بالاعتبار أن الصليبيين قصدوا بلاد الشام لأجل الغزو والحرب لا لطلب العلم والمعرفة، فقد اتصفت حياتهم في بلاد الشام بما تتصف به عادةً حياة الجند من فظاظة وخشونة. وهكذا نجد أنه لم تتم للصليبيين في بلاد الشام حياة الاستقرار الضرورية لمباشرة النشاط الفكري والحضاري، ولم تتح لهم فرصة الاتصال السلمي بمسلمي بلاد الشام بالقدر الذي أتيحت لإخوانهم الأوروبيين في صقلية والأندلس.
ولا بد إنصافاً للحقيقة أن نشير إلى أن الحروب الصليبية صحبها بعض النشاط الحضاري والفكري. ذلك أنه وُجِدَ مِن الغربيين الذين استقروا في الأراضي المقدّسة مَنْ كَتَبَ في التاريخ مثل: (وليم الصوري)، أو في القانون مثل (حنا الإبليني)، و(فيليب نافاري).
كذلك أَثّرت الحروب الصليبية في تطور فن الحرب عند الغربيين، لا سيما فيما يتعلق ببناء القلاع ذات الحوائط المزدوجة. كما أن هذه الحروب أَدّتْ إلى تقدم حركات الحصار واستعمال (المجانيق) و(الكباش) الهادمة، واستخدام الدروع للفرسان وخيولهم، وإرسال الرسائل الحربية عن طريق (الحمام الزاجل). ومن المحتمل أن يكون الشرق الإسلامي إبان الحروب الصليبية هو المصدر الذي أخذ عنه الغرب الأوروبي ألعاب المبارزة، التي تشبه كثيراً ألعاب الجريد ـ التحطيب ـ عند الشرقيين. كذلك نلاحظ كثرة استعمال الشارات و(الرنوك) في الغرب الأوروبي نتيجةً للاتصال بالعرب في الشام.
ولما كان حديثنا محصوراً في انتقال الحضارة الإسلامية إلى الغرب وقنوات انتقالها، فإننا نكتفي بذكر بعض المؤثرات الإسلامية في الحياة الأوروبية العامة نتيجة لنمو التبادل التجاري فهناك نباتات وحاصلات زراعية وأشجار نقلها الصليبيون عبر حملاتهم على الشرق الإسلامي إلى بلادهم مثل: (السمسم، والأرز، والليمون، والبطيخ، والثوم) كما نُقِلَتْ أنواعٌ من العقاقير والصباغ والتوابل، أيضاً أقبل الصليبيون على استعمال الأقمشة والملابس العربية، والتي احتفظت باسمائها العربية في اللغة الأوروبية.
ثانياً: صقلية
لقد لعبت جزيرة (صقلية) دوراً مميزاً في انتقال الحضارة العربية الإسلامية إلى الغرب، حيث غدت هذه الجزيرة قاعدة للحضارة الإسلامية، مما جعل لها شأناً كبيراً في العصور الوسطى. فبعد أن ثَبَّتَ المسلمون أقدامهم في (صقلية) في القرن التاسع الميلادي اهتموا بالزراعة، فحفروا الترع والقنوات، وأنشأوا المجاري المعقوفة التي كانت مجهولةً قبلهم، كما أدخلوا زراعة (القطن وقصب السكر). واستغل المسملون ثروة الجزيرة الطبيعية، فاستخرجوا منها (الفضة والحديد والنحاس والكبريت)، وأدخلوا إليها صناعة (الحرير) أَمَّا تجارةُ صقلية فقد اتسع نطاقها على أيام المسلمين، بعد أن كانت شبه معدومة أيام من سبقهم. وبلغت (بالرمو) ـ عاصمة صقلية ـ في العهد الإسلامي مبلغاً واسعاً من التضخم في السكان وفي المساجد (300 ألف نسمة ونيف وثلاثمائة مسجد).
ولم يبق الآن في الجزيرة من آثار المسلمين سوى القليل النادر، ولكنها تشهد جميعها بالروعة والجمال الأخّاذ. فقد وصف (الإدريسي) عاصمتها بالرمو على عهد (روجر الثاني) ـ أي بعد زوال حكم المسلمين لها ـ بأنها مليئة بالقصور والدور والمتنزهات التي ما زالت شامخةً تحكي حضارة المسلمين فيها.
وهكذا يبدو لنا الفارق العظيم إذا ما قارنا بين أحوال جزيرة صقلية من النواحي العمرانية والاقتصادية والاجتماعية بعد أن فتحها المسلمون واستقروا بها، وبين أحوالها بعد إخراجهم منها.
ولم تنته الحضارة الإسلامية بانتهاء حكمهم للجزيرة، فقد وجدت الحضارة من ملوك النورمان الذين استولوا عليها فيما بعد خير مشجّعٍ لها. فقد قام هؤلاء الملوك بحماية المسلمين الذين بقوا في صقلية، كونهم لمسوا منهم تقدماً في الفنون والعلوم والصناعات، وأدركوا أن تشجيع (الجالية الإسلامية) في الجزيرة سيعود عليهم بفوائد عظيمة.
وامتازت النقود التي سَكَّها هذا الملك بأنَّ نصفها جاء مكتوباً عليه بالعربية والنصف الآخر باللاتينية، كما أن بعض نقوده اشتمل على رمز الإسلام والبعض الآخر على شعار المسيحية. وقد سار خلفاء روجر على سُنَّتِهِ، فاستعان (روجر الثاني) بعلماء المسلمين كما درس (وليم الثاني) اللغة العربية، ورجع إلى مستشاريه العرب في أهم شؤونه.
وليس هناك من شك في أن الشعر العربي كان يُنشدُ في بلاط ملوك صقلية النورمان، فقد صدح الشاعر العربي بصوته في قصر الإمبراطور (فريدريك الثاني) في القرن الثاني عشر الميلادي، وهو الإمبراطور الذي سمته بعض الكتب (نصف شرقي). وقد دُهِشَ العالم فيما بعد من إتساع معلوماته ودِقَّتِها، فقد تعلم اللغتين العربية واليونانية، وكان يراسل الملك (الكامل الأيوبي) باللغة العربية، وممّا كان يقول للكامل في رسالته: (إنه أعز أصدقائه بعد أولاده) وكان أكبر ما يبعث في نفسه رغبته إلى العلوم والفلسفة التي خلفها المسلمون في صقلية. وقد قرأ بنفسه كثيراً من روائع الكتب العربية الخالدة، واستدعى إلى بلاطه كثيراً من العلماء والفلاسفة المسلمين واليهود، وأجاز العلماء على ترجمة المراجع العامة اليونانية والإسلامية.
ثالثاً: الأندلس
مهما يكن من أهمية الدور الذي أسهمت به كل من بلاد الشام وصقلية في تغذية أوروبا بأصول الحضارة العربية الإسلامية، فإن الفضل الأكبر يرجع ـ بلا شك ـ إلى العرب المسلمين في الأندلس، الذين قَدَّموا خلاصة الفكر الإسلامي في العلوم والآداب والفلسفة إلى أوروبا، فضلاً عن تعريف الغرب بكثير من تراث اليونان القديم الذي زال من الوجود ولم يبق إلا في التراجم العربية. ولم تكن أسبانيا عندما فتحها المسلمون العرب في أوائل القرن الثامن الميلادي تختلف عن بقية بلاد الغرب الأوروبي المعاصرة، من حيث انتشار الجهل والتخلف والفوضى بسبب النزاعات الاجتماعية والفتن الداخلية ... وانتقلت الأندلس بعد أن فتحها المسلمون من حالة التردي التي كانت تعيشها إلى مرحلة جديدة من الاستقرار، حيث اتجه المسلمون نحو إحياء الأرض الميتة، وتعمير المدن الخربة، وتنشيط التجارة الراكدة، وإنعاش الصناعة المتأخرة، حتى غدت الأندلس في ظل الخلافة الأموية أغنى البلاد الأوروبية وأكثرها ازدحاماً بالسكان.
واختار المسلمون أن يوطدوا سلطانهم في أسبانيا عن طريق العلم، فانصرفوا نحو العناية بالآداب والعلوم والفنون، وعندئذ لم يقنعوا بما وصل إليه إخوانهم في المشرق من تقدمٍ، بل زادوا على ذلك وابتكروا وجَدَّدُوا، مما أتاح لأوروبا مورداً عذباً استساغت شرابه فظلت تنهل منه منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي حتى النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر.
ولم يدخر الأندلسيون وسعاً في الحصول على علوم الشرق الإسلامي عبر ثلاث طرق:
1. استدعاء علماء المشرق كماحصل مع (أبي علي القالي).
2. ابتعاث مجموعات من أهل الأندلس إلى المشرق للتزود بالعلوم والمعرفة ثم العودة إلى الأندلس لنشر مام حصلوه وجمعوه من العلوم والمعارف، ومن أمثلة هؤلاء: (يحيى بن يحيى الليثي).
3. جمع الكتب التي هي أهم وسائل النشاط العلمي، حتى قيل: إن الخليفة (الحكم الثاني) قد ضَمَّتْ مكتبته الآلاف من الكتب.
ومن المفيد أن نعرف أن سكان الجزيرة الأندلسية أقبلوا على الإسلام طواعية ليدخلوا في دين أفواجا، حتى غدت الأندلس جزيرة إسلامية، عاش أهلها الأصليون ـ الذين دخلوا الإسلام ـ مع الفاتحين المسلمين إخواناً، حتى أصبح الجميع سواء دون تمييز امتثالاً لقوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" ومن هنا نتلمس الفارق بين ما كان عليه الحال عند الفاتحين المسلمين وبين ما فعله الغربيون عندما دخلوا أمريكا كيف ذبحوا السكان الأصليين حتى الذين دخلوا دينهم، وكذلك فعلوا بسكان استراليا الأصليين نفس الشيء، في حين جعلوا من سكان جنوب أفريقيا الأصليين عبيداً وعاملوهم معاملة دون معاملة الكلاب!.
وهكذا كانت الأندلس كلما تقدم الزمن فيها نجد الإسلام مستمراً بالانتشار في أرجائها، إلى أن أصبح غير المسلمين أقليةً، ولكن عُومِلوا بكل احترام وكفلت لهم حقوقهم وحريتهم في المعتقد والعبادة ولم يعاملوا كمواطنين من الدرجة الثانية! مما جعل الأسبان يعجبون لهذه المعاملة التي اتسمت بالتسامح والإنصاف، وجعلتهم يؤثرون التعايش مع المسلمين، لينعموا بالأمن والأمان، وأن يأخذوا الكثير من عادات المسلمين، ويتقمصون أسلوب حياتهم ومعاشهم، ولم يكتفوا بذلك بل أقبلوا على دراسة اللغة العربية، ومارسوا الأساليب الإسلامية في حياتهم، فلبسوا ملابسهم، واستعملوا الختان، وامتنعوا عن أكل الخنزير، وتسمَّوا بالأسماء العربية إلى جانب أسمائهم اللاتينية، واتقنوا العربية وتذوقوها قراءة وكتابة وإنشاء وأدباً وهذا دفع (الفارو القرطبي) إلى انتقادهم بمرارة من توجههم نحو العربية والبعد عن اللاتينية.
ولقد ساعد على انتقال حضارة عرب الأندلس إلى الغرب سياسة التسامح التي اتَّبعها المسلمون من منطلق أنَّ العلم حقٌ لكل الناس كافة دون تمييز كحقهم في الماء والكلأ والنار لا يجوز حجبه عن أحد.
وقد جعل هذا التسامح المستعربين الأسبان ـ كما قلنا ـ يتسابقون لاعتناق دين الإسلام، وتعلُّم اللغة العربية، حتى أن اليهود كانوا يسارعون للانخراط في دراسة اللغة العربية على يد الأساتذة المسلمين، مما أدى بالتالي إلى إيجاد مدرسة كبيرة من غير المسلمين، كان لأفرادها دور القيام بوظيفة السفراء بين الأندلس وغرب أوروبا.
وشارك اليهود بصفة خاصة في الحياة الثقافية بالأندلس مشاركة فعالة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، بما ترجموه من كتبٍ عربيةٍ كثيرةٍ إلى اللاتينية، مع ملاحظة أن نشاط يهود أ سبانيا في ذلك العصر كان جزءاً لا يتجزأ من نشاط المسلمين الحضاري.
وعندما سقطت (طليطلة) في يد الفونسو الأسباني سنة 1085م ازداد تدفق طلاب العلم من مختلف بلاد غرب أوروبا على أسبانيا للاستزادة من الدراسات الإسلامية، فنشطت حركة الترجمة عن العربية نشاطاً منقطع النظير، واستمرت حتى القرن الخامس عشر. فَتُرْجِمَ كثيرٌ من المؤلَّفات العربية في مختلف العلوم والفنون، كما تُرْجِمَتْ عن العربية بعض مؤلفات اليونان مثل كتب (جالينوس) و(بقراط) و(أفلاطون) و(أرسطو) و(إقليدس) وغيرهم.


العلوم التي أخذها الغرب عن المسلمين العرب
أولاً: الأدب: لقد تأثر الأدب الغربي في العصور الوسطى وبداية العصر الحديث تأثراً واضحاً بأسلوب الأدب العربي المعروف بالخصوبة والإبداع. فهذا (جب) يقول: (إنَّ خير ما أسدته الآداب الإسلامية لآداب أوروبا أنها أثرت بثقافتها وفكرها العربي في شعر العصور الوسطى ونثرها).
وظهر في شمال أسبانيا لون مشابه للشعر الأندلسي الخفيف، كذلك في إقليم (بروفانس) بجنوب فرنسا، وذلك منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، ومن ثمَّ شقَّ طريقه إلى مختلف الدول الأوروبية وبخاصة إيطاليا.
وثمة ظاهرة جديرة بالملاحظة في الشعر العاطفي الأوروبي الذي ظهر خلال الشطر الأخير من العصور الوسطى، هي العناية بالقافية. والمعروف أنَّ الشعر الأوروبي الكلاسيكي لم يهتم بالقافية، ولم يُعطها عنايةً تُذكر في مختلف أدواره، بخلاف الوضع في الشعر العربي الذي يرتكز على القافية ويعتبرها منذ نشأته ركناً من أهم أركانه. وهذه الظاهرة جعلت كثيراً من الباحثين والمستشرقين يعتقدون أن القافية جاءت أوروبا عن طريق الشعر العربي.
أما بالنسبة لتأثير العرب في النثر الأوروبي فليس فيه مجال للشك، فاهتمام الأوروبيين بالدراسات والكتب العربية العلمية صحبه اهتمامٌ آخرُ بالمؤلَّفات الأدبية عند العرب، وبصفة خاصة (القصص الخيالية) ذات المغزى الأخلاقي أو التي تتخذ الحيوان موضوعاً لها.
وفي سنة 1251م تُرجمتْ من العربية إلى الأسبانية أيضاً مجموعة القصص الهندية المعروفة باسم (كليلة ودمنة) وأعقب ذلك بقليل ترجمة قصص الحكماء السبعة أو (السندباد) سنة 1253م، ثم كثرت بعد ذلك تراجم الحكم والقصص الخلقية، وانتشرت في أوروبا بوجه عام.
وقد لاحظ الباحثون أوجهَ شبهٍ واضحةً بين القصص العربي الخيالي وبين بعض القصص التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى، مثل قصة (ايزولد) (ذات اليد البيضاء) وقصة (فلورا والزهرة البيضاء). وهكذا استطاع الأدب العربي أن يؤثر تأثيراً واضحاً في القصص الأوروبي، ليس فقط في العصور الوسطى، بل الحديثة. فالروح الأندلسية تبدو واضحةً في قصة (أمادس دي جولا) التي كتبها عدّةُ قُصَّاصٍ في القرن الخامس عشر الميلادي، كما تبدو في غيرها من القصص الأوروبي الذي وضع في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
ويُرَجِّحُ البعض أن (المقامات العربية) أَثّرت هي الأخرى في الأدب الأوروبي في العصور الوسطى ومستهل الحديثة. والمعروف أن هذه المقامات تتألَّفُ من قصصٍ متفرقةٍ بطلها شخص يستغلُّ خفَّةَ روحه وسعةَ حيلته في كسب قوته، وأشهر هذه المقامات مقامات (الحريري)، ومقامات (بديع الزمان الهمذاني)، وقد وُجِدَ شبيهٌ لها في بعض الروايات الأسبانية التي تدور حول حياة المشردين والصعاليك والتي أحرزت إقبالاً كبيراً في القرن السابع عشر. وهذه قصّة الفارس (ثيفارو) تضم إلى جانب روحها الشرقية حادثة من الحوادث التي اقترنَ اسمها في الرواية العربية باسم (جحا) الشهيرة.
ولم يقتصر تأثر الأدب الأوروبي بالأدب الإسلامي بالشعر والنثر والقصة، فقد كان للغة العربية نفسها أثر عميق في اللغات الأوروبية. فعدد الألفاظ العربية في اللغتين الأسبانية والبرتغالية أكبر من أن يتصوّره عقلٌ. أما اللغة الإنجليزية ففيها وحدها ما يقرب من ألف كلمةٍ مُشتقةٍ من أصلٍ عربي، منها حوالي مئتين وستين كلمة من الكلمات الشائعة الكثيرة الاستخدام في الحياة اليومية. فمنها ما هو خاص بأسماء الحيوانات والطيور، ومنها ما يرتبط بالفلك والكيمياء والنبات، أو الأقمشة والملابس، أو المأكل والمشرب. هذا عدا الاصطلاحات المتعلقة بالطب والجراحة والموسيقى والحروب.
ثانياً: الفلسفة: لقد كان التأثير الفلسفي على أوروبا عظيماً، حتى أن (ترند) قال: (إنَّ أعظم ما خَلَّفَهُ المسلمون للفكر الأوروبي هو أعمال فلاسفتهم). وكان من المعروف أن المشرق الإسلامي شهد نشاطاً كبيراً لبعض الفلاسفة أمثال: (الفارابي) و(الكندي) و(ابن سينا) ولكن تأثير الفلسفة الإسلامية على الفكر الأوروبي كان مركزه الأندلس، لأن أوروبا لم تعرف فلاسفة المشرق إلا عن طريق الأندلس، حيث أشرف (ريموند) رئيس أساقفة طليطلة على ترجمة أعمال الفارابي وابن سينا والغزالي، والعديد من الكتب العلمية العربية. وقد لَخَّصَ الأستاذ (أحمد أمين) العوامل التي أعانت أهل الأندلس على التفلسف في انتقال بعض الفلاسفة والعلماء من بغداد إلى الأندلس، وتعليم أهلها ما وصل إليه أهل المشرق من تفكير، وفي نشاط أهل الأندلس في نقل الكتب إلى بلادهم، ومنها كتب فلسفية كثيرة تُرجمتْ عن اليونانية.
وكان اتّصالُ العقلية الأوروبية الغربية بالفكر الإسلامي هو الذي أثار حماسة الأوروبيين لدراسة الفلسفة اليونانية. وهنا يتساءل الأستاذ (جيوم) قائلاً: (إذا لم يكن التأثير الأول الفعال عربياً فكيف نُفَسِّرُ اختلاط اسم ارسطو بالتعاليم المنسوبة إلى ابن رشد أجيالاً طويلة؟).
وإذا كان ـ كما قلنا ـ المشرق الإسلامي قد نبغ فيه فلاسفة عظماء، فإن الأندلس كان لها أيضاً فلاسفتها الذين ضربوا الرقم القياسي في حرية التفكير وتركوا أبعد الأثر في الفكر الأوروبي. وأهم فلاسفة الأندلس (ابن باجة) و(ابن طفيل) و(ابن رشد)، وهؤلاء كان تأثيرهم في غرب أوروبا أكثر منه في العالم الإسلامي.
وقد اهتم الغرب بالفيلسوف ابن رشدٍ أكثرَ من غيره، بوصفه أكبرَ شارحٍ لفلسفة آرسطو. ذلك لأن ابن رشد أُعجب إعجاباً شديداً بأرسطو مما جعله يضع ثلاثة شروحٍ على فلسفته. وفي ذلك يقول (رينان): (ألقى أرسطو على باب الكون نظرة صائبة ففسره وشرح غامضة، ثم جاء ابن رشد فألقى على فلسفة أرسطو نظرةً خارقةً ففسّرها وشرح غامضها).
لقد اعتبرت الكنيسة أن آراء ابن رشد خالفت تعاليم الكنيسة، مما أحدث هيجاناً عاماً في غرب أوروبا. فاصدرت عدة قرارات في القرن الثالث عشر الميلادي بتحريم آراء آرسطو وابن رشد، مع توقيع قرار الحرمان ضدَّ كلِّ مَنْ يردد فلسفة هذا أو ذاك.
لقد كان أثر فلسفة ابن رشد واضحاً في تمرُّدِ كثيرٍ من الغربيين على تعاليم الكنيسة، وغير عابئين بعقوباتها، وبتمسكهم بمبدأ حرية الفكر وتحكيم العقل على أساس المشاهدة والتجربة، وقد ظهر أثر آراء ابن رشد واضحاً في فلسفة القديس (توما الأكويني).
ثالثاً: الرياضيات: كان للعرب أثر واضح على أوروبا في الرياضيات، سواء في الحساب أو الهندسة أو الجبر أو حساب المثلثات أو الميكانيكا. فقد بنى المسلمون معارفهم في الرياضيات على أساسٍ من علوم اليونان والهنود، ثم تقدَّموا بهذه العلوم وخطوا بها خطوات واسعة نحو الأمام، فظهر منهم في المشرق علماء أفذاذ في العلوم الرياضية أمثال (الخوارزمي) و(ثابت بن قرة) و(البتاني) و(الخازن البصري) و(عمر الخيام)، وغيرهم. يقول ديورانت: (.. وحافظ المسلمون في العصر الذي نتحدث عنه على تفوقهم غير المنازع في العلوم وكان من أعظم ما بلغوه من التقدم في علم الرياضة في (مراكش) و(أذربيجان)، ففيهما نشاهد مَرّةً أُخرى ما بلغته الحضارة الإسلامية من رقيٍ عظيمٍ، ففي مدينة مراكش نَشَرَ (حسن المراكشي) في عام 1229م جداول تشتمل على جيوب الزوايا لكل درجة من الدرجات، وجداول بجيوب التمام، وجيوب الأقواس، ومماسات الأقواس المتماسة، وبعدَ جيلٍ من ذلك الوقت أصدر (نصر الدين الطوسي) أول رسالة بحث فيها حساب المثلثات بوصفه علماً مستقلاً بذاته لا بوصفه فرعاً من فروع علم الهيئة. وقد بقي كتابه المسمى (شكل القطاع) لا ينافسه منافس في هذا الميدان حتى نشر (رجيو منتاس) كتابه (المثلثات) بعد مئتي عام من ذلك الوقت، وربما كان حساب المثلثات الذي ظهر عند الصينين في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي عربي المنشأ.
لقد تقدم المسلمون بالحساب خطوات واسعة، فأضافوا إلى معلومات اليونانيين كثيراً من النظريات التي لم تعرفها أوروبا من قبل، كما علّموا الأوروبيين نظام الأعداد الهندية الذي يمثل ثورة شاملة في علم الحساب. ولم يكن الغرب يعرف أن رقم (واحد) تتغير قيمته حسب وضعه في خانة الآحاد أو العشرات أو الألوف أو الملايين، في حين أن قيمة الرقم لا تتغير في النظام الروماني بتغير خانته، فرقم (5) مثلاً لا يمكن أن يعني خمسين أو خمسمائة أو خمسة آلاف. ولم يعرف الغرب استعمال الصفر إلا عن طريق المسلمين في القرن الثاني عشر الميلادي، حتى قال (جورج بيدل ايري): (إن فكرة الصفر تُعتبرُ من أعظم الهدايا العلمية التي قدَّمها المسلمون على غرب أوروبا.
وتلقى غرب أوروبا نظام الأعداد الجديدة مقروناً باسم (الخوارزمي)، وسرعان ما حُوّرَ اسم الخوارزمي في اللغة اللاتينية إلى (Algoritmi) أو (Algorismus)، ثم اُختصر بعد ذلك إلى (Augrim)، حتى أصبح هذا اللفظ الأخير عِلماً لنظام الأعداد العشري الجديد. ويدل كل ذلك على أن الغربيين تعلموا الحساب الحديث عن كتاب الخوارزمي السابق.
ولم يقتصر ما قدمه المسلمون للأوروبيين في الرياضيات على علم الحساب، وإنما امتد إلى بقية العلوم الرياضية؛ وعلى رأسها (علم الجبر) الذي لا يزل محتفظاً باسمه العربي في كافة اللغات الأوروبية (Algebra)، بعد أن أخذه الأوروبيون عن العرب. أما في الهندسة وعلم المثلثات فقد ترجم العرب كتاب (إقليدس) في الهندسة، وهي الترجمة العربية التي نقلها الأوروبيون إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي. كذلك ترجم (الطوسي) كتاب (المعطيات) لإقليدس، وهو في (هندسة الأشكال الكروية).
ولم يقتصر المسلمون على معلومات اليونان في الهندسة وحساب المثلثات، وإنما جددوا وأضافوا إضافات جديدة لم تُعرف مِنْ قَبلهم. فهم الذين أدخلوا (المماس) على علم حساب المثلثات، وكان لهذه الخطوة أهمية عظمى في الرياضيات، حتى اعتبرها علماء الرياضة ثورةً علميةً خطيرةً.
رابعاً: الفلك: لقد كان لتقدُّمِ المسلمين في علوم الرياضات عامل مهم في تفوقهم في (علم الفلك) الذي عنوا به عنايةً كبيرةً، ولا أدلَّ على ذلك من المراصد العديدة التي انتشرت في مختلف البلاد الإسلامية من أواسط آسيا حتى المحيط الأطلسي. وأهمها مراصد: (سمرقند، ودمشق، والقاهرة، وفاس، وطليطلة، وقرطبة).
وقد أقام الفلكيون المسلمون آلاتٍ غاليةَ الثمن لم تقتصر على (الإسطرلاب)، والكرات ذات الحَلَقِ التي كانت معروفة لليونانيين الأقدمين، بل كانت تشمل كذلك آلات لقياس الزوايا يبلغ نصف قطرها ثلاثين قدماً، وآلات سدس نصف قطرها ثمانون قدماً. وقد أدخل المسلمون على (الإسطرلاب) تحسيناتٍ كثيرة، ووَصَلَ منهم إلى أوروبا في القرن العاشر الميلادي، وظل شائع الاستعمال بين الملاحين حتى القرن السابع عشر الميلادي، وقد طوّره العرب وأبدعوا في صنعه، حتى أصبح بفضلهم أداةً علميةً وتحفةً فنيةً معاً.
ونستطيع ان نقف على النتائج الباهرة التي توصل إليها علماء المسلمين العرب في ذلك العلم من خلال الكتابات الكثيرة التي دونوها في كتب (علم الفلك). وكذلك وضع فلكيو المسلمين جداول لأمكنة الكواكب السيارة، وتوصلوا إلى أنّ حركات هذه الكواكب على شكلٍ بيضويٍ، كما توصلوا إلى نظرية دوران الأرض واستعمل المسلمون الإسطرلاب الذي لم يعرفه الأوروبيون في العصور الوسطى إلاّ على أيدي أساتذتهم المسلمين.
خامساً: الجغرافيا: كان للمسلمين باع طويل في علوم الجغرافيا، وبالتالي كان لهم الفضل الكبير على أوروبا، وتشهد على ذلك مؤلفات ورحلات المسلمين الجغرافية، وما جاء فيها من معلومات تُرجِمَ بعضها إلى اللاتينية في العصور الوسطى، وأوروبا تدين للمسلمين بالفضل بسبب حفظ معلومات اليونان الجغرافية، وهي المعلومات التي لم يعرفها الأوروبيون إلا من الكتب العربية في أواخر العصور الوسطى. وإذا كان المسلمون اعتمدوا على معلومات اليونان في أول أمرهم، إلا أنهم لم يلبثوا- كعادتهم- أن فاقوا أساتذتهم، فصحَّحوا ما وقع فيه جغرافيو اليونان من أخطاء، وأضافوا من تجاربهم الكثير إلى محصول المعرفة الجغرافية. وساعد المسلمون العرب الأوروبيين على هضمهم لعلوم اليونانيين وقد دفعهم في مضمار علوم الجغرافية ما هو معروف عنهم من حب المغامرة والسياحة والرحلات، فجابوا البلاد من شرق آسيا على مجاهل أفريقيا، وأقاموا الصلات التجارية مع بلاد لم يسمع فيها الأوروبيون في العصور الوسطى أو شكَّوا في وجودها.
ويُعتبر (ابن بطوطة) المشهور برحلته (تحفة النظار) آخر الرحالة الكبار وآخر الجغرافيين الأعلام أيضاً. وتقدر جولاته بمائة وخمسة وسبعين ألف ميل. لذلك لا نعجب إذا وجدنا كتب المسلمين في علم الجغرافيا ظلت أساساً لدراسة ذلك العلم في أوروبا عدة قرون. ونخص بالذكر كتاب (الشريف الإدريسي) المُسمّى (نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والأقطار والبلدان والجزر والمدائن والآفاق). وهو مُزَوَّدٌ بأكثر من أربعين خريطة، وتُرجم إلى اللاتينية حيث اعتمد عليه الأوروبيون أكثر من ثلاثة قرون، و(الإدريسي) هذا هو الذي كلفه (روجر الثاني) ملك صقلية بوضع خريطةٍ جامعةٍ، اثبتت أن المعلومات الجغرافية عند المسلمين أوسع مما كان يظن.
ولقد برع الجغرافيون العرب في رسم الخرائط، وهي فن إسلامي أصيل بعد أن أثبتت الأبحاث الحديثة كذب الخرائط المنسوبة (لبطليموس)، وما بُنِيَ من الدراسات الاستشراقية حول استخدام العرب لخرائطه. فقد كانت معظم كتب الجغرافيا العربية لا تخلو من الخرائط. بالرغم من أن بعضها كان هندسياً أحياناً أو تقريبياً، إلا أنَّ الاهتمام الأول الذي يبرز فيه هو الاهتمام بالمدن ومواقعها من الأرض بجانب ذكر الأقاليم. وقد جمع (البيروني) بعد ذلك بين خرائط اليونان الفلكية، والخرائط الإسلامية البلدانية، وكتابه (نهاية الأماكن في تصحيح مسافات المساكن) ينبئ عن ذلك ولو أنه دون خرائط. وجاء (الإدريسي) أخيراً فرسمَ خطوط الطول والعرض، ووضع كتابه (نزهة المشتاق) الذي يكاد يكون أكثر من شرح لخريطته وما ورد فيها من مدنٍ ومواقعَ جغرافية. وهو يُسمي خرائطه بلوحة الترسيم.
ومن المفيد أن نشير إلى أنّ الذي ساعد المسلمين على القيام برحلاتهم العلمية والتجارية الواسعة هو معرفتهم (بالبوصلة) واستخدامها في أسفارهم. وإذا كان من الثابت أن البوصلة اختراعٌ صينيٌّ، إلا أنّ فضل العرب في استخدامها يبدو في ناحيتين: الأولى: أنهم كانوا أول مَنْ استخدم البوصلة على نطاقٍ واسعٍ في الملاحة، والثانية: أنهم هم الذين نقلوا ذلك الاختراع إلى أوروبا وعلمَّوا الأوروبين استعمال البوصلة، ذلك أن الصينيين كانوا ضعافاً في الملاحة، ولم يُسمع عن قيامهم برحلاتٍ بحريةٍ بعيدة عن شواطئ بلادهم، ولذلك لم يستخدموا البوصلة في البحر، وذلك بخلاف العرب الذين أثبتوا أنهم مَلاّحون مَهَرةٌ، فأسرعوا إلى التفكير في استخدام البوصلة في الملاحة.
سادساً: الطبيعة: كان لعلماء الطبيعة المسلمين باع طويل في هذا العلم، ولكن معظم مؤلَّفاتهم الهامة قد ضاعت، ولم يبق منها سوى القليل، على أنه يمكننا من هذا القليل أن نقف على مدى تقدمهم في علم الطبيعة، وما أفادته أوروبا من هذا التقدم. ويُعتبَرُ (البيروني) رأس العلماء المسلمين المشهورين، والذي كان عالماً في الطبيعيات، فضلاً عن شهرته في الفلسفة والتاريخ والجغرافيا والرحلات والرياضيات والفلك.
وكان من أشهر علماء المسلمين في علم الطبيعة كذلك (الحسن بن الهيثم) الذي اشتغل بالعدسات والبصريات، وكتب عدة رسائل في أضواء الكواكب، وفي الضوء، في المرايا المحترقة بالقطوع، وفي المرايا المحرقة بالدائرة، وفي ضوء القمر.
وكان لكتابات (ابن الهيثم) تأثير كبير على علماء الغرب الناشئين لا سيما (روجر بيكون).
وهناك أيضاً (الخازن البصري) الذي كتب أبحاثاً رائعة في المرايا وأنواعها وحرارتها ومحلِّ الصور الظاهرة فيها، وفي انحراف الأشياء وتجسيمها ظاهرياً، كما أوجد حلاً لبعض المسائل في الضوء.
سادساً: الكيمياء: ظلَّ علمُ الكيمياء عند المسلمين مشوباً ببعض الأوهام والخرافات كالبحث عن أكسير الحياة الذي يشفي جميع الأمراض. ويعتبر (خالد بن يزيد بن معاوية) رأس علماء الكيمياء العرب والمسلمين، وكان أوَّلَ مَنْ عمل فيها. فقد اشتغل بالكيمياء والطب والنجوم، فأتقنها وألفَّ فيها رسائل. وهو عند أهل الصنعة من المتقدمين فيهم. وكان من أشهر الكيميائيين العرب (جابر بن حيان) المعروف عند الأوروبيين باسم (جبير Gebir). ولعل أهم مؤلفات (ابن حيان) كتاب (الاستتمام) الذي تُرجم إلى اللغة الفرنسية سنة(1672) مما يدل على استمرار نفوذه العلمي في أوروبا حتى القرن السابع عشر الميلادي.
ولقد كان وصلها من أهم أسباب تقدم المسلمين العرب في علم الكيمياء توصلهم إلى استقلال القوة الناجمة عن (انفجار البارود). صحيح أن (المركبات المحركة) كانت معروفةً من قبل، وقد اُستعمل من قبل البيزنطيين في ردِّ الأسطول الإسلامي الذي هاجم (القسطنطينية) في أواخر القرن الثامن الميلادي ولكنَّ هذه المركبات المحرقة التي عرفت باسم (النار الإغريقية) لم تكن تصلح إلا في إشعال الحرائق، ولم تكن قابلةً للانفجار، ولم يتولَّدْ عنها قوة قاذفة كالمواد المتفجرة. لذلك لم يقنع المسلمون بمعرفة النار الإغريقية، وما زالوا يجدّون ويبحثون حتى توصلوا إلى استخدام قوة البارود في رمي القذائف إلى مدى بعيد.
ثامناً: الطب: كان في مقدمة أنواع الطب التي توجهوا إليها، وهو (الطب العلاجي وخواص العقاقير الطبية). وقد أضاف العرب إلى (علم الأعشاب، العنبر) الكثير الكثير.
يقول ديورانت: إن أهم الأعمال التجارية بين إيطاليا والشرق الأدنى استيراد العقاقير العربيّة. وكان المسلمون أَوَّلَ من أنشأ مخازن الأدوية والصيدليات، وهم الذين أنشأوا أول مدرسة للصيدلة، وكتبوا الرسائل العظيمة في (علم القربازين). لقد عني المسلمون بالطب فعرفوا أهميته، وأخذ يتسابق الباحثون عن دقائق أموره، وينهلون من علمه، حتى بلغ عدد المتخصصين والمؤلفين من أطباء المسلمين درجةً من الكثرة جعلت (ابن أبي أصيبعة) يخصص لهم مجلداً من كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء). وفي هذا العلم بدأ المسلمون بترجمة كتب اليونان الطبية مثل: (جالينوس) و(بقراط) و(بولس الأيجيني) وغيرهم.
ولكنَّ المسلمين لم يكتفوا بما رأوه في تلك المؤلفات من معلومات، وإنما عَدَّلوها وصحَّحوها وأضافوا إليها وكتبوا أبواباً جديدة في الطب والصيدلة، لم يسبقهم إليها إنسان. في الوقت الذي كادت تنعدم معلومات الأوروبيين في الطب بسبب الجهل وتزمت رجال الكنيسة في العصور الوسطى، حتى اعتبروا المرض نوعاً من الجزاء أو العقاب الإلهي لا يصحُّ للإنسان أن يعالج أو يبرأ منه. فإذا انتابت أحدهم حُمّى هرع إلى أقرب ديرٍ أو كنيسةٍ حيث يختفي على مقربةٍ منها منتظراً حدوث معجزة تشفيه. وكان المرضى من المسيحيين يفضلون الأطباء المسلمين واليهود على الأطباء المسيحيين، (خلال حملاتهم الصليبية على بلاد الشام).
ومن الأطباء الذين اشتهروا في دولة الإسلام (يوحنا بن ماسويه) الذي درّس التشريح بتقطيع أجساد القردة؛ و(حنين بن إسحاق) صاحب كتاب (العشر مقالات في العين) وهو أقدم مرجعٍ مُنَظّمٍ في طب العيون، و(علي بن عيسى) أبرز أطباء العيون المسلمين وصاحب كتاب (تذكرة الكحالين)، وهو الكتاب الذي ظل يدرّس في أوروبا حتى القرن الثامن عشر الميلادي.
ويؤكد المؤرخ (المقريزي): (أَنَّ أولَ من بنى المارستان (المستشفى) في الإسلام ودار للمرضى هو (الوليد بن عبد الملك)، وأنه أولُ مَنْ عمل دار الضيافة، وذلك في سنة (88هـ/ 707م) وجعل في المارستان الأطباء، وأجرى لهم الأرزاق.
ولعل أشهر الأطباء المسلمين على الإطلاق هو (أبو بكر محمد الرازي) الذي اشتهر بين الأوروبيين باسم (رازيس Rhases). وقد ظلت كتبه في الحميات ذات البثور كالحصبة والجدري من المراجع الأساسية التي اعتمد عليها الأطباء في غرب أوروبا زمناً طويلاً، كما أنّ كتابه في أمراض الأطفال يعتبر الأول من نوعه. ومن أشهر كتبه كتاب (الحاوي).
ولابن سينا كتاب (القانون في الطب)، وهو بحث ضخم في وظائف الأعضاء، وعلم الصحة، والعلاج.
وجملة القول أنَّ ابن سينا أعظم مَنْ كَتَبَ في الطبّ في العصور الوسطى، وأن الرازي أعظمُ أطبائها.
ملاحظة هامة: تتجلى الثقافة في الحياة الإسلامية العربية في عدة مؤسسات كان من أبرزها:
1- المسجد وتعلم القراءة والكتابة والدين والعلم.          2- منازل العلماء ومجالسهم.
3- دور القرآن ودور الحديث.                           4- المدارس والجامعات.
5- المكتبات العامة والخاصة.
* وقفة هامة عند تأثُّر جامعات الغرب بالجامعات الإسلامية *
عِندَ مقارنة النظم التي اتُّبعَتْ في الجامعات الإسلامية في العصور الوسطى، بنظم الجامعات الأوروبية التي نشأت بعدها، نجد أوجهَ شَبَهٍ واضحةً لا يمكن أن تكون كلها وليدة المصادفة. فالمواد التي كانت تُدَرّسُ في الجامعات الإسلامية منذ القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، تُشبه تلك التي أصبحت موضع اهتمام الطلبة الغربيين منذ أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، وطبيعة الدراسة المنظمة، والعلاقة بين الأستاذ وتلميذه، والهبات المالية، وشتى نواحي النشاط في الحياة الجامعية كانت بدون شكٍ مُتشابهةً إلى حدٍّ بعيدٍ سواء في بغداد أم في (أكسفورد).
وإذا كانت شهرة الأستاذ في الجامعات الأوروبية الناشئة هي العامل الأساسي في اجتذاب الطلاب من الأقطار البعيدة إلى الجامعة، حتى أصبح من الأمور المألوفة في الحياة العلمية في أوروبا أن يرحل الطالب من جامعة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر ليأخذ العلم عن مشاهير أساتذة عصره. فهذا يطابقُ ما كان يحدث في العالم الإسلامي من تَنَقُّلِ الطلبة من بلدٍ إلى آخر سعياً وراء أستاذٍ مشهورٍ أو مُحدّث ذائعِ الصيت، والأمثلة على ذلك كثيرة، وكثيرة جداً، فهذا الإمام (السيوطي) يقول عن نفسه: (أخذت العلم عن ستمائة شخص). في حين أخذ (السخاوي) العلم عن أكثر من أربعمائة. ومن المعروف عن نظم التعليم الإسلامية أن الطالب كان إذا أتم دراسته وتأهل للفتيا والتدريس، أجاز له أستاذه ذلك وكتب له إجازة يذكر فيها اسم الطالب وشيخه ومذهبه وتاريخ الإجازة. وهذا يشبه إلى حد كبير ما اتبعته الجامعات الأوروبية التي نشأت في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي مِنْ وضعِ نظامٍ يكفل للطالب الحصول على شهادة أو ترخيص بالتدريس (Licenta Docendi) بعد أن يجتاز امتحاناً.
ومن الأمثلة السابقة يتبين لنا التأثير الواضح للمسلمين في استحداث كثير من التنظيمات والتقاليد التي عرفتها الجامعات الأوروبية متأثرةً بمثيلاتها الجامعات الإسلامية، والتي لا يزال معمولاً بها إلى اليوم، وإنَّ التشابه الشديد بين نُظُمِ الجامعات الأوروبية ومثيلاتها الجامعات الإسلامية التي سبقتها زمنياً ليؤيد الظنَّ بأن الجامعات الأوروبية أخذت عن الجامعات الإسلامية الكثير من النظم والأساليب والتقاليد.
* أبرز الصناعات التي انتقلت إلى أوروبا من العرب والمسلمين *
تجلت مهارة المسلمين الصناعية واضحةً في كثيرٍ من الصناعات التي كانت أوروبا لا تعرف إلا الرديء والبدائي منها، مثل صناعة النسيج والجلود والورق والخزف والزجاج.
1- ففي النسيج نبغ المسلمون في صنع أنواع مختلفة من النسيج، مما حمل أوروبا في العصور الوسطى على الإقبال على المنسوجات العربية إقبالاً يتجلى في أسماء الأقمشة العربية التي ما يزال بعضها مُستعملاً في أوروبا حتى يومنا هذا؛ فقماش (الفستيان) منسوب إلى (الفسطاط)، وقماش (الدمسقي damasks) منسوب إلى دمشق، وقماش (الموسلين Muslin) منسوب إلى الموصل، وقماش (جرينادين Jrenadines) منسوب إلى غرناطة، وقماش (التابي Tabis) منسوب إلى حي (العتابية ببغداد)، الذي اشتهر بصناعة هذا النوع من القماش، ومنه انتقل إلى اسبانيا وفرنسا وإيطاليا.
2- أما عن الجلود، فقد اشتهرت قرطبة بصناعتها ودبغها حتى أطلق الأوروبيون على النوع الممتاز من الجلود اسم (القرطبي Cordovan). وفيما عدا المصنوعات العادية المعروفة استغل المسلمون الجلود في تغليف الكتب، ونبغوا في ذلك نبوغاً أدهش الأوروبيين المعاصرين، فأحرزت مدينةُ (هراة) الأفغانيّة ـ بصفة خاصة ـ شهرة ذائعة الصيت في فن تجليد الكتب. وقد عجز الأوربيون عن تقليد هذه الصناعة في أول الأمر، ثم اكتفوا في عصر النهضة الإيطالية بعمل نوع من التجليد قريب من الإنتاج الإسلامي وإن لم يبلغ مستواه.
3- وبرع المسلمون في الصناعات المعدنية، فاستغلوا مناجم النحاس والزئبق والحديد والفضة والذهب؛ وأتقنوا فن تسقية الفولاذ وصناعة السيوف والسلاح الذي اشتهرت به طليطلة، وصناعة مفاتيح الأبواب التي شَكَّلوا أسنانها أحياناً وفق بعض الكلمات والأحرف الكوفية. كذلك نبغ صُنّاع المسلمين في صناعة الحلي الذهبية لتحلية مقابض السيوف والنقش عليها.
4-  أمّا النحاسُ فقد كانت مناجمه في الجزيرة، وبأعلى العراق، وفي مراكش، وفي اسبانيا، ومنها يُحمل إلى بغداد والقيروان وفاس وقرطبة للتصنيع: (على شكل أباريق وأوانٍ وأقداحٍ ومرايا ومصابيح وشمعدانات ومباخر ومكاحل) وقد يكتفون بالفضة. وكان الحرفيون تجار المواد النحاسية موجودين في جميع أسواق المدن الإسلامية الكبرى. وكان خَرَاجُ النحَّاس السنوي بأصفهان عشرة آلاف درهم.
5- عرف المسلمون النفط واستخدموه كمادةٍ حربيةٍ للإحراق في النّفاطات، وكدواءٍ لبعض الأمراض. وكان يُستخرج في المشرق في إيران والعراق وصقلية.
6- وإذا كانت الطباعة أهم حَدَثٍ عرفته الإنسانية في تاريخها الثقافي، فإنَّ الوصول إلى هذا الاختراع كان متعذراً ومستحيلاً بدون الورق. ولا نَدّعي هنا أن العرب كانوا أولَ مَنْ صنعَ الورق، فإن هذا شرفٌ من حق الصينيين وحدهم أن يفخروا به بعد أن ثَبَتَ أنهم أول مَنْ صنع الورق من شرانق الحرير. وإنما يرجع فضل العرب في هذه الصناعة إلى أنهم استطاعوا أن يستبدلوا الحرير في صناعة الورق بمواد أخرى أكثر توافراً وأيسر منالاً، وبذلك تمكنوا من إنتاج الورق بكثرة ووفرة، كما نشروا استعماله لا في الشرق فقط بل في الغرب أيضاً، حيث لم يعرف الأوربيون حتى القرن الثاني عشر الميلادي سوى الرقائق الجلدية في الكتابة. ومن بغداد انتشرت صناعة الورق في العالم الإسلامي مشرقه ومغربه. وقد حاز مصنع (شاطبة) الأندلسيّ شهرة واسعة في صناعة الورق الجيد حتى امتدحه (الإدريسي) في القرن الثاني عشر الميلادي. وعندما عرف الأوربيون الورق من العَرَبِ في القرن الثاني عشر الميلادي، أطلقوا عليه اسم (الصحائف الدمشقية Charta Damascena) نظراً لأن دمشق كانت سوقاً رئيسياً لتجارة الورق في ذلك العصر ... وكان أول المصانع التي أقامها المسلمون لصناعة الورق في الأراضي الأوروبية في صقلية وإسبانيا، ومن الأول انتقلت صناعة الورق إلى إيطاليا، ومن الثانية انتقلت صناعته إلى غرب أوروبا ... وعندما تعلم الأوربيون صناعة الورق، أَحلُّوه في الكتابة محل الرقائق الجلدية الباهظة التكاليف، والتي كانت- بسبب ارتفاع أثمانها- كثيراً ما يُعادُ استعمالها أكثر من مرّةٍ بعد إزالة ما عليها من كتابة. وقد ثبت أن الرهبان الأوروبيين كثيراً ما لجأوا في العصور الوسطى إلى محو كتابات قيمة من تراث اليونان والرومان ليكتبوا محلها على الرقائق مواعظ أو كتابات دينية.
وهكذا أدى المسلمون خدمة جليلة لأوروبا، لأنهم علّموا الغربيين طريقةً أسهل وأوفر في الكتابة. ويشهد على أثر المسلمين في هذه الناحية كثرة المصطلحات العربية المتعلقة بالورق وصناعته، والتي ما زال بعضها مستعملاً بنطقه العربي في اللغات الأوروبية مثل لفظ (رزمة Rame).
7- أمّا صناعة الفّخار وما يرتبط بها من القيشاني والخزف، فقد تفوّق المسلمون فيها تفوقاً ظاهراً. وما يزال يوجد حتى اليوم في إسبانيا والبرتغال أنواع مختلفة ونماذج رائعة من تربيعات القيشاني التي خلّفها المسلمون هناك، ولم يجد المسيحيون حرجاً في استخدام ذلك القيشاني المصنوعة بأيدٍ مُسلمةٍ في تزيين كنائسهم وقصورهم.
8- الرسم والزخرفة: انتشر استعمال الحروف العربية والزخارف الإسلامية في صناعات أوروبا المسيحية. وزاد من هذا الانتشار كثرة اعتماد أوروبا على البضائع المزخرفة الواردة من البلاد الإسلامية كالأقمشة الحريرية والأواني الخزفية والمصابيح النحاسية، مما فتح الطريق أمام الفن الإسلامي ليغزو أوروبا. كما أوحى الصُّنّاع العرب إلى صُنّاع الغرب بطريقة جديدة في زخرفة جلود الكتب. وكان المجلِّدون الأوروبيون يزخرفون جلود الكتب بطبع رسومٍ عليها مستعينين بمكابس معدنية، فتنتج عن ذلك زخارف بارزة تتخللها أجزاء مُنخفضة. في حين أخذ الصنّاع العرب يزينون الرسوم المطبوعة بملء الأجزاء المنخفضة بطبقاتُ مذَّهبة.
9- فن العمارة: أجمع الباحثون على أنَّ أعظم ما ابتكرته قرطبة في فن العمارة هو طريقة عمل الأقبية التي تقوم على عقود متقاطعة وأضلاع ظاهرة. وهذه الطريقة تحل المعضلة الأساسية في العمارة، وهي عمل السقف، (وذلك بالطريقة نفسها التي اُتبعت في العمارة القوطية في أوروبا بعد ذلك بقرنين من الزمن).
ملاحظة ختامية هامة:
كان من أبرز المؤرخين المسيحيين الذين أنصفوا الإسلام والحضارة الإسلامية، واعترفوا بفضلها على أوروبا وحضارتها:
1- جوستاف لوبون.            2- ول ديورانت.                3- زيغريد هونكه.
4- توماس آرنولد.              5- روجر بيكون.
من المهم جدّاً أن يهتمَّ الطلبةُ والدارسون لهذه المراجعة المختصرة بأسماء الكتب ومؤلِّفيها وكذلك اسم العِلم الذي أُلِّفَتْ فيه.

هناك تعليق واحد:

  1. مقال رائع جداً عن كيفية التعامل مع المراهقين..
    لا يفوتكم ⬇⬇
    https://noslih.com/article/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%84+%D9%85%D8%B9+%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%82%D9%8A%D9%86+..+%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%87%D9%85+%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%8B%D8%A7

    ردحذف