مراجعة مادة العقيدة 1 + مادة العقيدة 2


مراجعة هامة لمادة العقيدة (1)
إعداد الدكتور راجح السباتين / جامعة طيبة / كلية العلوم والآداب بالعُلا
إن أصول العقيدة التي أمرنا الله باعتقادها هي التي حددها الرسول، صلّى الله عليه وسلم، في حديث جبريل المشهور بقوله: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، رسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى"
معنى الإيمان
1. الإيمان في اللغة: التصديق الجازم، سواء تبع ذلك عملٌ أم لا، ومحلُّه القلب.
2. الإيمان في الاصطلاح: (التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان). والإيمان عُرف بمعنى الإسلام وهذا قول النبي، صلّى الله عليه وسلم "... فأيُّ الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان ....".
ولمّا كان الإسلام هو الإيمان في هذا الحديث الشريف، والقرآن هو الأصل الجامع للإسلام، فالقرآن بَيَّنَ لنا أن الإسلام له شقَّان أساسيان هما: العقيدة والتي عبَّرَ عنها القرآن الكريم (بالإيمان)، والشريعة وقد عبر عنها (بالعمل)، ومن ذلك قوله تعالى: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جناتُ الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلا".
أركان العقيدة
إن أركان الإيمان في نظر الإسلام كُلٌّ لا يتجزأ، وكلُّ مَنْ كفر بواحدة منها أو بجزئية ممن لوازمها مما ثبت في القرآن صراحة أو في السنة، فقد حبط عمله ولا يُقبلُ منه إيمانه بباقي الأركان، وذلك لأنها سلسلةٌ مترابطة الحلقات، ولأن الإسلام كله بناء متشابك الأجزاء، ينهدم أو يختل إذا انهدم أحد أركانه في ذهن إنسانٍ ما أو عند مجتمعٍ منحرفٍ عن حقيقة الإسلام كبعض الفرق الضالة.
وهذه الأركان هي:
أولاً: الإيمان بالله وصفاته وأسمائه. ويُطلق على ما يتعلق بذات الله من مسائل اسم الإلهيات.
ثانياً: الإيمان برسل الله أجمعين وملائكته، وكتبه وما جاء فيها من تشريعات وتكاليف. ويطلقُ على ما يتعلق برسل الله من مسائل اسم النبوات.
ثالثاً: الإيمان بالبعث والحساب والجزاء والجنة والنار والقدر ...، ويُطلقُ على المسائل المتصلة بها اسم السمعيات أو الغيبيات.
الفرق بين العقيدة والتوحيد
1. يجتمعان في أن كلاً منهما يثبت الحق بدليله.
2. إنّ العقيدة أعمُّ من جهة موضوعها من التوحيد. فإن كان التوحيد يقرر الحق بدليله فقط، فإنَّ العقيدة تقرره، وترد الشبهات، وتبين ما يقدح في الأدلة الخلافية، وتناقش الديانات والفَرَقَ.
3. أن الإيمان بالكتب والرسل والملائكة واليوم الآخر والإيمان بالقدر تدخل في إطار العقيدة بالمطابقة، وفي التوحيد بالاستلزام.
الإيمان يعني الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والعمل بالأركان. وهنا نذكِّرُ بأنّ الاختلاف الذي وقع بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صِوَريٌّ. ونزاعٌ لفظيٌ، لا يترتب عليه فساد اعتقاد إذ لا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، أعني بالقول: التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يُعنَي به عن إطلاق قولهم: (الإيمان قول وعمل).
ويترتب على هذا كله ما يلي من الحقائق التي اتفق عليها الجميع:
1. لا يُعَدُّ من أقر بلسانه ظاهراً وكذب بقلبه داخلاً في الإيمان بل منافقاً.
2. إنّ المعرفة بالقلب وحده دون الإقرار باللسان لا تكفي في الإيمان.
3. اتفق أهل السنة على أن الذي يطلبه الله من المؤمن القول والعمل وهما: التصديق القلبي والإقرار اللساني.
4. إن العبد لو صدق بقلبه وأقر بلسانه وامتنع عن العمل بجوارحه فإنه عند الجميع يكون عاصياً لله ورسوله ومستحقاً للعقاب من الله تعالى.
5. أجمع العلماءُ على أنَّ مرتكب الكبيرة لا يُعَدُّ كافراً، ولو مات قبل التوبة، ما دام مصدقاً بالقلب مقراً باللسان.
6. اتفقوا على أن ما ذكر من تعريف الإيمان بالقول والتصديق والعمل إنما هو بالنظر إلى حقيقة ما عند الله تعالى .... لأننا لم نُؤمر بشق القلوب لمعرفة ما فيها.
فالعلم والعمل أمران متلازمان، إن صحَّ الأول صحَّ الثاني والعكس صحيح، والعلم بلا تطبيقٍ لا أثر له ولا مفعول. والعلم والعمل يقودان إلى الإيمان ويرسخان جذوره، فالإيمان الصادق ليس مجرد إدراك ذهني أو تصديق قلبي غير متبوع بأثر عملي في الحياة، بل هو علم واعتماد وعملٌ نتيجته إيمان يقيني.
الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان
لقد سبقت الإشارة إلى حديث جبريل حين جاء إلى النبي، صلّى الله عليه وسلم، على صورة رجلٍ أعرابيٍ وسأل النبي، صلّى الله عليه وسلم فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً. وسأله عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. وسأله عن الإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ثم قال، صلّى الله عليه وسلم: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
ومن هذا الحديث نتوصل إلى الحقائق التالية:
1. الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان.
2. الدين، الناس فيه ثلاث درجات هي: مسلم ثم مؤمن ثم محسن.
3. لا يحصل المسلم على الدرجة الثانية أو الثالثة إلا إذا حصل على الأولى وهي الإسلام، ثمّ درجة الإيمان ثمَّ درجة الإحسان.
4. المؤمن أخصُّ من المسلم، والمحسن أخصُّ من المؤمن لذا يمكننا القول: إنَّ كل مؤمنٍ مسلمٌ وكل محسنٍ مؤمنٌ، وليس كل مسلم مؤمناً، ولا كل مؤمن محسناً، تماماً كما أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
5. وأما أفضل جواب عن الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان فهو إجابة النبي، صلّى الله عليه وسلم، على أسئلة جبريل الآنفة الذكر في هذا المقام. وإن كان هناك فرق فالفرق يكون صورياً وذلك لوجود علاقة قوية بين هذه المفاهيم الثلاثة، حيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر أو النظر لأحدهما بمعزل عن الآخر فالارتباط والعلاقة بين الثلاثة واضح من خلال قولنا التالي:
1. لا إيمان لِمَنْ لا إسلام له، إذ لا يخلو المؤمن من إسلامٍ، به يتحقق إيمانه.
2. لا إسلام لِمَنْ لا إيمان له، إذ لا يخلو المسلم من إيمانٍ، به يصح إسلامه.
ملحوظةٌ هامّةٌ: إنّ ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية تدلُّ دلالةً واضحةً على أنّ الإيمان يزيد وينقص؛ فمن الآيات القرآنية الدالة قال تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، وقال أيضاً: " إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" وقال أيضاً:" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ".
ومن الأحاديث الدالة على ذلك قوله، صلّى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". وقال أيضاً: "إذا زنا العبد نُزِعَ منه الإيمان، فإذا تاب أعيد إليه" وأيضاً قوله: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً".
ومن أقوال الصحابة في هذا الأمر قول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لأصحابه: "هلمُّوا نزدد إيماناً" فيذكرون الله تعالى. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: "اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً".
وليس المراد بالزيادة والنقصان زيادة أصل الإيمان أو نقصان أصله، فالمؤمنون كلهم سواء في أصل الإيمان، يعني في أصل التصديق، وإنما المقصود الزيادة أو النقصان في درجات الإيمان، ومستوياته، كالعقل مثلاً، فالناس كلهم متساوون في كونهم عقلاء غير مجانين، لكن مع ذلك، فإن بعضهم أعقل من بعض.
وسيلة القرآن الكريم في بناء العقيدة في النفس الإنسانية
لقد أقام القرآن الكريم بناء العقيدة في النفس الإنسانية على أساسين هما الفطرة والعقل.
أ. الفطرة: هي الإحساس الذي خلقه الله في النفس الإنسانية بوجود الله تعالى والحاجة إليه.
ب. العقل: فإن القرآن الكريم يولّدُ لدى الإنسان ملكة التدبّر (التفكير) لما حوله ويدعو العقل إلى النظر والتأمل في مظاهر عظمة الله تعالى: وذلك عن طريقتين:
أولاً: النظر في الكون، فنصوص القرآن الكريم تبين أن في الكون حشداً هائلاً من الظواهر التي تدل على الله وتطلب إلى العقل الإنساني أن ينظر في هذه الظواهر وهو يتفكر فيها حتى يصل إلى خالقه سبحانه وتعالى.
ثانياً: النظر في النفس، لقد دعا الله تعالى الإنسان إلى التفكير في النفس الإنسانية وكيفية خلقها فالتناسق الذي نراه موجوداً في كل مخلوق يدل على الإبداع الإلهي.
الأدلة النقلية على وحدانية الله تعالى
أ. قال تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وتدل هذه الآية على أنه لا توجد آلهة تشارك الله في خلق الكون وذلك لأنّ وجود الآلهة المتعددة يؤدي إلى فساد الكون كله؛ وذلك راجعٌ إلى اختلاف إرادة كلٍ منهما عن الآخر وبالتالي إما مخالفته وقهره بالقوة. وإما بالاضطرار لمساعدته والرضوخ له بسبب العجز وعدم القدرة عليه.
ب. قال تعالى: "ما اتخذ الله مِن ولدٍ وما كان معه مِن إلهٍ، إذاً لذهبَ كل إله بما خلق ولعلا بعضُهم على بعض". ومعنى هذه الآية نفي وجود آلهةٍ متعددةٍ لأنه لو كان مع الله إله خالق آخر، لجمع كلُّ خالقٍ مخلوقاته وتصرَّف بها كما يشاء تصرُّفاً مستقلاً ممّا يؤدي إلى حدوث خلاف ونزاع بين الآلهة المتعددة وبالتالي علو بعضهم على بعض وتغلُّبِ القوي على الضعيف، وهذا الأضعف لا يستحق أن يكون إلهاً.
ملاحظة: بماأن هذه الأدلة النقلية تخاطب العقل الإنساني فهي ألة نقلية وعقلية.
حكم مرتكب الكبيرة: الناس الذين يرتكبون الكبائر صنفان:
1. الصنف الذي يعمل الكبيرة وهو معتقِدٌ حرمتها وهو على حالتين:
أ. إن تاب قبل أن يموت توبةً نصوحةً إلى الله أو وقعت عليه العقوبة الدنيوية الخاصة بالكبيرة، فإن الله يغفر له ذنبه ويدخله الجنة دون عقاب.
ب. إن مات من غير توبة فإنه يُعذَّبُ في النار حسب معصيته، ثم يدخل الجنة، فهو لا يخلد في النار.
2. الصنف الذي يعمل الكبيرة وهو مَستحِلٌّ لها غير مؤمن بحرمتها، فإنه إن مات وهو على هذه الحال مات كافراً وخلد في النار.
أثَرُ اقتراف المعاصي على الإيمان
1. إن فعل المعاصي يؤثر على الإيمان ويؤدي إلى نقصه.
2. إن الإكثار من اقتراف المعاصي قد يؤدي إلى الوقوع في الكفر والرّدة وذلك:
أ. بإنكار بعض ما جاء به الرسول، صلّى الله عليه وسلم، لتدبير مقتضيات الهوى والشهوة.
ب. ولأن إتباع الشهوات واقتراف الذنوب والمعاصي يميت القلب، إذا كان كثيراً، فيغدو العاصي يسوِّغ لنفسه كل ما يفعله حتى يوقعه ذلك في استحلال المعاصي فيؤدي بصاحبه إلى الكفر.
‏ توحيد الربوبية
توحيد الربوبية؛ هو الإقرار بأنَّ الله وحده هو الخالق للعالم، وهو المُدَبّر، المحيي، المميت، وهو الرزاق، ذو القوة المتين‏.‏
والإقرار بهذا النوع مركوز في الفطر، لا يكاد ينازع فيه أحد من الأمم‏:‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ‏}‏ ‏.‏ وهذا في القرآن كثير؛ يذكر الله عن المشركين أنهم يعترفون لله الربوبيّة والانفراد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة‏.‏ ولم ينكر توحيد الربويية ويجحد الرب إلا شواذ من المجموعة البشرية، تظاهروا بإنكار الرب مع اعترافهم به في باطن أنفسهم وقرارة قلوبهم. وإنكارهم له إنما هو من باب المكابرة.
لمَّا كان لا بدّ من جواب على هذه الحقيقة، اضطرب هؤلاء المنكرون لوجود الخالق في أجوبتهم‏:‏ فتارة يقولون‏:‏ هذا العالم وُجِدَ نتيجةً للطبيعة، التي هي عبارة عن ذات الأشياء من النبات والحيوان والجمادات؛ فهذه الكائنات عندهم هي الطبيعة، وهي التي أوجدت نفسها‏!‏‏!‏ أو يقولون‏:‏ هي عبارة عن صفات الأشياء وخصائصها من حرارةٍ وبرودةٍ ورطوبةٍ ويبوسةٍ، وهذه القابليات من حركةٍ وسكونٍ ونموٍ وتزاوجٍ وتوالدٍ؛ هذه الصفات وهذه القابليات هي الطبيعة بزعمهم، وهي التي أوجدت الأشياء‏!‏‏!‏
وهذا قول باطل على كلا الاعتبارين؛ لأن الطبيعة بالاعتبار الأول على حد قولهم تكون خالقةً ومخلوقةً؛ فالأرضُ خلقت الأرض، والسماءُ خلقت السماءَ‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا‏!‏ وهذا مستحيل‏!‏ وإذا كان صدور الخلق عن الطبيعة بهذا الاعتبار مستحيلاً؛ فاستحالته بالاعتبار الثاني أشد استحالةً؛ لأنه إذا عجزت ذاتُ الشيء عن خلقه؛ فعجز صفته من باب أولى؛ لأن وجود الصفة مرتبط بالموصوف الذي تقوم به، فكيف تخلقه وهي مُفتقرةٌ إليه‏؟‏‏!‏ وإذ ثبت بالبرهان حدوث الموصوف؛ لزم حدوث الصفة‏.‏ وأيضا؛ قالطبيعة لا شعور لها؛ فهي آلة محضة؛ فكيف تصدرُ عنها الأفعالُ العظيمة التي هي في غاية الإبداع والإتقان، وفي نهاية الحكمة، وفي غاية الارتباط‏.‏
ومن هؤلاء الملاحدة من يقول‏:‏ إن هذه الكائنات تنشأ عن طريق المصادفة بمعنى أن تجميع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة يؤدي إلى ظهور الحياة بلا تدبير من خالق مدبر ولا حكمة‏!‏‏!‏ وهذا قول باطل تردّه العقول والفطر؛ فإنك إذا نظرت إلى هذا الكون المنظم بأفلاكه وأرضه وسمائه وسير المخلوقات فيه بهذه الدقة والتنظيم العجيب؛ تبين لك أنه لا يمكن أن يصدر إلا عن خالق حكيم‏.‏
توحيد الألوهية
توحيد الألوهية هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة‏.‏
فالألوهية معناها العبادة، والإله معناه المعبود، ولهذا يسمى هذا النوع من التوحيد توحيد العبادة‏.‏ وأما معنى العبادة شرعا؛ فقد اختلفت عبارات العلماء في ذلك مع اتفاقهم على المعنى‏:‏
حيث عرفها بعضهم‏:‏ بأنها كمال الحب مع كمال ‏ الخضوع‏.‏ وعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة‏.‏
وهذا التعريف أدق وأشمل؛ فالدّينُ كله داخل في العبادة. فالعبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، وهي تتضمن ثلاثة أركان هي‏:‏ المحبة والرجاء والخوف، ولا بد من اجتماعها؛ فمن تعلَّقَ بواحدٍ منها فقط؛ لم يكن عابداً لله تمام العبادة فيجب صرف العبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له؛ فمن صرف منها شيئا لغير الله؛ كمن دعا غير الله، أو ذبح أو نذر لغير الله، أو استعان أو استغاث بميّتٍ أو غائبٍ أو بحيٍ حاضرٍ فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فقد أشرك الشرك الأكبر وأذنب الذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة، سواء صرف هذا النوع من العبادة لصنمٍ أو لشجرٍ أو لحجرٍ أو لنبيٍّ من الأنبياء أو ولي من الأولياء حي أو ميت؛ كما يفعل اليوم عند الأضرحة المبنية على القبور؛ فإن الله لا يرضى أن يُشرَكَ معه في عبادته أحد؛ لا مَلَكٌ مقرَّبٌ ولا نبي مرسَلٌ ولا ولي ولا غيرهم‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}‏ ‏.‏
والذي دعت إليه الرسل من النوعين هو توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية يقر به جمهور الأمم، ولم ينكره إلا شواذ من الخليقة؛ أنكروه في الظاهر فقط، والإقرار به وحده لا يكفي؛ فقد أقر به إبليس‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏، وأقر به المشركون الذين بُعِثَ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما دلت على ذلك الآيات البينات؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ فمن أقر بتوحيد الربوبية فقط؛ لم يكن مسلماً، ولم يُحَرَّم دمُه ولا ماله، حتى يقرَّ بتوحيد الألوهية؛ فلا يعبد إلا الله‏.‏
وبهذا يتبين بطلان ما يزعمه بعض علماء الكلام والصوفية من أنّ التوحيد المطلوب من العباد هو الإقرار بأن الله هو الخالق المدبر، ومن أقر بذلك؛ صار عندهم مسلماً، ولهذا يعرفون التوحيد في الكتب التي ألفّوها في العقائد بما ينطبق على توحيد الربوبية فقط؛ حيث يقولون مثلا‏:‏ التوحيد هو الإقرار بوجود الله وأنه الخالق الرازق‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏!‏‏!‏ ثم يوردون أدلة توحيد الربوبية‏.‏
أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الإلوهيّة
1- أمره سبحانه بعبادته وترك عبادة ما سواه؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}
2- ومنها إخباره سبحانه أنه خلق الخلق لعبادته؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏.‏
3- ومنها إخباره أنه أرسل جميع الرسل بالدعوة إلى عبادته والنهي عن عبادة ما سواه؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏.‏
4- ومنها الاستدلال على توحيد الإلهية بانفراده بالربوبية والخلق والتدبير؛ كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}
5- ومنها الاستدلال على وجوب عبادته سبحانه بانفراده بصفات الكمال وانتفاء ذلك عن آلهة المشركين؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}
7- ومنها تسفيه المشركين الذين يعبدون غير الله
8- ومنها بيان عاقبة المشركين الذين يعبدون غير الله، وبيان مآلهم مع من عبدوهم، حيث تتبرأ منهم تلك المعبودات في أحرج المواقف
9- ومنها رده سبحانه على المشركين في اتخاذهم الوسائط بينهم وبين الله بأن الشفاعة ملك له سبحانه؛ لا تطلب إلا منه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، بعد رضاه عن المشفوع له؛ قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ‏}‏ فبين سبحانه في هذه الآيات أن الشفاعة ملكه وحده، لا تطلب إلا منه، ولا تحصل إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له‏.‏
10- ومنها أنه بَيَّنَ سبحانه أنَّ هؤلاء المعبودين من دونه لا يحصل منهم نفع لمن عبدهم من جميع الوجوه، ومَنْ هذا شأنه لا يصلح للعبادة
حدوث الشرك في توحيد الألوهية
مطلوب من المسلم بعدما يعرف الحق أن يعرف ما يضاده من الباطل ليجتنبه فالشرك هو صرفُ شيءٍ من أنواع العبادة لغير الله؛ كالدعاء والذبح والنذر والاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله‏.‏ والتوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة‏.‏ وهو أصيل في بني آدم، والشرك طارئ عليه؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ‏}
خطر الشرك ووجوب الحذر منه بتجنُّبِ أسبابه
الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا مغفرة لمن لم يتب منه، مع أنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وذلك يوجب للعبد شدة الحذر وشدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه، ويحمله على معرفته لِتَوَقّيه، لأنه أقبحُ القبيح وأظلمُ الظلم‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ، وذلك لأنه إنتقاص لله عز وجل، ومساواة لغيره به؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ؛ لأن الشرك مناقض للمقصود بالخلق والأمر من كل وجهٍ بالله عز وجل؛ فقد شَبَّهَ المخلوق بالخالق، وأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات عن جميع المخلوقات‏.‏
وقد حَذَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك، وسَدَّ كلَّ الطرق التي تفضي إليه:
أهم الوسائل القولية والفعلية التي نهى عنها، رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنها تفضي إلى الشرك‏:‏
1- نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن التلفظ بالألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين خلقه؛ مثل‏:‏ ما شاء الله وشئتَ، لولا الله وأنتَ‏.‏‏.‏‏.‏ وأمر بأن يقال بدل ذلك‏:‏ ما شاء الله ثم شئتَ؛ لأن الواو تقتضي التسوية، وثم تقتضي الترتيب، وهذه التسوية في اللفظ شرك أصغر، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر‏.‏
2- نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيم القبور بالبناء عليها وإسراجها وتجصيصها والكتابة عليها‏.‏
3- نهى عن اتخاذ القبور مساجد للصلاة عندها؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها‏.‏
4- نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لما في ذلك من التشبه بالذين يسجدون لها في هذه الأوقات‏.‏
5- نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة؛ إلا إلى المساجد الثلاثة‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى‏.‏
6- ونهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه، فقال‏:‏ ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله‏)‏ ‏.‏ والإطراء‏:‏ هو المبالغة في المدح‏.‏
7- ونهى صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر إذا كان في مكانٍ يُعبد فيه صنم أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية‏.‏
8- الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيمه ومدحه، وغيره من باب أولى؛ لأن ذلك يؤدي إلى إشراك المخلوقين في حق الخالق سبحانه وتعالى‏.‏
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله‏)‏ ‏.‏  والإطراء هو مجاوزة الحد في مدحه؛ أي‏:‏ لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام حتى ادعوا فيه الألوهية‏.‏ ‏"‏إنما أنا عبد، فقولوا‏:‏ عبد الله ورسوله‏"‏؛ أي‏:‏ صفوني بذلك ولا تزيدوا عليه.
ونهى عن التمادح وشدد فيه؛ كقوله لمن مدح إنسانا‏:‏ ‏(‏ويلك‏َ!‏ قطعتَ عنقَ صاحبك‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إذا لقيتم المدَّاحين؛ فاحثوا في وجوههم التراب‏)‏ ‏.‏ وذلك لما يُخافُ على المادح من الغلو، وعلى الممدوح من الإعجاب، وكلاهما يؤثران على العقيدة‏.‏
9- الغلو في الصالحين‏:‏ إذا كان الغلو في حقّه، صلى الله عليه وسلم، ممنوعاً؛ فالغلو في حق غيره من الصالحين من باب أولى‏.‏
والمراد بالغلو في الصالحين‏:‏ رفعهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إلى ما لا يجوز إلاّ لله؛ من الاستغاثة بهم في الشدائد، والطواف بقبورهم، والتبرك بتربتهم، وذبح القرابين لأضرحتهم، وطلب المدد منهم‏.‏
وقد أدخل الشيطان الشرك على قوم نوح من باب الغلو في الصالحين، فيجب الحذر من ذلك، حتى ولو كان القصد حسنا‏.‏
يجب على المسلم بعدما منَّ الله عليه بمعرفة هذه العقيدة والتمسك بها أن يدعو الناس إليها لإخراجهم بها من الظلمات إلى النور، والدعوة إلى العقيدة الإسلامية هي فاتحة دعوة الرسل جميعا؛ فلم يكونوا يبدءون بشيء قبلها؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ وكل رسول كان يقول لقومه أول ما يدعوهم‏:‏ ‏{‏اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}.
فيجب على كل من عرف هذه العقيدة وعمل بها ألا يقتصر على نفسه، بل يدعو الناس إليها بالحكمة والموعظة الحسنة؛ كما هو سبيل المرسَلين وأتباعهم ... إنّ الدعوة إلى هذه العقيدة هي الأساس والمنطلق؛ فلا يُدعَى إلى شيء قبلها من فعل الواجبات وترك المحرمات، حتى تقوم هذه العقيدة وتتحقق؛ لأنها هي الأساس المصحح لجميع الأعمال، وبدونها لا تصح الأعمال ولا تقبل ولا يثاب عليها
وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة بعد البعث يدعو الناس إلى تصحيح العقيدة بعبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام قبل أن يأمر الناس بالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وترك المحرمات من الربا والزنى والخمر والميسر‏.‏
فيجب على الدعاة إلى الله أن يركزوا على جانب العقيدة أكثر من غيرها، ويقبلوا على دراستها وتفهمها أولا، ثم يعلموها لغيرهم، ويدعوا إليها من انحرف عنها أو أخل بها‏.‏
نقض شبهات المشركين التي يتعلقون بها في تبرير شركهم في توحيد الإلهية
أولا‏:‏ من الشبهاتٍ شبهة تكاد تكون مشتركة بين طوائف المشركين في مختلف الأمم، شبهة الاحتجاج بما كان عليه الآباء والأجداد، وأنهم ورثوا هذه العقيدة خلفاً عن سَلَفٍ، كما قال الله تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ‏}‏ وهذه حجةٌ يلجأ إليها من يعجز عن إقامة الدليل على دعواه، وهي حجةٌ داحضةٌ، لا يقام لها وزن في سوق المناظرة؛ فإن هؤلاء الآباء الذين قلدوهم ليسوا على هدى، ومن كان كذلك؛ لا تجوز متابعته والاقتداء به‏.‏
قال تعالى ردّاً عليهم‏:‏ ‏‏{‏أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ‏}‏ وإنما يكون الاقتداء بالآباء محموداً إذا كانوا على حق‏
ثانيا‏: ومن الشبهات التي يُدلي بها عباد القبور اليوم ظُنّهم أنّ مجرد النطق بلا إله إلا الله يكفي لدخول الجنة، ولو فعل الإنسان ما فعل؛ فإنه لا يكفر وهو يقول‏:‏ لا إله إلا الله، متمسكين بظواهر الأحاديث التي ورد فيها أن من نطق بالشهادتين حُرِّمَ على النار‏.‏
والجواب عن هذه الشبهة‏:‏ أن هذه الأحاديث ليست على إطلاقها، وإنما هي مُقيّدة بأحاديث أخرى جاء فيها أنه لا بد لمن قال‏:‏ لا إله إلا الله‏:‏ أن يعتقد معناها بقلبه ويعمل بمقتضاها فيكفر بما يُعبدُ مِن دون الله‏.‏ كما في حديث عتبان‏:‏ ‏(‏فإن الله حَرَّمَ على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله‏)‏‏.‏ وإلا؛ فالمنافقون يقولون‏:‏ لا إله إلا الله بألسنتهم، وهم في الدرك الأسفل من النار، ولم ينفعهم النطق بلا إله إلا الله؛ لأنهم لا يعتقدون ما دلت عليه بقلوبهم‏.‏
ثالثاً: ومن الشبهات التي تعلقوا بها قضية الشفاعة؛ حيث يقولون‏:‏ نحن لا نريد من الأولياء والصالحين قضاء الحاجات من دون الله، ولكن نريد منهم أن يشفعوا لنا عند الله، لأنهم أهل صلاح ومكانة عند الله؛ فنحن نريد بجاههم وشفاعتهم‏.‏
والجواب عن هذه الشبهة‏:‏ أنّ هذا هو عين ما قاله المشركون من قبل في تبرير ما هم عليه، وقد كَفَّرَهُم الله وسمّاهم مشركين؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ‏}‏.
والشفاعة حق، ولكنها مُلكٌ لله وحده؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا‏}‏ ؛ فهي تُطلَبُ من الله لا من الأموات؛ لأن الله لم يرخص في طلب الشفاعة من الملائكة ولا من الأنبياء ولا غيرهم؛ لأنها ملكهُ سبحانه، وتُطلَبُ منه؛ ليأذن للشافع أن يشفع، وليس الأمر كما هو عند المخلوقين من تَقَدُّمِ الشفعاء لديهم بدون إذنهم، ويضطرون إلى قبول الشفاعة لحاجتهم إليهم، وإن لم يرضوا عن المشفوع فيه؛ لأنهم يحتاجون إلى الأعوان والوزراء، أما الله سبحانه؛ فلا يشفع أحد إلا بإذنه ورضاه عن المشفوع فيه؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى‏}‏
رابعاً: ومن شبهات هؤلاء قولهم‏:‏ إنّ الأولياء والصالحين لهم مكانة عند الله، ونحن نسأل الله بجاههم ومكانتهم‏.‏
والجواب عن هذه الشبهة‏:‏ أنّ المؤمنين كلهم أولياء الله، ولكنَّ الجزم بشخص معين أنه وليٌّ لله يحتاج إلى دليل من الكتاب والسنة، ومن ثبت ولايته بالكتاب والسنة؛ لم يَجُزْ لنا الغلو فيه والتبرك به؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، وقد أمرنا الله بدعائه مباشرةً دون اتخاذ وسائط بيننا وبينه، ولأن هذا هو التعليل الذي علل به المشركون من قبل أنهم اتخذوا هؤلاء شفعاء ووسائط بينهم وبين الله يسألون الله بجاههم وقربهم، فأنكر الله عليهم ذلك‏.‏

بيان أنواع من الشرك الأكبر
الشرك نوعان‏:‏ شرك أكبر وشرك أصغر، والشرك الأكبر ينافي التوحيد ويُخرِجُ من الملة، وله أنواعٌ كثيرةٌ منها‏:‏
1- الشرك في الخوف:
الخوف كما عرّفه العلماء‏:‏ توقُّعَ مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، وهو ثلاثة أقسام‏:‏
الأول‏:‏ خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله من وَثَنٍ أو طاغوتٍ أو ميتٍ أو غائبٍ من جنٍّ أو إنسٍ أن يُصيبه بما يكره وهذا الخوف من أعظم مقامات الدين وأجلها؛ فمن صرفه لغير الله؛ فقد أشرك بالله الشرك الأكبر والعياذ بالله‏.‏
الثاني‏:‏ أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفاً من بعض الناس؛ فهذا مُحَرَّمٌ، وهو شرك أصغر، وهذا هو المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{ا‏لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}‏
الثالث‏:‏ الخوف الطبيعي: وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك؛ فهذا ليس بمذموم
أما النوع الأول الذي هو خوف السر؛ فهو من أعظم أنواع العبادة؛ فيجب إخلاصه لله عز وجل‏.‏ وكذلك النوع الثاني؛ فهو من حقوق العبادة ومكملاتها‏.‏
2- الشرك في المحبة:
قلنا فيما سبق‏:‏ إن الخوف من الله تعالى لا بد أن يكون مقرونا بمحبته سبحانه؛ لأن تعبُّدَهُ بالخوف فقط هو أصل دين الخوارج‏.‏
فالمحبة هي أصل دين الإسلام الذي تدور عليه رحاه؛ فبكمال محبة الله يكمل دين الإسلام، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان‏.‏
والمراد بالمحبة هنا‏:‏ محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع وكمال الطاعة وإيثار المحبوب على غيره، فهذه المحبة خالصة لله، لا يجوز أن يشرك معه فيها أحد.
والمحبة المختصة- وهي محبة العبودية- هي المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏
إن محبة الله التي هي محبة العبودية يجب أن تُقَدَّمَ على المحبة التي ليست عبودية، وهي المحبة المشتركة؛ كمحبة الآباء والأولاد والأزواج والأموال؛ لأن الله توعد من قدم هذه المحبة على محبة الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ؛ فَتَوعَّدَ سبحانه مَن قدَّم هذه المحبوبات الثمان على محبة الله ورسوله والأعمال التى يحبها، ولم يتوعد على مجرد حب هذه الأشياء؛ لأن هذا شيء جبل عليه الإنسان، ليس اختيارياً، وإنما توعَّد من قدَّم محبتها على محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله ورسوله، فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده‏.
3- الشرك في التوكل:
التوكل في اللغة معناه‏:‏ الاعتماد والتفويض، وهو من عمل القلب، يقال‏:‏ تَوكَّلَ في الأمر‏:‏ إذا ضمن القيام به، ووكَّلتُ أمري إلى فلان‏:‏ إذا اعتمدت عليه‏.‏
والتوكل على الله من أعظم أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ والتوكل على غير الله تعالى أقسام‏:‏
أحدها‏:‏ التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؛ كالتوكل على الأموات والغائبين ونحوهم من الطواغيت في تحقيق المطالب من النصر والحفظ والرزق أو الشفاعة؛ فهذا شركُ أكبر‏.‏
الثاني‏:‏ التوكل في الأسباب الظاهرة؛ كمن يتوكّل على سلطانٍ أو أميرٍ أو أي شخصٍ حيٍ قادرٍ فيما أقدره الله من عطاء أو دفع أذى ونحو ذلك؛ فهذا شرك أصغر؛ لأنه اعتماد على الشخص‏.‏
الثالث‏:‏ التوكل الذي هو إنابة الإنسان مَنْ يقوم بعملٍ عنه مما يقدر عليه كبيع وشراء؛ فهذا جائز، ولكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وُكِّلَ إليه فيه، بل يتوكل على الله في تيسير أموره التي يطلبها بنفسه أو نائبه؛ لأن توكيل الشخص في تحصيل الأمور الجائزة من جملة الأسباب، والأسباب لا يُعتمد عليها، وإنما يُعتمد على الله سبحانه الذي هو مسبب الأسباب وموجد السبب والمسبب‏.‏
والتوكُّلُ على الله في دفع المضار وتحصيل الأرزاق وما لا يقدر عليه إلا هو مِنْ أعظم أنواع العبادة، والتوكل على غيره في ذلك شرك أكبر؛ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ؛ فأمر الله سبحانه بالتوكل عليه وحده.
فالتوكل على الله فريضة يجب إخلاصها لله، وهو أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلُّها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة؛ فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل ما سواه؛ صح إخلاصه ومعاملته مع الله‏.‏
والتوكل على الله سبحانه لا ينافي السعي في الأسباب والأخذ بها؛ فإن الله سبحانه وتعالى قَدَّرَ مقدورات مربوطة بأسباب، وقد أمر الله تبارك وتعالى بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل؛ فالأخذ بالأسباب طاعة لله؛ لأن الله أمر بذلك، وهو من عمل الجوارح، والتوكل من عمل القلب، وهو إيمان بالله‏.
4- الشرك في الطاعة:
أن من الشرك طاعة العلماء والأمراء في تحليل ما حَرَّمَ الله أو تحريم ما أحلَّ الله‏:‏
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏
وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي، فقال يا رسول الله‏!‏ لسنا نعبدهم. قال: أليس يُحِلُّون لكم ما حرَّم الله فتحلّونه، ويحرّمون ما أحلّ الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبى صلّى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم‏)‏ ‏.‏ رواه الترمذي وغيره‏.‏
وقد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم فيه اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله بأنه ليس معناه الركوع والسجود لهم، وإنما معناه طاعتهم في تغيير أحكام الله وتبديل شريعته بتحليلهم الحرام، وتحريمهم الحلال، وأن ذلك يُعتبرُ عبادةً لهم من دون الله؛ حيث نصَّبوا أنفسهم شركاء لله في التشريع، فمن أطاعهم في ذلك؛ فقد اتخذهم شركاء لله في التشريع والتحليل والتحريم، وهذا من الشرك الأكبر، لقوله تعالى في الآية‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏
ومن هذا طاعة الحكام والرؤساء في تحكيم القوانين الوضعية المخالفة للأحكام الشرعية في تحليل الحرام؛ كإباحة الربا والزنى وشرب الخمر ومساواة المرأة للرجل في الميراث وإباحة السفور والاختلاط، أو تحريم الحلال؛ كمنع تعدد الزوجات، وما أشبه ذلك من تغيير أحكام الله واستبدالها بالقوانين البشريّة؛ فمن وافقهم على ذلك ورضي به واستحسنه، فهو مشرك كافر والعياذ بالله‏.‏
أمور أخرى تنافي التوحيد
هناك أمورٌ تنافي التوحيد وتقتضي الردة عن الإسلام؛ منها‏ سوء الظن بالله، ومنها الاستهزاء بشيءٍ فيه ذكر الله عز وجل:
1- سوءُ الظنّ بالله:
فسوء الظن بالله خطير؛ لأنَّ حسن الظن بالله من واجبات التوحيد، وسوء الظن به ينافي التوحيد‏.‏ وقد وصف الله المنافقين أنهم يطنون به غير الحق
وأكثر الناس يظنون بالله غيرَ الحق ظنَّ السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا مَنْ عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حكمته وحمده‏.‏
-       فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏
-       ومن جَوَّزَ عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏
-   ومن ظَّن أنه لا يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دارٍ؛ يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسوله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏
2- الاستهزاء بشيء فيه ذِكُر الله:
يجب على المسلم احترام كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، وأن يعرف حكم من استهزأ بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول؛ ليكون المسلم على حذرٍ من ذلك؛ فإن من استهزأ بذكر الله أو القرآن أو الرسول أو بشيء من السنة؛ فقد كفر بالله عز وجل؛ لاستخفافه بالربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد، وكفر بإجماع أهل العلم‏.‏
أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله
هناك أشياء مترددة بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر بحسب ما يقوم بقلب فاعلها وما يصدر عنه من الأفعال والأقوال، ويقع فيها بعض الناس، قد تتنافى مع العقيدة أو تُعَكِّرُ صفوها، وهي تُمارَسُ على المستوى العام، ويقع فيها بعض العوام تأثراً بالدجالين والمحتالين والمشعوذين، وقد حذَّر منها النبيُ، صلّى الله عليه وسلم، ومن هذه الأمور‏:‏
 1- لبس الحلقة والخيط ونحوهما بقصد رفع البلاء أو دفعه:
وذلك من فعل الجاهلية، وهو من الشرك الأصغر، وقد يترقى إلى درجة الشرك الأكبر بحسب ما يقوم بقلب لابسها من الاعتقاد بها‏.‏
فعن عمران بن حصين رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يدهَ حلقةٌ من صفر، فقال ما هذا‏؟‏ قال من الواهنة فقال انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهناً؛ فإنك لو مِتَّ وهي عليك؛ ما أفلحَت أبدا‏)‏.
 2- تعليق التمائم: وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها يتقون بها العين، ويتلمحون من اسمها أن يتم الله لهم مقصودهم‏.‏
وقد تكون التمائم من عظام ومن خرز ومن كتابة وغير ذلك، وهذا لا يجوز‏.‏
وقد يكون المعلَّقُ من القرآن؛ فإذا كان من القرآن؛ فقد اختلف العلماء في جوازه وعدم جوازه، والراجح عدم جوازه؛ سداً للذريعة؛ فإنه يُفضي إلى تعليقِ غير القرآن، ولأنه لا مخصِّصَ للنصوص المانعة من تعليق التمائم؛ كحديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الرقى والتمائم والتولة شرك‏)‏ ‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏ وعن عقبة بن عامر مرفوعا‏:‏ ‏(‏من علق تميمة؛ فقد أشرك‏)‏ ‏.‏ وهذه نصوص عامة لا مخصِّصَ لها‏.‏
3- التبرك بالأشجار والأحجار والآثار والبنايات:
والتبرك معناه‏:‏ طلب البركة ورجاؤها واعتقادها في تلك الأشياء‏.‏
وحكمه‏:‏ أنه شرك أكبر؛ لأنه تعلُّقٌ على غير الله سبحانه في حصول البركة، وعُبَّادُ الأوثان إنما كانوا يطلبون البركة منها؛ فالتبرك بقبور الصالحين كالتبرك باللات، والتبرك بالأشجار والأحجار كالتبرك بالعزى ومناة‏.‏
4- السحر: وهو عبارة عَمّا خَفَيَ ولَطُفَ سببُه، وسمِّيَ سحراً لأنه يحصل بأمور خفية لا تُدَركُ بالأبصار، وهو عبارة عن عزائم ورقى وكلام يتكلم به وأدوية وتدخينات، ومنه ما يؤثر في القلوب والأبدان فيمرِّضُ ويقتل ويفرِّقُ بين المرء وزوجه، وتأثيره بإذن الله الكوني القدري‏.‏
وهو عمل شيطاني، كثير منه لا يُتَوصَّلُ إليه إلا بالشرك والتقرب إلى الأرواح الخبيثة بشيء ممّا تحبُ والاستعانة بالتحيل على استخدامها بالإشراك بها، ولهذا يقرنه الشارع بالشرك، وهو داخل في الشرك من ناحيتين:
الأولى‏:‏ ما فيه من استخدام الشياطين والتعلق بهم وربما تقرب إليهم بما يحبونه ليقوموا بخدمته‏.‏
الثانية‏:‏ ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في ذلك، وهذا كفر وضلال
5- الكهانة: وهي ادعاء علم الغيب؛ كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سببٍ هو استراق السمع؛ حيث يسترق الجنيُّ الكلمة من كلام الملائكة، فيلقيها في أذن الكاهن، فيكذب معها مئة كذبة، فيصدِّقُهُ الناس بسبب تلك الكلمة‏.‏
والله هو المتفرد بعلم الغيب؛ فمن ادعى مشاركته في شيء من ذلك بكهانة أو غيرها أو صَدَّقَ مَنْ يّدعي ذلك؛ فقد جعل لله شريكا فيما هو من خصائصه، وهو مُكَذِّبٌ لله ولرسوله‏.‏
وكثير من الكهانة المتعلقة بالشياطين لا تخلو من الشرك والتقرب إلى الوسائط التي يستعان بها على دعوى العلوم الغيبية‏.‏
فالكهانة شرك من جهة دعوى مشاركة الله في علمه الذي اختص به، ومن جهة التقرب إلى غير الله‏.‏
6- التطيُّرُ: وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع والأشخاص وغير ذلك؛ فإذا عزم شخص على أمر من أمور الدين أو الدنيا، فرأى أو سمع ما يكره؛ أَثَّرَ فيه لك أحد أمرين‏:‏ إما الرجوع عما كان عازماً عليه تطيرُّاً وتأثُّراً بما رأى أو سمع، فيعلق قلبه بذلك المكروه، ويؤثّر ذلك على إيمانه، ويُخلُّ بتوحيده وتوكله على الله‏.‏ وإما أن لا يرجع عما عزم عليه، ولكن يبقى في قلبه أثر ذلك التطير من الحزن والألم والهم والوساوس والضعف‏.‏
فيجب على من وجد شيئا من ذلك في نفسه أن يجاهدها على دفعه، ويستعين بالله، ويتوكل عليه، ويمضي في شأنه، ويقول‏:‏ اللهم‏!‏ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك‏.‏
7- التنجيم: وهو كما عرفه بعض المحققين بأنه الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية؛ كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، أو حدوث الأمراض والوفيات، أو السعود والنحوس‏.‏ وهذا ما يسمى بعلم التأثير، وهو على نوعين‏:‏
النوع الأول‏:‏ أن يدّعي المنجم أن الكواكب فاعلةٌ مَختارةٌ، وأن الحوادث تجري بتأثيرها، وهذا كفر بإجماع المسلمين؛ لأنه اعتقاد أن هناك خالق غير الله، وأن أحدا يتصرف في ملكه بغير مشيئته وتقديره سبحانه وتعالى‏.‏
النوع الثاني‏:‏ الاستدلال بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها على حدوث الحوادث، وهذا لا شك في تحريمه؛ لأنه من ادعاء علم الغيب، وهو من السحر أيضا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من اقتبس شعبةً من النجوم؛ فقد اقتبس شعبةً من السحر؛ زاد ما زاد‏)‏‏.
والإخبار عن الحوادث المستقبلية عن طريق الاستدلال بالنجوم من ادعاء علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه؛ فهو ادعاء لمشاركته سبحانه بعلمه الذي انفرد به أو تصديق لمن ادعى ذلك، وهذا ينافي التوحيد؛ لما فيه من هذه الدعوى الباطلة‏.‏
8- الاستسقاء بالأنواء: وهو نسبة المطر إلى طلوع النجم أو غروبه على ما كانت الجاهلية تعتقده من أن طلوع النجم أو سقوطه في المغيب يؤثر في إنزال المطر، فيقولون‏:‏ مطرنا بنوء كذا وكذا‏!‏ وهم يريدون بذلك النجم، ويعبرون عنه بالنوء، وهو طلوع النجم، من ناء ينوء‏:‏ إذا نهض وطلع، فيقولون‏:‏ إذا طلع النجم الفلاني؛ ينزل المطر‏.‏ والمراد بالأنواء عندهم؛ منازل القمر الثمانية والعشرون، في كل ثلاث عشرة ليلة؛ يغرب واحد منها عند طلوع الفجر ويطلع مقابله وتنقضي جميعها عند انقضاء السنة القمرية ... وتزعم العرب في جاهليتها أنه عند طلوع ذلك النجم في الفجر ومغيب مقابله؛ ينزل المطر، ويسمى ذلك الاستسقاء بالأنواء، ومعنى ذلك نسبة السقيا إلى هذه الطوالع، وهذا من اعتقاد الجاهلية الذي جاء الإسلام بإبطاله والنهي عنه؛ لأن نزول المطر وانحباسه يرجع إلى إرادة الله وتقديره وحكمته، وليس لطلوع النجوم تأثير فيه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ‏}‏
الـــــشـــــرك الأصـــــغـــــر
هذا النوع من الشرك ينقص التوحيد ويخلُّ به. وهناك ألفاظاً تجري على ألسنة الكثير من الناس إما جهلاً أو تساهلاً‏، وهي تدخل تحت مُسمّى الشرك الأصغر وربما تجرُّ إلى الشرك الأكبر ومن هذه الأشياء‏:‏
 1- الحلف بغير الله عز وجل:
وهو شرك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك‏)‏.
وقد كثر من الناس اليوم من يحلف بغير الله؛ كمن يحلف بالأمانة، أو يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو يقول‏:‏ وحياتي، وحياتك يا فلان‏.‏‏.‏‏.‏
2- الشرك في الألفاظ:
ومن الشرك الأصغر الشرك في الألفاظ مثل قول‏:‏ ما شاء اللهُ وشئتَ‏ يا فلان!‏
فقد روى الإمام أحمد والنسائي عن قتيلة‏:‏ (أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ إنكم تشركون؛ تقولون‏:‏ ما شاء الله وشئتَ‏!‏ وتقولون‏:‏ والكعبةِ‏!‏ فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا‏:‏ وربِّ الكعبة، وأن يقولوا‏:‏ ما شاء الله ثمَّ شئتَ‏).‏
وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أنَّ رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلم‏:‏ ما شاء اللهُ وشئتَ‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أجعلتني لله نداً؟‏ قل ما شاء الله وحده‏)‏ ‏.‏
فدل الحديثان وما جاء بمعناهما على منع قول‏:‏ ما شاء الله وشئت‏!‏ وما شابهه من الألفاظ؛ مثل‏:‏ لولا اللهُ وأنتَ، ما لي إلا الله وأنتَ؛ لأن العطف بالواو يقتضي التسوية بين المتعاطفين، وهذا شرك؛ فالواجب أن يعطف بـ ‏"‏ثم‏"‏، فيقال‏:‏ ما شاء الله ثم شئتَ، أو‏:‏ ثمَّ شاء فلان، لولا الله ثم أنت، أو‏:‏ ثم فلان، ما لي إلا الله ثم أنت؛ لأن العطف بـ ‏"‏ثم‏"‏ يقتضي الترتيب والتعقيب، وأن مشيئة العبد تأتي بعد مشيئة الله تعالى لا مساوية لها؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ؛ فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى؛ فالعبد وإن كانت له مشيئة؛ فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا يقدر على أن يشاء شيئا إلا إذا كان الله قد شاءه.
3- الشرك في النيات والمقاصد:
ومن الشرك الأصغر الشرك في النيات والمقاصد وهو ما يسمى بالشرك الخفي؛ كالرياء، وهو نوعان‏:‏
أ- الرياء‏:‏
وهو مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها، فيحمدون صاحبها، والفرق بين الرياء وبين السُّمعة أنَّ الرياء لما يرى من العمل؛ كالصلاة، والسُّمعُة لما يُسمعُ؛ كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك تحدُّثُ الإنسان عن أعماله وإخباره بها.
ب- إرادة الإنسان بعمله الدنيا‏:‏
إرادة الإنسان بعمله الدنيا نوع من أنواع الشرك في النية والقصد قد حَذَّرَ الله منه في كتابه وحذر منه رسوله في سنته، وهو أن يريد الإنسان بالعمل الذي يبتغى به وجه الله مطمعاً من مطامع الدنيا، وهذا شرك ينافي كمال التوحيد ويحبط العمل‏.‏
قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏
4- مسبة الدهر ونحوه:
ومن الأشياء يرتكبها بعض الناس مسبَّةُ الدهر ومسبَّةٌ الريح وما أشبه ذلك من إسناد الذِّم إلى المخلوقات فيما ليس لها فيه تصرف، فيكون هذا الذم في الحقيقة موجَّهاً إلى الله سبحانه؛ لأنه الخالق المتصرف‏.‏ وأما سبُّ هذه المخلوقات؛ ففيه مفاسد‏:‏
منها‏:‏ أنه سب ما ليس أهلا للسب؛ فإنها مخلوقات مسخرة ومدبرة‏.‏
ومنها‏:‏ أن سب هذه الأشياء متضمن للشرك؛ فإنه إنما سبها لظنه أنها تضر وتنفع من دون الله‏.‏
ومنها‏:‏ أن السب إنما يقع على من فعل هذه الأفعال، وهو الله‏.‏
وإذا قال العبد عند هبوب الريح ما أرشده إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم ما تكرهون؛ فقولوا اللهم‏!‏ إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به‏)‏ ؛ فقد لجأ إلى خالق الريح ومدبرها ومصرفها، وهدا هو التوحيد والاعتقاد السليم الذي يخالف اعتقاد أهل الجاهلية‏.‏
5- قول ‏"‏لو‏"‏ في بعض الحالات:
ومن الألفاظ التي لا ينبغي التلفظ بها لأنها تُخِلُّ بالعقيدة، وقد ورد النهي عنها بخصوصها‏:‏ كلمة ‏"‏لو‏"‏ في بعض المقامات‏.‏ وذلك عندما يقع الإنسان في مكروه أو تصيبه مصيبة؛ فإنه لا يقول‏:‏ لو أني فعلت كذا؛ ما حصل علي هذا‏!‏ أو‏:‏ لو أني لم أفعل؛ لم يحصل كذا‏!‏ لما في ذلك من الإشعار بعدم الصبر على ما فات مما لا يمكن استدراكه، ولما يُشِعرُ به اللفظ من عدم الإيمان بالقضاء والقدر، ولما في ذلك من إيلام النفس وتسليط الشيطان على الإنسان بالوساوس والهموم‏.‏
والواجب بعد نزول المصائب التسليم للقدر، والصبر على ما أصاب الإنسان، مع عمل الأسباب الجالبة للخير والواقية من الشر والمكروه بدون تلوم‏.‏
وقول ‏"‏لو‏"‏ بعد نزول المصيبة لا يفيد إلا التحسر والحزن وإيلام النفس والضعف مع تأثيره على العقيدة من حيث إنه يوحي بعدم التسليم للقدر‏.‏
بيان ألفاظ لا يجوز أن تُقال في حق الله تعالى تعظيما لشأنه:
الله جل وعلا عظيم يجب أن يُعَظَّم، وهناك ألفاظ لا يجوز أن تقال في حقه سبحانه تعظيما له، وقد ورد النهي عنها‏:‏ ومن الألفاظ التي لا تقال في حق الله تعالى‏:‏ اللهم اغفر لي إن شئتَ.‏ فطلبُ الحاجة من الله لا يُعَلَّقُ على المشيئة، وإنما يُجزمُ به‏.‏ وفي ‏"‏الصحيحين"‏عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقل أحدكم اللهم‏!‏ اغفر لي إن شئت اللهم‏!‏ ارحمني إن شئت ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له‏)‏.‏
وفي روايةٍ عن الإمام مسلم ‏وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه‏.‏ والنهي عن ذلك كان لأمرين‏:‏
الأول‏.‏ أن الله سبحانه لا مكره له على الفعل، وإنما هو يفعل ما يريد؛ بخلاف العبد؛ فإنه قد يفعل الشيء وهو كاره، ولكن يفعله لخوف أو رجاء من أحد، والله ليس كذلك‏.‏
الثاني‏.‏ أن التعليق على المشيئة يدل على فتور في الطلب وقلة رغبة فيه؛ فإن حصل، وإلا؛ استغنى عنه، وهذا يدل على عدم الافتقار إلى الله‏.
توحيد الأسماء والصفات
توحيد الأسماء والصفات: هو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من صفات الكمال، ونفي مانفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله من صفات النقص؛ على حد قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏.‏
وأولُ مَنْ عُرِف عنه إنكار الصفات بعض مشركي العرب الذين أنزل الله فيهم قوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ‏}‏‏.‏ وسبب نزول هذه الآية أن قريشاً لما سمعت رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يذكر الرحمن؛ أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ‏}‏‏.‏ أما الرسل وأتباعهم - خصوصاً خاتمهم محمدٌ، صلّى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام والذين اتبعوهم بإحسان-؛ فهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، وينكرون على من يخالف هذا المنهج‏.‏
ونصوص الصفات من المحكَم لا من المُتَشَابه، يقرؤها المسلمون ويتدارسونها ويفهمون معناها ولا ينكرون منها شيئاً.‏

وجوب احترام أسماء الله سبحانه وتعالى:
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏.‏
يخبر تعالى أن أسماءه حسنى؛ أي‏:‏ حسان، قد بلغت الغاية في الحسن، فلا أحسن منها؛ لما تدل عليه من صفات الكمال ونعوت الجلال؛ فهي أحسن الأسماء وأكملها‏.‏
وأسماؤه سبحانه توقيفية؛ فلا يجوز لنا أن نسميه إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأسماؤه سبحانه كثيرةٌ لا تُحصَرُ ولا تُحَدُّ بعددٍ، منها ما استأثر الله بعلمه فلا يعلمه مَلَكٌ مُقَّربٌ ولا نبيٌ مُرسَل؛ كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك‏"‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ‏}‏ ؛ أي‏:‏ أعرضوا عنهم واتركوهم؛ فإن الله سيتولى جزاءهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏
ومعنى ‏{‏يلحدون في أسمائه‏}‏ ؛ أي‏:‏ يميلون بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها‏.‏
والإلحاد بأسماء الله أنواع‏، منها ما يلي:‏
1‏.‏ أن يُسمّى بها الأصنام؛ كتسميتهم اللات من الإله، والعُزّى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلها‏.‏
2‏.‏ تسميته بما لا يليق بجلاله؛ كتسمية النصارى له أباً، وتسمية الفلاسفة له موجباً بذاته أو علّةً فاعلة بالطبع‏.‏
3.‏ وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص؛ كقول أخبث اليهود‏:‏ إنه فقير، وانه استراح يوم السبت، وقولهم‏:‏ يد الله مغلولة‏.‏
4‏.‏ تعطيل أسماء الله الحسنى عن معانيها وجحد حقائقها؛ كقول الجهمية وأتباعهم‏:‏ إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، فيطلقون عليه اسم السميع البصير، ويقولون‏:‏ لا سمع له ولا بصر مثلاً، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعاً، وهو يقابل إلحاد المشركين؛ فإن المشركين أعطوا من أسمائه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوا كماله وعطلوا أسماءه وصفاته‏.‏
والواجب إثبات أسمائه وصفاته واعتقاد ما تدل عليه من صفات كماله ونعوت جلاله؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، على حد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏.‏
والواجب احترام أسمائه من أن يُسَمّى بها غيره، وذلك من تحقيق التوحيد‏.‏
1. ومن احترام أسماء الله تعالى المنع من التسمي بأسماء الله تعالى المختصة به، والمنع مما يوهم عدم الاحترام لها؛ كالتكني بأبي الحكم ونحوه‏.‏
2. ومن احترام أسماء الله أن لا يقول الإنسان لمملوكه‏:‏ عبدي وأمتي؛ لما في لك من إيهام المشاركة في الربوبية‏.‏
3. ومن احترام أسماء الله سبحانه أن لا يُرَدَّ مَنْ سأل بالله‏.‏
عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من استعاذ بالله؛ فأعيذوه، ومن سأل بالله؛ فأعطوه‏)‏‏.‏ لأنّ منع مَنْ سأل بالله يدلَّ على عدم إجلال الله، وفي إعطائه دليل على تعظيم الله والتقرب إليه سبحانه‏.‏
4. ومن احترام أسماء الله أن لا يكثر الحلف بها‏.‏
منهج أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته
منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة الذين هم الفرقة الناجية في أسماء الله وصفاته إثباتها كما جاءت في الكتاب والسنة مع اعتقاد ما دَلّتْ عليه وأنها على ظاهرها‏.‏
ولا يلزمُ من إثباتها تشبيهُ الله بخلقه تعالى الله عن ذلك؛ لأنّ صفات الخالق تخصّه وتليق به، وصفات المخلوقين تليق بهم وتخصُّهم، ولا تشابه بين الصفتين؛ كما أنه لا تشابه بين ذات الخالق سبحانه وذات المخلوق‏.‏
ومذهب أهل السنة والجماعة في ذلك ينبني على أسسٍ سليمةٍ وقواعد مستقيمةٍ، وهذه الأسس هي‏:‏
أولاً.‏ أن أسماء الله وصفاته توقيفية؛ بمعنى أنهم لا يثبتون لله إلاّ ما أثبته لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله في سنته من الأسماء والصفات، ولا يثبتون شيئاً بمقتضى عقولهم وتفكيرهم. ولا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه في كتابه أو نفاه عنه رسوله في سنته. لا ينفون عنه بموجب عقولهم وأفكارهم؛ فهم لا يتجاوزون الكتاب والسنة في إثبات ولا نفي، وما لم يصرح الكتاب والسنة بنفيه ولا إثباته - كالعرض والجسم والجوهر - فهم يتوقفون فيه بناءً على هذا الأصل العظيم‏.‏
ثانياً‏.‏ أن ما وصَفَ اللهُ به نفسه أو وصفه به رسولهُ، صلّى الله عليه وسلم؛ فهو حق على ظاهره، ليس غموضٌ، بل معناه يُعرفُ كما يُعرفُ مقصود المتكلم بكلامه‏.‏
فأهل السنة يثبتون ألفاظ الصفات ومعانيها، فليس ما وصف اللهُ به نفَسه أو وصفه به رسولهُ، صلّى الله عليه وسلم، من المتشابه الذي يُفَوَّضُ معناه؛ لأن اعتبار نصوص الصفات مِمَّا لا يفهم معناه يجعلها من الكلام الأعجمي الذي لا يفهم.
ومعاني صفات الله تعالى معلومة يجب اعتقادها، وأما كيفيتها فهي مجهولة لنا لا يعلمها إلا الله تعالى‏ ... ولهذا قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ؛ كيف استوى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏"‏‏.‏
وما قال الإمام مالك في الاستواء هو قاعدة في جميع الصفات، وهو قول أهل السنة والجماعة قاطبة؛ فمن نسب إلى السلف أنهم يفوضون معاني الأسماء والصفات ويجعلون نصوصها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه؛ فقد كذب عليهم.‏
ثالثاً‏.‏ السلف يثبتون الصفات إثباتا بلا تمثيل؛ فلا يُمَثِّلُونَها بصفات المخلوقين؛ لأن الله ليس كمثله شيء، ولا كُفَء له ولا ندّ له ولا سميَّ له، ولأن تمثيل الصفات وتشبيهها بصفات المخلوقين ادعاءٌ لمعرفة كيفيتِها، وكيفيتُها مجهولةٌ لنا مثل كيفية الذات؛ وذلك لأن العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، والله تعالى لا يعلمُ كيفية ذاته إلا هو. والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات؛ فكما أن لله ذاتاً لا تشبه الذوات؛ فكذلك له صفات لا تشبه الصفات، ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ؛ أي‏:‏ لا يشبهه أحد لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله‏.‏
رابعاً‏.‏ وكما أن أهل السنة والجماعة يثبتون لله الصفات التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله على وجهٍ يليقُ بجلاله ولا يُشبَّهُوَنه بخلقه؛ فهم يُنَزِّهُونه عن النقائص والعيوب تنزيهاً لاُ يفضي بهم إلى التعطيل بتأويل معانيها أو تحريف ألفاظها عن مدلولها بحجّة التنزيه؛ فمذهبهم في ذلك وسط بين طرفي التشبيه والتعطيل، تجنبوا التعطيل في مقام التنزيه، وتجنبوا التشبيه في مقام الإثبات‏.‏
خامساً‏.‏ وطريقة أهل السنة والجماعة فيما يثبتون لله من الصفات وما ينفون عنه من النقص هي طريقة الكتاب والسنة، وهي الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ؛ فأجمل في النفي، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ وفَصَّلَ في الإثبات، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏.‏
وكلُّ نفيٍ في صفات الله؛ فإنه يتضمن إثبات الكمال، وليس هو نفياً محضاً؛ لأنَّ النفي المحض ليس فيه مدح.
ومن أمثلة النفي المتضمن لإثبات الكمال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ ؛ أي‏:‏ لكمال عدله سبحانه، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يؤوده حفظهما‏}‏ ؛ أي‏:‏ لكمال قدرته وقوله، وقوله‏:‏ ‏{‏لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ‏}‏ ؛ أي‏:‏ لكمال حياته وقيوميته‏.‏
وهكذا كل نفي عن الله؛ فإنه يتضمن إثبات ضد المنفي من الكمال والجلال‏.‏
منهج الجهمية وتلاميذهم في أسماء الله وصفاته:
إنَّ الذي حمل الجهمية وأتباعهم على نفي صفات الله عز وجل هو جهلهم بالله وسوء أفهامهم؛ حيث ظنّوا أنه يلزم من إثبات هذه الصفات التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله يلزم منها التشبيه؛ لأنهم يرون هذه الصفات في المخلوقين، ولا يُفَرَّقُون بين صفات الخالق وصفات المخلوق، ولم يفهموا من صفات الخالق إلا ما فهموا من صفات المخلوقين، ولم يعلموا أن صفات الخالق سبحانه تخصه وتليق به، وصفات المخلوقين تخصّهم وتليق بهم. ولا تشابه بين صفات الخالق وصفات المخلوق؛ كما أنه لا تشابه بين ذات الخالق وذوات المخلوقين؛ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ فأثبت لنفسه السمع والبصر، ونفى عنه مشابهة الأشياء، فدل ذلك على أن إثبات الصفات لا يلزم منه المشابهة بين الخالق والمخلوق‏.‏
وهذا هو الأصل الذي سار عليه أهل السنة والجماعة في إثبات أسماء الله وصفاته؛ أثبتوا له ما أثبته لنفسه بلا تمثيل، ونزهوه عما نزه نفسه عنه بلا تعطيل‏.‏
أما الجهمية وتلاميذهم فإنهم بنوا مذهبهم على أصلٍ باطلٍ أَصَّلُوه من عند أنفسهم، وهو أن إثبات هذه الصفات يقتضي التشبيه، فيلزم حيال النصوص الواردة بذلك أحد أمرين عندهم‏:‏ إما تأويلها عن ظاهرها، واما تفويضها مع اعتقاد أنَّ ظاهرها غيرُ مراد.
الردُّ على المُشَبِّهَةِ والمعُطِّلة في موضوع الأسماء والصِّفات
1- المُشَبّهَةُ‏:‏
هم الذين شبهوا الله بخلقه، وجعلوا صفاته من جنس صفات المخلوقين، ولذلك سموا بالمشبهة‏.‏ وأول من قال هذه المقالة هو هشام بن الحكم الرافضي وبيان بن سمعان التميمي.‏
فالمشبهة غلوا في إثبات الصفات حتى أدخلوا في ذلك ما نفاه الله ورسوله ممّا لا يليق به سبحانه من صفات النقص تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ومن هؤلاء هشام بن سالم الجواليقي وداود الجواربي‏.‏
وقد نفى الله في كتابه مشابهته لخلقه ونهى عن ضرب الأمثال له؛ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏{‏فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ‏}‏ ‏.‏
فمن شَبَّهَ صفات الله بصفات خلقه؛ لم يكن عابداً لله في الحقيقة، وإنما يعبد وثناً صَوَّرَهُ له خياله ونحته له فكره؛ فهو من عباد الأوثان لا من عباد الرحمن‏.‏
2- المُعَطِّلَةُ‏:‏
هم الذين نفوا عن الله ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من صفات الكمال، زاعمين أن إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم؛ فهم على طرفي نقيض مع المشبهة‏.‏
ومذهبُ التعطيل مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضّلال الصابئين، وأول من عُرِفَ عنه مقالة التعطيل في الإسلام هو الجعد بن درهم. وقد أخذ هذا المذهب الخبيث عنه الجهم بن صفوان وأظهره، وإليه نُسبت الجهمية، ثم انتقل هذا المذهب إلى المعتزلة والأشاعرة‏.‏‏.‏‏.‏
وهم في هذا التعطيل متفاوتون‏:‏ فالجهمية ينفون الأسماء والصفات‏.‏ والمعتزلة يثبتون الأسماءَ مُجَرَّدةً عن معانيها وينفون الصفات‏.‏ والأشاعرةُ يثبتون الأسماء وسبعَ صفاتٍ فقط هي‏:‏ العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وينفون بقية الصفات‏.‏
وشبهة الجميع فيما نفوه من الصفات أنَّ إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم؛ لأنه لا يُشَاهدُ موصوفاً بها إلا هذه الأجسام، والله ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ؛ فَتعَيَّنَ نفيُ الصفات وتعطيلها تنزيهاً لله عن التشبيه على ـ قولهم ـ، ولهذا يُسَمُّون من أثبتها مُشَبِّهَاً‏.‏
ووقفوا من النصوص الدالة على إثباتها موقفين‏:‏
الموقف الأول:‏ الإيمان بألفاظها وتفويض معانيها؛ بأن يسكتوا عن تفسيرها ويُفَوِّضُوه إلى الله مع نفي دلالتها على شيءٍ من الصفات، وسَمُّوا هذه الطريقة طريقةَ السَّلَف، وقالوا هي الأسلم‏.‏
الموقف الثاني:‏ صرفُ هذه النصوص عن مدلولها إلى معانٍ ابتدعوها، وهذا ما يسمّونه بطريقة التأويل، وسمّوه طريقة الخلف، وقالوا هي الأعلم والأحكم‏.‏
والرد على شبهتهم‏:‏ أن نقول‏:‏
لا ريب أنّ القرآن الكريم قد نطق بنفي التمثيل عن الله تعالى؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ‏}‏ ، لكن مع نفيه سبحانه عن نفسه مشابهة المخلوقين أثبت لنفسه صفات الكمال؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ؛، فجمع في هذه الآية الكريمة بين نفي التشبيه عنه وأثبت لنفسه صفتي السمع والبصر، فدلَّ ذلك على أن إثبات الصفات لا يقتضي التشبيه؛ إذ لا تلازم بينهما‏.‏
وهكذا في كثير من آيات القرآن الكريم نجد إثبات الصفات مع نفي التشبيه جنبا إلى جنب، وهذا هو مذهب السلف الصالح؛ يثبتون الصفات وينفون عنه التشبيه والتمثيل‏.‏
ومن زعم أن إثبات الصفات لا يليق بالله لأنه يقتضي التشبيه؛ فإنما أدّى به إلى ذلك سوء فهمه؛ حيث فهم أن إثبات الصفات يلزم منه التشبيه، فأداه هذا الفهم الخاطئ إلى نفي ما أثبته الله عز وجل لنفسه، فكان هذا الإنسان مُشَبِّهاً أولاً ومُعَطِّلاً ثانياً وارتكب ما لا يليق بالله ابتداءً وانتهاء، أما مَن توهَّم أن صفات الله تشبه صفات المخلوقين؛ فإنه لم يعرف الله حق معرفته، ولم يقدره حق قدره، ولهذا وقع فيما وقع فيه من ورطة التعطيل ....
نواقض الإيمان
يمكننا حصر الأمور التي تكون سبباً في الخروج من دين الله عز وجل بأنواع أربعة هي:
1. إنكار الربوبية والطعن فيها.
2. الطعن في الألوهية.
3. الطعن في أسماء الله عز وجل وصفاته.
4. إنكار الرسالة والطعن في صاحبها صلّى الله عليه وسلم.
1. إنكار الربوبية والطعن فيها، ويتخذ هذا النوع المظاهر الآتية:
أ. إنكار الخالق.
ب. القول بِقدَمِ الشيء (أي لم يخلقه الله).
ج. إسناد الخلق والتقدير إلى غير الله عز وجل مثل الصدفة والطبيعة ...
د. إنكار ملك الله لكل مخلوق.
هـ. إدعاء الرزق من غير الله.
و. إشراك غير الله معه في الملك أو الرزق.
ز. إدعاء أن الله خلق الخلق وأهملهم، ولا يتصرف فيهم، ولا يحفظهم، ولا يدبر أمرهم.
ح. إدعاء أي شيء مما سبق لنفس الإنسان كقول فرعون: "أنا ربكم الأعلى"، وادعاء قارون بتملك الرزق والأموال بعلمه الخاص.
2. الطعن في الألوهية: ويتخذ عدة مظاهر منها:
أ. نقض الشهادة، بأن الله وحده هو المعبود بحق وينقضها أمران:
1. نفي استحقاق الخالق لأن يُعْبَدَ بأي نوع من أنواع العبادة.
2. إثبات هذا الاستحقاق لأي مخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى.
ب. الإدعاء بأحقية التشريع بما لم يأذن به الله، بسبب ما أوتي من السلطان والحكمة فيدعي بأن له الحق في التحليل والتحريم، ووضع القوانين التي تخالف شرع الله كإباحة الزنا والخمر والتسفر للنساء والربا ...
3. الطعن في أسماء الله وصفاته، ويتخذ ها النوع المظاهر التالية:
أ. نفي أي صفة من صفات الله سبحانه، كنفي علمه أو قدرته أو سمعه.
ب. نفي كمالية صفات الله مثل: إن الله لا يعلم الجزئيات والتفصيلات.
ج. تشبيه أي من تلك الصفات بما عند المخلوقات مثل: سمع الله كسمع الناس، وقوة الله كقوتهم.
د. إثبات أي صفة لله نفاها سبحانه عن نفسه أو نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم، كإثبات الولد له سبحانه أو الصاحبات أو أو النوم أو الغفلة.
هـ. إثبات أي صفة لله لنفسه أو لأي مخلوق، ومثلها: أنا أعلم كعلم الله وفلان عنده الحكمة كحكمة الله.
4. الطعن في الرسالة أو في صاحبها عليه الصلاة والسلام، وتتخذ المظاهر التالية:
أ. نقض الشهادة بمحمد صلى الله عليه سلم، وينقضها أمران:
1. الطعن في رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، أو استهزاءٍ أو استخفافٍ به أو بتصرف من تصرفاته.
2. إنكار بعض ما أخبر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كإنكار خبر أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كالبعث أو الصراط أو أي أمر غيبي.
*****************************************************************
مراجعة عامة هامة لمادة العقيدة (2)
إعداد الدكتور راجح السباتين / جامعة طيبة / كلية العلوم والآداب بالعُلا
الإيمان بالكتب السماوية
الإيمان بالكتب الإلهية هو أحد أصول الإيمان وأركانه‏.‏ والإيمان بها هو التصديق الجازم بأنها حق وصدق، وأنها كلام الله عز وجل؛ فيها الهدى والنور والكفاية لمن أُنِزلَتْ عليهم‏.‏ نؤمن بما سَمّى اللهُ منها، وهي القرآن المنزل على سيدنا محمدٍ والتوراة المنزلة على سيدنا موسى والإنجيل المنزل على سيدنا عيسى والزبور المنزل على سيدنا داود عليهم سلام الله جميعاً، وما لم يُسَمِّ منها؛ فإن لله كُتباً لا يعلمها إلا هو سبحانه‏.‏
وإنزال الكتب من رحمة الله بعباده لحاجة البشرية إليها؛ لأن عقل الإنسان محدود، لا يدرك تفاصيل النفع والضرر، وإن كان يدرك الفرق بين الضار والنافع إجمالا‏.‏ والعقل الإنساني أيضا تغلب عليه الشهوات، وتلعبُ به الأغراضُ والأهواء؛ فلو وُكِّلَتْ البشرية إلى عقولها القاصرة؛ لضلَّتْ وتاهت.
فاقتضت حكمة الله ورحمته أن ينزل هذه الكتب على المصطفين من رُسُلِه؛ ليبيِّنُوا للناس ما تدل عليه هذه الكتب وما تتضّمنه من أحكامه العادلة ووصاياه النافعة وأوامره ونواهيه الكفيلة بإصلاح البشرية‏.‏
وقد انقسم الناس حيال الكتب السماوية إلى ثلاثة أقسام‏:‏
-       قسم كَذَّبَ بها كُلِّها، وهم أعداءُ الرسل من الكفّار والمشركين.
-       وقسم آمن بها كلها، وهم المؤمنون الذين آمنوا بجميع الرسل وما أُنزل إليهم.
-       وقسم آمن ببعضِ الكتب وكفرَ ببعضها، وهم اليهود والنصارى ومَن سار على نهجهم.
ولا شكَّ أن الإيمان ببعض الكتاب أو ببعض الكتب والكفر بالبعض الآخر كفر بالجميع؛ لأنه لابدَّ من الإيمان بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل؛ لأن الإيمان لابد أن يكون مؤتلفا جامعا لا تفريق فيه ولا تبعيض ولا اختلاف.
وسبب كفر من كفر بالكتب أو كفر ببعضها أو ببعض الكتاب الواحد هو اتَّباعُ الهوى والظنون الكاذبة.
والإيمان بالكتب السابقة إيمان مُجْمَلٌ؛ يكون بالإقرار به بالقلب واللسان، أما الإيمان بالقرآن؛ فإنه إيمان مُفَصَّلٌ؛ يكون بالإقرار به بالقلب واللسان، واتباع ما جاء فيه، وتحكيمه في كل كبيرة وصغيرة، والإيمان بأنه كلام الله مَنْزَلٌ غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود‏.‏

الإيمان بالملائكة
الإيمان بالملائكة هو أحد أركان الإيمان الستة؛ كما جاء في حديث جبريل؛ حيث قال‏:‏ ‏"‏الإيمان‏:‏ أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمنَ بالقدر خيره وشره‏"‏‏.‏
والإيمان بالملائكة يتضمن التصديق بوجودهم، وأنهم عباد مُكْرَمون، خلقهم الله لعبادته وتنفيذ أوامره، والإيمان بأصنافهم وأوصافهم وأعمالهم التي يقومون بها حسبما ورد في الكتاب والسنة، والإيمان بفضلهم ومكانتهم عند الله عز وجل‏.‏ وقد ورد في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏‏:‏ أنَّ اللهَ خلقهم من نور‏.‏
والملائكةُ بالنسبة إلى الأعمال التي يقومون بها أصناف‏:‏
-       فمنهم حَمَلَةُ العرش؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ‏}.
-       ومنهم المُقَرَّبون؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏‏.‏
-       ومنهم الموكَّلُون بالجِنان وإعداد الإكرام؛ لأهلها‏.‏
-       ومنهم الموكَّلُون بالنار وتعذيب أهلها، وهم الزبانية، ومقدموهم تسعة عشر، وخازنها مالك، وهو مقدم الخزنة.
-   ومنهم الموكَّلُون بحفظ بني آدم في الدنيا؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ الآية؛ أي‏:‏ معه ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه؛ فإذا جاء قدر الله؛ خلوا عنه‏.‏
-       ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد وكتابتها.
-       ومن الملائكة من هو مُوَكَّلٌ بالرحم وشأن النطفة.
-   ومنهم ملائكة مُوَكَّلُون بقبض الأرواح. فَمَلَكُ الموت له أعوان من الملائكة؛ يستخرجون روح العبد من جسمه حتى تبلغ الحلقوم، فيتناولها ملك الموت‏.
والملائكة رسلُ الله في خلقه وأمره، واسم المَلَكِ يتضمَّن أنه رسول؛ لأنه من الألوكة؛ بمعنى الرسالة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ‏}.
وأعظمهم جبريل عليه السلام، وهو أمين الوحي.
وقد أعطى الله الملائكة قدرةً على التشكُّل بأشكالٍ مختلفة؛ فقد جاءوا إلى إبراهيم ولوط عليهما السلام بصورة أضياف. وكان جبريلُ يأتي إلى النبي، صلّى الله عليه وسلم، في صفات متعددة‏ٍ:‏ تارةً يأتي في صورةِ دحية الكلبي، وتارة في صورة أعرابيٍ، وتارةً في صورته التي خُلِقَ عليها، وقد وقع منه هذا مرتين، وذلك لأن البشر لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته.

الإيمان بالرُّسِل
الإيمان بالرسل أحد أصول الإيمان؛ لأنهم الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ رسالاته وإقامته حجته على خلقه‏.‏
والإيمان بهم يعني‏:‏ التصديق برسالتهم، والإقرار بنبوتهم، وأنهم صادقون فيما أَخبروا به عن الله، وقد بلَّغوا الرسالات، وبينوا للناس ما لا يسع أحدا جهله‏.‏
وقد قرن الله الإيمان بالرسل بالإيمان به سبحانه وبملائكته وكتبه، في الكثير من آيات القرآن الكريم وحكم بكفر من فَرَّقَ بين الله ورسله؛ فآمنَ ببعضٍ وكفرَ ببعضٍ.‏
وبعثُ الرسل نعمة من الله على البشرية؛ لأن حاجة البشرية إليهم ضرورية؛ فلا تنتظم لهم حال ولا يستقيم لهم دين إلا بهم؛ فهم يحتاجون إلى الرسل أشدَّ من حاجتهم إلى الطعام والشراب.
والرسل الذين ذكر الله أسماءهم في القرآن يجب الإيمان بأعيانهم وهم خمسةٌ وعشرون. ومَنْ لم يُسَمَّ في القرآن من الرسل؛ وجب الإيمان به إجمالاً.
وهنا مسألة تحتاج إلى بيان وهي‏:‏ الفرق بين النبي والرسول‏؛ فالفرق بين النبي والرسول على المشهور‏:‏ أن الرسول إنسانٌ ذَكَرٌ أوحي إليه بشرعٍ وأمر بتبليغه‏.‏ والنبي إنسان ذكر أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه‏.‏ وكل من النبي والرسول يوحى إليه، لكن النبي قد يُبعثُ في قوم مؤمنين بشرائع سابقة؛ كأنبياء بني إسرائيل؛ يأمرون بشريعة التوراة، وقد يوحى إلى أحدهم وحيٌ خاصٌّ في قصّةٍ مُعَيَّنةِ‏.‏ وأما الرسل؛ فإنهم يُبعثونَ في قومٍ كُفّارٍ يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته؛ فهم يرسلون إلى مخالفين فيكذبهم بعضهم‏.‏ والرسول أفضل من النبي‏ وكلُّ رسولٍ نبيٌّ وليسَ كلُّ نبيٍّ رسولاً.‏
والرسل يتفاضلون؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏.‏
وأفضل الرسل أولو العزم، وهم خمسة‏:‏ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
وأفضل أولي العزم الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما وعليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام‏.‏ وأفضل الخليلين محمدٌ صلَّى الله عليه وسلم‏.‏
هذا؛ والنبوة تفضلٌ واختيارٌ من الله تعالى؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏.‏ وليست النبوة كسباً يناله العبد بالجد، والاجتهاد، وتكلُّفِ أنواع العبادات.
فالنبوة اصطفاء من الله حسب حكمته وعلمه بمن يصلح لها، وليست اكتسابا من قبل العبد‏.‏

دلائل النبوة
دلائل النبوة هي الأدلة التي تُعرَفُ بها نبوةُ النبيِّ الصادق، ويُعرَفُ بها كَذِبُ المُدَّعي للنبوة من المتنبئين الكذبة؛ لأنَّ هذا موضوع هام جدا‏.‏
ودلائل النبوة كثيرة ومتنوعة وغير محصورة ومنها ما يلي:
1‏.‏ المعجزة‏:‏ وهي أمرٌ خارقٌ للعادة يجريه الله على يد مَنْ يختاره لنبوّة لتدل على صدقه وصحّة رسالته‏.‏
ومعجزات الرسل عليهم الصلاة والسلام كثيرة‏:‏ منها الناقة التي أُوتيها صالح عليه السلام حُجَّةً على قومه، وقلب العصا حَيّةً آية لموسى عليه السلام، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى آية لعيسى عليه السلام، ومنها معجزات نبينا محمد، صلّى الله عليه وسلم، وهي كثيرة، أعظمها القرآن الكريم، وهو المعجزة الخالدة التي تحدَّى الله بها الجن والإنس، ومنها الإسراء والمعراج وانشقاق القمر وتسبيح الحصا في كفه عليه الصلاة والسلام وحنين الجذع إليه وإخباره عن حوادث المستقبل والماضي‏.‏‏.‏‏.‏
2‏.‏ إخبارهم الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أعدائهم وبقاء العاقبة لهم، فوقع كما أخبروا، ولم يتخلف منه شيء؛ كما حصل لنوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى ونبينا محمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين مِمّا قَصَّهُ الله في كتابه‏.‏
3‏.‏ ومنها أنَّ ما جاءوا به من الشرائع والأخبار في غاية الإحكام والإتقان وكشف الحقائق وهدي الخلق مِمّا يُعْلَمُ بالضرورة أنَّ مثله لا يصدر إلا عن أعلمِ الناسِ وأبرّهم‏.‏
4‏.‏ ومنها أنَّ الله يؤيدهم تأييداً مستمراً، وقد علم من سُنَّته سبحانه أنه لا يؤيد الكَذَّابَ بمثل ما يؤيد به الصادق، بل لابد أنُ يفتضحَ الكذَّابُ، وقد يُمهله اللهُ ثم يهلكه‏.‏
الفرق بين دلائل النبوَّةِ وخوارق السَّحَرة والكُهَّان
1.‏ إن أَخبار الأنبياء لا يقع فيها تَخلّفٌ ولا غلط؛ بخلاف أخبار الكهنة والمنجِّمين؛ فالغالب عليها الكذب، وإن صدقوا أحيانا في بعض الأشياء بسبب ما يحصل عليه الكُهَّان من استراق شياطينهم للسمع‏.‏
2.‏ إنَّ السحر والكهانة والاختراع أمور مُعتادة معروفة ينالها الإنسان بكسبه وتعلمه؛ فهي لا تخرج عن كونها مقدرةً للجنّ والإنس، ويمكن معارضتها بمثلها؛ بخلاف آيات الأنبياء؛ فإنها لا يقدر عليها جنٌّ ولا إنس؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ؛ فآيات الأنبياء لا يقدر عليها الخَلْقُ، بل الله هو الذي يفعلها آيةً وعلامةً على صدقهم؛ كانشقاق القمر وقلب العصا حيةً وتسبيحُ الحصا بصوتٍ يُسمعُ وحنينُ الجذع وتكثيرُ الماء والطعام القليل‏.‏‏.‏‏.‏ فهذا لا يقدر عليه إلا الله‏.‏
3.‏ إن الأنبياء مؤمنون مسلمون يعبدون الله وحده بما أمر ويُصَدِّقون جميع ما جاء به الأنبياء، وأما السَّحَرُة والكُهَّان والمتنبئون الكذبة؛ فلا يكونون إلا مشركين مكذبين ببعض ما أنزل الله‏.‏
4.‏ إن الفِطَرَ والعقول توافق ما جاء به الأنبياء عليهم السلام، وأما السَّحَرةُ والكُهّان والدجَّالون الكذَّابُون؛ فإنهم يخالفون الأدلة السمعية والعقلية والفطرية‏.‏
5.‏ إن الأنبياء جاءوا بما يُكَمِّلُ الفطر والعقول، والسحرة والكهان والكذبة يجيئون بما يفسد العقول والفِطَرَ‏.‏
6.‏ إنَّ معجزات الأنبياء لا تحصل بأفعالهم هم، وإنما يفعلها الله عز وجل آية وعلامةً لهم؛ كانشقاق القمر وقلب العصا حيّةً والإتيان بالقرآن والإخبار بالغيب الذي يختص الله به‏.‏‏.‏‏.‏ فأمر الآيات إلى الله لا إلى اختيار المخلوق؛ كما قال الله لنبيه عندما طلبوا منه أن يأتي بآية؛ قال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ‏}‏ ، وأما خوارق السَّحَرة والكُهَّان والمخترعات الصناعية؛ فإنها تحصل بأفعال الخلق‏.‏
عصمة الأنبياء
هي حفظ الله لأنبيائه من الذنوب والمعاصي‏.
‏وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة؛ فإن النبي هو المنبئ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة؛ فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين‏.‏‏.‏‏.‏‏
ويمكن تلخيص عصمة الأنبياء فيما يلي‏:‏
عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها ما هو مُجْمَعٌ عليه بدايةً ونهايةً، ومنها ما هو مُخَتلَفٌ فيه بدايةً لا نهايةً .‏‏.‏‏.‏ وبيان ذلك‏:‏
1‏.‏ أجمع العلماءُ على عصمتهم فيما يُخبِرون عن الله تعالى وفي تبليغ رسالاته؛ لأن هذه العصمة هي التي يحصل بها مقصود الرسالة والنبوة‏.‏
2‏.‏ واختلفوا في عصمتهم من المعاصي‏:‏ فقال بعضُهم بعصمتهم منها مطلقاً كبائرها وصغائرها؛ لأن منصب النبوة يجلُّ عن مواقعتها ومخالفة الله تعالى عمداً، ولأننا أُمِرْنَا بالتأسّي بهم، وذلك لا يجوز مع وقوع المعصية في أفعالهم؛ لأن الأمر بالاقتداء بهم يَلْزَمُ منه أن تكون أفعالهم كلُّها طاعة، وتأَوّلوا الآيات والأحاديث الواردة بإثبات شيء من ذلك‏.‏
وقال الجمهور بجواز وقوع الصغائر منهم بدليل ما ورد في القرآن والأخبار، لكنهم لا يصرون عليها، فيتوبون منها ويرجعون عنها، فيكونون معصومين من الإصرار عليها، ويكون الاقتداء بهم في التوبة منها‏.‏
والإسلامُ هو دين الأنبياء جميعا، وهو الاستسلام لله وحده.‏ فدين الأنبياء واحد، وإن تنوعت شرائعهم؛ فقدُ يشَرِّعُ الله في وقتٍ أمراً لحكمةٍ، ثم يشرِّعُ في وقت آخر أمراً لحكمةٍ؛ فالعمل بالمنسوخ قبل نسخه طاعة لله، وبعد النسخ يجب العمل بالناسخ؛ فمن تمسَّكَ بالمنسوخ وترك الناسخ؛ فليس هو على دين الإسلام، ولا هو مُتِّبِعٌ لأحد من الأنبياء، ولهذا كفر اليهود والنصارى؛ لأنهم تمسَّكوا بشرعٍ مُبَدَّلٍ منسوخٍ‏.‏
والله تعالى يشرع لكل أمةٍ ما يناسب حالها ووقتها ويكون كفيلاً بإصلاحها متضِّمناً لمصالحها، ثم ينسخ الله ما يشاء من تلك الشرائع لانتهاء أجلها، إلى أن بعثَ نبيَّهُ محمداً خاتم النبيين إلى جميع الناس على وجه الأرض وعلى امتداد الزمن إلى يوم القيامة، وشرع له شريعةً شاملةً صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ لا تُبَدَّلُ ولا تنسخ؛ فلا يسع جميع أهل الأرض إلا اتباعه والإيمان به صلّى الله عليه وسلم‏.‏
والآيات التي أنزلها اللهُ سبحانه على رسوله محمدٍ، صلّى الله عليه وسلّم، فيها خطاب لجميع الخلق الجنّ والإنس وعلى اختلاف أجناسهم، ولم يخصّ العرب بحكمٍ من الأحكام، بل علَّق الأحكام باسم كافر ومؤمن، ومسلم ومنافق، وبر وفاجر، ومحسن وظالم‏.‏‏.‏‏.‏ وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن والحديث؛ فليس في القرآن والحديث تخصيص العرب بحكمٍ من الأحكام الشرعية، إنما علَّق الأحكام بالصّفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغضه الله‏.‏
ونزول القرآن بلسان العرب إنما هو لأجل التبليغ؛ لأنه، بلَّغَ قومه أولا، ثم بواسطتهم بلَّغ سائر الأمم، وأمره الله بتبليغ قومه أولاً، ثم تبليغ الأقرب فالأقرب؛ كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب، وليس هذا تخصيصاً، وإنما هو تدُّرجٌ بالتبليغ‏.‏
والمقصودُ أنَّ دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحدٌ، وهو إخلاص العبادة لله والنهي عن الشرك والفساد، وإن تنوعت شرائعهم حسب الظروف والحاجات، إلى أن ختموا بمحمّدٍ، صلّى الله عليه وسلم، الذي عَمَّتْ رسالته الخلق، وامتدت إلى آخر الدنيا؛ لا تُبّدَّلُ ولا تُغَيَّرُ ولا تُنسخ، وهي صالحة ومُصْلِحَةٌ لكل زمان ومكان، ولا نبي بعده، عليه الصّلاة والسلام إلى آخر الزمان، وهو يأمر بما أمرَ به المرسَلُون من قبله من الإيمان وإخلاص العبادة لله بما شرعه من الأحكام، وهو مُصَدِّقٌ لإخوانه المرسَلين، وإخوانه المرسلون قد بشّروا به، خصوصاً أقرب الرسل إليه زمانا، وهو المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.

ذكر خصائص الرسول محمد، صلّى الله عليه وسلم، إجمالاً
للرسول محمد صلى الله عليه وسلم خصائص اختص بها عن غيره من الأنبياء، وخصائص اختص بها عن أمته‏:‏
والخصائص التي اختُصَّ بها عن غيره من الأنبياء كثيرة؛ منها‏:‏
1- أنه خاتم النبيين‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏}‏ ، وقال صلّى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا خاتم النبيين، لا نبَّي بعدي‏)‏ ‏.‏
2- المقام المحمود، وهو الشفاعة العظمى.
3- عموم بعثته إلى الثقلين الجنِّ والإنس. والآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع الخلق الجن والإنس؛ إذ كانت رسالته عامّةً للثقلين، وإن كان من أسباب النزول ما كان موجوداً في العرب؛ فليس شيء من الآيات مختصاً بالسبب المُعَيَّنِ الذي نزل فيه باتفاق المسلمين.
وكما كان، صلّى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الإنس؛ فهو مبعوث أيضا إلى الجن، فقد استمع الجُّن لقراءته، وولّوا إلى قومهم مُنذِرين؛ كما أخبر الله عز وجل، وهذا متفق عليه بين المسلمين‏.‏
4- ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم الذي أذعن لإعجازه الثقلان، وأحجم عن معارضته كلُّ الإنس والجان، واعترف بالعجز عن الإتيان بأقصر سورة من مثله أهلُ الفصاحة والبلاغة من سائر الأديان .
5- ومن خصائصه، صلّى الله عليه وسلم، المعراج إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوىً سمع فيه صريف الأقلام فكان قاب قوسين أو أدنى‏.‏
ومن أعظم خصائص نبينا محمدٍ، صلّى الله عليه وسلم،‏ الإسراء والمعراج، وعموم رسالته، وختمُ النبوةِّ به.‏
1- الإسراء والمعراج
قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏.‏
والمعراج‏:‏ مفعال من العروج؛ أي‏:‏ الآلة التي يعرج فيها؛ أي‏:‏ يُصْعَدُ، وهو بمنزلة السِّلَّم، لكن لا يعلم كيف هو إلا الله، وحكُمه كحكم غيره من الغيبيّات؛ نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته‏. الذي عليه أئمة النقل‏:‏ أنّ الإسراء كان مرّةً واحدة بمكة بعد البعثة وقبل الهجرة بسنة، وقيل بسنة وشهرين.

صفة الإسراء والمعراج المستفادة من النصوص الشرعية
قال الحافظ ابن كثير في ‏"‏تفسيره‏"‏‏:‏ ‏"‏والحق أنه عليه السلام أُسرِيَ به يقظةً لا مَناماً، من مكة إلى بيت المقدس، راكباً البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد؛ ربط الدابة عند الباب، ودخله، فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج، وهو كالسلم ذو درج يرقى فيه، فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مُقَرَّبُوها، وسلَّم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرَّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما- صلّى الله وسلم عليه وعليهما وعلى سائر الأنبياء- حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام؛ أي‏:‏ أقلام القدر بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى، وغَشَيَها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جبريل على صورته، وله ستُّ مائةِ جناحٍ، ورأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مُسْنِدَ ظهره إليه؛ لأنّه الكعبة السماوية، يدخله كلَّ يومٍ سبعون ألفا من الملائكة، ثم يتعبدون فيه، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ورأى الجنة والنار، وفُرِضَ عليه هنالك الصّلوات خمسين، ثم خَفَّفها إلى خمس رحمةً منه ولطفاً بعباده، وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها، ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبطَ معه الأنبياء، فصلّى بهم لما حانت الصلاة، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ، ومن الناس من يزعم أنه أَمَّهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه أَمَّهم ببيت المقدس، ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه؛ لأنه لما مر بهم في منازلهم؛ جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً، وهو يخبر بهم، وهذا هو اللائق؛ لأنه كان أولاً مطلوبا إلى الجناب العلوي؛ ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى، ثم لما فرغ من الذي أريد به؛ اجتمع فيه- أي‏:‏ بيت المقدس- هو وإخوانه من النبيين، ثم ظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام في ذلك، ثم خرج من بيت المقدس، فركب البراق، وعاد إلى مكة بغلس‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏
هل كان الإسراء ببدنه، عليه السلام، وروحه أو بروحه فقط‏؟‏
الأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظةً لا مناماً، والدليل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏}‏ ؛ فالتسبيحُ إنما يكون عند الأمور العظام؛ فلو كان مناماً؛ لم يكن فيه شيءٌ كبيرٌ، ولم يكن مُستعظَماً، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدَّتْ جماعة ممن كان قد أسلم، وأيضا؛ فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والبدن، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا‏}‏ ، وأيضا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ‏}‏ ؛ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏هي رؤيا عينٍ أُريها رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، ليلة أسري به‏"‏‏.‏ رواه البخاري‏.‏ وأيضا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى‏}‏ ، والبصر من آلات الذات لا الروح، وأيضا فإنه حُمِلَ على البراق، وهو دابّةٌ بيضاء براقة لها لمعان، وإنما يكون هذا للبدن لا للروح؛ لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه‏.‏
هل تكرر المعراج‏؟‏
قال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق الأحاديث الواردة في هذا الموضوع‏:‏ ‏"‏وإذا حَصَلَ الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها؛ فحصل مضمون ما اتفقت عليه من إسراء رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، من مكة إلى بيت المقدس وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه؛ فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام‏.‏
2- عموم رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، والردُّ على مَنْ أنكره
يقول جماعة من اليهود والنصارى ومَنَ قَلَّدهم‏:‏ إنّ محمداً، صلّى الله عليه وسلم، مُرسَلٌ إلى العرب دون أهل الكتاب‏!‏ ويلبسون بقولهم‏:‏ إن كان دينه حقاُ؛ فديننا أيضاً حقٌّ، والطرقُ إلى الله تعالى متنوعة‏!‏.‏
وهذا القول ظاهر البطلان؛ لأنهم لمَّا صدقوا برسالته؛ لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال‏:‏ إنه رسول الله إلى الناس عامّةً، والرسول لا يكذب، فلزم تصديقه حتماً‏.‏ وقد أرسلَ رسلَه وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الأطراف يدعو إلى الإسلام‏، ثم مقاتلته لأهل الكتاب وسبي ذراريهم واستباحة دمائهم وضرب الجزية عليهم أمر معلوم بالتواتر والضرورة؛ فإنه دعا المشركين إلى الإيمان به، ودعا أهلَ الكتاب إلى الإيمان به، وجاهدَ أهلَ الكتاب كما جاهد المشركين؛ فجاهد بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وأهل خيبر- وكلهم يهود-، وسبى ذراريهم ونساءهم، وغنم أموالهم، وغزا النصارى عامَ تبوك بنفسه وبسراياه، حتى قتل في محاربتهم زيد بن حارثة مولاه وجعفر وغيرهما من أهله، وضرب الجزية على نصارى نجران‏.‏ وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده جاهدوا أهل الكتاب، وقاتلوا مَنْ قاتلهم، وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم صاغرون‏.‏
3- ختم الرسالات ببعثة محمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم
لقد ختم الله سبحانه وتعالى النبّوةِ بنبّوةِ محمدِ، صلّى الله عليه وسلم‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏}‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا خاتم النبيين؛ لا نبي بعدي‏)‏.
ومعنى ختم النبوة بنبوته عليه الصلاة والسلام‏:‏ أنه لا تبدأ نبوة ولا تشرع شريعة بعد نبوته وشرعته‏.‏
وأما نزول عيسى في آخر الزمان؛ فلا ينافي ذلك؛ لأن عيسى عليه السلام إذا نزل إنما يَتَعَبَّدُ بشريعة نبينا محمدٍ، صلّى الله عليه وسلّم، دون شريعته المتقدمة؛ لأنها منسوخة، فلا يتعبد إلا بهذه الشريعة أصولاً وفروعاً، فيكون خليفةً لنبينا صلّى الله عليه وسلم، وحاكماً من حكام ملّته بين أمته‏.‏
فهذا النبي الخاتم للأنبياء، صلواتُ الله وسلامه عليهم أجمعين، قد بُعِثَ بخير كتاب وأتم شريعة وأفضل ملّةٍ وأكمل دين، جاء بشريعة كافية لحاجة الخليقة في كل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، واكتملَ به عقد النبيين؛ فلا نبي بعده‏.‏
الحكمة في ختم النبوة بمحمّدٍ صلَّى الله عليه وسلم
كانت نبوة محمّدٍ، صلّى الله عليه وسلم، خاتمةً للنبوات؛ لأنه بُعِثَ إلى الناس كافّةً إلى أن تقوم الساعة؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏
وإذا كانت رسالته عامة للناس؛ فلا بد أن تكون شريعته كاملةَ شاملةَ لمصالح البشر، لا يُحْتَاجً معها إلى شريعةٍ أخرى وبعثة نبيٍّ آخر.
كرامة الأولياء
أولياء الله عز وجل هم المؤمنون المتقون؛ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏ ‏.‏ فكل مؤمن تقي؛ فهو ولي لله عز وجل بقدر إيمانه وتقواه، وقد يظهر الله على يديه من خوارق العادات، وهي ما يُسَمَّى بالكرامات‏.‏
فالكرامة خارق للعادة يجريه الله على يد بعض الصالحين من أتباع الرُّسَلِ إكراماً من الله له ببركة اتّباعهِ للرُّسِل صلوات الله وسلامه عليهم‏.‏
وليس كل ولي تحصل له كرامة، وإنما تحصل لبعضهم‏:‏ إما لتقوية إيمانه، أو لحاجته، أو لإقامة حجّةٍ على خصمه المعارض في الحق‏.‏ والأولياء الذين لم تظهر لهم كرامة لا يدل ذلك على نقصهم؛ كما أن الذين وقعت لهم الكرامة لا يدل ذلك على أنهم أفضل من غيرهم‏.‏
وكرامات الأولياء حق بإجماع أئمة الإسلام والسنة والجماعة، وقد دل عليها القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وإنما ينكرها أهلُ البدع من المعتزلة والجهمية ومَنْ تابعهَمُ، وهذا إنكار لما هو ثابت في القرآن والسنة‏.‏ ففي القرآن الكريم‏:‏ قصّةُ أصحاب الكهف، وقصةٌ مريم‏، أمثلة كثيرة‏.‏
الفروق بين كرامات الأولياء وخوارق السَّحَرة والمشعِّوِذين والدجّالين‏
1.‏ كرامات الأولياء سببها التقوى والعمل الصالح، وأعمالُ المشعوذين سببها الكفر والفسوق والفجور‏.‏
2.‏ كرامات الأولياء يُستَعانُ بها على البرِّ والتقوى أو على أمور مباحة، وأعمال المشعوذين والدجالين يستعان بها على أمور مُحَرَّمةٍ؛ من الشرك والكفر وقتل النفوس‏.‏
3.‏ كرامات الأولياء تقوى بذكر الله وتوحيده، وخوارق السحرة والمشعوذين تُبْطُلُ أو تَضْعُفُ عند ذكر الله وقراءة القرآن والتوحيد‏.‏
وكما ذكرنا؛ فإن أولياء الله حَقّاً لا يستغلّون ما يجريه الله على أيديهم من الكرامات للنصب والاحتيال ولفت أنظار الناس إلى تعظيمهم، وإنما تزيدهم الكرامات تواضعاً ومحبّةً لله وإقبالا على عبادته؛ بخلاف المشعوذين والدجالين؛ فإنهم يستغلون هذه الأحوال الشيطانية التي تجري على أيديهم لجلب الناس إلى تعظيمهم والتقرب إليهم وعبادتهم من دون الله عز وجل.

هناك تعليق واحد:

  1. مقال رائع جداً عن كيفية التعامل مع المراهقين..
    لا يفوتكم ⬇⬇
    https://noslih.com/article/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%84+%D9%85%D8%B9+%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%82%D9%8A%D9%86+..+%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%87%D9%85+%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%8B%D8%A7

    ردحذف