مراجعة مادة العقيدة + مادة العقيدة 3


مراجعة هامة لمادة العقيدة
إعداد الدكتور راجح السباتين / جامعة طيبة / كلية العلوم والآداب بالعُلا
إن أصول العقيدة التي أمرنا الله باعتقادها هي التي حددها الرسول، صلّى الله عليه وسلم، في حديث جبريل المشهور بقوله: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، رسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى"
معنى الإيمان
1. الإيمان في اللغة: التصديق الجازم، سواء تبع ذلك عملٌ أم لا، ومحلُّه القلب.
2. الإيمان في الاصطلاح: (التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان). والإيمان عُرف بمعنى الإسلام وهذا قول النبي، صلّى الله عليه وسلم "... فأيُّ الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان ....".
ولمّا كان الإسلام هو الإيمان في هذا الحديث الشريف، والقرآن هو الأصل الجامع للإسلام، فالقرآن بَيَّنَ لنا أن الإسلام له شقَّان أساسيان هما: العقيدة والتي عبَّرَ عنها القرآن الكريم (بالإيمان)، والشريعة وقد عبر عنها (بالعمل)، ومن ذلك قوله تعالى: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جناتُ الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلا".
أركان العقيدة
إن أركان الإيمان في نظر الإسلام كُلٌّ لا يتجزأ، وكلُّ مَنْ كفر بواحدة منها أو بجزئية ممن لوازمها مما ثبت في القرآن صراحة أو في السنة، فقد حبط عمله ولا يُقبلُ منه إيمانه بباقي الأركان، وذلك لأنها سلسلةٌ مترابطة الحلقات، ولأن الإسلام كله بناء متشابك الأجزاء، ينهدم أو يختل إذا انهدم أحد أركانه في ذهن إنسانٍ ما أو عند مجتمعٍ منحرفٍ عن حقيقة الإسلام كبعض الفرق الضالة.
وهذه الأركان هي:
أولاً: الإيمان بالله وصفاته وأسمائه. ويُطلق على ما يتعلق بذات الله من مسائل اسم الإلهيات.
ثانياً: الإيمان برسل الله أجمعين وملائكته، وكتبه وما جاء فيها من تشريعات وتكاليف. ويطلقُ على ما يتعلق برسل الله من مسائل اسم النبوات.
ثالثاً: الإيمان بالبعث والحساب والجزاء والجنة والنار والقدر ...، ويُطلقُ على المسائل المتصلة بها اسم السمعيات أو الغيبيات.
الفرق بين العقيدة والتوحيد
1. يجتمعان في أن كلاً منهما يثبت الحق بدليله.
2. إنّ العقيدة أعمُّ من جهة موضوعها من التوحيد. فإن كان التوحيد يقرر الحق بدليله فقط، فإنَّ العقيدة تقرره، وترد الشبهات، وتبين ما يقدح في الأدلة الخلافية، وتناقش الديانات والفَرَقَ.
3. أن الإيمان بالكتب والرسل والملائكة واليوم الآخر والإيمان بالقدر تدخل في إطار العقيدة بالمطابقة، وفي التوحيد بالاستلزام.
الإيمان يعني الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والعمل بالأركان. وهنا نذكِّرُ بأنّ الاختلاف الذي وقع بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صِوَريٌّ. ونزاعٌ لفظيٌ، لا يترتب عليه فساد اعتقاد إذ لا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، أعني بالقول: التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يُعنَي به عن إطلاق قولهم: (الإيمان قول وعمل).
ويترتب على هذا كله ما يلي من الحقائق التي اتفق عليها الجميع:
1. لا يُعَدُّ من أقر بلسانه ظاهراً وكذب بقلبه داخلاً في الإيمان بل منافقاً.
2. إنّ المعرفة بالقلب وحده دون الإقرار باللسان لا تكفي في الإيمان.
3. اتفق أهل السنة على أن الذي يطلبه الله من المؤمن القول والعمل وهما: التصديق القلبي والإقرار اللساني.
4. إن العبد لو صدق بقلبه وأقر بلسانه وامتنع عن العمل بجوارحه فإنه عند الجميع يكون عاصياً لله ورسوله ومستحقاً للعقاب من الله تعالى.
5. أجمع العلماءُ على أنَّ مرتكب الكبيرة لا يُعَدُّ كافراً، ولو مات قبل التوبة، ما دام مصدقاً بالقلب مقراً باللسان.
6. اتفقوا على أن ما ذكر من تعريف الإيمان بالقول والتصديق والعمل إنما هو بالنظر إلى حقيقة ما عند الله تعالى .... لأننا لم نُؤمر بشق القلوب لمعرفة ما فيها.
فالعلم والعمل أمران متلازمان، إن صحَّ الأول صحَّ الثاني والعكس صحيح، والعلم بلا تطبيقٍ لا أثر له ولا مفعول. والعلم والعمل يقودان إلى الإيمان ويرسخان جذوره، فالإيمان الصادق ليس مجرد إدراك ذهني أو تصديق قلبي غير متبوع بأثر عملي في الحياة، بل هو علم واعتماد وعملٌ نتيجته إيمان يقيني.
الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان
لقد سبقت الإشارة إلى حديث جبريل حين جاء إلى النبي، صلّى الله عليه وسلم، على صورة رجلٍ أعرابيٍ وسأل النبي، صلّى الله عليه وسلم فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً. وسأله عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. وسأله عن الإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ثم قال، صلّى الله عليه وسلم: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
ومن هذا الحديث نتوصل إلى الحقائق التالية:
1. الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان.
2. الدين، الناس فيه ثلاث درجات هي: مسلم ثم مؤمن ثم محسن.
3. لا يحصل المسلم على الدرجة الثانية أو الثالثة إلا إذا حصل على الأولى وهي الإسلام، ثمّ درجة الإيمان ثمَّ درجة الإحسان.
4. المؤمن أخصُّ من المسلم، والمحسن أخصُّ من المؤمن لذا يمكننا القول: إنَّ كل مؤمنٍ مسلمٌ وكل محسنٍ مؤمنٌ، وليس كل مسلم مؤمناً، ولا كل مؤمن محسناً، تماماً كما أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
5. وأما أفضل جواب عن الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان فهو إجابة النبي، صلّى الله عليه وسلم، على أسئلة جبريل الآنفة الذكر في هذا المقام. وإن كان هناك فرق فالفرق يكون صورياً وذلك لوجود علاقة قوية بين هذه المفاهيم الثلاثة، حيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر أو النظر لأحدهما بمعزل عن الآخر فالارتباط والعلاقة بين الثلاثة واضح من خلال قولنا التالي:
1. لا إيمان لِمَنْ لا إسلام له، إذ لا يخلو المؤمن من إسلامٍ، به يتحقق إيمانه.
2. لا إسلام لِمَنْ لا إيمان له، إذ لا يخلو المسلم من إيمانٍ، به يصح إسلامه.
ملحوظةٌ هامّةٌ: إنّ ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية تدلُّ دلالةً واضحةً على أنّ الإيمان يزيد وينقص؛ فمن الآيات القرآنية الدالة قال تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، وقال أيضاً: " إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" وقال أيضاً:" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ".
ومن الأحاديث الدالة على ذلك قوله، صلّى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". وقال أيضاً: "إذا زنا العبد نُزِعَ منه الإيمان، فإذا تاب أعيد إليه" وأيضاً قوله: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً".
ومن أقوال الصحابة في هذا الأمر قول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لأصحابه: "هلمُّوا نزدد إيماناً" فيذكرون الله تعالى. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: "اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً".
وليس المراد بالزيادة والنقصان زيادة أصل الإيمان أو نقصان أصله، فالمؤمنون كلهم سواء في أصل الإيمان، يعني في أصل التصديق، وإنما المقصود الزيادة أو النقصان في درجات الإيمان، ومستوياته، كالعقل مثلاً، فالناس كلهم متساوون في كونهم عقلاء غير مجانين، لكن مع ذلك، فإن بعضهم أعقل من بعض.
وسيلة القرآن الكريم في بناء العقيدة في النفس الإنسانية
لقد أقام القرآن الكريم بناء العقيدة في النفس الإنسانية على أساسين هما الفطرة والعقل.
أ. الفطرة: هي الإحساس الذي خلقه الله في النفس الإنسانية بوجود الله تعالى والحاجة إليه.
ب. العقل: فإن القرآن الكريم يولّدُ لدى الإنسان ملكة التدبّر (التفكير) لما حوله ويدعو العقل إلى النظر والتأمل في مظاهر عظمة الله تعالى: وذلك عن طريقتين:
أولاً: النظر في الكون، فنصوص القرآن الكريم تبين أن في الكون حشداً هائلاً من الظواهر التي تدل على الله وتطلب إلى العقل الإنساني أن ينظر في هذه الظواهر وهو يتفكر فيها حتى يصل إلى خالقه سبحانه وتعالى.
ثانياً: النظر في النفس، لقد دعا الله تعالى الإنسان إلى التفكير في النفس الإنسانية وكيفية خلقها فالتناسق الذي نراه موجوداً في كل مخلوق يدل على الإبداع الإلهي.
الأدلة النقلية على وحدانية الله تعالى
أ. قال تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وتدل هذه الآية على أنه لا توجد آلهة تشارك الله في خلق الكون وذلك لأنّ وجود الآلهة المتعددة يؤدي إلى فساد الكون كله؛ وذلك راجعٌ إلى اختلاف إرادة كلٍ منهما عن الآخر وبالتالي إما مخالفته وقهره بالقوة. وإما بالاضطرار لمساعدته والرضوخ له بسبب العجز وعدم القدرة عليه.
ب. قال تعالى: "ما اتخذ الله مِن ولدٍ وما كان معه مِن إلهٍ، إذاً لذهبَ كل إله بما خلق ولعلا بعضُهم على بعض". ومعنى هذه الآية نفي وجود آلهةٍ متعددةٍ لأنه لو كان مع الله إله خالق آخر، لجمع كلُّ خالقٍ مخلوقاته وتصرَّف بها كما يشاء تصرُّفاً مستقلاً ممّا يؤدي إلى حدوث خلاف ونزاع بين الآلهة المتعددة وبالتالي علو بعضهم على بعض وتغلُّبِ القوي على الضعيف، وهذا الأضعف لا يستحق أن يكون إلهاً.
ملاحظة: بماأن هذه الأدلة النقلية تخاطب العقل الإنساني فهي ألة نقلية وعقلية.
حكم مرتكب الكبيرة: الناس الذين يرتكبون الكبائر صنفان:
1. الصنف الذي يعمل الكبيرة وهو معتقِدٌ حرمتها وهو على حالتين:
أ. إن تاب قبل أن يموت توبةً نصوحةً إلى الله أو وقعت عليه العقوبة الدنيوية الخاصة بالكبيرة، فإن الله يغفر له ذنبه ويدخله الجنة دون عقاب.
ب. إن مات من غير توبة فإنه يُعذَّبُ في النار حسب معصيته، ثم يدخل الجنة، فهو لا يخلد في النار.
2. الصنف الذي يعمل الكبيرة وهو مَستحِلٌّ لها غير مؤمن بحرمتها، فإنه إن مات وهو على هذه الحال مات كافراً وخلد في النار.
أثَرُ اقتراف المعاصي على الإيمان
1. إن فعل المعاصي يؤثر على الإيمان ويؤدي إلى نقصه.
2. إن الإكثار من اقتراف المعاصي قد يؤدي إلى الوقوع في الكفر والرّدة وذلك:
أ. بإنكار بعض ما جاء به الرسول، صلّى الله عليه وسلم، لتدبير مقتضيات الهوى والشهوة.
ب. ولأن إتباع الشهوات واقتراف الذنوب والمعاصي يميت القلب، إذا كان كثيراً، فيغدو العاصي يسوِّغ لنفسه كل ما يفعله حتى يوقعه ذلك في استحلال المعاصي فيؤدي بصاحبه إلى الكفر.
‏ توحيد الربوبية
توحيد الربوبية؛ هو الإقرار بأنَّ الله وحده هو الخالق للعالم، وهو المُدَبّر، المحيي، المميت، وهو الرزاق، ذو القوة المتين‏.‏
والإقرار بهذا النوع مركوز في الفطر، لا يكاد ينازع فيه أحد من الأمم‏:‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ‏}‏ ‏.‏ وهذا في القرآن كثير؛ يذكر الله عن المشركين أنهم يعترفون لله الربوبيّة والانفراد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة‏.‏ ولم ينكر توحيد الربويية ويجحد الرب إلا شواذ من المجموعة البشرية، تظاهروا بإنكار الرب مع اعترافهم به في باطن أنفسهم وقرارة قلوبهم. وإنكارهم له إنما هو من باب المكابرة.
لمَّا كان لا بدّ من جواب على هذه الحقيقة، اضطرب هؤلاء المنكرون لوجود الخالق في أجوبتهم‏:‏ فتارة يقولون‏:‏ هذا العالم وُجِدَ نتيجةً للطبيعة، التي هي عبارة عن ذات الأشياء من النبات والحيوان والجمادات؛ فهذه الكائنات عندهم هي الطبيعة، وهي التي أوجدت نفسها‏!‏‏!‏ أو يقولون‏:‏ هي عبارة عن صفات الأشياء وخصائصها من حرارةٍ وبرودةٍ ورطوبةٍ ويبوسةٍ، وهذه القابليات من حركةٍ وسكونٍ ونموٍ وتزاوجٍ وتوالدٍ؛ هذه الصفات وهذه القابليات هي الطبيعة بزعمهم، وهي التي أوجدت الأشياء‏!‏‏!‏
وهذا قول باطل على كلا الاعتبارين؛ لأن الطبيعة بالاعتبار الأول على حد قولهم تكون خالقةً ومخلوقةً؛ فالأرضُ خلقت الأرض، والسماءُ خلقت السماءَ‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا‏!‏ وهذا مستحيل‏!‏ وإذا كان صدور الخلق عن الطبيعة بهذا الاعتبار مستحيلاً؛ فاستحالته بالاعتبار الثاني أشد استحالةً؛ لأنه إذا عجزت ذاتُ الشيء عن خلقه؛ فعجز صفته من باب أولى؛ لأن وجود الصفة مرتبط بالموصوف الذي تقوم به، فكيف تخلقه وهي مُفتقرةٌ إليه‏؟‏‏!‏ وإذ ثبت بالبرهان حدوث الموصوف؛ لزم حدوث الصفة‏.‏ وأيضا؛ قالطبيعة لا شعور لها؛ فهي آلة محضة؛ فكيف تصدرُ عنها الأفعالُ العظيمة التي هي في غاية الإبداع والإتقان، وفي نهاية الحكمة، وفي غاية الارتباط‏.‏
ومن هؤلاء الملاحدة من يقول‏:‏ إن هذه الكائنات تنشأ عن طريق المصادفة بمعنى أن تجميع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة يؤدي إلى ظهور الحياة بلا تدبير من خالق مدبر ولا حكمة‏!‏‏!‏ وهذا قول باطل تردّه العقول والفطر؛ فإنك إذا نظرت إلى هذا الكون المنظم بأفلاكه وأرضه وسمائه وسير المخلوقات فيه بهذه الدقة والتنظيم العجيب؛ تبين لك أنه لا يمكن أن يصدر إلا عن خالق حكيم‏.‏
توحيد الألوهية
توحيد الألوهية هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة‏.‏
فالألوهية معناها العبادة، والإله معناه المعبود، ولهذا يسمى هذا النوع من التوحيد توحيد العبادة‏.‏ وأما معنى العبادة شرعا؛ فقد اختلفت عبارات العلماء في ذلك مع اتفاقهم على المعنى‏:‏
حيث عرفها بعضهم‏:‏ بأنها كمال الحب مع كمال ‏ الخضوع‏.‏ وعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة‏.‏
وهذا التعريف أدق وأشمل؛ فالدّينُ كله داخل في العبادة. فالعبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، وهي تتضمن ثلاثة أركان هي‏:‏ المحبة والرجاء والخوف، ولا بد من اجتماعها؛ فمن تعلَّقَ بواحدٍ منها فقط؛ لم يكن عابداً لله تمام العبادة فيجب صرف العبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له؛ فمن صرف منها شيئا لغير الله؛ كمن دعا غير الله، أو ذبح أو نذر لغير الله، أو استعان أو استغاث بميّتٍ أو غائبٍ أو بحيٍ حاضرٍ فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فقد أشرك الشرك الأكبر وأذنب الذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة، سواء صرف هذا النوع من العبادة لصنمٍ أو لشجرٍ أو لحجرٍ أو لنبيٍّ من الأنبياء أو ولي من الأولياء حي أو ميت؛ كما يفعل اليوم عند الأضرحة المبنية على القبور؛ فإن الله لا يرضى أن يُشرَكَ معه في عبادته أحد؛ لا مَلَكٌ مقرَّبٌ ولا نبي مرسَلٌ ولا ولي ولا غيرهم‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}‏ ‏.‏
والذي دعت إليه الرسل من النوعين هو توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية يقر به جمهور الأمم، ولم ينكره إلا شواذ من الخليقة؛ أنكروه في الظاهر فقط، والإقرار به وحده لا يكفي؛ فقد أقر به إبليس‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏، وأقر به المشركون الذين بُعِثَ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما دلت على ذلك الآيات البينات؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ فمن أقر بتوحيد الربوبية فقط؛ لم يكن مسلماً، ولم يُحَرَّم دمُه ولا ماله، حتى يقرَّ بتوحيد الألوهية؛ فلا يعبد إلا الله‏.‏
وبهذا يتبين بطلان ما يزعمه بعض علماء الكلام والصوفية من أنّ التوحيد المطلوب من العباد هو الإقرار بأن الله هو الخالق المدبر، ومن أقر بذلك؛ صار عندهم مسلماً، ولهذا يعرفون التوحيد في الكتب التي ألفّوها في العقائد بما ينطبق على توحيد الربوبية فقط؛ حيث يقولون مثلا‏:‏ التوحيد هو الإقرار بوجود الله وأنه الخالق الرازق‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏!‏‏!‏ ثم يوردون أدلة توحيد الربوبية‏.‏
أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الإلوهيّة
1- أمره سبحانه بعبادته وترك عبادة ما سواه؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}
2- ومنها إخباره سبحانه أنه خلق الخلق لعبادته؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏.‏
3- ومنها إخباره أنه أرسل جميع الرسل بالدعوة إلى عبادته والنهي عن عبادة ما سواه؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏.‏
4- ومنها الاستدلال على توحيد الإلهية بانفراده بالربوبية والخلق والتدبير؛ كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}
5- ومنها الاستدلال على وجوب عبادته سبحانه بانفراده بصفات الكمال وانتفاء ذلك عن آلهة المشركين؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}
7- ومنها تسفيه المشركين الذين يعبدون غير الله
8- ومنها بيان عاقبة المشركين الذين يعبدون غير الله، وبيان مآلهم مع من عبدوهم، حيث تتبرأ منهم تلك المعبودات في أحرج المواقف
9- ومنها رده سبحانه على المشركين في اتخاذهم الوسائط بينهم وبين الله بأن الشفاعة ملك له سبحانه؛ لا تطلب إلا منه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، بعد رضاه عن المشفوع له؛ قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ‏}‏ فبين سبحانه في هذه الآيات أن الشفاعة ملكه وحده، لا تطلب إلا منه، ولا تحصل إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له‏.‏
10- ومنها أنه بَيَّنَ سبحانه أنَّ هؤلاء المعبودين من دونه لا يحصل منهم نفع لمن عبدهم من جميع الوجوه، ومَنْ هذا شأنه لا يصلح للعبادة
حدوث الشرك في توحيد الألوهية
مطلوب من المسلم بعدما يعرف الحق أن يعرف ما يضاده من الباطل ليجتنبه فالشرك هو صرفُ شيءٍ من أنواع العبادة لغير الله؛ كالدعاء والذبح والنذر والاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله‏.‏ والتوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة‏.‏ وهو أصيل في بني آدم، والشرك طارئ عليه؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ‏}
خطر الشرك ووجوب الحذر منه بتجنُّبِ أسبابه
الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا مغفرة لمن لم يتب منه، مع أنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وذلك يوجب للعبد شدة الحذر وشدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه، ويحمله على معرفته لِتَوَقّيه، لأنه أقبحُ القبيح وأظلمُ الظلم‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ، وذلك لأنه إنتقاص لله عز وجل، ومساواة لغيره به؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ؛ لأن الشرك مناقض للمقصود بالخلق والأمر من كل وجهٍ بالله عز وجل؛ فقد شَبَّهَ المخلوق بالخالق، وأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات عن جميع المخلوقات‏.‏
وقد حَذَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك، وسَدَّ كلَّ الطرق التي تفضي إليه:
أهم الوسائل القولية والفعلية التي نهى عنها، رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنها تفضي إلى الشرك‏:‏
1- نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن التلفظ بالألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين خلقه؛ مثل‏:‏ ما شاء الله وشئتَ، لولا الله وأنتَ‏.‏‏.‏‏.‏ وأمر بأن يقال بدل ذلك‏:‏ ما شاء الله ثم شئتَ؛ لأن الواو تقتضي التسوية، وثم تقتضي الترتيب، وهذه التسوية في اللفظ شرك أصغر، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر‏.‏
2- نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيم القبور بالبناء عليها وإسراجها وتجصيصها والكتابة عليها‏.‏
3- نهى عن اتخاذ القبور مساجد للصلاة عندها؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها‏.‏
4- نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لما في ذلك من التشبه بالذين يسجدون لها في هذه الأوقات‏.‏
5- نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة؛ إلا إلى المساجد الثلاثة‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى‏.‏
6- ونهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه، فقال‏:‏ ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله‏)‏ ‏.‏ والإطراء‏:‏ هو المبالغة في المدح‏.‏
7- ونهى صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر إذا كان في مكانٍ يُعبد فيه صنم أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية‏.‏
8- الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيمه ومدحه، وغيره من باب أولى؛ لأن ذلك يؤدي إلى إشراك المخلوقين في حق الخالق سبحانه وتعالى‏.‏
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله‏)‏ ‏.‏  والإطراء هو مجاوزة الحد في مدحه؛ أي‏:‏ لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام حتى ادعوا فيه الألوهية‏.‏ ‏"‏إنما أنا عبد، فقولوا‏:‏ عبد الله ورسوله‏"‏؛ أي‏:‏ صفوني بذلك ولا تزيدوا عليه.
ونهى عن التمادح وشدد فيه؛ كقوله لمن مدح إنسانا‏:‏ ‏(‏ويلك‏َ!‏ قطعتَ عنقَ صاحبك‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إذا لقيتم المدَّاحين؛ فاحثوا في وجوههم التراب‏)‏ ‏.‏ وذلك لما يُخافُ على المادح من الغلو، وعلى الممدوح من الإعجاب، وكلاهما يؤثران على العقيدة‏.‏
9- الغلو في الصالحين‏:‏ إذا كان الغلو في حقّه، صلى الله عليه وسلم، ممنوعاً؛ فالغلو في حق غيره من الصالحين من باب أولى‏.‏
والمراد بالغلو في الصالحين‏:‏ رفعهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إلى ما لا يجوز إلاّ لله؛ من الاستغاثة بهم في الشدائد، والطواف بقبورهم، والتبرك بتربتهم، وذبح القرابين لأضرحتهم، وطلب المدد منهم‏.‏
وقد أدخل الشيطان الشرك على قوم نوح من باب الغلو في الصالحين، فيجب الحذر من ذلك، حتى ولو كان القصد حسنا‏.‏
يجب على المسلم بعدما منَّ الله عليه بمعرفة هذه العقيدة والتمسك بها أن يدعو الناس إليها لإخراجهم بها من الظلمات إلى النور، والدعوة إلى العقيدة الإسلامية هي فاتحة دعوة الرسل جميعا؛ فلم يكونوا يبدءون بشيء قبلها؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ وكل رسول كان يقول لقومه أول ما يدعوهم‏:‏ ‏{‏اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}.
فيجب على كل من عرف هذه العقيدة وعمل بها ألا يقتصر على نفسه، بل يدعو الناس إليها بالحكمة والموعظة الحسنة؛ كما هو سبيل المرسَلين وأتباعهم ... إنّ الدعوة إلى هذه العقيدة هي الأساس والمنطلق؛ فلا يُدعَى إلى شيء قبلها من فعل الواجبات وترك المحرمات، حتى تقوم هذه العقيدة وتتحقق؛ لأنها هي الأساس المصحح لجميع الأعمال، وبدونها لا تصح الأعمال ولا تقبل ولا يثاب عليها
وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة بعد البعث يدعو الناس إلى تصحيح العقيدة بعبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام قبل أن يأمر الناس بالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وترك المحرمات من الربا والزنى والخمر والميسر‏.‏
فيجب على الدعاة إلى الله أن يركزوا على جانب العقيدة أكثر من غيرها، ويقبلوا على دراستها وتفهمها أولا، ثم يعلموها لغيرهم، ويدعوا إليها من انحرف عنها أو أخل بها‏.‏
نقض شبهات المشركين التي يتعلقون بها في تبرير شركهم في توحيد الإلهية
أولا‏:‏ من الشبهاتٍ شبهة تكاد تكون مشتركة بين طوائف المشركين في مختلف الأمم، شبهة الاحتجاج بما كان عليه الآباء والأجداد، وأنهم ورثوا هذه العقيدة خلفاً عن سَلَفٍ، كما قال الله تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ‏}‏ وهذه حجةٌ يلجأ إليها من يعجز عن إقامة الدليل على دعواه، وهي حجةٌ داحضةٌ، لا يقام لها وزن في سوق المناظرة؛ فإن هؤلاء الآباء الذين قلدوهم ليسوا على هدى، ومن كان كذلك؛ لا تجوز متابعته والاقتداء به‏.‏
قال تعالى ردّاً عليهم‏:‏ ‏‏{‏أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ‏}‏ وإنما يكون الاقتداء بالآباء محموداً إذا كانوا على حق‏
ثانيا‏: ومن الشبهات التي يُدلي بها عباد القبور اليوم ظُنّهم أنّ مجرد النطق بلا إله إلا الله يكفي لدخول الجنة، ولو فعل الإنسان ما فعل؛ فإنه لا يكفر وهو يقول‏:‏ لا إله إلا الله، متمسكين بظواهر الأحاديث التي ورد فيها أن من نطق بالشهادتين حُرِّمَ على النار‏.‏
والجواب عن هذه الشبهة‏:‏ أن هذه الأحاديث ليست على إطلاقها، وإنما هي مُقيّدة بأحاديث أخرى جاء فيها أنه لا بد لمن قال‏:‏ لا إله إلا الله‏:‏ أن يعتقد معناها بقلبه ويعمل بمقتضاها فيكفر بما يُعبدُ مِن دون الله‏.‏ كما في حديث عتبان‏:‏ ‏(‏فإن الله حَرَّمَ على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله‏)‏‏.‏ وإلا؛ فالمنافقون يقولون‏:‏ لا إله إلا الله بألسنتهم، وهم في الدرك الأسفل من النار، ولم ينفعهم النطق بلا إله إلا الله؛ لأنهم لا يعتقدون ما دلت عليه بقلوبهم‏.‏
ثالثاً: ومن الشبهات التي تعلقوا بها قضية الشفاعة؛ حيث يقولون‏:‏ نحن لا نريد من الأولياء والصالحين قضاء الحاجات من دون الله، ولكن نريد منهم أن يشفعوا لنا عند الله، لأنهم أهل صلاح ومكانة عند الله؛ فنحن نريد بجاههم وشفاعتهم‏.‏
والجواب عن هذه الشبهة‏:‏ أنّ هذا هو عين ما قاله المشركون من قبل في تبرير ما هم عليه، وقد كَفَّرَهُم الله وسمّاهم مشركين؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ‏}‏.
والشفاعة حق، ولكنها مُلكٌ لله وحده؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا‏}‏ ؛ فهي تُطلَبُ من الله لا من الأموات؛ لأن الله لم يرخص في طلب الشفاعة من الملائكة ولا من الأنبياء ولا غيرهم؛ لأنها ملكهُ سبحانه، وتُطلَبُ منه؛ ليأذن للشافع أن يشفع، وليس الأمر كما هو عند المخلوقين من تَقَدُّمِ الشفعاء لديهم بدون إذنهم، ويضطرون إلى قبول الشفاعة لحاجتهم إليهم، وإن لم يرضوا عن المشفوع فيه؛ لأنهم يحتاجون إلى الأعوان والوزراء، أما الله سبحانه؛ فلا يشفع أحد إلا بإذنه ورضاه عن المشفوع فيه؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى‏}‏
رابعاً: ومن شبهات هؤلاء قولهم‏:‏ إنّ الأولياء والصالحين لهم مكانة عند الله، ونحن نسأل الله بجاههم ومكانتهم‏.‏
والجواب عن هذه الشبهة‏:‏ أنّ المؤمنين كلهم أولياء الله، ولكنَّ الجزم بشخص معين أنه وليٌّ لله يحتاج إلى دليل من الكتاب والسنة، ومن ثبت ولايته بالكتاب والسنة؛ لم يَجُزْ لنا الغلو فيه والتبرك به؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، وقد أمرنا الله بدعائه مباشرةً دون اتخاذ وسائط بيننا وبينه، ولأن هذا هو التعليل الذي علل به المشركون من قبل أنهم اتخذوا هؤلاء شفعاء ووسائط بينهم وبين الله يسألون الله بجاههم وقربهم، فأنكر الله عليهم ذلك‏.‏
بيان أنواع من الشرك الأكبر
الشرك نوعان‏:‏ شرك أكبر وشرك أصغر، والشرك الأكبر ينافي التوحيد ويُخرِجُ من الملة، وله أنواعٌ كثيرةٌ منها‏:‏

1- الشرك في الخوف:
الخوف كما عرّفه العلماء‏:‏ توقُّعَ مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، وهو ثلاثة أقسام‏:‏
الأول‏:‏ خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله من وَثَنٍ أو طاغوتٍ أو ميتٍ أو غائبٍ من جنٍّ أو إنسٍ أن يُصيبه بما يكره وهذا الخوف من أعظم مقامات الدين وأجلها؛ فمن صرفه لغير الله؛ فقد أشرك بالله الشرك الأكبر والعياذ بالله‏.‏
الثاني‏:‏ أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفاً من بعض الناس؛ فهذا مُحَرَّمٌ، وهو شرك أصغر، وهذا هو المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{ا‏لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}‏
الثالث‏:‏ الخوف الطبيعي: وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك؛ فهذا ليس بمذموم
أما النوع الأول الذي هو خوف السر؛ فهو من أعظم أنواع العبادة؛ فيجب إخلاصه لله عز وجل‏.‏ وكذلك النوع الثاني؛ فهو من حقوق العبادة ومكملاتها‏.‏
2- الشرك في المحبة:
قلنا فيما سبق‏:‏ إن الخوف من الله تعالى لا بد أن يكون مقرونا بمحبته سبحانه؛ لأن تعبُّدَهُ بالخوف فقط هو أصل دين الخوارج‏.‏
فالمحبة هي أصل دين الإسلام الذي تدور عليه رحاه؛ فبكمال محبة الله يكمل دين الإسلام، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان‏.‏
والمراد بالمحبة هنا‏:‏ محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع وكمال الطاعة وإيثار المحبوب على غيره، فهذه المحبة خالصة لله، لا يجوز أن يشرك معه فيها أحد.
والمحبة المختصة- وهي محبة العبودية- هي المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏
إن محبة الله التي هي محبة العبودية يجب أن تُقَدَّمَ على المحبة التي ليست عبودية، وهي المحبة المشتركة؛ كمحبة الآباء والأولاد والأزواج والأموال؛ لأن الله توعد من قدم هذه المحبة على محبة الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ؛ فَتَوعَّدَ سبحانه مَن قدَّم هذه المحبوبات الثمان على محبة الله ورسوله والأعمال التى يحبها، ولم يتوعد على مجرد حب هذه الأشياء؛ لأن هذا شيء جبل عليه الإنسان، ليس اختيارياً، وإنما توعَّد من قدَّم محبتها على محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله ورسوله، فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده‏.
3- الشرك في التوكل:
التوكل في اللغة معناه‏:‏ الاعتماد والتفويض، وهو من عمل القلب، يقال‏:‏ تَوكَّلَ في الأمر‏:‏ إذا ضمن القيام به، ووكَّلتُ أمري إلى فلان‏:‏ إذا اعتمدت عليه‏.‏
والتوكل على الله من أعظم أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ والتوكل على غير الله تعالى أقسام‏:‏
أحدها‏:‏ التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؛ كالتوكل على الأموات والغائبين ونحوهم من الطواغيت في تحقيق المطالب من النصر والحفظ والرزق أو الشفاعة؛ فهذا شركُ أكبر‏.‏
الثاني‏:‏ التوكل في الأسباب الظاهرة؛ كمن يتوكّل على سلطانٍ أو أميرٍ أو أي شخصٍ حيٍ قادرٍ فيما أقدره الله من عطاء أو دفع أذى ونحو ذلك؛ فهذا شرك أصغر؛ لأنه اعتماد على الشخص‏.‏
الثالث‏:‏ التوكل الذي هو إنابة الإنسان مَنْ يقوم بعملٍ عنه مما يقدر عليه كبيع وشراء؛ فهذا جائز، ولكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وُكِّلَ إليه فيه، بل يتوكل على الله في تيسير أموره التي يطلبها بنفسه أو نائبه؛ لأن توكيل الشخص في تحصيل الأمور الجائزة من جملة الأسباب، والأسباب لا يُعتمد عليها، وإنما يُعتمد على الله سبحانه الذي هو مسبب الأسباب وموجد السبب والمسبب‏.‏
والتوكُّلُ على الله في دفع المضار وتحصيل الأرزاق وما لا يقدر عليه إلا هو مِنْ أعظم أنواع العبادة، والتوكل على غيره في ذلك شرك أكبر؛ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ؛ فأمر الله سبحانه بالتوكل عليه وحده.
فالتوكل على الله فريضة يجب إخلاصها لله، وهو أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلُّها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة؛ فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل ما سواه؛ صح إخلاصه ومعاملته مع الله‏.‏
والتوكل على الله سبحانه لا ينافي السعي في الأسباب والأخذ بها؛ فإن الله سبحانه وتعالى قَدَّرَ مقدورات مربوطة بأسباب، وقد أمر الله تبارك وتعالى بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل؛ فالأخذ بالأسباب طاعة لله؛ لأن الله أمر بذلك، وهو من عمل الجوارح، والتوكل من عمل القلب، وهو إيمان بالله‏.
4- الشرك في الطاعة:
أن من الشرك طاعة العلماء والأمراء في تحليل ما حَرَّمَ الله أو تحريم ما أحلَّ الله‏:‏
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏
وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي، فقال يا رسول الله‏!‏ لسنا نعبدهم. قال: أليس يُحِلُّون لكم ما حرَّم الله فتحلّونه، ويحرّمون ما أحلّ الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبى صلّى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم‏)‏ ‏.‏ رواه الترمذي وغيره‏.‏
وقد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم فيه اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله بأنه ليس معناه الركوع والسجود لهم، وإنما معناه طاعتهم في تغيير أحكام الله وتبديل شريعته بتحليلهم الحرام، وتحريمهم الحلال، وأن ذلك يُعتبرُ عبادةً لهم من دون الله؛ حيث نصَّبوا أنفسهم شركاء لله في التشريع، فمن أطاعهم في ذلك؛ فقد اتخذهم شركاء لله في التشريع والتحليل والتحريم، وهذا من الشرك الأكبر، لقوله تعالى في الآية‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏
ومن هذا طاعة الحكام والرؤساء في تحكيم القوانين الوضعية المخالفة للأحكام الشرعية في تحليل الحرام؛ كإباحة الربا والزنى وشرب الخمر ومساواة المرأة للرجل في الميراث وإباحة السفور والاختلاط، أو تحريم الحلال؛ كمنع تعدد الزوجات، وما أشبه ذلك من تغيير أحكام الله واستبدالها بالقوانين البشريّة؛ فمن وافقهم على ذلك ورضي به واستحسنه، فهو مشرك كافر والعياذ بالله‏.‏
أمور أخرى تنافي التوحيد
هناك أمورٌ تنافي التوحيد وتقتضي الردة عن الإسلام؛ منها‏ سوء الظن بالله، ومنها الاستهزاء بشيءٍ فيه ذكر الله عز وجل:
1- سوءُ الظنّ بالله:
فسوء الظن بالله خطير؛ لأنَّ حسن الظن بالله من واجبات التوحيد، وسوء الظن به ينافي التوحيد‏.‏ وقد وصف الله المنافقين أنهم يطنون به غير الحق
وأكثر الناس يظنون بالله غيرَ الحق ظنَّ السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا مَنْ عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حكمته وحمده‏.‏
-       فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏
-       ومن جَوَّزَ عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏
-   ومن ظَّن أنه لا يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دارٍ؛ يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسوله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين؛ فقد ظن به ظن السوء‏.‏
2- الاستهزاء بشيء فيه ذِكُر الله:
يجب على المسلم احترام كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، وأن يعرف حكم من استهزأ بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول؛ ليكون المسلم على حذرٍ من ذلك؛ فإن من استهزأ بذكر الله أو القرآن أو الرسول أو بشيء من السنة؛ فقد كفر بالله عز وجل؛ لاستخفافه بالربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد، وكفر بإجماع أهل العلم‏.‏
أمور يفعلها بعض الناس وهي من الشرك أو من وسائله
هناك أشياء مترددة بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر بحسب ما يقوم بقلب فاعلها وما يصدر عنه من الأفعال والأقوال، ويقع فيها بعض الناس، قد تتنافى مع العقيدة أو تُعَكِّرُ صفوها، وهي تُمارَسُ على المستوى العام، ويقع فيها بعض العوام تأثراً بالدجالين والمحتالين والمشعوذين، وقد حذَّر منها النبيُ، صلّى الله عليه وسلم، ومن هذه الأمور‏:‏
 1- لبس الحلقة والخيط ونحوهما بقصد رفع البلاء أو دفعه:
وذلك من فعل الجاهلية، وهو من الشرك الأصغر، وقد يترقى إلى درجة الشرك الأكبر بحسب ما يقوم بقلب لابسها من الاعتقاد بها‏.‏
فعن عمران بن حصين رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يدهَ حلقةٌ من صفر، فقال ما هذا‏؟‏ قال من الواهنة فقال انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهناً؛ فإنك لو مِتَّ وهي عليك؛ ما أفلحَت أبدا‏)‏.
 2- تعليق التمائم: وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها يتقون بها العين، ويتلمحون من اسمها أن يتم الله لهم مقصودهم‏.‏
وقد تكون التمائم من عظام ومن خرز ومن كتابة وغير ذلك، وهذا لا يجوز‏.‏
وقد يكون المعلَّقُ من القرآن؛ فإذا كان من القرآن؛ فقد اختلف العلماء في جوازه وعدم جوازه، والراجح عدم جوازه؛ سداً للذريعة؛ فإنه يُفضي إلى تعليقِ غير القرآن، ولأنه لا مخصِّصَ للنصوص المانعة من تعليق التمائم؛ كحديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الرقى والتمائم والتولة شرك‏)‏ ‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏ وعن عقبة بن عامر مرفوعا‏:‏ ‏(‏من علق تميمة؛ فقد أشرك‏)‏ ‏.‏ وهذه نصوص عامة لا مخصِّصَ لها‏.‏

3- التبرك بالأشجار والأحجار والآثار والبنايات:
والتبرك معناه‏:‏ طلب البركة ورجاؤها واعتقادها في تلك الأشياء‏.‏
وحكمه‏:‏ أنه شرك أكبر؛ لأنه تعلُّقٌ على غير الله سبحانه في حصول البركة، وعُبَّادُ الأوثان إنما كانوا يطلبون البركة منها؛ فالتبرك بقبور الصالحين كالتبرك باللات، والتبرك بالأشجار والأحجار كالتبرك بالعزى ومناة‏.‏
4- السحر: وهو عبارة عَمّا خَفَيَ ولَطُفَ سببُه، وسمِّيَ سحراً لأنه يحصل بأمور خفية لا تُدَركُ بالأبصار، وهو عبارة عن عزائم ورقى وكلام يتكلم به وأدوية وتدخينات، ومنه ما يؤثر في القلوب والأبدان فيمرِّضُ ويقتل ويفرِّقُ بين المرء وزوجه، وتأثيره بإذن الله الكوني القدري‏.‏
وهو عمل شيطاني، كثير منه لا يُتَوصَّلُ إليه إلا بالشرك والتقرب إلى الأرواح الخبيثة بشيء ممّا تحبُ والاستعانة بالتحيل على استخدامها بالإشراك بها، ولهذا يقرنه الشارع بالشرك، وهو داخل في الشرك من ناحيتين:
الأولى‏:‏ ما فيه من استخدام الشياطين والتعلق بهم وربما تقرب إليهم بما يحبونه ليقوموا بخدمته‏.‏
الثانية‏:‏ ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في ذلك، وهذا كفر وضلال
5- الكهانة: وهي ادعاء علم الغيب؛ كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سببٍ هو استراق السمع؛ حيث يسترق الجنيُّ الكلمة من كلام الملائكة، فيلقيها في أذن الكاهن، فيكذب معها مئة كذبة، فيصدِّقُهُ الناس بسبب تلك الكلمة‏.‏
والله هو المتفرد بعلم الغيب؛ فمن ادعى مشاركته في شيء من ذلك بكهانة أو غيرها أو صَدَّقَ مَنْ يّدعي ذلك؛ فقد جعل لله شريكا فيما هو من خصائصه، وهو مُكَذِّبٌ لله ولرسوله‏.‏
وكثير من الكهانة المتعلقة بالشياطين لا تخلو من الشرك والتقرب إلى الوسائط التي يستعان بها على دعوى العلوم الغيبية‏.‏
فالكهانة شرك من جهة دعوى مشاركة الله في علمه الذي اختص به، ومن جهة التقرب إلى غير الله‏.‏
6- التطيُّرُ: وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع والأشخاص وغير ذلك؛ فإذا عزم شخص على أمر من أمور الدين أو الدنيا، فرأى أو سمع ما يكره؛ أَثَّرَ فيه لك أحد أمرين‏:‏ إما الرجوع عما كان عازماً عليه تطيرُّاً وتأثُّراً بما رأى أو سمع، فيعلق قلبه بذلك المكروه، ويؤثّر ذلك على إيمانه، ويُخلُّ بتوحيده وتوكله على الله‏.‏ وإما أن لا يرجع عما عزم عليه، ولكن يبقى في قلبه أثر ذلك التطير من الحزن والألم والهم والوساوس والضعف‏.‏
فيجب على من وجد شيئا من ذلك في نفسه أن يجاهدها على دفعه، ويستعين بالله، ويتوكل عليه، ويمضي في شأنه، ويقول‏:‏ اللهم‏!‏ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك‏.‏
7- التنجيم: وهو كما عرفه بعض المحققين بأنه الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية؛ كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، أو حدوث الأمراض والوفيات، أو السعود والنحوس‏.‏ وهذا ما يسمى بعلم التأثير، وهو على نوعين‏:‏
النوع الأول‏:‏ أن يدّعي المنجم أن الكواكب فاعلةٌ مَختارةٌ، وأن الحوادث تجري بتأثيرها، وهذا كفر بإجماع المسلمين؛ لأنه اعتقاد أن هناك خالق غير الله، وأن أحدا يتصرف في ملكه بغير مشيئته وتقديره سبحانه وتعالى‏.‏
النوع الثاني‏:‏ الاستدلال بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها على حدوث الحوادث، وهذا لا شك في تحريمه؛ لأنه من ادعاء علم الغيب، وهو من السحر أيضا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من اقتبس شعبةً من النجوم؛ فقد اقتبس شعبةً من السحر؛ زاد ما زاد‏)‏‏.
والإخبار عن الحوادث المستقبلية عن طريق الاستدلال بالنجوم من ادعاء علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه؛ فهو ادعاء لمشاركته سبحانه بعلمه الذي انفرد به أو تصديق لمن ادعى ذلك، وهذا ينافي التوحيد؛ لما فيه من هذه الدعوى الباطلة‏.‏
8- الاستسقاء بالأنواء: وهو نسبة المطر إلى طلوع النجم أو غروبه على ما كانت الجاهلية تعتقده من أن طلوع النجم أو سقوطه في المغيب يؤثر في إنزال المطر، فيقولون‏:‏ مطرنا بنوء كذا وكذا‏!‏ وهم يريدون بذلك النجم، ويعبرون عنه بالنوء، وهو طلوع النجم، من ناء ينوء‏:‏ إذا نهض وطلع، فيقولون‏:‏ إذا طلع النجم الفلاني؛ ينزل المطر‏.‏ والمراد بالأنواء عندهم؛ منازل القمر الثمانية والعشرون، في كل ثلاث عشرة ليلة؛ يغرب واحد منها عند طلوع الفجر ويطلع مقابله وتنقضي جميعها عند انقضاء السنة القمرية ... وتزعم العرب في جاهليتها أنه عند طلوع ذلك النجم في الفجر ومغيب مقابله؛ ينزل المطر، ويسمى ذلك الاستسقاء بالأنواء، ومعنى ذلك نسبة السقيا إلى هذه الطوالع، وهذا من اعتقاد الجاهلية الذي جاء الإسلام بإبطاله والنهي عنه؛ لأن نزول المطر وانحباسه يرجع إلى إرادة الله وتقديره وحكمته، وليس لطلوع النجوم تأثير فيه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ‏}.‏

الـــــشـــــرك الأصـــــغـــــر
هذا النوع من الشرك ينقص التوحيد ويخلُّ به. وهناك ألفاظاً تجري على ألسنة الكثير من الناس إما جهلاً أو تساهلاً‏، وهي تدخل تحت مُسمّى الشرك الأصغر وربما تجرُّ إلى الشرك الأكبر ومن هذه الأشياء‏:‏
 1- الحلف بغير الله عز وجل:
وهو شرك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك‏)‏.
وقد كثر من الناس اليوم من يحلف بغير الله؛ كمن يحلف بالأمانة، أو يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو يقول‏:‏ وحياتي، وحياتك يا فلان‏.‏‏.‏‏.‏
2- الشرك في الألفاظ:
ومن الشرك الأصغر الشرك في الألفاظ مثل قول‏:‏ ما شاء اللهُ وشئتَ‏ يا فلان!‏
فقد روى الإمام أحمد والنسائي عن قتيلة‏:‏ (أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ إنكم تشركون؛ تقولون‏:‏ ما شاء الله وشئتَ‏!‏ وتقولون‏:‏ والكعبةِ‏!‏ فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا‏:‏ وربِّ الكعبة، وأن يقولوا‏:‏ ما شاء الله ثمَّ شئتَ‏).‏
وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أنَّ رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلم‏:‏ ما شاء اللهُ وشئتَ‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أجعلتني لله نداً؟‏ قل ما شاء الله وحده‏)‏ ‏.‏
فدل الحديثان وما جاء بمعناهما على منع قول‏:‏ ما شاء الله وشئت‏!‏ وما شابهه من الألفاظ؛ مثل‏:‏ لولا اللهُ وأنتَ، ما لي إلا الله وأنتَ؛ لأن العطف بالواو يقتضي التسوية بين المتعاطفين، وهذا شرك؛ فالواجب أن يعطف بـ ‏"‏ثم‏"‏، فيقال‏:‏ ما شاء الله ثم شئتَ، أو‏:‏ ثمَّ شاء فلان، لولا الله ثم أنت، أو‏:‏ ثم فلان، ما لي إلا الله ثم أنت؛ لأن العطف بـ ‏"‏ثم‏"‏ يقتضي الترتيب والتعقيب، وأن مشيئة العبد تأتي بعد مشيئة الله تعالى لا مساوية لها؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ؛ فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى؛ فالعبد وإن كانت له مشيئة؛ فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا يقدر على أن يشاء شيئا إلا إذا كان الله قد شاءه.
3- الشرك في النيات والمقاصد:
ومن الشرك الأصغر الشرك في النيات والمقاصد وهو ما يسمى بالشرك الخفي؛ كالرياء، وهو نوعان‏:‏
أ- الرياء‏:‏
وهو مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها، فيحمدون صاحبها، والفرق بين الرياء وبين السُّمعة أنَّ الرياء لما يرى من العمل؛ كالصلاة، والسُّمعُة لما يُسمعُ؛ كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك تحدُّثُ الإنسان عن أعماله وإخباره بها.
ب- إرادة الإنسان بعمله الدنيا‏:‏
إرادة الإنسان بعمله الدنيا نوع من أنواع الشرك في النية والقصد قد حَذَّرَ الله منه في كتابه وحذر منه رسوله في سنته، وهو أن يريد الإنسان بالعمل الذي يبتغى به وجه الله مطمعاً من مطامع الدنيا، وهذا شرك ينافي كمال التوحيد ويحبط العمل‏.‏
قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏
4- مسبة الدهر ونحوه:
ومن الأشياء يرتكبها بعض الناس مسبَّةُ الدهر ومسبَّةٌ الريح وما أشبه ذلك من إسناد الذِّم إلى المخلوقات فيما ليس لها فيه تصرف، فيكون هذا الذم في الحقيقة موجَّهاً إلى الله سبحانه؛ لأنه الخالق المتصرف‏.‏ وأما سبُّ هذه المخلوقات؛ ففيه مفاسد‏:‏
منها‏:‏ أنه سب ما ليس أهلا للسب؛ فإنها مخلوقات مسخرة ومدبرة‏.‏
ومنها‏:‏ أن سب هذه الأشياء متضمن للشرك؛ فإنه إنما سبها لظنه أنها تضر وتنفع من دون الله‏.‏
ومنها‏:‏ أن السب إنما يقع على من فعل هذه الأفعال، وهو الله‏.‏
وإذا قال العبد عند هبوب الريح ما أرشده إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم ما تكرهون؛ فقولوا اللهم‏!‏ إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به‏)‏ ؛ فقد لجأ إلى خالق الريح ومدبرها ومصرفها، وهدا هو التوحيد والاعتقاد السليم الذي يخالف اعتقاد أهل الجاهلية‏.‏
5- قول ‏"‏لو‏"‏ في بعض الحالات:
ومن الألفاظ التي لا ينبغي التلفظ بها لأنها تُخِلُّ بالعقيدة، وقد ورد النهي عنها بخصوصها‏:‏ كلمة ‏"‏لو‏"‏ في بعض المقامات‏.‏ وذلك عندما يقع الإنسان في مكروه أو تصيبه مصيبة؛ فإنه لا يقول‏:‏ لو أني فعلت كذا؛ ما حصل علي هذا‏!‏ أو‏:‏ لو أني لم أفعل؛ لم يحصل كذا‏!‏ لما في ذلك من الإشعار بعدم الصبر على ما فات مما لا يمكن استدراكه، ولما يُشِعرُ به اللفظ من عدم الإيمان بالقضاء والقدر، ولما في ذلك من إيلام النفس وتسليط الشيطان على الإنسان بالوساوس والهموم‏.‏
والواجب بعد نزول المصائب التسليم للقدر، والصبر على ما أصاب الإنسان، مع عمل الأسباب الجالبة للخير والواقية من الشر والمكروه بدون تلوم‏.‏
وقول ‏"‏لو‏"‏ بعد نزول المصيبة لا يفيد إلا التحسر والحزن وإيلام النفس والضعف مع تأثيره على العقيدة من حيث إنه يوحي بعدم التسليم للقدر‏.‏
بيان ألفاظ لا يجوز أن تُقال في حق الله تعالى تعظيما لشأنه:
الله جل وعلا عظيم يجب أن يُعَظَّم، وهناك ألفاظ لا يجوز أن تقال في حقه سبحانه تعظيما له، وقد ورد النهي عنها‏:‏ ومن الألفاظ التي لا تقال في حق الله تعالى‏:‏ اللهم اغفر لي إن شئتَ.‏ فطلبُ الحاجة من الله لا يُعَلَّقُ على المشيئة، وإنما يُجزمُ به‏.‏ وفي ‏"‏الصحيحين"‏عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقل أحدكم اللهم‏!‏ اغفر لي إن شئت اللهم‏!‏ ارحمني إن شئت ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له‏)‏.‏
وفي روايةٍ عن الإمام مسلم ‏وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه‏.‏ والنهي عن ذلك كان لأمرين‏:‏
الأول‏.‏ أن الله سبحانه لا مكره له على الفعل، وإنما هو يفعل ما يريد؛ بخلاف العبد؛ فإنه قد يفعل الشيء وهو كاره، ولكن يفعله لخوف أو رجاء من أحد، والله ليس كذلك‏.‏
الثاني‏.‏ أن التعليق على المشيئة يدل على فتور في الطلب وقلة رغبة فيه؛ فإن حصل، وإلا؛ استغنى عنه، وهذا يدل على عدم الافتقار إلى الله‏.
توحيد الأسماء والصفات
توحيد الأسماء والصفات: هو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من صفات الكمال، ونفي مانفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله من صفات النقص؛ على حد قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏.‏
وأولُ مَنْ عُرِف عنه إنكار الصفات بعض مشركي العرب الذين أنزل الله فيهم قوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ‏}‏‏.‏ وسبب نزول هذه الآية أن قريشاً لما سمعت رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يذكر الرحمن؛ أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ‏}‏‏.‏ أما الرسل وأتباعهم - خصوصاً خاتمهم محمدٌ، صلّى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام والذين اتبعوهم بإحسان-؛ فهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، وينكرون على من يخالف هذا المنهج‏.‏
ونصوص الصفات من المحكَم لا من المُتَشَابه، يقرؤها المسلمون ويتدارسونها ويفهمون معناها ولا ينكرون منها شيئاً.‏

وجوب احترام أسماء الله سبحانه وتعالى:
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏.‏
يخبر تعالى أن أسماءه حسنى؛ أي‏:‏ حسان، قد بلغت الغاية في الحسن، فلا أحسن منها؛ لما تدل عليه من صفات الكمال ونعوت الجلال؛ فهي أحسن الأسماء وأكملها‏.‏
وأسماؤه سبحانه توقيفية؛ فلا يجوز لنا أن نسميه إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأسماؤه سبحانه كثيرةٌ لا تُحصَرُ ولا تُحَدُّ بعددٍ، منها ما استأثر الله بعلمه فلا يعلمه مَلَكٌ مُقَّربٌ ولا نبيٌ مُرسَل؛ كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك‏"‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ‏}‏ ؛ أي‏:‏ أعرضوا عنهم واتركوهم؛ فإن الله سيتولى جزاءهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏
ومعنى ‏{‏يلحدون في أسمائه‏}‏ ؛ أي‏:‏ يميلون بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها‏.‏
والإلحاد بأسماء الله أنواع‏، منها ما يلي:‏
1‏.‏ أن يُسمّى بها الأصنام؛ كتسميتهم اللات من الإله، والعُزّى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلها‏.‏
2‏.‏ تسميته بما لا يليق بجلاله؛ كتسمية النصارى له أباً، وتسمية الفلاسفة له موجباً بذاته أو علّةً فاعلة بالطبع‏.‏
3.‏ وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص؛ كقول أخبث اليهود‏:‏ إنه فقير، وانه استراح يوم السبت، وقولهم‏:‏ يد الله مغلولة‏.‏
4‏.‏ تعطيل أسماء الله الحسنى عن معانيها وجحد حقائقها؛ كقول الجهمية وأتباعهم‏:‏ إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، فيطلقون عليه اسم السميع البصير، ويقولون‏:‏ لا سمع له ولا بصر مثلاً، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعاً، وهو يقابل إلحاد المشركين؛ فإن المشركين أعطوا من أسمائه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوا كماله وعطلوا أسماءه وصفاته‏.‏
والواجب إثبات أسمائه وصفاته واعتقاد ما تدل عليه من صفات كماله ونعوت جلاله؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، على حد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏.‏
والواجب احترام أسمائه من أن يُسَمّى بها غيره، وذلك من تحقيق التوحيد‏.‏
1. ومن احترام أسماء الله تعالى المنع من التسمي بأسماء الله تعالى المختصة به، والمنع مما يوهم عدم الاحترام لها؛ كالتكني بأبي الحكم ونحوه‏.‏
2. ومن احترام أسماء الله أن لا يقول الإنسان لمملوكه‏:‏ عبدي وأمتي؛ لما في لك من إيهام المشاركة في الربوبية‏.‏
3. ومن احترام أسماء الله سبحانه أن لا يُرَدَّ مَنْ سأل بالله‏.‏
عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من استعاذ بالله؛ فأعيذوه، ومن سأل بالله؛ فأعطوه‏)‏‏.‏ لأنّ منع مَنْ سأل بالله يدلَّ على عدم إجلال الله، وفي إعطائه دليل على تعظيم الله والتقرب إليه سبحانه‏.‏
4. ومن احترام أسماء الله أن لا يكثر الحلف بها‏.‏
منهج أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته
منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة الذين هم الفرقة الناجية في أسماء الله وصفاته إثباتها كما جاءت في الكتاب والسنة مع اعتقاد ما دَلّتْ عليه وأنها على ظاهرها‏.‏
ولا يلزمُ من إثباتها تشبيهُ الله بخلقه تعالى الله عن ذلك؛ لأنّ صفات الخالق تخصّه وتليق به، وصفات المخلوقين تليق بهم وتخصُّهم، ولا تشابه بين الصفتين؛ كما أنه لا تشابه بين ذات الخالق سبحانه وذات المخلوق‏.‏
ومذهب أهل السنة والجماعة في ذلك ينبني على أسسٍ سليمةٍ وقواعد مستقيمةٍ، وهذه الأسس هي‏:‏
أولاً.‏ أن أسماء الله وصفاته توقيفية؛ بمعنى أنهم لا يثبتون لله إلاّ ما أثبته لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله في سنته من الأسماء والصفات، ولا يثبتون شيئاً بمقتضى عقولهم وتفكيرهم. ولا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه في كتابه أو نفاه عنه رسوله في سنته. لا ينفون عنه بموجب عقولهم وأفكارهم؛ فهم لا يتجاوزون الكتاب والسنة في إثبات ولا نفي، وما لم يصرح الكتاب والسنة بنفيه ولا إثباته - كالعرض والجسم والجوهر - فهم يتوقفون فيه بناءً على هذا الأصل العظيم‏.‏
ثانياً‏.‏ أن ما وصَفَ اللهُ به نفسه أو وصفه به رسولهُ، صلّى الله عليه وسلم؛ فهو حق على ظاهره، ليس غموضٌ، بل معناه يُعرفُ كما يُعرفُ مقصود المتكلم بكلامه‏.‏
فأهل السنة يثبتون ألفاظ الصفات ومعانيها، فليس ما وصف اللهُ به نفَسه أو وصفه به رسولهُ، صلّى الله عليه وسلم، من المتشابه الذي يُفَوَّضُ معناه؛ لأن اعتبار نصوص الصفات مِمَّا لا يفهم معناه يجعلها من الكلام الأعجمي الذي لا يفهم.
ومعاني صفات الله تعالى معلومة يجب اعتقادها، وأما كيفيتها فهي مجهولة لنا لا يعلمها إلا الله تعالى‏ ... ولهذا قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ؛ كيف استوى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏"‏‏.‏
وما قال الإمام مالك في الاستواء هو قاعدة في جميع الصفات، وهو قول أهل السنة والجماعة قاطبة؛ فمن نسب إلى السلف أنهم يفوضون معاني الأسماء والصفات ويجعلون نصوصها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه؛ فقد كذب عليهم.‏
ثالثاً‏.‏ السلف يثبتون الصفات إثباتا بلا تمثيل؛ فلا يُمَثِّلُونَها بصفات المخلوقين؛ لأن الله ليس كمثله شيء، ولا كُفَء له ولا ندّ له ولا سميَّ له، ولأن تمثيل الصفات وتشبيهها بصفات المخلوقين ادعاءٌ لمعرفة كيفيتِها، وكيفيتُها مجهولةٌ لنا مثل كيفية الذات؛ وذلك لأن العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، والله تعالى لا يعلمُ كيفية ذاته إلا هو. والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات؛ فكما أن لله ذاتاً لا تشبه الذوات؛ فكذلك له صفات لا تشبه الصفات، ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ؛ أي‏:‏ لا يشبهه أحد لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله‏.‏
رابعاً‏.‏ وكما أن أهل السنة والجماعة يثبتون لله الصفات التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله على وجهٍ يليقُ بجلاله ولا يُشبَّهُوَنه بخلقه؛ فهم يُنَزِّهُونه عن النقائص والعيوب تنزيهاً لاُ يفضي بهم إلى التعطيل بتأويل معانيها أو تحريف ألفاظها عن مدلولها بحجّة التنزيه؛ فمذهبهم في ذلك وسط بين طرفي التشبيه والتعطيل، تجنبوا التعطيل في مقام التنزيه، وتجنبوا التشبيه في مقام الإثبات‏.‏
خامساً‏.‏ وطريقة أهل السنة والجماعة فيما يثبتون لله من الصفات وما ينفون عنه من النقص هي طريقة الكتاب والسنة، وهي الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ؛ فأجمل في النفي، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ وفَصَّلَ في الإثبات، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏.‏
وكلُّ نفيٍ في صفات الله؛ فإنه يتضمن إثبات الكمال، وليس هو نفياً محضاً؛ لأنَّ النفي المحض ليس فيه مدح.
ومن أمثلة النفي المتضمن لإثبات الكمال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ ؛ أي‏:‏ لكمال عدله سبحانه، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يؤوده حفظهما‏}‏ ؛ أي‏:‏ لكمال قدرته وقوله، وقوله‏:‏ ‏{‏لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ‏}‏ ؛ أي‏:‏ لكمال حياته وقيوميته‏.‏
وهكذا كل نفي عن الله؛ فإنه يتضمن إثبات ضد المنفي من الكمال والجلال‏.‏
منهج الجهمية وتلاميذهم في أسماء الله وصفاته:
إنَّ الذي حمل الجهمية وأتباعهم على نفي صفات الله عز وجل هو جهلهم بالله وسوء أفهامهم؛ حيث ظنّوا أنه يلزم من إثبات هذه الصفات التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله يلزم منها التشبيه؛ لأنهم يرون هذه الصفات في المخلوقين، ولا يُفَرَّقُون بين صفات الخالق وصفات المخلوق، ولم يفهموا من صفات الخالق إلا ما فهموا من صفات المخلوقين، ولم يعلموا أن صفات الخالق سبحانه تخصه وتليق به، وصفات المخلوقين تخصّهم وتليق بهم. ولا تشابه بين صفات الخالق وصفات المخلوق؛ كما أنه لا تشابه بين ذات الخالق وذوات المخلوقين؛ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ فأثبت لنفسه السمع والبصر، ونفى عنه مشابهة الأشياء، فدل ذلك على أن إثبات الصفات لا يلزم منه المشابهة بين الخالق والمخلوق‏.‏
وهذا هو الأصل الذي سار عليه أهل السنة والجماعة في إثبات أسماء الله وصفاته؛ أثبتوا له ما أثبته لنفسه بلا تمثيل، ونزهوه عما نزه نفسه عنه بلا تعطيل‏.‏
أما الجهمية وتلاميذهم فإنهم بنوا مذهبهم على أصلٍ باطلٍ أَصَّلُوه من عند أنفسهم، وهو أن إثبات هذه الصفات يقتضي التشبيه، فيلزم حيال النصوص الواردة بذلك أحد أمرين عندهم‏:‏ إما تأويلها عن ظاهرها، واما تفويضها مع اعتقاد أنَّ ظاهرها غيرُ مراد.
الردُّ على المُشَبِّهَةِ والمعُطِّلة في موضوع الأسماء والصِّفات
1- المُشَبّهَةُ‏:‏
هم الذين شبهوا الله بخلقه، وجعلوا صفاته من جنس صفات المخلوقين، ولذلك سموا بالمشبهة‏.‏ وأول من قال هذه المقالة هو هشام بن الحكم الرافضي وبيان بن سمعان التميمي.‏
فالمشبهة غلوا في إثبات الصفات حتى أدخلوا في ذلك ما نفاه الله ورسوله ممّا لا يليق به سبحانه من صفات النقص تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ومن هؤلاء هشام بن سالم الجواليقي وداود الجواربي‏.‏
وقد نفى الله في كتابه مشابهته لخلقه ونهى عن ضرب الأمثال له؛ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏{‏فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ‏}‏ ‏.‏
فمن شَبَّهَ صفات الله بصفات خلقه؛ لم يكن عابداً لله في الحقيقة، وإنما يعبد وثناً صَوَّرَهُ له خياله ونحته له فكره؛ فهو من عباد الأوثان لا من عباد الرحمن‏.‏
2- المُعَطِّلَةُ‏:‏
هم الذين نفوا عن الله ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من صفات الكمال، زاعمين أن إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم؛ فهم على طرفي نقيض مع المشبهة‏.‏
ومذهبُ التعطيل مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضّلال الصابئين، وأول من عُرِفَ عنه مقالة التعطيل في الإسلام هو الجعد بن درهم. وقد أخذ هذا المذهب الخبيث عنه الجهم بن صفوان وأظهره، وإليه نُسبت الجهمية، ثم انتقل هذا المذهب إلى المعتزلة والأشاعرة‏.‏‏.‏‏.‏
وهم في هذا التعطيل متفاوتون‏:‏ فالجهمية ينفون الأسماء والصفات‏.‏ والمعتزلة يثبتون الأسماءَ مُجَرَّدةً عن معانيها وينفون الصفات‏.‏ والأشاعرةُ يثبتون الأسماء وسبعَ صفاتٍ فقط هي‏:‏ العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وينفون بقية الصفات‏.‏
وشبهة الجميع فيما نفوه من الصفات أنَّ إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم؛ لأنه لا يُشَاهدُ موصوفاً بها إلا هذه الأجسام، والله ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ؛ فَتعَيَّنَ نفيُ الصفات وتعطيلها تنزيهاً لله عن التشبيه على ـ قولهم ـ، ولهذا يُسَمُّون من أثبتها مُشَبِّهَاً‏.‏
ووقفوا من النصوص الدالة على إثباتها موقفين‏:‏
الموقف الأول:‏ الإيمان بألفاظها وتفويض معانيها؛ بأن يسكتوا عن تفسيرها ويُفَوِّضُوه إلى الله مع نفي دلالتها على شيءٍ من الصفات، وسَمُّوا هذه الطريقة طريقةَ السَّلَف، وقالوا هي الأسلم‏.‏
الموقف الثاني:‏ صرفُ هذه النصوص عن مدلولها إلى معانٍ ابتدعوها، وهذا ما يسمّونه بطريقة التأويل، وسمّوه طريقة الخلف، وقالوا هي الأعلم والأحكم‏.‏
والرد على شبهتهم‏:‏ أن نقول‏:‏
لا ريب أنّ القرآن الكريم قد نطق بنفي التمثيل عن الله تعالى؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ‏}‏ ، لكن مع نفيه سبحانه عن نفسه مشابهة المخلوقين أثبت لنفسه صفات الكمال؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ؛، فجمع في هذه الآية الكريمة بين نفي التشبيه عنه وأثبت لنفسه صفتي السمع والبصر، فدلَّ ذلك على أن إثبات الصفات لا يقتضي التشبيه؛ إذ لا تلازم بينهما‏.‏
وهكذا في كثير من آيات القرآن الكريم نجد إثبات الصفات مع نفي التشبيه جنبا إلى جنب، وهذا هو مذهب السلف الصالح؛ يثبتون الصفات وينفون عنه التشبيه والتمثيل‏.‏
ومن زعم أن إثبات الصفات لا يليق بالله لأنه يقتضي التشبيه؛ فإنما أدّى به إلى ذلك سوء فهمه؛ حيث فهم أن إثبات الصفات يلزم منه التشبيه، فأداه هذا الفهم الخاطئ إلى نفي ما أثبته الله عز وجل لنفسه، فكان هذا الإنسان مُشَبِّهاً أولاً ومُعَطِّلاً ثانياً وارتكب ما لا يليق بالله ابتداءً وانتهاء، أما مَن توهَّم أن صفات الله تشبه صفات المخلوقين؛ فإنه لم يعرف الله حق معرفته، ولم يقدره حق قدره، ولهذا وقع فيما وقع فيه من ورطة التعطيل ....
في الولاء والبراء
يجب على كلّ مسلمٍ يدين بهذه العقيدة أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها؛ فيحبّ أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم، ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم‏.‏ وقد حرَّمَ اللهُ على المؤمن موالاة الكفار ولو كانوا من أقرب الناس نسباً.
كما حَرَّمَ الله سبحانه موالاةَ الكُفَّار أعداء العقيدة الإسلامية؛ فقد أوجب سبحانه موالاة المؤمنين ومحبتهم. فالمؤمنون إخوة في الدين والعقيدة، وإن تباعدت أنسابهم وأوطانهم وأزمانهم.
مظاهر موالاة الكُفَّار
1- التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما؛ لأن التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما يدل على محبة المتشبِّه للمتشبَّه به، ولهذا قال النبي، صلّى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من تَشّبه بقوم؛ فهو منهم‏)‏؛ فيحرمُ التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم ومن عاداتهم وعباداتهم وسمتهم وأخلاقهم.
2- الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين لأجل الفرار بالدين؛ لأن الهجرة بهذا المعنى ولهذا الغرض واجبة على المسلم؛ لأن إقامته في بلاد الكفر قد تكون فيها موالاة الكافرين، وكثيراً ما تكون سبباً في ردّة الشخص وفتنته عن الإسلام، ولهذا حَرَّمَ الإسلام إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة.
ولم يعذر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة، وكذلك مَنْ كان في إقامته مصلحة دينية؛ كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بلادهم‏.‏
3- إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين، ومدحهم والذبُّ عنهم، وهذا من نواقض الإسلام وأسباب الردة.‏
4- الاستعانة بهم والثقة بهم وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين واتخاذهم بطانةً ومستشارين‏.
5- مشاركتهم في أعيادهم الدّينيّة أو مساعدتهم في إقامتها، أو تهنئتهم بمناسبتها، أو حضور إقامتها ‏.
6- مدحهم والإشادة بما هم عليه من المدنية والحضارة والإعجاب بأخلاقهم ومهاراتهم دون نظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد
7- التسمّي بأسمائهم؛ بحيث يسمُّونَ أبناءهم وبناتهم بأسماء أجنبية، ويتركون أسماء آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم والأسماء المعروفة في مجتمعهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن‏)‏ ‏.‏
8- الاستغفار لهم والترحُّمُ عليهم، وقد حرَّمَ اللهُ ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏ لأنَّ هذا يتضمَّنُ حُبَّهُم وتصحيح ما هم عليه‏.‏
مظاهر موالاة المؤمنين
1- الهجرة إلى بلاد المسلمين وهجر بلاد الكافرين‏.‏ والهجرة؛ هي الانتقال من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين لأجل الفرار بالدين‏.‏
والهجرة بهذا المعنى ولأجل هذا الغرض واجبة وباقية إلى طلوع الشمس من مغربها عند قيام الساعة. وقد تَبَرَّأَ النبي، صلى الله عليه وسلم، من كلّ مسلمٍ يقيم بين أظهر المشركين، فتحرم على المسلم الإقامة في بلاد الكفار إلا إذا كان لا يستطيع الهجرة منها أو كان في إقامته مصلحة دينية؛ كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام‏، أو كانت إقامته لضرورة مُلِحَّةٍ.‏
2- مناصرة المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم.
3- التألم لألمهم والسرور بسرورهم؛ قال النبيُّ، صلّى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَثَلُ المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسهر‏)‏، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضاً، وشَبَّكَ بين أصابعه صلّى الله عليه وسلم‏)‏ ‏.‏
4- النصح لهم، ومحبة الخير لهم، وعدُم غشِّهم وخديعتهم؛ قال صلّى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه‏)‏
5- أن يكون معهم في حال العسر واليسر والشدة والرخاء، بخلاف أهل النفاق، الذين يكونون مع المؤمنين في حالة اليسر والرخاء، ويتخلون عنهم في حال الشدة
6- زيارتهم ومحبة الالتقاء بهم والاجتماع معهم، وفي الحديث القدسي‏:‏ ‏(‏وجبت محبتي للمتزاورين فيَّ‏)
7- الرفق بضعفائهم؛ كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا من لم يوقِّر كبيرَنا ويرحمْ صغيرَنا‏)
8- الدعاء لهم والاستغفار لهم؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}
أقسام الناس فيما يجب في حقهم من الولاء والبراء
الناس في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام‏:‏
القسم الأول: مَن يُحَبُّ محبة خالصةً لا معاداة معها، وهم المؤمنون الخُلَّصُ من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وفي مقدمتهم رسولُ الله، صلّى الله عليه وسلم؛ فإنه تجب محبته أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ثم زوجاته أمهات المؤمنين، وأهل بيته الطيبين، وصحابته الكرام، خصوصاً الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة، والمهاجرين والأنصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
القسم الثاني: مَنْ يُبْغَضُ ويُعادى بغضاً ومعاداةً خالصين لا محبة ولا موالاة معهما، وهم الكُفَّارُ الخُلَّصُ من الكفار والمشركين والمنافقين والمرتدين والملحدين على اختلاف أجناسهم
القسم الثالث: مَنْ يُحَبُّ مِن وجهٍ ويُبغَضُ من وجهٍ، فيجتمع فيه المحبة والعداوة، وهم عصاة المؤمنين؛ يُحَبُّونَ لما فيهم من الإيمان، ويُبغضَون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك‏.‏
ومحبتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم؛ فلا يجوز السكوت على معاصيهم، بل يُنكْر عليهم، ويُؤمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وتُقام عليهم الحدود والتعزيرات حتى يكفوا عن معاصيهم ويتوبوا من سيئاتهم، لكن لا يُبْغَضون بغضا خالصا ويتبرأ منهم
نواقض الإيمان
يمكننا حصر الأمور التي تكون سبباً في الخروج من دين الله عز وجل بأنواع أربعة هي:
1. إنكار الربوبية والطعن فيها.
2. الطعن في الألوهية.
3. الطعن في أسماء الله عز وجل وصفاته.
4. إنكار الرسالة والطعن في صاحبها صلّى الله عليه وسلم.
1. إنكار الربوبية والطعن فيها، ويتخذ هذا النوع المظاهر الآتية:
أ. إنكار الخالق.
ب. القول بِقدَمِ الشيء (أي لم يخلقه الله).
ج. إسناد الخلق والتقدير إلى غير الله عز وجل مثل الصدفة والطبيعة ...
د. إنكار ملك الله لكل مخلوق.
هـ. إدعاء الرزق من غير الله.
و. إشراك غير الله معه في الملك أو الرزق.
ز. إدعاء أن الله خلق الخلق وأهملهم، ولا يتصرف فيهم، ولا يحفظهم، ولا يدبر أمرهم.
ح. إدعاء أي شيء مما سبق لنفس الإنسان كقول فرعون: "أنا ربكم الأعلى"، وادعاء قارون بتملك الرزق والأموال بعلمه الخاص.
2. الطعن في الألوهية: ويتخذ عدة مظاهر منها:
أ. نقض الشهادة، بأن الله وحده هو المعبود بحق وينقضها أمران:
1. نفي استحقاق الخالق لأن يُعْبَدَ بأي نوع من أنواع العبادة.
2. إثبات هذا الاستحقاق لأي مخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى.
ب. الإدعاء بأحقية التشريع بما لم يأذن به الله، بسبب ما أوتي من السلطان والحكمة فيدعي بأن له الحق في التحليل والتحريم، ووضع القوانين التي تخالف شرع الله كإباحة الزنا والخمر والتسفر للنساء والربا ...
3. الطعن في أسماء الله وصفاته، ويتخذ ها النوع المظاهر التالية:
أ. نفي أي صفة من صفات الله سبحانه، كنفي علمه أو قدرته أو سمعه.
ب. نفي كمالية صفات الله مثل: إن الله لا يعلم الجزئيات والتفصيلات.
ج. تشبيه أي من تلك الصفات بما عند المخلوقات مثل: سمع الله كسمع الناس، وقوة الله كقوتهم.
د. إثبات أي صفة لله نفاها سبحانه عن نفسه أو نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم، كإثبات الولد له سبحانه أو الصاحبات أو أو النوم أو الغفلة.
هـ. إثبات أي صفة لله لنفسه أو لأي مخلوق، ومثلها: أنا أعلم كعلم الله وفلان عنده الحكمة كحكمة الله.
4. الطعن في الرسالة أو في صاحبها عليه الصلاة والسلام، وتتخذ المظاهر التالية:
أ. نقض الشهادة بمحمد صلى الله عليه سلم، وينقضها أمران:
1. الطعن في رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، أو استهزاءٍ أو استخفافٍ به أو بتصرف من تصرفاته.
2. إنكار بعض ما أخبر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كإنكار خبر أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كالبعث أو الصراط أو أي أمر غيبي.

*********************************************************************************
مراجعة عامة هامة لمادة العقيدة (3)
إعداد الدكتور راجح السباتين / جامعة طيبة / كلية العلوم والآداب بالعُلا
الإيمان بأشراط الساعة
كان أمر الساعة شديدا؛ كان الاهتمام بشأنها أكثر من غيرها، ولهذا أكثرَ النبيُّ، صلّى الله عليه وسلم من بيان أشراطها وأماراتها، وأخبر عمّا يأتي بين يديها من الفتن، ونَبَّهَ أمته وحذرهم ليتأهبوا لذلك‏.‏
أما وقتُ مجيئها؛ فهو مما انفرد الله تعالى بعلمه وأخفاه عن العباد لأجل مصلحتهم؛ ليكونوا على استعداد دائما؛ كما أخفى سبحانه عن كل نفسٍ وقت حلول أجلها؛ لتكون دائما على أهبة الاستعداد والانتظار ولا تتكاسل عن العمل‏.‏
الأمارات الأولى ‏(‏التي ظهرت ومضت وانقضت‏)‏ منها‏:‏
1. بعثة النبيّ، صلّى الله عليه وسلم، وموته، وفتح بيت المقدس‏.‏
2.‏ قتلُ أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
3. خروجَ كذّابين دجّالين كل منهم يدّعي أنه نبيّ.‏
4.‏ زوال ملك العرب.‏
5.‏ كثرة المال، رواه الشيخان وغيرهما‏.‏
6.‏ كثرة الزلازل والخسف والمسخ والقذف.
وغير ذلك مما أخبر عنه النبيُّ، صلّى الله عليه وسلم، أنه من أمارات الساعة فظهر ومضى وانقضى‏.‏
أشراط السّاعة الوسطى
وهي التي ظهرت ولم تنقض بل تتزايد وتكثرُ، وهي كثيرة جدا‏ ومنها ما يلي:‏
1. قولُه صلّى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لُكَعُ ابن لُكَع‏)‏‏. ‏واللكع‏:‏ العبد والأحمق واللئيم، والمعنى‏:‏ لا تقوم الساعة حتى يكون اللئام والحمقى ونحوهم رؤساء الناس‏.‏
2. قوله صلّى الله عليه وسلّم‏:‏ ‏(‏يأتي على الناس زمان الصابر على دينه كالقابض على الجمر‏)‏‏.‏
3. وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناسُ في المساجد‏).
4. وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يكون في آخر الزمان عباد جهال وقراء فسقة).
5. أن يُرَىَ الهلالُ ساعةَ يطلع، فيقال‏:‏ لليلتين؛ لانتفاخه وكِبَرِهِ‏.‏ روى معناه الطبراني عن ابن مسعود، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏من أشراط الساعة انتفاخ الأَهِلَّةِ‏)‏ أي‏:‏ عظمها، وروي بالجيم‏.‏
6. اتخاذ المساجد طرقا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏
7. قولُه صلى الله عليه وسلم:‏ ‏(‏إن من أشراط الساعة أن يُرفعَ العلم، ويكثرَ الجهل، ويكثر الزنى، ويكثر شربُ الخمر، ويقلَّ الرجال، ويكثر النساء؛ حتى يكون لخمسين امرأة القَيِّمُ الواحد‏)‏.
8. قوله صلى الله عليه وسلم: فإذا ضُيِّعَتْ الأمانة؛ فانتظرِ الساعة. قال: كيف إضاعتها‏؟‏ قال إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة‏.‏
أشراطُ الساعةِ الكبرى
1. ظهور المهدي‏:‏
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تنقضي الأيام ولا يذهب الدهُر حتى يملك العربَ رجلٌ من أهل بيتي؛ يواطئ اسمه اسمي‏)‏.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏الأحاديث التي يُحْتَجُّ بها على خروج المهدي أحاديثُ صحيحةٌ رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏
واسم المهدي محمد بن عبد الله، من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماُ فيملؤها عدلاُ وقسطاً‏.‏
وقد انقسم الناس في أمر المهدي إلى طرفين ووسط‏:‏
فالطرف الأول‏:‏ مَنْ ينكرُ خروج المهدي مثلُ بعض الكُتَّاب المعاصرين الذين ليس لهم خبرة بالنصوص وأقوال أهل العلم وإنما يعتمدون على مجرد آرائهم وعقولهم‏.‏
والطرف الثاني‏:‏ من يُغالي في أمر المهدي من الطوائف الضالَّةِ، حتى ادعت كل طائفة لزعيمهم أنه المهدي المنتظر‏:‏ فالرافضة تَدَّعي أن المهدي هو إمامهم المنتظر الذي ينتظرون خروجه من السرداب، ويسمّونه محمد بن الحسن العسكري، دخل سرداب سامراء طفلاً صغيراً منذ أكثر من خمس مائة سنة، وهم ينتظرون خروجه‏!‏ والفاطمية‏:‏ يزعمون أن زعيمهم هو المهدي‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا؛ كلُّ مَن أراد التسلُّطَ والتغلُّبَ على الناس وخداعهم ادعى أنه المهدي المنتظر ...
وأما الوسط في أمر المهدي؛ فهم أهل السنة والجماعة، الذين يُثْبِتون خروج المهدي على ما تقضي به النصوص الصحيحة؛ في اسمه، واسم أبيه، ونسبه، وصفاته، ووقت خروجه، لا يتجاوزون ما جاء في الأحاديث في ذلك، ولخروجه أمارات وعلامات تسبقه ذكرها أهل العلم‏.‏
قال السفاريني في بيان سيرته‏:‏ ‏"‏قال أهل العلم‏:‏ يعملُ بسنة الرسول، صلّى الله عليه وسلم، ولا يوقظ نائما، ويقاتل على السُّنَّةِ، لا يتركُ سُنَّةً إلا أقامها، ولا بدعةً إلا رفعها، يقوم بالدين آخر الزمان كما قام به النبي، صلّى الله عليه وسلم، ويرد إلى المسلمين إلفتهم ونعمتهم، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا‏"‏‏.‏
وقال في وصفه أيضا‏:‏ ‏"‏ثم يخرج رجلٌ من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مهدي حسن السيرة؛ يغزو مدينة قيصر، وهو آخرُ أميرٍ من أمة محمد، يخرج في زمانه الدجال، وينزل عيسى ابن مريم‏"‏‏.‏
قال‏:‏ ‏"‏ونقل العلامة الشيخ مرعي في كتابه ‏"‏فوائد الفكر‏"‏عن أبي الحسن محمد بن الحسين‏:‏ أنه قال‏:‏ قد تواترت الأحاديث واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بمجيء المهدي؛ أنه من أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأنه يخرج مع عيسى فيساعده على قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين، وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى يصلي خلفه؛ يعني‏:‏ صلاة واحدة، وهي الفجر‏"‏‏.‏
ذلك هو المهدي الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبَيَّنَ صفاته الفارقة ووقت خروجه وسيرته.
2. خروج المسيح الأعور الدجال‏:‏
وسُمِّيَ المسيح؛ لأنّ عينه ممسوحةٌ، وقيل‏:‏ لأنه يمسحُ الأرض؛ أي‏:‏ يقطعها، وسمِّيَ الدجّال‏:‏ من الدجل، وهو الخَلْطُ، يقال‏:‏ دَجّلَ؛ إذا خلط وموّه، ودجَّال على وزن فعال من أبنية المبالغة؛ أي‏:‏ يكثر منه الكذبُ والتلبيسُ، وهو يخرج في زمان المهدي‏.‏
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله‏ مُلَخِّصاً قصّة الدجّال كما ورت في النصوص الصحيحة:‏ ‏"‏ثُمَّ يؤذنُ له ‏(‏أي‏:‏ الدجال‏)‏ في الخروج في آخر الزمان، يظهر أولاً في صورة مَلِكٍ من الملوك الجبابرة، ثم يدّعي النبوة، ثم يدّعي الربوبية، فيتبعه على ذلك الجَهَلةُ من بني آدم والرعاع والعوام، ويخالفه ويردُّ عليه منَ هداهُ اللهُ من الصّالحين وحزبُ الله المتقين، ويتدنى فيأخذ البلاد بلداً بلداً وحصناً حصناً وإقليماً إقليماً وكورةً كورةً، ولا يبقى بلدٌ من البلدان إلا وطئه بخيله ورجله؛ غير مكة والمدينة‏.‏
ومدة مقامه في الأرض أربعون يوما؛ يومٌ كسنةٍ، ويومٌ كشهرٍ، ويومٌ كجمعة، وسائرُ أيامه كأيام الناس هذه.
وقد خلق اللهُ على يديه خوارقَ كثيرةً يُضلُّ بها من يشاء من خلقه، ويَثْبُتُ معها المؤمنون فيزدادون إيماناً مع إيمانهم وهدى إلى هداهم‏.‏
وفي ‏"‏الترمذي‏"‏‏:‏ أنه يخرج من خراسان‏.‏
وفي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏عن أنس رضي الله عنه مرفوعا‏:‏ ‏(‏يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة‏)‏ ‏.‏
ويكون نزول عيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام، مسيح الهدى في أيام مسيح الضلالة، فيجتمع عليه المؤمنون، ويلتف معه عباد الله المتقون، فيسير بهم المسيحُ عيسى ابن مريم عليه السلام قاصداً نحو الدجَّال وقد توجَّه نحو بيت المقدس، فينهزمُ منه الدجّال، فيلحقه عند بابِ مدينة لُدٍّ، فيقتله بحربته وهو داخلٌ إليها، ويقول له‏:‏ إنَّ لي فيك ضربةً لن تفوتني، وإذا واجهه الدجال؛ ينداع كما يَنْحَلُّ الملح في الماء، فيتداركه، فيقتله بالحربة الحريبة بباب لُدٍّ، فتكون وفاته هناك ....
والذي تدل عليه النصوص من أمر الدجال وفتنته‏ أيضاً:‏ أنَّ مَنْ استجابَ لهُ؛ يأمرُ السماءَ فتمطرُ، والأرضَ فتنبِتُ لهم زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم، وترجع لهم مواشيهم سِماناً ذاتَ لبن، ومَنْ لا يستجيب له ويرد عليه أمره؛ تصيبهم السّنةُ والجَدْبُ والقحطُ والقلَّةُ وموتُ الأنعام ونقصُ الأموال والأنفس والثمرات، وأنه تتبعه كنوز الأرض كيعاسيب النحل، وأنه يقتل شاباً ثم يحييه؛ كل ذلك امتحان يمتحن الله به عباده في آخر الزمان، فيضلُّ به كثيراً‏.‏
وهو مع هذا هَيِّنٌ على الله، ناقصٌ ظاهرُ النقصِ والفجور والظلم، وإن كان معه ما معه من الخوارق، مكتوب بين عينيه كافر، وما يجريه على يديه مِحْنَةٌ من الله لعباده، وهي مِحنةٌ خطيرة، لا ينجو منها إلا أهل الإيمان واليقين، ولخطورة محنته وشدّة فتنته حَذَّرت منه الأنبياء أممها، وأشدهم تحذيراً لأمته محمدً صلّى الله عليه وسلم‏.‏
عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه؛ قال‏:‏ سمعتُ رسولَ الله، صلّى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إنه لم يكن نبيٌ بعدَ نوحٍ إلا وقد أنذر الدجَّال قومه، وإني أُنذركموه‏)‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود والترمذي‏.‏
وقد أمر النبُّي، صلّى الله عليه وسلم، أُمَّته بالاستعاذة من فتنته في آخر كل صلاة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر؛ فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرّ المسيح الدجال‏)‏‏.‏ رواه الإمام أحمد ومسلم‏.‏
وقد تواترت الأحاديث من وجوه متعددة في إثبات خروج الدجال وبيان فتنته والاستعاذة منه، وأجمعَ أهلُ السنّة والجماعة على خروج الدجال في آخر الزمان، وذكروا ذلك ضمن مباحث العقيدة؛ فمن أنكر خروجه؛ فقد خالف ما دلت عليه الأحاديث المتواترة، وخالف ما عليه أهل السنة والجماعة.
3. نزول عيسى ابن مريم عليه السلام:
إنّ نزول عيسى ابن مريم، عليه الصلاة والسلام، قد دلَّ عليه القرآن وأَخبرَ به الصادق المصدوق محمدٌ، صلّى الله عليه وسلم، وتواتر النقل عنه بذلك، وأجمع عليه علماءُ الأمة سلفاً وخلفاً، واعتبروه مما يجب اعتقاده والإيمان به‏.‏
أمّا الكتاب؛ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ‏}‏ ؛ أي‏:‏ ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء آخر الزمان.‏
‏وأما السنة؛ فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده؛ ليوشكنَّ أن ينزلَ فيكم ابن مريم حَكَماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية‏)‏ وقوله صلى الله عليه وسلم  ‏(‏والله؛ لينزلنَّ ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب‏)‏‏.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏عيسى عليه السلام حيٌّ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا؛ فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية‏)‏ ‏.‏ وثبت في الصحيح عنه‏:‏ ‏(‏أنه ينزل على المنارة البيضاء شرق دمشق ويقتل الدجال‏)‏ ‏.‏ ومن فارقت روحه جسده؛ لم ينزل جسده من السماء، وإذا أحيي؛ فإنه يقوم من قبره‏.‏
وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ؛ فهذا دليل على أنه لم يَعْنِ بذلك الموتَ؛ إذ لو أراد بذلك الموت لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين؛ فإنَّ الله يقبض أرواحهم ويعرج بها إلى السماء، فَعُلِمَ أنَّ ليس في ذلك خاصية، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ، ولو كان قد فارقت روحه جسده؛ لكان بدنه في الأرض كبدن سائر الأنبياء أو غيره من الأنبياء‏.‏
وقد قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ؛ فقوله هنا‏:‏ ‏{‏بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ‏}‏؛ يُبَيِّنُ أنَّه رُفِعَ بدنُه وروحُه؛ كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه؛ إذ لو أريد موته لقال‏:‏ وما قتلوه وما صلبوه بل مات‏.‏
ولهذا قال من قال من العلماء‏:‏ ‏{‏إِنِّي مُتَوَفِّيكَ‏}‏؛ أي‏:‏ قابِضُكَ، أي‏:‏ قابضُ روحك وبدنك، يُقَالُ‏:‏ تَوَفَّيْتُ الحساب واستوفيتُهُ، ولفظ التوفّي لا يقتضي توفّي الروح دون البدن ولا توفيهما جميعاً إلا بقرينةٍ مُنفصلةٍ، وقد يُراد به توفي النوم؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ‏}‏.‏
وأما مُدَّتُهُ ووفاتهُ؛ فقد ورد في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عند الطبراني وابن عساكر‏:‏ أنه صلّى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ينزل عيسى ابن مريم، فيمكث في الناس أربعينَ سنةً‏)‏.‏ وعند الإمام أحمد وابن أبي شيبة وأبي داود وابن جرير وابن حبان عنه‏:‏ أنه يمكث أربعينَ سنةً ثم يُتَوَفَّى ويُصَلِّي عليه المسلمون ويدفنونه عند نبينِّا محمدٍ، صلّى الله عليه وسلم ‏"‏‏.‏
4. خروج يأجوج ومأجوج:
وخروج يأجوج ومأجوج ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ ذَكَرَ ذلك السفاريني رحمه الله‏:‏ أما الكتاب؛ ففي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ‏}‏ وكان هناك سدٌّ من حديد بين جبلين بناه ذو القرنين فصار ردماً واحداً يحجز هؤلاء القوم المفسدين في الأرض عن أذية الناس والإفساد في الأرض؛ فإذا جاء الوقت الذي قُدِّرَ انهدامُ السد فيه؛ جعله الله مساوياً للأرض؛ وعداً لا بدَّ منه؛ فإذا انهدم؛ يخرجون على الناس ويموجون وينسلون- أي‏:‏ يُسرِعُون المشي- من كل حدب، ثم يكون النفخ في الصور قريباً من ذلك‏.‏
وأمَّا الدليلُ من السنة؛ ففي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏إنَّ الله تعالى يوحي إلى عيسى ابن مريم عليه السلام بعد قتله الدجال أَنّي قد أخرجتُ عباداً لي لا يدان لأحدٍ في قتالهم؛ فَحَرِّزْ عبادي إلى الطور، ويبعثُ الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدبٍ ينسلون، فيمرُّ أولهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذا ماء، ويحصرون عيسى وأصحابه، حتى يكون رأسُ الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار‏)‏ الحديث‏.‏
وفي حديث حذيفة عند الطبراني‏:‏ ‏"‏ويمنعهم اللهُ من مكّةَ والمدينة وبيت المقدس‏"‏‏.‏
وقد أخبر النبي، صلّى الله عليه وسلم، عن قرب خروجهم وحَذَّرَ منهم، فقال عليه الصلاة والسلام- كما في ‏"‏الصحيحين‏"‏- ‏(‏فُتِحَ اليومَ من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا‏)‏ ‏.‏
وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏ من حديث زينب بنت جحش‏:‏ ‏(‏أنَّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلم نام عندها، ثم استيقظ مُحْمَرَّاً وجهُه وهو يقول لا إله إلا الله‏!‏ ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب، فُتِحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بين إصبعيه‏)‏.
وأمَّا صفاتهمُ وأجسامهم؛ فقد قال الإمام ابن كثير رحمه الله‏:‏ ‏"‏وهم يُشبهون الناس كأبناء جنسهم من الترك الغتم المغول؛ المُجَرْزَمة عيونهم، الدّلفُ أنوفهم، الصهب شعورهم، على أشكالهم وألوانهم"‏.‏
وأما ما يحصل منهم من الأذى والفساد في الأرض ونهايتهم؛ فقد دلَّ على ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري؛ قال‏:‏ ‏(‏سمعتُ رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يقول يُفْتَحُ يأجوج ومأجوج، فيخرجون على الناس؛ كما قال تعالى ‏{‏وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ‏}‏ ، فَيَغْشَوْنَ الناسَ، وينحازُ الناس عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمُّون إليهم مواشيهم، فيشربون مياه الأرض، حتى إنَّ بعضَهم ليمرُّ بالنهر، فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبساً، حتى إنّض مَنْ بعدهم ليمرّ بذلك النهر، فيقول قد كان هاهنا ماء مرّةً، حتى إذا لم يَبْقَ من الناس أحدٌ إلا أحدٌ في حصن أو مدينة؛ قال قائلهم هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، بقي أهل السماء قال ثم يهزُّ أحدُهم حربته، ثم يرمي بها إلى السماء، فترجع إليه مختضبةً دماً للبلاء والفتنة؛ فبينما هم على ذلك؛ بعثَ اللهُ دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه، فيصبحون موتى لا يُسْمَعُ لهم حِسٌّ، فيقول المسلمون أَلاَ رجلٌ يشري لنا نفسه فينظرُ ما فعل هذا العدوُّ قال فيتجرَّدُ رجلٌ منهم محتسباً، قد وَطَّنَها على أنه مقتولٌ، فينزلُ، فيجدهم موتى بعضُهم على بعض، فينادي يا معشر المسلمين‏!‏ ألا أبشروا‏!‏ إنَّ الله تعالى قد كفاكم عدوَّكم فيخرجون من مدائنهم وحصونهم، ويسرحون مواشيهم؛ فما يكون لها رعي إلا لحومهم، فتشكر عنه كأحسن ما تشكر عن شيءٍ أصابته من النبات قَطُّ‏)‏ ‏.‏
5. خروج الدابة:
ذكر الله خروج الدابة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ‏}‏ ‏.‏
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في ‏"‏النهاية‏"‏‏:‏ ‏"‏قال ابن عباس والحسن وقتادة‏:‏ ‏(‏تُكَلِّمُهُم‏)‏؛ أي‏:‏ تخاطبهُم مُخَاطَبَةً، ورجَّح ابن جرير تخاطبهم؛ تقول لهم‏:‏ ‏{‏أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ‏}‏، وحكاه عن عليٍ وعطاء‏"‏‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ ‏"‏في هذا نظر‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏تكلَّمُهم‏"‏‏:‏ تَجْرَحُهُم؛ بمعنى‏:‏ تكتب على جبين الكافر كافر، وعلى جبين المؤمن مؤمن، وعنه‏:‏ تخاطبهم وتجرحهم، وهذا القول ينتظم المذهبين، وهو قوي حَسَنٌ جامعٌ لهما‏.‏ والله أعلم‏"‏‏.‏
وقال أيضا في ‏"‏تفسيره‏"‏‏:‏ ‏"‏هذه الدابّةُ تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلِهم الدين الحق؛ يُخْرِجُ اللهُ لهم دابّةً من الأرض؛ قيل‏:‏ مِن مكةَ، وقيل‏:‏ من غيرها، فتكلم الناس‏"‏‏.‏
روى الإمام مسلم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏بادروا بالأعمال ستاً طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدابة‏)‏ الحديث‏.‏
وعمل هذه الدابة كما جاءت به الأحاديث أنها تَسِمُ الناسَ المؤمنَ والكافرَ‏:‏ فأمّا المؤمن؛ فَيُرَى وجهُهُ كأنّه كوكبٌ دُرِيٌّ، ويُكْتَبُ بين عينيه‏:‏ مؤمن‏.‏ وأما الكافر؛ فتنكتُ بين عينيه نكتةً سوداء، ويُكْتَبُ بين عينيه‏:‏ كافر‏.‏ وفي رواية‏:‏ (فتلقى المؤمن فتسمه في وجهه نكتة فيبيضُّ لها وجهه، وتَسِمُ الكافر نكتة سوداء يَسْوَدُّ لها وجهه، ويشترك الناس في الأموال، ويصطحبون في الأمصار، يعرف المؤمنُ الكافرَ وبالعكس، حتى إنَّ المؤمن يقول للكافر‏:‏ يا كافرُ‏!‏ إقضني حقي‏).‏
6. طلوع الشمس من مغربها:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى تطلعَ الشمسُ من مغربها؛ فإذا رآها الناس؛ آمنَ منْ عليها؛ فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل‏)‏ ‏.
قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا‏}‏ الآية؛ أجمع المفسرون- أو جمهورهم- على أَنَّها طلوعُ الشمس من مغربها، وحاصل ذلك والمقصود من الآية الكريمة‏:‏ أنَّ مَنْ لم يكن إيمُانه متحققاً إذا طلعت الشمس من مغربها؛ لم ينفعه تجديدُ الإيمان، ولم ينفعه فعلُ بِرٍّ من جميع الأعمال؛ لأنه فقدَ الإيمان الذي هو الأساس لما عداه من تلك الأعمال؛ فلا ينفعه إيمانه الحادثُ حينئذٍ، ولا ما صدرَ منه قبل ذلك من الإحسان وعمل البر من صلة الأرحام وإعتاقُ الرِّقاب وقرى الأضياف وغير ذلك مما هو مكارم الأخلاق؛ لأنها على غيرِ أساسٍ؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ‏}‏ ، والإيمان الحادث في ذلك الوقت ليس مقبولا‏.‏
فهذه الأحاديث المتواترة مع الآية الكريمة دليل على أنَّ مَنْ أحدثَ إيماناً وتوبةً بعد طلوع الشمس من مغربها لا تُقْبَلُ منه، وإنما كان كذلك - والله أعلم-؛ لأنَّ ذلك من أشراط الساعة وعلاماتها الدالة على اقترابها ودنوها، فَعُومِلَ ذلك الوقتُ معاملةَ يوم القيامة.
7. حشر الناس إلى أرض الشام:
قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يُحْشَرُ الناسُ على ثلاثِ طرائقَ راغبين وراهبين، واثنانِ على بعير، وثلاثةٌ على بعير، وعشرةٌ على بعير، وتَحْشُرُ بقيَّتَهْمُ النارُ؛ تقيلُ معهم حيث قالوا، وتبيتُ معهم حيث باتوا، وتُصبحُ معهم حيث أصبحوا، وتُمسي معهم حيث أمسوا‏)‏ ‏.‏
وجاء في حديثٍ آخر‏:‏ ‏"‏وتحشر بقيتهم النارُ‏"‏، وهي التي تخرج من قَعْرِ عَدَن، فتحيط بالناس من ورائهم؛ تسوقهم من كل جانب إلى أرض المحشر، ومَنْ تَخَلَّفَ منهم؛ أكلته النارُ‏.‏ وهذا كله مما يدل على أنَّ هذا في آخر الزمان؛ حيث الأكل والشرب والركوب على الظهر المُشْتَرى وغيره، وحيث تهلكُ المتخلفين منهم النارُ.
وقد جاءت أحاديث تدل على أنه في آخر الزمان تخرج نار من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر‏، منها الحديث الذي رواه أحمد ومسلم وأهل ‏"‏السنن‏"‏‏:‏ ‏"‏تخرج نار من قعر عدن، تسوق ‏(‏أو‏:‏ تحشر‏)‏ الناس؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا‏"‏‏.‏ ومنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال‏:‏ ‏(‏قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلَّم، ستخرج نارٌ من حضرموت ‏(‏أو من نحو بحر حضرموت‏)‏ قبل يوم القيامة تحشر الناس قالوا يا رسول الله‏!‏ فما تأمرنا‏؟‏ قال عليكم بالشام‏)‏.
والحشر المذكور في أشراط الساعة؛ نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب؛ كما في حديث أنس وعبد الله بن سلام‏.‏ وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهم، مرفوعاً‏:‏ ‏"‏تُبْعَثُ على أهل المشرق نارٌ فتحشرهم إلى المغرب؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، ويكون لها ما سقط منهم وتَخَلَّفَ، وتسوقُهم سوقَ الجمل‏"‏‏.‏
قال الحافظ ابن حجر‏:‏ وكونها تخرجُ من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب؛ لأن ابتداء خروجها من عدن؛ فإذا خرجت؛ انتشرت في الأرض كلها؛ والمراد تعميمُ الحشر لا خصوص المشرق والمغرب، أو أنها بعدَ الانتشار أول ما تحشر أهل المشرق‏.‏
8. النَّفْخُ في الصُّور والصَّعْقُ:
تكرر ذِكرُ النفخ في الصور في القرآن العظيم والنفخ في الصور ثلاث نفخات‏:‏
1. نفخةُ الفَزَعِ‏:‏ وهي التي يتغيَّرُ بها هذا العالمُ ويفسد نظامه، وهي المشارُ إليها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ‏}‏ ؛ أي‏:‏ مِن رجوعٍ ومرَدِّ‏.‏
‏2. "‏النفخة الثانية‏:‏ نفخةُ الصَّعْقِ، وفيها هلاك كلِّ شيءٍ؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ‏}‏، وقد فُسِّرَ الصعقُ بالموت‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏
‏"‏والصورُ قرنٌ من نور، يجعل فيه أرواح الخلائق، وقال مجاهد‏:‏ كالبوق‏.‏ ذكره البخاري‏.‏ وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏جاء أعرابي إلى النبي، صلّى الله عليه وسلم، فقال ما الصُّورُ‏؟‏ قال قَرْنٌ يُنْفَخُ فيه‏)‏ ‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏
3.‏ ‏"‏النفخة الثالثة‏:‏ نفخةُ البعث والنشور، وقد جاء في الكتاب العزيز آياتٌ تدلُّ عليها وأخبارٌ تشير إليها؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ‏}‏.
الإيمان باليوم الآخر
لقد سُمِّيَ باليوم الآخر لتأخُّرِهِ عن الدنيا‏.‏ وقد سَمّى اللهُ هذا اليوم بعدة أسماء؛ تنويهاً بشأنه وتنبيها للعباد ليخافوا منه: فسّماه اليوم الآخر؛ لأنه بعد الدنيا وليس بعده يوم غيره‏.‏ وسمّاهُ يومَ القيامة؛ لقيام الناس فيه لربّهم‏.‏ وسّماه الواقعة والحاقة والقارعة والراجفة والصاخة والآزفة والفزع الأكبر ويوم الحساب ويوم الدين والوعد الحق‏.‏‏.‏‏.‏ وكلها أسماء تدلُّ على عِظَمِ شأنه وشدَّةِ هوله وما يلقاه الناس فيه من الشدائد والأهوال؛ فهو يوم تشخص فيه الأبصار، وتطير القلوب عن أماكنها حتى تبلغ الحناجر‏.‏
والإيمان بهذا اليوم يحمل الإنسان على العمل والاستعداد له‏. كما أنَّ عدم الإيمان بهذا اليوم يحملُ الإنسان على الكفر والمعاصي وعلى الظلم والعدوان والبغي والفساد‏.
والإيمان باليوم الآخر معناه أن تُصَدِّقَ بكل ما بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه وبالبعث بعد ذلك والحساب والميزان والثواب والعقاب والجنة والنار وبكل ما وصف الله به يوم القيامة‏.‏
وسمي باليوم الآخر لتأخره عن الدنيا، وله أسماء كثيرة في القرآن منها‏:‏
1- يوم البعث‏:‏ لأنَّ فيه البعثَ والحياة بعد الموت‏.‏
2- يوم الخروج‏:‏ لأنَّ فيه خروج الناس من قبورهم إلى الحياة الأخرى‏.‏
3- يوم القيامة‏:‏ لأنَّ فيه قيام الناس للحساب‏.‏
4- يوم الدين‏:‏ لأنَّ فيه إدانةَ الخلائق ومجازاتهم على أعمالهم‏.‏
5- يوم الفصل‏:‏ لأنَّ فيه الفصل بين الناس بالعدل‏.‏
6- يوم الحشر‏:‏ لأنَّ فيه جمع الخلائق وحشرهم في موقف الحساب‏.‏
7- يوم الجمع‏:‏ لأنَّ الله يجمع فيه الناس للجزاء‏.‏
8- يوم الحساب‏:‏ لأنَّ فيه محاسبة الناس على أعمالهم التي عملوها في الدنيا‏.‏
9- يوم الوعيد‏:‏ لأنَّ فيه تحقيق وعيد الله للكافرين‏.‏
10- يوم الحسرة‏:‏ لأنَّ فيه حسرة الكافرين‏.‏
11- يوم الخلود‏:‏ لأنَّ الحياة في هذا اليوم حياة خالدة أبدية‏.‏
12- الدار الآخرة‏:‏ لأنَّها بعد دار الدنيا، وهي دار باقية، ليس بعدها انتقال إلى دار أخرى‏.‏
13- دار القرار‏:‏ لأنها الاستقرار الدائم بلا فناء ولا انتقال‏.‏
14- دار الخلد‏:‏ لأن الإقامة فيها إقامة أبدية‏.‏
15- الواقعة‏:‏ لتحقيق وقوعها‏.‏
16- الحاقة‏:‏ لأنها تُحِقُّ كل مُجَادِلٍ ومُخَاصِمٍ بالباطل بمعنى تَغْلِبُهُ‏.‏
17- القارعة‏:‏ لأنها تقرعُ الأسماع والقلوب بأهوالها‏.‏
18- الغاشية‏:‏ لما يجري فيها من غشيانٍ عامٍ للثقلين‏.‏
19- الطامّة‏:‏ لأنها تغلب وتفوق ما سواها من الدواهي‏.‏
20- الآزفة‏:‏ أي‏:‏ القريبة، سُمِّيتْ بذلك إشعاراً بقربها بالنسبة إلى عمر الدنيا‏.‏
21- يوم التغابن‏:‏ لأن أهل الجنة يغبنون أهل النار‏.‏
22- يوم التناد‏:‏ لأنه يُدْعَى فيه كل أناس بإمامهم، وينادي بعضُهم بعضاً، وينادي أهلُ الجنة أهلَ النار، وأهلُ النار أهلَ الجنة، وينادي أصحاب الأعراف‏.‏
الــــمــــوتُ
من مقدمات اليوم الآخر الموت، وهو القيامة الصغرى‏.‏ وهي وفاة كل شخص عند انتهاء أجله، وبها ينتقل من الدنيا إلى الآخرة‏.‏ وقد ذَكَّرَ اللهُ العباد بالموت؛ ليستعدّوا له بالأعمال الصالحة والتوبة من الأعمال السيئة؛ لأنه إذا جاء؛ ختم عمل الإنسان، وهو لا يقبل التأخير‏.‏ وعند الموتُ تقبضُ روح الإنسان من جسده بأمر الله تعالى‏.‏ وقد أسند اللهُ قبضَ الأنفس إليه سبحانه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا‏}‏، وأسنده إلى الملائكة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ‏}. ولا تعارض بين الآيات، والإضافة في هذه الآيات إلى كل بحسبه؛ فالله هو الذي قضى بالموت وقَدَّرَهُ، فهو بقضائه وقدره وأمره، فأضيف إليه التوفي لأجل ذلك، ومَلَكُ الموت يتولى قبضها واستخراجها من البدن، ثم تأخذها منه ملائكةُ الرحمة أو ملائكةُ العذاب، ويتولونها بعده، فصحَّتْ إضافة التوفّي إلى كُلٍّ بحسبه‏.‏
التوفي بالنوم والتوفي بالموت:
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ ‏.‏
قال ابن عباس وأكثر المفسرين‏:‏ يقبضها قبضتين؛ قبضَ الموت وقبضَ النوم، ثمَّ في النوم يقبض التي تموت ويرسِلُ الأخرى إلى أجلٍ مُسمّى حتى يأتي أجلها وقت الموت‏.‏
والمعنى على هذا‏:‏ أن الله يتوفى نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها قبل يوم القيامة، ويتوفى نفس النائم ثم يرسلها إلى جسده إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الأخرى؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ‏}‏ ‏.‏
حقيقه الروح:
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏‏:‏ ‏"‏ومذهبُ الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ وسائر سَلَفِ الأمة وأئمة السنة‏:‏ أنَّ الروح عينٌ قائمةٌ بنفسها، تفارق البدن، وتُنَعَّمُ، وتُعَذَّبُ، ليست هي البدن، ولا جزء من أجزائه، ولمَّا كان الإمام أحمد، رحمه الله، مِمّنْ نصَّ على ذلك كما نصَّ عليه غيره من الأئمة؛ لم يختلف أصحابه في ذلك‏"‏‏.‏
وقال في موضع آخر‏‏:‏ ‏"‏والصواب أنها ليست مُرَكَّبَةً من المادة والصورة، وليست من جنس الأجسام المشهودة المعهودة، وأمَّا الإشارةُ إليها؛ فإنه يُشَارُ إليها، وتَصْعَدُ، وتَنْزِلُ، وتخرجُ من البدن، وتسيل منه؛ كما جاءت بذلك النصوص ودَلَّتْ عليه الشواهد العقلية‏.‏
وأما قول القائل‏:‏ أين مسكنُها من الجسد‏؟‏ فلا اختصاصَ للروح بشيءٍ من الجسد، بل هي ساريةٌ في الجسد كما تسري الحياة التي هي عَرَضٌ في جميع الجسد؛ فإنَّ الحياة مشروطة بالروح؛ فإذا كانت الروح في الجسد؛ كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح؛ فارقته الحياة‏"‏‏.‏
فتنةُ القبر وعذابُه ونعيمُه
الإيمان باليوم الآخر يعني الإيمان بكل ما أخبرَ به النبي، صلّى الله عليه وسلم، مما يكون بعد الموت، ومن ذلك الإيمان بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه‏.‏ وذلك أنَّ بين الموت الذي تنتهي به الحياة الأولى وبين البعث الذي تبتدئ به الحياة الثانية فترةً جاءت تسميتُها في القرآن الكريم برزخاً.
سؤالُ المَلَكَين:
ويُسَمّى بفتنة القبر، وهي الامتحان والاختبار للميت حين يسأله المَلَكانِ‏.‏
وقد تواترت الأحاديثُ عن النبيّ، صلّى الله عليه وسلم، في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم‏.‏
صفة سؤال الملكين على ما وردت به الأحاديث:
جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فَتُعَادُ روحُه ‏-‏يعني الميت‏-‏ في جسده، ويأتيه مَلَكَان‏).‏ وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏من حديث قتادة عن أنس‏:‏ أنَّ النبيَّ، صلّى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏إنّ الميِّتَ إذا وُضِعَ في قبره، وتولّى عنه أصحابُه؛ إنه ليسمعُ خفقَ نعالِهم؛ أتاهَ مَلَكان، فَيُقْعِدانه، فيقولان له ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل محمّدٍ‏؟‏ فأمَّا المؤمنُ فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله. قال: فيقول انظرْ إلى مقعدك من النار؛ قد أبدلكَ اللهُ به مقعداً من الجنة‏)‏‏.‏ قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فيراهُما جميعاً‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فأمّا الكافرُ والمنافق؛ فيقولان له‏:‏ ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل‏؟‏ فيقول‏:‏ لا أدري‏!‏ كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ‏.‏ فيقولان له‏:‏ لا دريتَ ولا تليتَ‏.‏ ثم يُضْرَبُ بمَطارقَ من حديدٍ بين أذنيه، فيصيحُ صيحةً، فيسمعُهَا من عليها غيرُ الثَّقَلين‏"‏‏.‏
وفي حديث آخر في ‏"‏صحيح أبي حاتم‏"‏‏:‏ ‏(‏أتاه ملكانِ أَسْوَدانِ أزرقانِ؛ يقال لأحدهما المُنْكَر، وللآخر النَّكِير‏)‏ ‏.‏
ويُستفادُ من هذه الأحاديث وما جاء بمعناها ما يلي:
1‏.‏ أن السؤال يحصل حين يوضع الميت في قبره.       2‏.‏ تسمية الملكين منكر ونكير.
3‏.‏ أنها تُرَدُّ روحُ المَيِّتِ إليه في قبره حينَ السؤال، ويجلسُ ويُسَتْنَطقُ.
عذابُ القبر ونعيمهُ:
مذهبُ سَلَفِ الأمة وأئمتها أنَّ الميت إذا مات يكونُ في نعيمٍ أو عذابٍ، وأنّ ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأنّ الروح تبقى بعد مفارقة البدن مُنَعَّمَةً أو مُعَذَّبَةَ، وأنها تتصل بالبدن أحياناً، ويحصل له معها النعيم أو العذاب‏.‏ فأهل السنة والجماعة يتَّفِقون على أن النفس تُنَعَّمُ وتُعَذَّبُ منفردةً عن البدن وتُنَعَّمُ وتُعَذَّبُ مُتَّصِلَةً بالبدن، والبَدنُ متصلٌ بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين؛ كما يكون ذلك على الروح منفردة عن البدن.‏
من أدلة عذاب القبر ونعيمه من القرآن الكريم:
1‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ، وهذا خطاب لهم عند الموت، وقد أخبرت الملائكة وهم الصادقون أنهم حينئذٍ يُجْزَون عذاب الهون، ولو تأخَّر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا؛ لما صحَّ أن يقال لهم‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ‏}‏، فدلَّ على أن المُرادَ به عذابُ القبر‏.‏
2. وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏ ‏.‏ فَذكَر عذابَ الدَّارينِ ذكراً صريحاً لا يحتملُ غيره، فدلَّ على ثبوت عذاب القبر‏.‏
من  أدلَّة عذاب القبر من السنة النبوية:
1‏.‏ ما في ‏"‏الصحيحين‏"‏عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أنَّ النبيَّ، صلّى الله عليه وسلم، مرَّ بقبرين، فقال إنهما لَيُعَذَّبانِ، وما يُعَذَّبان في كبيرٍ أمّا أحدُهما؛ فكان لا يستبرئ من البَوْل، وأما الآخر؛ فكان يمشي بالنميمة. ثم دعا بجريدةٍ، فَشَقَّها نصفينٍ، فقال لعلَّهُ يُخَفَّفُ عنهما ما لم ييبسا‏)‏ ‏.‏
2. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ هذه الأمةَ تُبَتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا؛ لدعوتُ الله أن يُسْمِعَكُم من عذاب القبر الذي أَسمعُ منه‏)‏.‏
3‏.‏ في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏وجميع ‏"‏السنن‏"‏عن أبي هريرة‏:‏ أنَّ النبي، صلّى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا فرغ أحدُكم من التشهُّد الأخير؛ فليتعوذ بالله من أربعٍ من عذاب جهنَّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجّال‏)‏‏.‏
4‏.‏ وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت‏:‏ دخل عليَّ رسولُ الله، صلّى الله عليه وسلَّم، فقلتُ يا رسول الله‏!‏ إنَّ عجوزاً من عجائز يهود أهل المدينة دخلَتْ فزعمتْ أنَّ أهل القبور يُعَذَّبون في قبورهم‏؟‏ قالَ صَدَقَتْ؛ إنَّهم يُعذَّبون عذاباً تسمعُه البهائُم كلُّها. قالت: فما رأيتهُ بعدُ في صلاةٍ إلا يتعوذُ من عذاب القبر‏)‏
ملاحظة هامة جداً:
وعذابُ القبر وسؤال الملكَينِ ينالانِ كُلَّ مَنْ ماتَ، ولو لم يُدْفَنْ؛ فهو اسمٌ لعذاب البرزَخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ، وسُمِّيَ عذاب القبر باعتبار الغالب؛ فالمصلوبُ والمُحْرَقُ والمُغْرَقُ وأكيلُ السباع والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قِسْطُهُ الذي تقتضيه أعماله، وإنْ تنوعَتْ أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما‏.‏
حتَّى لو عُلِّقَ الميِّتُ على رؤوس الأشجار في مهاب الرياح؛ لأصاب جسدَهُ من عذاب البرزخ حظُّه ونصيبُه، ولو دٌفِنَ الرجل الصالح في أتونٍ من النار؛ لأصاب جسدَهُ من نعيم البرزخ وروحه نصيُبه وحظُّه ....
فعناصرُ العالم وموادُّه مُنقادةٌ لربِّها وفاطرها وخالقها؛ يُصَرِّفُها كيف يشاء، ولا يستعصي منها شيءٌ أرادَهُ، بل هي طوعُ أمره ومشيئته مُنقادةٌ لقدرته؛ فغير ممتَنِعٍ أن تُرَدَّ الروحُ إلى المصلوب والغريق والمُحْرَقِ ونحن لا نشعر بها؛ لأن ذلك الردَّ نوعٌ آخر غير المعهود؛ فهذا المُغمى عليه والمسكور والمبهوتُ أحياء وأرواحهم معهم ولا تشعر بحياتهم، ومن تفرقت أجزاؤه لا يمتنعُ على مَنْ هو على كل شيء قدير أن يجعل للروح إتِّصالاً بتلك الأجزاء على تباعد ما بينها وقُرْبِهِ، ويكون في تلك الأجزاء شعورٌ بنوع من الألم واللذة‏.‏
قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏"‏فأمَّا أحاديثُ عذاب القبر ومسألة مُنْكَرِ ونكير؛ فكثيرةٌ متواترةٌ عن النبيّ، صلّى الله عليه وسلم؛ مثل ما في ‏"‏الصحيحين‏"‏عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏أنَّ النبي، صلّى الله عليه وسلم، مرَّ بقبرين، فقال إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير أما أحدهما؛ فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر؛ فكان لا يستتر من بوله ثم دعا بجريدةٍ رطبةٍ، فشقَّها نصفينِ، ثم غرز في كل قبرٍ واحدةً، فقالوا يا رسول الله‏!‏ لم فعلتَ هذا‏؟‏ قال لعلَّهُ يُخفف عنهما ما لم ييبسا‏)‏ ‏.‏ وفي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏وسائر ‏"‏السنن‏"‏عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا فرغ أحدُكم من التشهد الأخير؛ فليقل أعوذُ بالله من أربع من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏)‏‏‏"‏‏.‏
وقال شارح الطحاوية رحمه الله‏:‏ ‏"‏وقد تواترت الأخبار عن رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، في ثبوتِ عذابِ القبر ونعيمه لِمَنْ كان لذلك أهلاً وسؤالٍ الملكين؛ فيجبُ اعتقاد ذلك والإيمان به، ولا نتكلَّمُ عن كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوفٌ على كيفيته؛ لكونه لا عهدَ له في هذه الدار، والشرعُ لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنَّه قد يأتي بما تحار فيه العقول؛ فإنَّ عودَ الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادةً غيرَ الإعادةِ المألوفة في الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏
إنَّ عذاب القبر هو عذابُ البرزخ؛ فكلُّ مَنْ مات وهو مُسْتَحِقٌّ للعذاب ناله نصيبُه منه؛ قُبِرَ أو لم يًقْبَرْ، أكلتُه السَّباعُ أو احترقَ حتى صار رماداً ونُسِفَ في الهواء أو صُلِبَ أو غَرِقَ في البحر؛ وَصَلَ إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور، وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه ونحو ذلك؛ فيجب أن يُفهمَ عن الرسول، صلّى الله عليه وسلم، مراده من غير غُلُوٍّ ولا تقصيرٍ .‏‏.‏‏.‏‏‏‏.‏
أسباب عذاب القبر
قال العلامة السفاريني‏:‏ ‏"‏الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور على قسمين‏:‏ مُجْمَلٌ ومُفَصَّلٌ‏:‏
أما المُجْمَلُ؛ فإنهم يُعَذَّبون على جهلهم بالله وعدم إطاعتهم لأمره وارتكابهم معاصيه؛ فلا يُعَذِّبُ اللهُ روحاً عرفته وأحبته وامتثلتْ أمره واجتنبتْ نهيه، ولا بدناً كانت فيه أبدا؛ فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضبِ الله وسخطهِ على عبده؛ فمن أغضبَ اللهَ وأسخطه في هذه الدار بارتكاب مناهيه ولم يَتُبْ وماتَ على ذلك؛ كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه؛ فَمُسْتَقِلٌّ ومُسْتَكْثِرٌ، ومُصَدِّقٌ ومُكَذِّبٌ‏.‏
وأما المُفَصَّلُ؛ فقد أخبر رسولُ الله، صلّى الله عليه وسلم، عن الرجلين اللذين رآهما يُعَذَّبان في قبورهما‏:‏ أنَّ أحدهما كان يمشي بالنميمة بين الناس، والآخر كان لا يستتر من البول ... ثم ذَكَرَ مَنْ يُعَذَّبُ لكونه صلّى بغير طهورٍ، ومَن مرَّ على مظلومٍ فلم ينصره، ومن يقرأ القرآن ثم ينامُ عنه بالليل ولا يعمل به في النهار، وتعذيب الزناة والزواني وأَكَلَةِ الربا والذين تتثاقل رءوسهم عن صلاة الفجر، وتعذيب الذين يمنعون الزكاة، والذين يُوقِدُون الفتنة بين الناس، والجبّارين والمتكبرين والمرائين والهَمَّازين واللمَّازين‏.‏
وقد أنكرَ الملاحدة والزنادقة عذابَ القبر ونعيمه اعتماداً على عقولهم وحواسِّهم؛ لأنهم لا يشاهدون شيئا من ذلك‏.‏‏.‏‏.‏‏
ونردُّ عليهم بأن عذاب القبر من علم الغيب الذي يُعْتَمَدُ فيه على النصوص الصحيحة، وليس للعقل ولا الفكر دخل فيه، وأحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا، وعدم إدراك الإنسان للشيء لا يدل على عدم وجوده‏.‏ والله أعلم‏.‏
البعث والنُّشُور
إنّ وقوع البعث من القبور قد دلَّ عليه الكتاب والسنَّةُ والعقل والفطرة السليمة؛ أخبرَ اللهُ عنه في كتابه العزيز، وأقام عليه الدليل، وردَّ على منكريه في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن العظيم، وقد أخبر عنه جميع الأنبياء أممهم، وطالبوا المنكرين بالإيمان به.
وقد أخبر الله تعالى أن الموتى يقومون من قبورهم إذا نُفِخَ في الصُّور النفخة الثالثة؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ‏}‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ‏}‏ ‏.‏
وفي تفسير الثعلبي عن أبي هريرة رضي الله عنه في تفسير سورة الزُّمَر مرفوعاً‏:‏ ‏(‏إنَّ الله يُرسِلُ مطراً على الأرض، فينزلُ عليها أربعين يوماً، حتى يكون فوقهم اثني عشر ذراعاً، فيأمر الله تعالى الأجساد أن تنبت كنبات البقل).
وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ينزل من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقلُ، وليسَ من الإنسان شيء إلا يَبْلَى؛ إلا عَظيمٌ واحدٌ، وهو عجبٌ الذَّنَبِ، منه يُرَكَّبُ الخلقُ يوم القيامة‏)‏ ‏.‏
وفي روايات مسلم‏:‏ ‏(‏إنَّ في الإنسان عَظْمَاً لا تأكله الأرض أبداً، منه يُرَكَّبُ الخلق يوم القيامة‏.‏ قالوا‏:‏ أيُّ عظمٍ هو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ عجبُ الذنَب‏)‏ ‏.‏
وقد اخْتُلِفَ في تسمية ذلك اليوم بيوم القيامة‏ على النحو التالي:
1. قيل‏:‏ لكون الناس يقومون من قبورهم؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا‏}‏ ‏.‏
2. وقيل‏:‏ لوجود أمور المحشر والوقوف ونحوها فيه‏.‏
3. وقيل‏:‏ لقيام الناس لرب العالمين‏.
4. وقيل‏:‏ إنما سُمِّيَ يوم القيامة لقيام الملائكة والروح فيه صَفّاً؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً‏:‏ ‏(‏يعرقُ الناس يوم القيامة حتى يذهبَ عرقُهُم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم)، وفي بعض ألفاظ الصحيح سبعين عاماً‏)‏.‏ وأخرج مسلم عن المقداد رضي الله عنه؛ قال‏:‏ سمعتُ رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يقول‏:‏ ‏(‏إذا كان يوم القيامة؛ أُدنيتْ الشمسُ من العباد حتى تكون قدَر ميلٍ أو ميلين‏)‏ ‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاما‏)‏‏‏.‏
ويواجه الناسُ في هذا الموقف أموراً عظيمةً منها‏:‏
1. الحساب:
الحسابُ هو تعريف الله سبحانه الخلائق مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه‏.‏ ومن الحساب إجراءُ القصاص بين العباد، فَيُقْتَصُّ للمظلوم من الظالم. والحساب متفاوت؛ فمنه الحساب العسير، ومنه الحساب اليسير‏.‏ وأول ما يُحَاسَبُ عنه العبد صلاته، وأولُ ما يُقضى بين الناس في الدماء.
2. إعطاء الصَّحائف:
الصحائف هي الكتبُ التي كتبتها الملائكةُ وأحصوا فيها ما فعله كل إنسان في الحياة الدنيا من الأعمال القولية والفعلية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ؛ قال العلماء‏:‏ طائرهُ:‏ عمله‏.‏ ومنهم من يُعطى كتابه بيمينه، ومنهم من يُعطى كتابه بشماله‏.‏
3. وزن الأعمال:
مِمّا يكون في هذا اليوم وزنُ الأعمال‏:‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ‏}‏ ، فالأعمال توزنُ بميزانٍ حقيقيٍ له لسان وكَفَّتَان‏.‏
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏الميزانُ‏:‏ هو ما يوزن به الأعمال، وهو غيرُ العدل؛ كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة؛ مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏  ثم ساق بعضّ الأحاديث التي فيها وزن الأعمال، ثم قال‏:‏ ‏"‏وهذا وأمثاله مما يُبَيِّنُ أنّ الأعمال توزنُ بموازين يبينُ بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس؛ فهو مما يُتَبَيَّنُ به العدل، والمقصودُ بالوزن العدل؛ كموازين الدنيا، وأما كيفية تلك الموازين؛ فهو بمنزلة كيفية سائر ما أُخْبِرْنَا به من الغيب‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏
4. الصراط والمرور عليه:
ومما يكون في يوم القيامة المرور على الصراط، وهو جِسْرٌ ممدود على متن جهنم، يَرِدُهُ الأوّلون والآخرون، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، وهو أدقُّ من الشعر، وأَحَدُّ من السيف، وأشدُّ حرارة من الجمر، عليه كلاليب تخطف مَنْ أُمِرَتْ بخطفه، يمرُّ الناس عليه على قدر أعمالهم؛ فمنهم مَنْ يمرّ كالبرق، ومنهم مَنْ يمرّ كالريح، ومنهم مَنْ يمرُّ كالفرس الجواد، ومنهم مَنْ يمرُّ كهرولة الراجل، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم مَنْ يزحف زحفاً، ومنهم من يُخْطَفُ فيُلقى في جهنم‏.
5. الحوض:
أخرج الشيخان وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حوضي مسيرةُ شهرٍ، ماؤه أبيضُ من اللَّبَنِ، وريحُه أطيبُ من المسك، وكيزانه كنجومِ السماء، من شَرِبَ منه؛ لا يظمأُ أبداً‏)‏‏.‏
وروى مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال‏:‏ ‏(‏أغفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إغفاءةً، ثم رفع رأسه متبِّسماً، فقال إنه أُنزلَتْ عليَّ آنفا سورةُ، فقرأ ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏ ‏{‏إنا أعطيناك الكوثر‏}‏ حتى ختمها؛ قال هل تدرون ما الكوثر‏؟‏ قالوا الله ورسوله أعلم قال: هو نهرٌ أعطانيه ربي في الجنة، عليه خير كثير، تردُ عليه أمتي يوم القيامة، آنيتهُ عددُ الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول يا رب‏!‏ إنه من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك‏)‏ ‏.‏ ومعنى يختلج‏:‏ يطرد عن ورود الحوض‏.‏
6. الشفاعة:
الشفاعةُ لغةً‏:‏ الوسيلةُ والطلب. وعرُفاً‏:‏ سؤالُ الخير للغير، وقيل‏:‏ هي من الشّفع الذي هو ضدُّ الوتر، فكأنَّ الشافع ضمَّ سؤاله إلى سؤال المشفوع له‏.‏
والشفاعةُ حقٌّ إذا تحققت شروطها، وهي‏:‏ أن تكون بإذن الله تعالى، ورضاه عن المشفوع له‏.‏ أن الشفاعة لا تنفع إلا بشرطين‏:‏
الأول‏:‏ إذنُ الله للشافع أن يَشْفَع؛ لأن الشفاعة مُلْكُهُ سبحانه؛ ‏{‏قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا‏}‏ ‏.‏
الثاني‏:‏ رضاهُ عن المشفوع فيه بأن يكون من أهل التوحيد؛ لأنَّ المُشرك لا تنفعه الشفاعُة؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ‏}‏ ‏.‏
وقد أعطي نبينا، صلّى الله عليه وسلم، الشفاعة، فيشفع لمن أذن الله له فيه‏.‏
الجنة والنار:
في يوم القيامة الدّارانِ العظيمتان اللتان لا تفنيان؛ الجنة والنار؛ فالجنة دار المُتَّقِين، والنار دار الكافرين‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ‏}‏ ‏.‏
وهما مخلوقتان موجودتان الآن؛ كما قال تعالى في الجنة‏:‏ ‏{‏أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ، وقال في النار‏:‏ ‏{‏أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏}‏ ، وغير ذلك من النصوص التي تدلُّ على وجودهما الآن‏.‏ وانهما باقيتان لا تفنيان؛ كما هو مذهب أهل السنة والجماعة‏.‏
الإيمان بالقَضاء والقَدَرِ
والقدر‏: هو‏ تعلُّقُ علم الله بالكائنات وإرادتُهُ لها أزلاً قبل وجودها؛ فلا يحدثُ شيءٌ إلاّ وقد عَلِمَهُ اللهُ وقَدَّرَهُ وأرادَه‏.‏ ومذهب أهل السنة والجماعة هو الإيمان بالقدر خيره وشره‏.‏
والإيمان بالقدر يتضمن أربع درجات‏:‏
الأولى‏:‏ الإيمان بعلم الله الأزليّ بكلِّ شيءٍ قبل وجوده، ومن ذلك علمه بأعمال العباد قبل أن يعملوها‏.‏
الثانية‏:‏ الإيمان بأنَّ الله كتبَ ذلك في اللوح المحفوظ‏.‏
الثالثة‏:‏ الإيمانُ بمشيئة الله الشاملة لكل حادثٍ وقدرته التامة عليه‏.‏
الرابعة‏:‏ الإيمان بإيجاد الله لكل المخلوقات، وأنه الخالق وحده، وما سواه مخلوق‏.‏
والتقدير نوعان‏:‏
1‏.‏ تقديرٌ عامٌ شاملٌ لكلَّ كائنٍ، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ؛ فقد كتبَ اللهُ فيه مقادير كل شيءٍ إلى أن تقوم الساعة، كما في الحديث الذي رواه أبو داوود في ‏"‏سننه‏"‏عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال‏:‏ سمعت رسولَ الله، صلّى الله عليه وسلم، يقول‏:‏ ‏(‏أول ما خَلَقَ الله القَلُم، قال له اكتُبْ‏!‏ قال وما أكتبُ‏؟‏ قال اكتبْ مقاديرَ كلِّ شيءٍ حتى تقوم الساعة‏)‏‏.‏ وهذا التقدير يعمُّ جميع المخلوقات‏.‏
2‏.‏ وتقدير مُفَصِّلٌ للتقدير العام، وهو أنواع‏:‏
النوع الأول‏:‏ التقدير العُمْرِيّ؛ كما في حديث ابن مسعود في شأن ما يُكْتَبُ على الجنين وهو في بطن أمِّه من كتابة أَجَلِه ورزقهِ وعملهِ وشقاوتهِ أو سعادته‏.‏
النوع الثاني‏:‏ التقدير الحَوْلِيّ، وهو ما يُقَدَّرُ في ليلة القدر من وقائع العام؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏.
النوع الثالث‏:‏ التقدير اليوميّ، وهو ما يُقَدَّرُ من حوادث اليوم من حياةٍ وموتٍ وعزٍّ وذُلٍّ‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}‏.
ولا بدَّ للمسلم من الإيمان بالقدر العام وتفاصيله؛ فمن جحدَ شيئاً منهما؛ لم يكن مؤمناً بالقدر، ومن لم يؤمن بالقدر؛ فقد جحدَ ركناً من أركان الإيمان.
وقد علَّقَ اللهُ مشيئةَ العبد على مشيئته سبحانه، وربَطَهَا بها‏.‏ وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في هذه القضية، فلم يُفَرِّطوا تفريط القَدَريّة النُّفَاة، ولم يُفَرِّطوا إفراطَ الجبرية الغُلاة‏.‏
فمذهب سلف الأمة وأئمتها أن جميع أنواع الطاعات والمعاصي والكفر والفساد واقع بقضاء الله وقدره، لا خالق سواه؛ فأفعال العباد كلهُّا مخلوقةٌ لله؛ خيرُّها وشرُّها، حَسَنُها وقبيحُها، والعبدُ غيرُ مجبورٍ على أفعاله، بل هو قادرٌ عليها وقاصدٌ لها وفاعلٌ لها‏.‏
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي هي من العبد، بمعنى أنها قائمةٌ بالعبد وحاصِلَةٌ بمشيئته وقدرته، وهو المُتَّصِفُ بها والمتحرك بها الذي يعود حكُمها عليه، وهي من الله، بمعنى أنه خَلقَها قائمةً بالعبد، وجعلها عملاً له وكسباً؛ كما يخلق المسببات بأسبابها؛ فهي من الله مخلوقةٌ له، ومن العبد صفةٌ قائمةٌ به واقعةٌ بقدرته وكسبه؛ كما إذا قلنا‏:‏ هذه الثمرة من الشجرة، وهذا الزرع من الأرض؛ بمعنى أنه حدث منها، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها، لم يكن بينهما تناقض‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏
وقال السفاريني‏:‏ ‏"‏والحاصل أنَّ مذهب أهل السلف ومحققي أهل السنة أنَّ الله تعالى خلقَ قدرة العبد وإرادته وفعله، وأنَّ العبد فاعلٌ لفعله حقيقةً ومُحْدِثٌ لفعله، والله سبحانه جعله فاعلاً له مُحْدِثاً له؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏؛ فأثبت مشيئة العبد، وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة الله، وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد، وأنها لا تكون إلا بمشيئة الله‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى‏.‏
ومما يؤيد هذا أن الله أعطى الإنسان عقلاً وقُدرةً واختياراً، ولا يُحْتَسَبُ فعلُه له أو عليه؛ إلا إذا توفرت فيه هذه القوى‏.‏ فالمجنون والمعتوه أو المُكْرَهُ لا اعتبارَ لما يصدرُ منهم من الأقوال والأفعال، ولا يُؤاخَذُون عليها، مما يدل على أنه ليس بُمْجْبَرٍ ولا مُستقِلٍّ بنفسه‏.
من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر:
1. صحّةُ إيمان الشخص بتكامل أركانه؛ لأن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان الستة التي لا يتحقَّقُ إلا بها؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنة‏.‏
2. ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر طمأنينةُ القلب وارتياحه وعدم القلق في هذه الحياة عندما يتعرَّضُ الإنسان لمشاقِّ الحياة؛ لأن العبد إذا عَلِمَ أنّ ما يُصيبه فهو مُقَدَّرٌ لا بدَّ منه ولا رادَّ له، واستشعر قول الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏واعلم أن ما أصابك لم يكن لِيُخْطِئَكَ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك‏)‏ ؛ فإنه عند ذلك تسكن نفسه ويطمئن باله؛ بخلاف من لا يؤمن بالقضاء والقدر؛ فإنه تأخذه الهموم والأحزان، ويزعجه القلق حتى يتبرَّم بالحياة ويحاول الخلاص منها ولو بالانتحار؛ كما هو مُشاهَدٌ من كثرة الذين ينتحرون فراراً من واقعهم وتشاؤماً من مستقبلهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالقضاء والقدر، فكان تصرفهم ذلك نتيجةً حتميةً لسوء اعتقادهم‏.‏
3. ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الثباتُ عند مواجهة الأزمات، واستقبال مشاقِّ الحياة بقلبٍ ثابتٍ ويقينٍ صادقٍ لا تزلزله الأحداث ولا تهزه الأعاصير؛ لأنه يعلم أن هذه الحياة دار ابتلاء وامتحان وتقلب.
4. ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر تحويل المِحَنِ إلى مِنَحٍ، والمصائب إلى أجرٍ؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏.
ومعنى الآية الكريمة‏:‏ من أصابته مصيبةٌ، فَعِلمَ أنها مِنْ قدر الله، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله؛ هدى اللهُ قلبه، وعوَّضه عمّا فاته من الدنيا هدىً في قلبه ويقيناً صادقاً، وقد يُخْلِفُ الله عليه ما كان أَخَذَ منه أو خيراً منه، وهذا في نزول المصائب التي هي من قضاء الله وقدره، لا دخلَ للعبد في إيجادها إلا من ناحية أنه تسبَّبَ في نزولها به، حيث قَصَّرَ في حقِّ الله عليه بفعل أمره وترك نهيه؛ فعليه أن يؤمن بقضاء الله وقدره، ويصحح خطأه الذي أُصِيبَ بسببه‏.‏
5. ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر أنه يدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج والقوة والشهامة؛ فالمجاهد في سبيل الله يمضي في جهاده ولا يهاب الموت؛ لأنه يعلم أنه لا بدَّ منه، وأنه إذا جاء لا يُؤَخَّرُ، لا يمنعُ منه حصونٌ ولا جنود، ‏{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}‏. ‏{‏قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ‏}.‏ وهكذا حينما يستشعرُ المجاهدُ هذه الدفعات القوية من الإيمان بالقدر؛ يمضي في جهاده حتى يتحقق النصر على الأعداء وتتوفر القوة للإسلام والمسلمين‏.‏