مراجعة مادة "قضايا معاصرة"+مادة "دعوة غير المسلمين"


مراجعة عامّة هامّة لمادة "قضايا معاصرة"
إعداد الدكتور راجح السباتين / جامعة طيبة/ كلية العلوم والآداب بالعُلا
أولاً: التكفير، ضوابطه وأسبابه ومنهج أهل السُّنَّة والجماعة فيه
الكفر لغةً: هو التغطية والستر والظلام، وكلُّ شيءٍ غطّى شيئاً فقد كفره.
الكفر شرعاً: كلَّ اعتقادٍ أو قولٍ أو فعلٍ حَكَمَ الشرعُ بأنه كفر. هو نقيض الإيمان  كجحد الربوبية، أو النبوة، أو جحد ما جاء به النبي، صلّى الله عليه وسلم، أو جحد بعضه، ومنه الشرك الأكبر. والإعراض عن الدين بالكلية. وجحد شيءٍ مما ثبت في النصوص، أو معلومٍ من الدين بالضرورة.
والمُلاحَظُ أنّ عامة العلماء حين عَرَّفُوا الكفر شرعاً حصروه بالكفر الأكبر، وهو الكفر المُطْلَقُ، مع أنه كثيراً ما يُطلقُ مقيداً على الكفر الأصغر. ويُفهمُ من ذلك أنهم لا يرون الكفر الأصغر من الكفر المُخرِج من الملّة، وصاحبه ليس كافراً بل هو باقٍ على أصل الإسلام.
الكفر قسمان:
الأول: الكفر الأصلي: وهو حكم شرعي ثابت قطعي، وهو كُفرُ كلِّ مَنْ لم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله (ويلتزم شروطها). ومنه كفر اليهود والنصارى (أهل الكتاب)، وكفر المشركين، ومنهم أصحاب الديانات الوثنية والوضعية، والملاحدة، فهؤلاء كلُّهم كُفَّارٌ خُلَّصٌ بقطعيات النصوص والإجماع.
الثاني: الكفر غير الأصلي (الطارئ): وهو الكفر الذي يقع فيه مَنْ كان على أصل الإسلام، من أهل القبلة (المسلمين)، ثمَّ تحوَّل إلى الكُفر ....

أبرز وأهمّ الضوابط التي وضعها العلماء في موضوع التكفير
1- إنَّ التكفير من الأحكام الخطيرة والحسّاسة، ولا تكون إلا بتثبّتٍ وبيّناتٍ. وقد جاء فيه الوعيدُ كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما). ويجب أن يحرص المسلم على دفع الكفر ودرئه عن المسلم قدر الإمكان.
2- إنّ الذي يحكم ويتولّى الحكم بالكفر ولوازمه على الأعيان من الأفراد والهيئات والدول هم العلماء الرَّاسخون، لا سيّما عند الفتن، وفي المواقف الكبرى والأحداث العظمـى.
3- إنَّ سائر ما وصفه النبيُّ، صلّى الله عليه وسلم، من أعمال المسلمين وأقوالهم بأنه (كفر) هو من الكفر الذي لا يُخْرِجُ من الملّة، ويبقى فاعلهُ (فرداً كان أو جماعة) على أصل الإسلام، في الواجبات والحقوق.
4- لا يجوز تكفير المعيَّنِ إذا قالَ كفراً، أو فعلَ كفراً، إلا بعد إزالة الشبهة وقيام الحجّة عليه، مِنْ قِبَلِ مَنْ يملك ذلك من أهل العلم.
5- أنه حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كفريات مُخِرجَةٌ من الملّة في ظاهرها، ولم يكفّر أعيان فاعليها؛ لعارض الجهل، أو الإكراه، أو التأوّل، أو نحو ذلك.
6- حين نستعرض أقوال السلف وآثارهم وأفعالهم وأحوالهم - من الصحابة والتابعين وأئمة السنة والجماعة وعلمائهم- نجد بيانهم للكفر وتحذيرهم منه في العقائد والأحكام وغيرها كثيراً جداً لكنَّ تكفيرهم للأعيان من الأفراد والفِرَقِ والهيئات نادرٌ جدّاً.
بيان هيئة كبار العلماء حول الغلو والتكفير وما ينجم عنهما من الفساد
"الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فقد درسَ مجلسُ هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة بالطائف ابتداءً من تاريخ 2/4/1419هـ ما يجري في كثيرٍ من البلاد الإسلامية وغيرها من التكفير والتفجير، وما ينشأ عنه من سفك الدماء، وتخريب المنشآت، ونظراً إلى خطورة هذا الأمر، وما يترتب عليه من إزهاق أرواحٍ بريئةٍ، وإتلاف أموالٍ معصومةٍ، وإخافةٍ للناس، وزعزعةٍ لأمنهم واستقرارهم، فقد رأى المجلسُ إصدارَ بيانٍ يوضّح فيه حكم ذلك نصحاً لله ولعباده، وإبراء للذمة، وإزالة للبس في المفاهيم لدى من اشتبه عليهم الأمر في ذلك، فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: التكفيرُ حكمٌ شرعيٌ، مردُّهُ إلى الله ورسوله، فكما أنّ التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كل ما وُصِفَ بالكفر من قول أو فعل، يكون كفراً أكبر مُخْرِجَاً عن الملة.
ولمّا كان مردُّ حكم التكفير إلى الله ورسوله لم يجز أن نكفّر إلا مَنْ دلّ الكتاب والسنة على كفره دلالةً واضحةً، فلا يكفي في ذلك مجرّدُ الشبهة والظن؛ لما يترتَّبُ على ذلك من الأحكام الخطيرة. وإذا كانت الحدود تُدْرَأُ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقلّ مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يُدْرَأ بالشبهات، ولذلك حذَّرَ النبيّ، صلّى الله عليه وسلم، من الحكم بالتكفير على شخصٍ ليس بكافر، فقال: (أيما إمرئٍ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه). وقد يَرِدُ في الكتاب والسنة ما يُفهمُ منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفرٌ، ولا يُكَفَّرُ مَنْ اتصف به؛ لوجود مانعٍ يمنع من كفره، هذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها، كما في الإرث، سببه القرابة -مثلاً- وقد لا يرث بها؛ لوجود مانعٍ، كاختلاف الدين، وهكذا الكفر، ويُكره عليه المؤمن، فلا يُكَفَّرُ به، وقد ينطق المسلم بكلمةٍ بالكفر؛ لغلبة فَرَحٍ أو غضبٍ أو نحوهما، فلا يكفر بها؛ لعدم القصد، كما في قصة الذي قال: (اللهم أنت عبدي، وأنا ربك) أخطأ من شدة الفرح.
والتسرع في التكفير يترتب عليه أمورٌ خطيرةٌ من استحلال الدم والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح، وغيرها مما يترتب على الردة، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة؟ وإذا كان هذا في ولاة الأمور كان أشدَّ؛ لما يترَّتبُ عليه من التمرد عليهم، وحمل السلاح عليهم، وإشاعة الفوضى، وسفك الدماء، وفساد أمور العباد والبلاد في دينهم ودنياهم. ولهذا منع النبي، صلّى الله عليه وسلم من منابذتهم، فقال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان). فأفاد قوله: (إلا أن تروا) أنه لا يكفي مجرَّدُ الظن والإشاعة. وأفاد قوله: (كفراً) أنه لا يكفي الفسوق ولو كَبُرَ، كالظلم وشرب الخمر ولعب القمار، والاستئثار المحرم. وأفاد قوله: (بواحاً) أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح، أي: صريح ظاهر، وأفاد قوله: (عندكم فيه من الله برهان) أنه لابد من دليلٍ صريحٍ، بحيث يكون صحيح الثبوت، صريح الدلالة، فلا يكفي الدليل ضعيف السند، ولا غامض الدلالة. وأفاد قوله: (من الله) أنه لا عبرة بقول أحدٍ من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة إذا لم يكن لقوله دليلٌ صريحٌ صحيحٌ من كتاب الله وسُنّة رسوله، صلّى الله عليه وسلم. وهذه القيود تدل على خطورة الأمر.
وجملة القول: أن التسرُّعَ في التكفير له خطره العظيم؛ لأنه قول على الله بغير بَيِّنَاتٍ وهذا من المحرَّمات الكبرى، لقول الله عز وجل: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33)
ثانياً: ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال الخاصة والعامة، وتفجير المساكن والمركبات، وتخريب المنشآت، فهذه الأعمال وأمثالها مُحَرَّمَةٌ شرعاً بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتكٍ لحرمة الأنفس المعصومة، وهتكٍ لحرمة الأموال، وهتكٍ لحرمات الأمن والاستقرار، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوهم ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها. وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم، وحَرَّمَ انتهاكها، وشدَّد في ذلك، وكان من آخر ما بلَّغَ به النبيُّ، صلّى الله عليه وسلم أمته، فقال في خطبة حجة الوداع: (إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ثم قال صلّى الله عليه وسلم: (ألا هل بلَّغتُ؟ اللهم فاشهد). وقال صلّى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه).
ثالثاً: إن المجلس إذ يبين حكم تكفير الناس بغير برهانٍ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخطورة إطلاق ذلك؛ لما يترتَّبُ عليه من شرور وآثام، فإنه يعلن للعالم أنَّ الإسـلام بـريءٌ من هذا المُعتَقَدِ الخاطئ، وأنَّ ما يجري في بعض البلدان من سفكٍ للدمــاء البريئة، وتفجيرٍ للمساكن، هو عمل إجرامي، والإسلام بريء منه، وهكذا كلُّ مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه، وإنما هو تصرّفٌ من صاحب فكرٍ منحـرفٍ، وعقيـدةٍ ضـالّةٍ، فهو يحمل إثمه وجرمه، فلا يحتسب عمله على الإسلام، ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام، المعتصمين بالكتاب والسنة، المتمسّكين بحبل الله المتين، وإنما هـو محض إفسـاد وإجـرام تـأباه الشريعة والفطرة، ولهذا جـاءت نصـوص الشريعـة قـاطعةً بتحـريمه، مُحَذِّرَةً من مصاحبة أهله.
أســباب التكفير
أ- الأسباب العامة في ظهور التشدد والتكفير في كل زمانٍ ومكانٍ:
1- شيوع البدع والمنكرات والفساد والظلم في المجتمعات، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التقصير فيه، كما في كثير من البلاد الإسلامية.
2- قلة الفقه في الدين (أي ضعف العلم الشرعي)، أو أخذ العلم عن غير أهله أو على غير نهجٍ سليمٍ، أو تَلَقِّيهِ عن غير أهليةٍ ولا جدارة.
3- ظهور نزعات الأهواء والعصبيات والتحزبات والشعارات.
4- الابتعاد عن العلماء وجفوتهم، وترك التلقّي عنهم، وعدم الاقتداء بهم، وما نتج عن ذلك من التلقي عن دعاة السوء والفتنة والأهواء والالتفاف حولهم.
5- التعالم والغرور، والتعالي على العلماء وعلى الناس، واحتقار الآخرين وآرائهم.
6- النقمة على الواقع وأهله؛ بسبب سوء الأوضاع الدينية والاقتصادية والسياسية في كثير من بلاد المسلمين،وما يترتب على ذلك من ردود الأفعال التي لا تُقَدِّرُ عواقبَ الأمور.
7- تحدي الخصوم (في الداخل والخارج)، واستفزازهم للغيورين، وللشباب وللدعاة، وكذلك كيدهم للدين وأهله، وطعنهم في السلف الصالح.
8- قلة الصبر، وضعف الحكمة في الدعوة لدى كثيرٍ من الغيورين؛ ولا سيما بعض الشباب المُتَديِّنِ، ومن ذلك ضعف إدراك الكثيرين لسنن الله تعالى الكونية والشرعية، في الصراع والتدافع بين الحق والباطل، والقواعد الشرعية التي تحكم ذلك.
ب- أسباب ظهور الغلو والتكفير ومظاهره بين المسلمين في العصر الحديث:
أولاً: إعراض أكثر المسلمين عن دينهم، عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً، إعراضاً لم يحدث مثله في تاريخ الإسلام، مما أوقعهم في ضنك العيش، وفي حياة الشقاء. كما قال تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
ويتجلى هذا الإعراض بأمور كثيرة في حياة كثير من المسلمين اليوم؛ أفراداً وجماعات، ودولاً وشعوباً، وهيئات ومؤسسات، ومن مظاهر هذا الإعراض:
1- كثرة البدع والعقائد الفاسدة، وما نتج عن ذلك من الافتراق والفِرَقِ والأهواء، والتنازع والخصومات في الدين.
2- الإعراض عن نهج السلف الصالح وجهله، أو التنكر له.
3- الجهل بقواعد الشرع ومقاصده عموماً، والجهل بقواعد التكفير وشروطه.
4- العلمنة الصريحة في أكثر بلاد المسلمين، والتي أَدَّتْ إلى الإعراض عن شرع الله، وإلى الحكم بغير ما أنزل الله، وظهور الزندقة والتيارات الضالة، والتنكُّر للدين والفضيلة.
5- وقوع أكثر المسلمين في التقصير في حق الله تعالى، وارتكابهم للذنوب والمعاصي، والمنكرات، وضعف مظاهر التقوى والورع والخشوع في حياة المسلمين اليوم.
6- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التقصير فيه في أكثر بلاد المسلمين.
ثانياً: شيوع الظلم بشتَّى صوره وأشكاله: ظلم الأفراد، وظلم الشعوب، وظلم الولاة وجورهم، وظلم الناس بعضهم لبعض، بما ينافي مقاصد الشريعـــة، وما أمر الله به، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، من تحقيق العدل، ونفي الظلم، مما يُنمِّي مظاهر السخط والتذمر والحقد والتشفي في النفوس.
ثالثاً: تحكم الكافرين: (من اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين) في مصالح المسلمين، وتدخُّلهم في شؤون البلاد الإسلامية، ومصائر شعوبها عبر الاحتلال، والغزو الفكري والإعلامي والاقتصادي، وتحت ستار المصالح المشتركة، أو المنظمات الدولية، ونحو ذلك مما تداعت به الأمم على المسلمين من كل حدبٍ وصوبٍ، بين طامعٍ وكائدٍ وحاسدٍ. وغير ذلك من صور التحكُّم في مصائر المسلمين والحجر عليهم، مما أدى إلى تذمُّرِ المسلمين كلهم، وشعور طوائف من شبابهم ومُثَقَّفيهم وأهل الغيرة منهم بالضيم والإذلال والإحباط، وما ينتج عن ذلك من ردود الأفعال والسخط والعنف.
رابعاً: محاربة التمسُّكِ بالدين والعمل بالسنن، والتضييق على الصالحين والمتمسكين بالسنة، والعلماء، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وبالمقابل التمكين لأهل الفسق والفجور والإلحاد، مما يُعَدُّ أعظمَ استفزازٍ لذوي الغيرة والاستقامة.
خامساً: الجهل بالعلم الشرعي، وقلّة الفقه في الدين: فالمتأمل لواقع أكثر أصحاب التوجّهات التي يميل أصحابها إلى الغلو والعنف والتكفير يجد أنهم يَتَّسمون بالجهل بقواعد الشريعة وضعف الفقه في الدين، وضحالة الحصيلة في العلوم الشرعية، فحين يتصدون للأمور الكبار والمصالح العظمى يكثر منهم التخبط والخلط والأحكام المتسرعة والمواقف المتشنجة، والحكم بالأهواء والعواطف، في الأشخاص والهيئات والدول والجماعات، والحدّة تجاه المخالفين. 
سادساً: الخلل في مناهج بعض الدعوات المعاصرة: فأغلبها تعتمد في مناهجها على الشحن العاطفي، وتربّي أتباعها على مجرد أمورٍ عاطفيةٍ غير منضبطةٍ بضوابط الشرع وقواعد الدين، أو غايات دنيوية: سياسية واقتصادية ونحوها، وتحشو أذهانهم بالأفكار والمفاهيم التي لم تؤصَّلْ شرعاً، والتي تؤدي إلى التصادم مع المخالفين بلا حكمة.
سابعاً: التشدد فـي الدين والتنطع: والخروج عن منهج الاعتدال في الدين الذي كان عليه النبي، صلّى الله عليه وسلم، وقد حَذَّرَ النبي، صلّى الله عليه وسلم، من ذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ هذا الدين يسرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه). والتشددُ في الدين كثيراً ما ينشأ عن قلة الفقه في الدين، وهما من أبرز سمات أهل الأهواء عموماً والخوارج بخاصةٍ. وأغلب الذين ينزعون إلى الغلو والعنف والتكفير اليوم تجد فيهم هاتين الخصلتين، ولا يلزم من ذلك أنهم خوارج، لكنَّهم وافقوا الخوارج في هذا المسلك، وربما زادوا عليهم.
ثامناً: شدَّةُ الغيرة وقوةُ العاطفة لدى فئات من الشباب والمُثقَّفين وغيرهم: بلا علمٍ ولا فقهٍ ولا حكمةٍ، مع أنّ الغيرة على محارم الله وعلى دين الله أمرٌ محمودٌ شرعاً، لكنَّ ذلك مشروطٌ بالحكمة والفقه والبصيرة، ومراعاة المصالح، ودرء المفاسد. فإذا فقدت هذه الشروط أو بعضها أدى ذلك إلى الغلو والتنطُّعِ والشدة والعنف في معالجة الأمور، وهذا مما لا يستقيم به للمسلمين أمر، لا في دينهم، ولا في دنياهم.
ثانياً: الخروج على الحاكم وموقف أهل السنّة والجماعة منه
منع الرسول، صلّى الله عليه وسلم، من الخروج على الأئمة إلا بشروط ثقيلةٍ جداً ذكرها في قوله {أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان}. ومعنى ذلك: أنْ تروا رؤيةَ عينٍ أو علمَ يقينٍ، كفراً بواحاً صريحاً ليس فيه احتمال، وقال "برهان"، ولم يقل "دليل" لأنّ أشدَّ البرهان ما برهن على الشيء ودلَّلَ عليه ضرورةً.
كما أنّ هناك شرطاً خامساً لم يُذكَرْ في الحديث لكنه معلوم: وهو القدرة على إزاحة هذا الحاكم، إضافةً إلى ضمان عدم شقّ عصا الأمّة وشيوع الفتن والافتراق بين الناس بسبب ذلك.
هذه المسائل ليست سهلةً ولا هيّنةً. وما انفتح بابُ الشرّ على المسلمين إلا بالخروج على الأئمة منذ قُتِلَ عمرُ، رضي الله عنه.
إذا رأينا كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان جاز الخروج عن وجود القوة الممكنة وانتقاء المَضَرَّةِ المترتبةِ، مع التأكيد على أنّ هذه الأحكام إنما هي للعلماء وليست للعوام.
هذه مسائل دقيقة يدركها البصير من العلماء وتغيب عن أهل الحماس كثيراً. يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله تعالى ـ في الخروج على الإمام وضوابطه الشرعية:
قال الله عز وجل: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا". هذه الآية تنصُّ على "وجوب طاعة أولي الأمر" وهم الأمراء والعلماء. وقد جاءت السنة الصحيحةُ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تُبَيَّنُ أنّ هذه الطاعة لازمة وهي فريضة في المعروف لا في المعاصي .....
قال عبادة رضي الله عنه: {بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعلى ألا ننازعَ الأمر أهله} قال: {إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان} هذا يدلُّ على أنه لا يجوز لهم منازعة ولاة الأمور ولا الخروج عليهم إلا أن يروا كفرا بواحاً عندهم من الله فيه برهان، وما ذاك إلا لأنّ الخروج على ولاة الأمور يُسبب فساداً كبيراً وشراً عظيماً، فيختل به الأمنُ وتضيع الحقوق ولا يتيسَّرُ ردع الظالم ولا نصرة المظلوم، وتختل السبل ولا تؤمن فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فسادٌ عظيمٌ وشرٌ كبير، إلا إذا رأى المسلمون كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة أما إذا لم تكن عندهم قدرةٌ فلا يخرجون، أو كان الخروج يسبب شراً أكثر فليس لهم الخروج رعايةً للمصالح العامة. والقاعدة الشرعية المجمع عليها: "أنه لا يجوز إزالة الشرّ بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه. أما درء الشر بشرٍ أكثرَ فلا يجوز بإجماع المسلمين"، فإذا كانت هذه الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفراً بواحاً، ويكون عندها قدرة على أن تزيله وتضع إماماً صالحاً دون أن يترتب على ذلك فسادٌ كبيرٌ على المسلمين وشرٌّ أعظمُ فلا بأس.
أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد كبير واختلال الأمن وظلم الناس واغتيال مَنْ لا يستحق الاغتيال إلى غير هذا من الفساد العظيم فهذا لا يجوز، بل يجب الصبر والسمع والطاعة في المعروف ومناصحة ولاة الأمور والدعوة لهم بالخير والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله وتكثير الخير، هذا هو الطريق السويّ الذي يجب أن يُسلك لأن في ذلك مصالح المسلمين عامة، ولأن في ذلك تقليل الشر وتكثير الخير، ولأن في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شرٍّ أكثر، نسأل الله للجميع التوفيق الهداية.

ثالثاً: وحدة المجتمع الإسلامية: أهميّتها ووسائل تحقيقها
تكونت الوحدة العربية في عصر النبي صلى الله عليه وسلم على أساس الإسلام، وكان القرآن هو الجامع لمتفرِّقها، والموحِّد لأشتاتها، فلم تكن وحدةً قوميةً بل كانت وحدةً إسلاميةً.
والفرق بين الوحدتين واضح؛ فإن الوحدة القومية تسدُّ الباب على غير العرب، ولا تجعلهم ينتظمون في مسلكها، أما الوحدة الإسلامية، فإنها مفتَّحَةُ الأبواب، لكل مسلم أن يدخل فيها لأنها وِحْدته، ولأنَّ الديار دياره فلا فرق بين عربي، ولا بخس فيها لأعجمي، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم مؤكداً أنها وحدة إسلامية: (كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).
وإن شئت فقل: إن الوحدة التي أقامها النبي، صلى الله عليه وسلم، وحدةٌ قرآنيةٌ، لأنّ أساسها الاعتصام بحبل الله تعالى وهو القرآن. ولذلك نجد القرآن الكريم لا ينادي العرب بعنوان العرب، وإنما ينادي بعنوان الناس والإيمان، ويدخل العرب فيهم، إذ ينادي المؤمنين بقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا...." ويدخل الفرس والروم وغيرهم من أجناس أهل الأرض إذا آمنوا بالله سبحانه وتعالى.
وليس للعرب في القرآن حَظٌّ أكبرُ من غيرهم، بيد أنه نزل بلغتهم؛ ولأن النبي، صلّى الله عليه وسلم منهم، وقد قال تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...".
وإن البلاد العربية بهذا لها شرف في الوحدة؛ لأن بها بيت الله الحرام، وقد منّ الله عليهم فقال تعالى: " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ..".
وإن وجود الكعبة بها، وهي قبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في قاصيها ودانيها، وهذه القبلة تُشْعِرُ المسلمين في كل بقاع الأرض بأنهم أجزاء من كلٍّ شاملٍ جامعٍ.
وفي البلاد العربية مظهرٌ ثانٍ للوحدة الإسلامية، وهو مناسك الحج التي هي موضع التعارف بين المسلمين في كل الأرض، فهم يأتون إليها من كل فَجٍّ عميقٍ في ضيافة الرحمن.
ولا يُقالُ: إنَّ الإسلام عربي؛ لأنه نزل في أرضٍ عربيةٍ، ومعجزته عربية، ومنبعه عربي. لا يُقال ذلك؛ لأنّه لا علاقة بين خصوص المكان، أو خصوص اللغة، وكون الدعوة عامة، والحكم عاماً، لأن النبي، صلّى الله عليه وسلم، قد صرَّح بعموم الرسالة، وصرَّح القرآنُ الكريم بعمومها، ودعوة محمدٍ، صلّى الله عليه وسلم، كانت عامةً والعبرة بعموم الدعوة، لا بخصوص المكان ولا بخصوص اللغة.
وإذا كانَ للغة العربية موضعٌ في الوحدة، فليست لتخصيص الإسلام بالعرب، ولكن سنقول: إنها اللغة التي تكون وسيلة لجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت هي لغة الإسلام يوم أن كانت الوحدةُ الشاملة، وقد تفرَّقوا إذا تفرَّقوا عنها، فكان أول مظهر من تفرق كلمة المسلمين من إحياء اللغات الشعوبية للأقوام الذين دخلوا الإسلام أفواجاً.
وليس مؤدّى ذلك أن القرآن الكريم والإسلام للعرب وحدهم، دون سائر الناس.
حماية رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، للوحدة التي أَلَّفَها الله
حمى صلّى الله عليه وسلم الوحدة الإسلامية التي ألفها الله تعالى على يديه في البلاد العربية وبين القبائل العربية، حماها النبيُّ، صلّى الله عليه وسلم، مما كان سبب التفرّق من بعد، وهو العصبية الجاهلية، والتفاخر بالأنساب. وما نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، مستنكراً أمراً اجتماعياً كما نهى عن العصبية الجاهلية، والتفاخر بالآباء. وأوجب التفاخر بالعمل الصالح وحده.
لقد برئ النبي صلى الله عليه وسلم مِن كُلِّ مَنْ يدعو بدعوى العصبية الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا مَنْ دعا إلى عصبيةٍ، وليس منا مَنْ قاتل على عصبية).
ولقد روى مسلم والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مِنْ قُتِلَ تحت رايةٍ عميّةٍ يدعو لعصبية أو ينصرُ عصبيةً فقِتْلتُه جاهليةٌ).
ولقد نهى النبي، صلّى الله عليه وسلم في سبيل إقامة الوحدة وتثبيت أمرها عن أن يقتَتِلَ المسلمون بعضهم مع بعض، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان فالقاتل والمقتول في النار، فقيل: يا رسول الله ... هذا القاتل، فما بال المقتول! قال: لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه".
وقال صلّى الله عليه وسلم: "لا يُشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده".
ولقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترجعوا بعدي كُفَّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمي الوحدة، والتآلف العربي الذي أَلَّفَ الله به العرب بعد طول افتراق، وقد علم الرسول، صلّى الله عليه وسلم أن العصبية الجاهلية هي سبب فرقتهم، فزوالها هو الذي يجمعهم.
وإن التصور الذي نستطيع أن ندركه في الجمع بين الوطنية أو الإقليمية والوحدة الإسلامية هو أن نقول: إن التدرج الإنساني يبتدئ بالأسرة، فآحادها يُكَوِّونونَ وحدةً متضافرةً متوادةً متحابةً، والأسرُ مجتمعةٌ تكوِّنُ إقليماً متواداً متآلفاً متحاباً بحيث لا تكون ثمة عداوة بين أُسرةٍ وأخرى، والمجتمع الإسلامي يتكون من أقاليم متعاونة في الذود عن الإسلام.
ولمّا انتقل النبي، صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وخالط العربُ اليهودَ، وكان في المدينة بجوار اليهود مشركون لم يدخلوا في الإسلام مع أقوامهم، بل أبوا وجحدوا، واستمروا في غيهم يعمهون إلى انتصر المسلمون في غزوة بدر، وصارت لهم قوة يُحّسَبُ حسابها، فصارت كلمة الله هي العليا، وكلمة الشرك هي السفلى.
عندئذ وُجِدَ من هؤلاء منافقون يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. وإنَّ هؤلاء المنافقين كانوا حرباً على الوحدة التي كوّنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يثيرون العداوة أينما وجدوا لكلامهم موضعاً من التأثير، كانوا يوقعون بين المهاجرين والأنصار، ولكنَّ الله تعالى كان يردُّ كيدهم في نحورهم، والنبيّ، صلّى الله عليه وسلم، يعمل على حماية المسلمين وحماية الوحدة الإسلامية من شرّهم.
روى مسلم في صحيحه عن جابرٍ رضي الله عنه قال: كنا مع النبي، صلّى الله عليه وسلم، في غزوةٍ فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ... فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ...(ما بال دعوى الجاهلية؟) قالوا: يا رسول الله، كَسَع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلف بين القلوب: "دعوها فإنها منتنة".
وفي سبيل بقاء الوحدة قائمةً في حقيقتها ومظهرها ما كان النبي، صلّى الله عليه وسلم لِيَمَسَّ منافقاً، أو ينال منه أيَّ نيلٍ وهو يعلم أنه يُثَبِّطُ المسلمين، ويخذلهم ، ويعلم كما ورد في القرآن الكريم أنهم مرضوا بداء النفاق، ولا سبيل لأن يكونوا مؤمنين، ولكنه مع ذلك يتلطَّفُ بهم، ويستغفر الله لهم، حتى نهاه الله تعالى، ونزل قوله سبحانه: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ".
نعم، لقد دعا الإسلام إلى وحدة المسلمين، وجعلهم أمةً واحدةً، ونادى بالتعاون بين الشعوب، وأَلَّفَ بين قلوب العرب والفرس والترك والهنود والبربر، وغيرهم من شعوب الأرض وجَعلهم أمةً واحدةً. فدعوة الإسلام عامَّة موجَّهة إلى الناس كافة، وقد امتن الله تعالى على الأمة الإسلامية بهذه الوحدة، وعدها من نعم الله تعالى عليهم قال تعالى: " وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا".
وقد كانت هذه الوحدة نعمةً على البشرية؛ فقد أنقذها الإسلام من عوامل الظلم، وفتح لها باب الهداية ونَوَّرَ حياتها بالإيمان، فدخلت الشعوبُ في الإسلام طائعة مختارة، وتحررت من العبودية لغير الله تعالى، وانسلخت عمّا كانت تعيش فيه من أوهام وضلالات، وسعدت في ظل حضارة الإسلام وثقافته.
وكانت هذه الوحدة عامل قُوّةٍ وعِزّةٍ للمسلمين، تَحَطَّمت على صخرتها الغزوات المغولية والصليبية والبيزنطية، وحفظت هذه الوحدةُ الأمةُ الإسلاميةَ على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان، من أسباب الفرقة والضعف والانحلال، وكانت هذه الوحدة من أشد ما يغيظ الكافر المستعمر. عندما كان يحاول السيطرة على العالم الإسلامي في فترة الضعف التي لحقت بالأمة الإسلامية، ولذلك راح يعمل جاهداً على زعزعة هذه الوحدة، ونشر بذور الفرقة والتنازع بين أبنائها وشعوبها.
لقد أخذَ أعداءُ الإسلام في عصرنا الحاضر يشجّعون النزعات العرقيّة ويثيرون النعرات العنصرية، ويُحَرّكون الدعوات الإقليمية، عن طريق الإرساليات التبشيرية، والتنقيب عن الآثار القديمة وإبراز معالمها وبعث التاريخ القديم في كل جزءٍ من أجزاء العالم الإسلامي، عن طريق الذين تَبَنُّوا حضارة الغرب وثقافته من أبناء المسلمين، كما حاول الغرب تلوين الحياة في المجتمعات الإسلامية بتقاليد وعاداتٍ مستمدّةٍ من الماضي السحيق، وذلك بنشر المسرحيات والقصص والآداب بهدف التنكُّرِ لمقومات الحياة الإسلامية.
وأثار المستعمرون العصبيات الجاهلية، والفتن الطائفية وحَرّكوا الأقليات في المجتمع الإسلامي، وأحيوا النزعات العرقية من بربرية وفرعونية وفينيقيّةٍ وآشورية وغيرها، وشجعوا الصراع بين المسلمين والنصارى، وبين السنة والشيعة.
وهكذا، راحت كلَّ عنصرية قومية تدعم وجودها بإحياء تاريخها القديم والتغني بأمجاد تلك الأيام الغابرة، وتوجِّه التاريخ والأدب والفنون المختلفة لخدمة هذا الهدف، ولم يعد مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة في نظر الناشئة ضرورةَ ملحَّةً ولا غايةً منشودةً.
أبرز الروابط والعوامل التي تؤكّد على الوحدة بين المجتمعات والشعوب الإسلامية
1. وحدة العقيدة والمبادئ: إنّ جميع الشعوب الإسلامية تشترك في تصورٍ واحدٍ للوجود والكون، فقد ثبت في عقولها ونفوسها أن لهذا الكون الرحب العظيم خالقاً واحداً حكيماً قديراً، وأن الإنسان أحد مخلوقات الله وأكرمها، وأن هذا الإنسان مخلوق الله وعبد الله، وهو في الوقت نفسه ذو سلطان على هذا الكون الذي سخره الله له.
2. وحدة القيم الخُلُقية أو الاشتراك في تقدير الخير والشر والفضيلة والرذيلة: يتميز المجتمع الإسلامي على اختلاف الأقطار والشعوب بالتوافق المبدئي في تقويم الأعمال من الوجهة الأخلاقية، وتحديد الخير والشر، والفضائل والرذائل، وإن نظرة المسلمين إلى هذه الأمور متفقه ولو أنهم انحرفوا عنها في العمل وخالفوها في التطبيق، وليست كلها كذلك عند غيرهم من المجتمعات
3. الثقافة: إن المسلمين في أكثر البلدان الإسلامية يشتركون في جزء كبير من ثقافتهم؛ فهم يدرسون القرآن والحديث والعقيدة وأحكام العبادات والمعاملات والأخلاق وسائر تعاليم الإسلام، كما يدرسون كثيراً من آثار الفكر الإسلامي في مختلف الميادين والعصور في الأدب والتاريخ وتراجم الرجال والفلسفة وسائر جوانب الثقافة الإسلامية. وقد كانت هذه الثقافة الإسلامية هي الثقافة العامة التي يتلقاها المسلمون قبل أن تدخل الثقافة الأوروبية الحديثة فكانت مشتركة فيما بينهم. وقد بقي لها ـ وأن انحسرت بعض الانحسار، بسبب مزاحمة الثقافة الحديثة الأجنبية لها ـ أثر واضح يختلف قوة وضعفاً باختلاف البلدان والبيئات. واللغة الأساسية لهذه الثقافة هي اللغة العربية، فهي لغة القرآن والحديث.
4. التاريخ: إن أكثر البلاد الإسلامية، وهي التي دخلت الإسلام منذ ظهوره وأوائل انتشاره في وقت مبكر، وتشترك في الحقيقة في تاريخ عصور طويلة. فأحداثه الكبرى، وصفحاته المشرقة، وعهود سلمه وحربه، وانتصاراته ونكباته، كلها مشتركة بين هذه البلاد. وهي عامل هام جداً في تكوين نفسية المسلمين وعواطفهم وأفكارهم وتوحيد موقفهم من الشعوب الأخرى. والشعوب التي تأخرت في دخولها الإسلام التحقت بتلك الشعوب السابقة في التأثُّرِ بهذه الأحداث والعهود التاريخية وتشترك جميعاً في نظرتها على التاريخ.
5. التشريع والأحوال الاجتماعية: خلال عصور طويلة نُفِّذَ تشريع واحد في البلاد الإسلامية وهو التشريع الإسلامي الذي يرجع في أصوله إلى القرآن الكريم ومد طبع هذا التشريع المجتمع الإسلامي في جميع البلاد بطابع واحد. فتشريع الأسرة وعلاقات أفرادها بعضهم ببعض هو تشريع واحد. والتشريع الذي ينظم العلاقات المالية والتجارب بين الناس هو كذلك تشريع واحد.
أبرز الشروط الواجب توفّرها وتحقيقها لعودة الشعوب الإسلامية إلى تحقيق الوحدة بينها من جديد:
أولاً: التنسيق بين الشعوب الإسلامية من ناحية التعليم والتشريع والتنظيم الاقتصادي وسائر النواحي الاجتماعية التي تنتج بالطبع توحيد الاتجاهات السياسية؛ وذلك بأن يكون الإسلام هو المصدر الذي تستقى منه اتجاهاتها التربوية والثقافية والتشريعية والاقتصادية والسياسية، ومنه تصوغ فلسفتها في الحياة.
ثانياً: التخفيف من السدود والحواجز القائمة، للاتجاه في نهاية الأمر إلى إزالتها؛ وذلك بتنسيق قوانين وأنظمة الجنسية والعمل والتوظيف بطريقة تنظر إلى الواقع القائم ومشكلاته، لتنتهي إلى أن تجعل من مجموع الشعوب الإسلامية وحدةً يسهل التنقل في داخلها، وتحل فيها الصفة الإسلامية المحل الأول، ويكون ذلك عاماً شاملاً يطبق على الجميع وفي جميع البلاد الإسلامية.
ثالثاً: تعميم مبادئ الإسلام في الجمهور والمثقفين عن طريق التعليم العام والتعليم الشعبي، وبسائر طرق الإعلام والنشر، لإمكان استمرار وجود القاعدة الشعبية التي تدعم الفكرة السابقة وتعضدها وتؤيدها وتستعد لتنفيذهها ولتقف أمام التعاليم العقائدية التي تسللت ولا تزال تتسلل إلى داخل البلاد الإسلامية على يد الأجانب وبعض أبناء الشعوب الإسلامية ممّن صبئوا عن عقيدتهم، وخرجوا على أمتهم وأصبحوا دُمَىً تحرِّكُها قوى خارجية وأجراء لأمم أجنبية شرقية وغربية.
رابعاً: التحرر من التبعية للدول الأجنبية جميعاً ولاسيما التبعية الفكرية والمذهبية ثم إحلال الوعي الإسلامي المبني على الفكر والثقافة الإسلامية محل هذه التبعية؛ وذلك ليتمكن العالم الإسلامي بجميع شعوبه من الاستقلال الحقيقي والشعور بالكيان الذاتي ومن القيام حينئذ بدوره الحضاري الإنساني.
أبرز النتائج التي ترتّبت على فقدان الوحدة الإسلامية
1. تَأَخُّرُ المجتمع الإسلامي فكرياً بوجه عام، وركود الحركة العلمية المتعلقة بالكون أو الطبيعة بوجه خاص، فقد ضعف الإبداع العلمي ثم زال واختفى، وفقد المسلمون القدرة على التفكير الكلي الشامل الذي يستطيع أن يستخرجَ من الجزئيات والكليات، ومن الحوادث سننها وقوانينها العامة، وشاع فيهم التفكير الذي يقتصر على النظر في الجزئيات مبعثرة مشتتة دون القدرة على وضعها في مواقعها من نظام عام وشامل.
2. ركود الحركة الاقتصادية التي ازدهرت إثرَ انتشار الإسلام وفتوح البلدان وتكوين دولة عظيمة لأمة كبيرة مؤلفة من شعوب كثيرة؛ فقد توقفت هذه الحركة الاقتصادية في ميادين الزراعة والصناعة عند مرحلة معينة لا تتجاوزها.
3. الضعف السياسي والعسكري: فقد اختفت الدولة العقائدية الإسلامية ذات الأهداف الإنسانية والأخلاقية، ونشأت مكانها دول السلطان القاهر المتحكم المتنافسة، مع ما رافق ذلك من مظاهر بذخ السلاطين والأمراء وترفهم واستعلائهم.
4. التأخر الاجتماعي: ولاسيما في جانبه المادي؛ كشق الطرق، وبناء الجسور، والمستشفيات، والمدارس، وتأمين البريد، وكفالة العاجزين، وسائر الخدمات العامة ذات الصفة الاجتماعية، التي كانت مرافقها كثيرة، والتي كان يرُجى أن تنمو وتزيد وتتطور. أما الجانب المعنوي أو الأخلاقي من الحياة الاجتماعية فكان متروكاً لضمائر الناس وتقواهم، وما يصيب تلك الضمائر من ضعف أو فساد.
رابعاً: الوسطيّة والاعتدال
تكادُ الوسطيّةُ تكون أبرز سمات أمّةٍ محمدٍ، صلّى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"
قال الإمام ابن جرير الطبري ـ يرحمه الله ـ في تفسير هذه الآية: أرى أنَّ الله تعالى ذِكُره إنّما وصفهم بأنهم (وَسَطٌ) لتوسّطهم في الدين، فلا هم أهل غلوٍ فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهُّبِ، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ولا هم أهل تقصيرٍ، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهلُ توسطٍ واعتدالٍ فيه. فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها.
يقول ابن القيم: فدينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وخيرُ النَّاسِ النمطُ الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرِّطِين ولم يلحقوا بغلو المُتَعَدَّين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهي الخيار العدل، لتوسّطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط.
وقال سيد قطب: وإنها للأمةُ الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحُسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه الماديّ والحسيّ....
ثم بدأ ـ عليه رحمة الله ـ يعدد مناحي وسطية هذه الأمة الطّيبة فقال رحمة الله:
-       أمة وسطاً ... في التصور والاعتقاد ... لا تغلوا في التجرُّد الروحي ولا في الارتكاس الماديّ.
-   أمة وسطاً ... في التفكير والشعور ... لا تجمدُ على ما علمت ....  ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك.
-       أمة وسطاً ... في التنظيم والتنسيق ... لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كلها كذلك للتشريع والتأديب.
-   أمة وسطا ... في الارتباطات والعلاقات ... لا تُلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلق كذلك فرداً أثراً لا هَمَّ له إلا ذاته.
-       أمة وسطاً ... في المكان ... في سرّة الأرض، وفي أوسط بقاعها.
-       أمة وسطا ... في الزمان ... تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها؛ وتحرس على عهد الرشد العقلي من بعدها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذه الفرقة الناجية "أهل السنة" وهم وسط في النِّحَلِ؛ كما أنّ ملّة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون [وسطٌ في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين]؛ لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.
ولا جفوا عنهم كلما جفت اليهود؛ فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكُلَّمَا جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً.
وكذلك المؤمنون [وسطٌ في شرائع دين الله] فلم يُحرّموا على الله أن ينسخ ما يشاء ويمحو ما يشاء، ويُثبتُ كما قالته اليهود.
ولا جَوَّزُوا لأكابر العلماء وعُبَّادهم [أن يغيروا دين الله]، فيأمروا بما شاؤا وينهوا عما شاؤا، كما يفعله النصارى، كما ذكر  الله ذلك عنهم بقوله: " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ". قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله ما عبدوهم؟ قال: {ما عبدوهم؛ ولكن أحلّوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرَّموا عليهم الحلال فأطاعوهم}.
وهكذا أهل السنة والجماعة في الفِرَقِ:
1. فهم في باب [أسماء الله وآياته وصفاته] وسطٌ بين [أهل التعطيل] الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطّلون حقائق ما نعتَ اللهُ به نفسه؛ حتى يشبهِّوه بالعدم والموت، وبين [أهل التمثيل] الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصف به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.
2. وهم في باب [خَلْقِهِ وأمره] وسط بين [المكذبين بقدرة الله]؛ الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه كل شيء؛ وبين [المفسدين لدين الله] الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل فيعطِّلُون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: " لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ".
فيؤمن أهل السنة بأنَّ الله على كل شيء قدير. فيقدر أن يهدي العباد ويُقَلِّبَ قلوبهم وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات.
ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئةٌ وعمل، وأنه مَّختار، ولا يسمّونه مجبوراً؛ إذ المجبور من أُكْرِهَ على خلاف اختياره؛ والله سبحانه جعل العبد مختاراً لما يفعله فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
وهم أيضاً وسطٌ في [أصحاب رسول الله، صلى الله عليه، ورضي الله عنهم] وسطٌ بين [الغالية] الذي يغالون في عليٍ رضي الله عنه، فيفضّلونه على أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه هو الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفَّروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبياً أو إلهاً، وبين [الجافية] الذين يعتقدون كفره وكفر عثمان، رضي الله عنهما، ويستحلّون دماءهما ودماء مَنْ تولاهما. ويستحبون سبَّ عليٍ وعثمان ونحوهما ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته.
وكذلك في [سائر أبواب السُنَّة] هم وسط لأنهم متمسّكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبَعُوهم بإحسانٍ....
خامساً: الإسلامُ والآَخَرُ
لعلَّ التعريف الأبسط للآخر "هو أنّ الآخر إمّا أن يكون فرداً مختلفاً أو مجتمعاً مختلفاً أو ثقافةً مُغَايرةَ". وعندما نتحدث عن الآخر بالنسبة للمسلمين فنحن نحدد هذا الآخر بأنه المختلِفُ عقائدياً عن المسلمين أيْ غير المسلمين سواء كانوا من أصحاب الديانات السماوية السابقة (اليهود والنصارى) أو غيرهم من أصحاب العقائد الوضعية.
أولاً: لعلَّ أول ما نلاحظه عن خصوصية النظرة الإسلامية للآخر أن الإسلام لم يرتبط بجنسٍ من بني البشر دون باقي الأجناس كما في الديانة الهندوسية مثلاً، أو اليهودية التي تُعتبَرُ ديانةً مُغْلَقَةً "أي تحجم عن التبشير".
بل إن المسيحية، لأسبابٍ تاريخيةٍ، ارتبطت بالجنس الأبيض، ويستغربُ كثيرٌ من أبناء شمال أوروبا اعتناق أحدهم ديانةً غير المسيحية البروتستانتية أو الكاثوليكية ... أما الإسلام فقد تجاوز هذه النظرة الضَيّقة العنصرية منذ بداية الدعوة، فهو رسالةٌ موجَّهةٌ للبشر كافة " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". ولم يجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم غضاضةً في انضمام غير العرب لدعوته مثل: بلال الحبشي وصهيب الرومي ثم سليمان الفارسي ...
ثانياً: إنّ الدّعوة الإسلامية مُوَجَّهَةٌ في الأساس لهذا الآخر، لهدايته، فالآخر موجود قبل وجود المسلمين، وكان هو الأكثرية في المجتمع المكّي، ثم في شبه الجزيرة العربية قبل عام الوفود. ولا يزال هذا الآخر الأكثرية في العالم. دعوة الإسلام لهداية هذه الأكثرية دعوة تتصف بالرحمة " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ".
وهذا الخطاب الإلهي يوضِّحُ لنا بدقّةٍ خصوصية النظرة الإسلامية للآخر، فالإسلام باعتباره الدين الخاتم المكمِّل للرسالات السابقة له، يتعامل مع الإنسان باعتباره مسلماً أو مسلماً محتَمَلاً، لذلك لا يقطع الإسلام كلَّ الخيوط مع هذا الآخر، بل العكس، يمدُّ الجسور لهذا الآخر حتى يصل في النهاية للطريق الحق " الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ".
ولعلَّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي يُقسِّمُ المخالفين معه في العقيدة إلى فئتين، فئةٍ غير مؤمنةٍ وفئةٍ أدركتْ نصيباً من الإيمان وإن كان غيرَ كاملٍ وهم أهلُ الكتاب. وهذا التقسيم على أساسٍ عقائديٍّ لا يعني استباحة مال ودم وعرض هذه الفئة دون تلك، ولكن يعني عدم المساواة بين مَنْ يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن ينكرهما. في بعض الخصوصيات كالزواج والطعام.
ثالثاً: هذا الآخر الذي يتعامل معه الإسلامُ بطريقةٍ خاصّةٍ جداً لا يقف على الطرف المقابل بشكل دائم؛ فما أسهل أن يُصبحَ جزءاً من الأنا باعتناق الإسلام، هذا الانتقال يعني التخلُّصَ تماماً من كل تراث الاختلاف أو حتى العداء؛ فدخول الآخر في الإسلام يُسْقِطُ عنه حتَّى الجرائم التي ارتكبها في حقِّ المسلمين بما فيها جرائم القتل، وهو قبولٌ للآخر لا نجد له مثيلاً، فاستسلام العدو في القوانين العسكرية أو حتى المدنية لا يعني إسقاط التهم عنه، أَمَّا الإسلام فإنه يجبُّ ما قبله.
رابعاً: إنّ الحقَّ سُبحانه وتعالى قرن الإيمان به وعبادته وحده ببرِّ الوالدين دون تحديد هوية الوالدين "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا". هذا الأمر الإلهي يُراعي أن الآخر يمكن أن يكون قريباً من المسلم، كأن يكون الأب أو الأم أو الأبناء والزوجة الإخوة، ويحفظ التاريخُ نماذجَ كثيرةً لهذه الحالات، فقد كان عبد الرحمن بن أبي بكر مشركاً ووالده الصدِّيقُ الصدوق لرسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وكان عبد الله بن سلول كبير المنافقين بالمدينة وابنه مؤمناً ... إلخ، ولا يزال الاحتمال قائماً، فربما يعتنق أحدهم الإسلام وتظلُّ عائلته أو أفراد من أسرته غير مسلمين ... لذلك تتجلّى صفة الرحمة في الإسلام تجاه الآخر فالحقُّ تعالى يأمر ببرِّ الأقارب والأهل خاصّةً الوالدين حتّى وإن خالفوا المسلم في العقيدة، فالبرُّ بالأهل أدعى لتقريبهم من الإسلام، أما معاملتهم باعتبارهم الآخر المختلف فَيُنَفِّرُ من الدين الحنيف.
خامساً: إنَّ منظومة القيم الأخلاقية التي يقرها الإسلام تسري على غير المسلم كما تسري على المسلم، يقول تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيراً". إنّ الأمانة يجب أن تُؤدَّى لصاحبها سواء كان مسلماً أو غير مسلم، والعدل هو الذي يجب إعلاؤه سواء كان الخصم مسلماً أو غير مسلم، بل وحتى إن كان أحد الخصمين مسلماً والآخر غير مسلم.
والوفاء بالعهد واجبٌ للمسلم ولغير المسلم، بل لا نبالغ إذا قلنا إنَّ كثيراً من المدن والبلاد التي فتحها المسلمون فُتِحَتْ بفضل وفاء المسلمين بعهودهم، حتى تسابقت المدن في الشام مثلاً لإبرام عهود مع المسلمين للسلام بدلاً من قتالهم، وظلَّ المسلمون أوفياء لما أبرموه من عهود. أيضاً يحض الإسلام على إجارة المستجير المسلم وغير المسلم، وعلى عدم الاعتداء.
سادساً: طرح الإسلامُ الآخرَ باعتباره المُخْتَلِفَ وليس الضدَّ أو النقيض. والفرق بين التصورين كبير، فالتعامل مع الآخر باعتباره المُخْتَلِفَ لا ينفي عنه صفاته الإنسانية أو يفترض فيه النقائص، بل يحدِّدُ وبدقّةٍ الوجه الذي عليه خلاف وفيه اختلاف، أما التعامل مع الآخر باعتباره الضدّ أو النقيض فيستلزم تجريد هذا الآخر من كل الصفات الحميدة، بل وتجريده أحياناً مِن إنسانيته، حتى يبدو وكأنه مخلوق غريب قادم من كوكب آخر يسعى للتدمير وبث الكراهية فتجب معاملته بالمثل.
سابعاً: إنّ الحقوق التي أقرها الإسلام للإنسان المسلم وغير المسلم "ليست مُجَرَّدَ حقوقٍ من حقِّ الفرد أو الجماعة أن يتنازل عنها أو عن بعضها، وإنما هي ضروراتٌ إنسانيةٌ، فرديةً كانت أو اجتماعيةً، ولا سبيل إلى حياة الإنسان بدونها، حياةً تستحقُّ معنى الحياة، ومن ثم فإن الحفاظ عليها ليس مجرَّدَ حقٍ للإنسان بل هو اجب عليه أيضاً، يأثم هو ذاته ـ فرداً أو جماعة ـ إذا هو فَرَّطَ فيها، وذلك فضلاً عن الإثم الذي يلحق كلَّ من يحول بين الإنسان وبين تحقيق هذه الضرورات". يأثم المسلم إذا فَرَّطَ في حّقٍ أقرّه الله له كما يأثم إذا منع حقاً منحه الله أو رسوله للآخر.
بهذه النظرة الأخلاقية الخاصة جداً تعامل الإسلام مع الآخر، وبهذه الروح حفظ للآخر كرامته وإنسانيته وحًرَّيته.
إنّ حدود العلاقة بين المسلمين والآخر لا تتحدد وفقاً للاختلافات العقائدية، فاختلاف الآخر عن جوهر التوحيد أو ابتعاده عنه، لهو أمرٌ بينَ هذا الآخر والله، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
أما علاقة المسلمين بالآخر فإنّها تتحددُ وفقاً لموقف هذا الآخر من المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، فإذا كان هذا الآخر مُعادياً للمجتمع الإسلامي أو الدولة الإسلامية سواء كان يعيش داخلهما أو خارجهما، وجب على المسلمين التصدّي له، ومعاملته بالمثل، وإذا كان مُحّافظاً على سلامة المجتمع الإسلامي ولا يسعى للفتنة أو إضعاف هذا المجتمع، ولا يتآمر على الدولة، وَجَبَ على المسلمين احترام هذا الآخر بل وحمايته وإقامة علاقاتٍ وديّةٍ معه والبُّر به والإقساط إليه ... فالإسلام عندما أقرَّ حقوقاً للآخر أقرَّها مع العلم بأنَّ هذا الآخر مُنْكِرٌ للإسلام غيرُ مؤمن به، وإلا لكان هذا الآخر ضمن فريق المسلمين ولما وقف على الطرف الآخر.
والدين الحنيف لا يقرُّ اتخاذ مواقف عدائيةٍ مسبقةٍ تجاه الآخر على أساسٍ عرقيٍ أو لغويٍ أو دينيٍ.
بهذه النظرة تعامل الإسلام مع الآخر، وتعامل غالبية حُكّام المسلمين الذين طَبَّقُوا ما أمرهم الحقُّ به، أما حالات الاضطهاد التي تعرض لها الآخر في عصورٍ وعهودٍ مُعَيّنةٍ فهي حالاتٌ استثنائيةٌ، صدرت عن مسلمين أساءوا فهم الدين الحنيف، أو عن حُكّامٍ تَمَيّزت عهودهم بالظلم، ظلم الآخر والمسلمين على حدٍّ سواء.
وعندما نريد أن نحدد حقوق الآخر التي أقرَّها الإسلام أو المبادئ والقواعد التي حدّدها الإسلام لتحكمَ العلاقة بين المسلمين والآخر فمرجعنا في هذا هو القرآن الكريم والسنة النبوية المُطَهَّرَةُ.
يقول الحق تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
هذا الخطاب الإلهي لم يُوَجَّهْ للمسلمين فقط، بل للبشرية كافّةً، ليعلم الناسُ أنهم إخوة، ورغم هذا فإن أتباع الدين الحنيف يعلمون أنَّ الذَّكرَ الحكيم إنما أَكَّد على هذه الحقيقة، "وحدة الأصل البشري" ليزيل من أنفسهم نزعات العنصرية والاستعلاء والإحساس بالتفوق أو التمايز على الآخرين، فإذا كان للإنسان أن يتمايز على إنسان فبالتقوى فقط، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يُذَكّرُ الناسَ (كلكم لآدم وآدم من تراب) ونراه صلوات الله وسلامه عليه يخاطب الناس كافّةً بقوله "لا فضل لعربيٍ على عجميٍّ ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى".
فلا شرعية إذاً للتفاخر بالأنساب والآباء، وما دام الأصل في النهاية واحداً، بل رَدَّهم أيضاً إلى ما وراء هذا، فعرفوا أنهم جميعاً لآدم وآدم من تراب، تمكيناً في الأذهان لعقيدة الخلق، وتأكيداً لسلطان الربوبية المطلق، وما يترتب عليه من الإقرار بالعبودية للخالق ووجوب طاعته في كل شيء.
لكننا للأسف ما زلنا نرى بعض الشعوب والأجناس التي تستعلي على شعوبٍ وأجناسٍ أخرى بسبب لون البشرة، بل وتُحَقِّرُ من شأنها.
وإذا كان العهد القديم قد ذكر قصة الخلق وأشار لأصل البشرية، فإنه سرعان ما اختصَّ بني إسرائيل بكل المزايا واعتبر غيرهم (أغيار) في منزلة الخدم المُسَخَّرين لخدمة شعب الله المختار ... فإن القرآن الكريم حارب هذه العنصرية، ويُذَكِّرُ تعالى في أكثر من موضع في القرآن الكريم بخلق آدم من طين وعداء أبليس له، الحقُّ تعالى يذكّرنا في هذه المواضع أنَّ صراع البشر ليس مع بعضهم البعض ولكن مع الشيطان، وأن البشر إما أن يكونوا طائعين لله فيستحقّون رحمته، أو طائعين للشيطان فيصيبهم سخط المولى عز وجل. وإذا كان الآخر بالنسبة للمسلم هو غير المؤمن، فإن إيمان المسلم أمرٌ بينه وبين ربه، ولا يجوز للمسلم أن يستعلي بإيمانه على الآخر.
إذا كان كلُّ دينٍ يميز أتباعه عن الآخرين ويكرمهم ويعلي من شأنهم فإنَّ قوله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء: 70) يُظهِرُ النظرة الإنسانية للإسلام؛ فالحقُّ تعالى كَرَّمَ الإنسان بشكلٍ عامٍ ونفخ فيه من روحه وجعله خليفةً في الأرض، هذا التكريم يتنافى بالطبع مع احتقار الآخر أو قتله دون ذنبٍ يستوجب القتل، أو استحلال ماله وعرضه، أو استباحته.
بل إنَّ الحق سبحانه وتعالى حين يتحدث عن قتل النفس البريئة لا يفرِّقُ بين نفسٍ مؤمنةٍ وغير مؤمنةٍ، فالنفس الإنسانية مُكَرَّمة بما وضعه الله فيها من أسرارٍ سواء كانت مؤمنةً أو كافرةً، والإنسان هو الذي يرتفع بنفسه بالطاعة، ليصبح في مصاف الملائكة، وهو الذي يهوى بها بالمعصية ليصل لدرك الشياطين والبهائم "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا".
لقد خَصَّصَ الحقُ تعالى سورة كاملة هي سورة (الكافرون) قَرَّرَ فيها مبدأ مهماً هو حرية العقيدة: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)".
وإذا كان الخطاب هنا مُوَجَّهَاً للكافرين الذين يُنكرون الدين والبعث والحساب فهو أيضاً يُقِرُّ لهم حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر والطقوس ـ والتي يعترض الإسلام على بعضها ـ فإذا كان الإسلام ينفي فكرة صلب المسيح أو تأليهه، فإنه يبيح للمسيحيين ممارسة صلواتهم التي يذكرون فيها الصلب وتأليه المسيح.
ولم نسمع عن حاكمٍ مسلمٍ قام بعمليات تطهير عرقي ضدَّ غير المسلمين لأسبابٍ عقائديةٍ، وإن حدث فلأسبابٍ سياسيةٍ أو أمنيةٍ ... هذا القبول بالآخر والقبول بسُنّة الله في الاختلاف لم تعرفه أوروبا في العصور الوسطى رغم كلّ ما تنادي به المسيحية من محبّةٍ، فقد تخلصت أوروبا من غير المسيحيين بالطرد والقتل، بل وتخلَّصت من مُسلمي الأندلس الذين اعتنقوا المسيحية.
إنَّ قبول الآخر والتعامل معه أمرٌ فرضَهُ الإسلام على المسلمين لسُنَّةٍ أرادها الله في كونه ... ولعلّ المولى عزَّ وجلَّ حين فرض هذا الأمر على أُمّةِ التوحيد إنما أراد لها أن تُقيم جسوراً بينها وبين الآخر لهدايته، فالدعوة إلى الله فرضٌ على كل مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ، فكيف أستطيعُ كمسلمٍ أن أدعو غيري أو أهديه للإسلام أو أدلِّلَ له على سماحة هذا الدين وروعته إذا كان هذا الآخر غير موجودٍ معي، أو إذا طردتُه أو قتلتُه أو نفيتُه!!؟؟.
سادساً: الديمقراطيّة وموقفُ الإسلام منها
يرجع أصل كلمة "ديمقراطية" إلى كلمتين إغريقتين هما: "دميوس"، ومعناها الشعب. و"كراتوس" ومعناها سُلْطة. وبضم الكلمتين يكون معنى الديمقراطية: سُلطة الشعب. وكانت الديمقراطية قد بدأت ونمت في اليونان القديمة منذ القرن السادس قبل الميلاد؛ إذ شغف المفكرون السياسيون فيها بفكرة حكم القانون، وعَدّوا الاستبداد أسوأ أنواع الحكم، فنشأت في أثينا وبعض المدن اليونانية حكومات ديمقراطية.
ثم شاعت الديمقراطية في أكثر بلاد العالم بعد الحرب العالمية الثانية وبخاصة بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعيةُ العامةُ للأمم المتحدة. وجاء في مادته الحادية والعشرين فقرة (3): "إنَّ إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة". وينص الدستور المصري الصادر سنة 1971م في مادته الثالثة على أن: "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها".
توجد ثلاث صور للديمقراطية هي:
1. الديمقراطية المباشرة أو الصرفة أو القديمة: وفيها يجتمع الناس في مكانٍ واحدٍ ليسنّوا قوانين مجتمعهم بحسب الأغلبية أو الأكثرية. وقد طُبِّقَتْ في المدن الإغريقية القديمة، ولا توجد حاليَّا إلا نادراً.
2. الديمقراطية غير المباشرة أو النيابية أو الحديثة: وفيها ينتخب الشعب عدداً معيناً من بينهم؛ لينوبوا عنهم في ممارسة السلطة خلال مُدّةٍ معينةٍ قابلةٍ للتجديد، ويكون الحكم للأغلبية أو الأكثرية. ويجوز تسمية هؤلاء النواب برلماناً أو مجلساً أو هيئة تشريعية.
3. الديمقراطية شبه المباشرة أو المخلتطة: وفيها يُرْجَعُ إلى الشعب في بعض الأمور، ويُرْجَعُ إلى البرلمان المنتخَبِ في بعض الأمور، وذلك بهدف الحد من سلطات البرلمان.
تختلف صور الديمقراطية، ولكنها تتفق في المظاهر الأساسية والتي من أهمها:
1. الانتخابات الحُرّةُ لاختيار القادة والنواب.
2. الحكم للأغلبية في اتخاذ القرارات، وكثيراً ما تشترط الديمقراطية حكم الأكثرية في التغييرات الدستورية أو الأساسية.
3. تداول السلطة عن طريق التعددية الحزبية السياسية، ويكون الحكم لحزب الأغلبية ومن يأتلف معه.
ولعلّ نظام الشورى الإسلامي أكثرُ واقعيةً، وأسمى غايةً؛ ذلك بأنّ الديمقراطية معرَّضةٌ لكثير من الآفات والنقائص والثغرات، وربما أخرجَتْ للناس حاكماً جاهلاً، وربما قامت على عنصريةٍ عرقيةٍ، أو دينيةٍ، أو لغويةٍ، أو مذهبيةٍ طائفيةٍ ضيّقةٍ فلا تفيد الأمّةُ من ذلك الحاكم القاصر شيئاً ذا بال. ثُمّ إنّ الحكمة من النظام الشوري في الإسلام تقوم على حسن اختيار الحاكم المناسب للأمة، ليتولّى من بعد تسييرَ الحكمِ مع مراقبته، ومتابعة كل مواقفه ونقدها لدى الضرورة، ولذلك قال أبو بكرٍ الصدّيق، رضي الله عنه، كلمته الكبيرة لدى توليته الخلافة "إنّي وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، فمن رأى منكم فِيَّ اعوجاجاً فليقوّمه" فأجابه أعرابي (والله لو رأنيا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا!) وهذه الكلمة تنقطع دونها اليوم أعناق الحكّام، فأي حاكمٍ مُنتخَبٍ اليوم على الطريقة الديمراطية الغربية يستطيع أن يقول هذا أو مثله ...
وأمّا عيوب الديموقراطية الغربيّة فهي كثيرة، منها:
1. قلّة الإنصاف؛ فالخصم الذي ليس معه أغلبيّة، ولو كان من الضآلة بمكانٍ لا حقَّ له في ممارسته الحكم، كما أنّ الذين انتخبوه لا يكاد أحدٌ يراعي رأيَهُم فيظلّون يتفرّجون لبضع سنين، وكأنهم أجانب عن الوطن. (خذ لذلك مثلاً الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة التي لم يتغلّب فيها الجمهوريون على الديموقراطيين إلاّ بعددٍ قليلٍ من الأصوات).
2. قد لا يَنتخِبُ من الشعب إلا نسبةٌ ضئيلةٌ قد لا تبلغ الأربعين في المائة؛ فيُؤْخَذُ برأي هذه النسبة من الناس فتظل أغلبية المواطنين في الحقيقة غير مُمَثَّلة.
3. لا أحد يستطيع أن ينكر التزوير والأخطاء والتجاوزات في كل الانتخابات؛ فأكثر الانتخابات نزاهةً لا تعدمُ غِشّاً وتزويراً من نوعٍ ما؛ إمّا في مستوى فرز الأصوات، وإما بالتأثير في عواطف الناخب برشوه بالمال، وإغرائه بالمنصب، ووعده بالأمل الكاذب.
4. تمزيق وحدة المجتمع بعرض برامجَ مختلفةٍ، تكونُ في عامّتها إما متقاربة، وإمّا غير قابلة للتطبيق أصلاً. وتقسيم المجتمع الواحد باسم التعدّدية إلى شيعٍ وأحزابٍ لا يخلو من سوءات؛ لأننا لا نأمن أن يفضي ذلك إلى شيءٍ من التحاقد والتناحر بين المواطنين.
5. اضطرار المرشَّح للمنصب السياسي إلى الكذب على منتخبيه من أجل الفوز بالمنصب، ثم تراه من بعد ذلك إذا فاز لا يكاد يحقق لهم من الوعود إلاّ شيئاً قليلاً.
هل نظام الشورى هو الديمقراطيّة؟
1. إنّ من الواضح أنّ مفهوم الديموقراطية مفهوم واسع جداً، وقد مرّ بمراحلَ زمنيةٍ طويلةٍ، وهو سيبقى من المكتسبات الحضارية الكبرى للإنسانية؛ وسيظل مفهوماً مفتوحاً للبحث والنقاش بين المفكّرين والساسة.
2. ولمّا كان مفهوم الديموقراطية واسعاً جداً إلى حد الفوضى، باعتراف المُنَظِّرِين الغربيين أنفسهم بحيث نجد الديموقراطية الليبرالية، والديموقراطية الشعبية (المستوحاة من فلسفة كارل ماركس)، والديموقراطية المسيحية، فإنّ من حقنا نحن المسلمين أن نستوحي ديموقراطيتنا من المبادئ الإسلامية (الآيات القرآنية، أحاديث النبي صلى الله عليه وسلّم وسيرته، ثم اجتهادات الصحابة، ثم آراء الفرق الإسلامية، ثُمّ من النوازل التي وقعت في أطوار الحكم الإسلامي).
3. تتجلّى الديموقراطية الإسلامية في أروع مظاهرها يوم السقيفة، وكيف أن الأنصار يريدون الخلافة لهم بقيادة سعد بن عبادة، والمهاجرون يريدون لهم بقيادة أبي بكرٍ وعمر؟ وكيف وقع النقاش منفصلاً عن النصوص الدينية؟ وكيف سلّم الأنصار لأبي بكرٍ عن اقتناعٍ وحسن نيّة فبايعوه في السقيفة مع مَنْ بايعه. فقد أقنعهم أبو بكر بأنّ "العرب لا تعرف هذا الأمر إلاّ لقريش".
4. قام الحوار يوم السقيفة على التسليم بمبدأ مشاركة الأنصار والمهاجرين في الحكم، فبعد أن نادى بعض الأنصار مخاطباً المهاجرين: "منا أمير ومنكم أمير" أجاب أبو بكر: "نحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا نفتات عليكم بمشورةٍ ولا نقضي دونكم الأمور".
فكلٌ مِنْ الأنصار والمهاجرين كان مقتنعاً بإشراك الآخر في الحكم، ولكن الاختلاف وقع في مستوى المشاركة ودرجتها. بل إنّ أحد الأنصار اقترح التداول على السلطة صراحةً بين المهاجرين والأنصار، وإن شئتَ بين قريشٍ والأوس والخزرج، "فاقترحَ أن يكون أول خليفة من المهاجرين، فإن توفي كان الآخَرُ من الأنصار، فإذا هلك كان آخر من المهاجرين أبداً ما بقيت هذه الأمة".
5. ونلاحظ أن أبا بكر طمأن الأنصار باستشارتهم، وعدم إمضاء أي أمرٍ دونهم، فكان إعلان الإستشارة هو الذي أفضى إلى خلافة أبي بكر بمبايعته.
6. ونلاحظ أنّ أحداً من الصحابة في محاوراتهم يوم السقيفة لم يزايد بقِدَمِهِ في الإسلام، ولا بحسن بلائه في الغزوات، ولا أنّه من المبشرين بالجنّة، وإنما وقع الاحتكام إلى العقل والتدبير أساساً، ولذلك وعلى الرغم من أن أبا بكر كان الصدّيقَ وكان ثاني اثنين في الغار، فقد خاطب الناس في أول خطبة له: "إنّي وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم ..." وقد نشأ عن مبايعة أبي بكر من الوجهة الضمنية، جواز المفضول الفاضل لدى أهل السنة، لأنّ المسألة نسبية في الفضيلة ولا أحد يستطيع القطع فيها بتحديد الفاضل الذي يقع عليه الاتفاق بالإجماع.
7. لكن الصحابة يوم السقيفة، وإن لم يستشهدوا بآيتي الشورى فإن واقعهما كان يختلجهم ولذلك تحدّث أبو بكر حين خاطب الأنصار عن مبدأ الشورى لأنّ مفهوم الشورى هو الشكل الديمقراطي الذي كان ممكناً على ذلك العهد.
8. ولمَّا كان مفهوم الديموقراطية واسعاً، فإنّه لا مانع من عَدِّ نظام الشورى في الإسلام ديموقراطياً، إذ هناك ديمقراطيّات في أصل التنظير الفلسفي الإغريقي نفسه وخصوصاً جمهورية أفلاطون، وهي الفكرة التي وسعها أبو نصر محمد الفارابي فحاول تأسيس النظام الديموقراطي المثالي في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة".
9. انتقد سقراط النظام الديموقراطي الإغريقي ورأى أنّه ربما فتح الباب لرجلٍ غير مناسبٍ للحُكْمِ.
وإذن فما دامت الديموقراطية بهذه السعة في المعنى والتنوع في الممارسة، فلم لا تكون الشورى الإسلامية هي الرؤية الحقيقية للنظام الديموقراطي في الإسلام؟
كان الناس في العهد الإسلامي يستطيعون الاتصال بالخليفة متى شاءوا مباشرةً، وإن اقترحَ شيئاً ولم يروا رأيه اعترضوا.
والحق أنّ الفكر الإسلامي مِن السّعة والعمق والثراء والتنوّع والاختلاف على نحو يمكّننامن أن نجد فيه مرجعيات للديموقراطية والحريّة وحقوق الإنسان جميعاً. وكثيراً ما يتسرّع الناس في قراءة النصوص الإسلامية، فيقع استنتاج نتائج سطحية متسرّعة. وربما أحيانا مُغْرضة كماهو الشأن، بالقياس إلى بعض المستعربين والمستغربين جميعاً.
إنا لا ننكر أنّ الديموقراطية مرّت بأشواطٍ طويلةٍ، ومِحَنٍ قاسيةٍ، وثوراتٍ هوجاء حتّى بلغت ما بلغته من الإنجازات، لكن لا ينبغي أن نستنسخَ هذه الأشكال الديموقراطية كما هي في الغرب حرفياً، ثم نطِّبقُها على مجتمعاتنا العربية الإسلامية دون تغييرٍ أو تبديلٍ، بل نرى أن الإسلام بتجربته الطويلة في الحكم والانتشار في أصقاع الأرض والتعامل مع إرث إنساني كبير من القيم الحضارية والديموقراطية وبلورتها جديرٌ بأن يُثري التجربة الديموقراطية في العالم....
نشأة قضية الديمقراطية في الدول الإسلامية، وتحرير محل النزاع فيها
قضية "الديمقراطية في نظام الحكم الإسلامي" لم تكن معروفةً في البلاد الإسلامية، وذلك لاستغنائها بما جرى عليه العمل في الخلافة الإسلامية منذ بدايتها في القرن السابع الميلادي حتى سقوطها أوائل القرن العشرين بسبب الحربين العالميتين. وكان نظام الخلافة الإسلامية يقوم على البيعة للإمام الذي يحتكم إلى المرجعية الشرعية واجتهادات الفقهاء والعمل بنظام الشورى.
صدر الدستور المصري الأول سنة 1923م، وأقرَّ بأنَّ دين الدولة هو الإسلام، مراعاةً للواقع كما قرَّرَ أن نظام الحكم ديمقراطي؛ جرياً على نظام الدول الحديثة.
سبب الخلاف في تحكيم الديمقراطية في نظام الحكم الإسلامي
يرجع اختلاف الفقهاء المعاصرين في تحكيم الديمقراطية نظاماً للحكم إلى عدة أسباب من أهمها:
1. الاختلاف في مشروعية استحداث أنظمةٍ وعقودٍ جديدةٍ لم يرد اسمها أو شرطها في المرجعية الإسلامية الأصيلة من الكتاب والسنة.
2. الاختلاف في مشروعية التشبُّهِ بغير  المسلمين فيما يكون علامة لهم أو منسوباً إليهم ولو لم يكن مخالفاً للقواعد الشرعية العامة.
3. الاختلاف في طبيعة الولاية أو الحكم في الشريعة الإسلامية، أهي وظيفةٌ دينيّةٌ مؤبَّدةٌ تخضع لشروط الإسلام وشرط الذكورة ـ على الخلاف ـ لمن يتولاّها، أم هي وظيفة حياتيّةٌ مدنيّة كالطب والهندسة والزراعة والصناعة والتجارة لا يختلف فيها الناس بالعقيدة أو الجنس، وإنما يُحتكم فيها إلى اختيار الناس.
يمكن إجمال أقوال الفقهاء المعاصرين واحتمالاتهم الفقهية في تحكيم الديموقراطية نظاماً للحكم في البلاد الإسلامية في ثلاثة اتجاهات، أبرزها هو الاتجاه الذي يرى عدم مشروعية تحكيم الديمقراطيّة نظاماً للحكم في البلاد الإسلامية، وأنَّ البديل الشرعي هو نظام الشورى. وهذا اتجاهٌ غالبٌ عند عامّة الفقهاء المعاصرين؛ خاصة المتأثرين بالحركات الوطنية الرافضة للاستعمار الغربي بإيجابياته وسلبياته، والمنادية بمنع التطبيع مع الغرب ضغطاً للحصول على الاستقلال أو تمييزاً للهوية الإسلامية.
أدلَّةُ العلماء المعاصرين الرافضين لتحكيم الديمقراطية
1. إنّ مصطلح الديمقراطية ومدلوله غريب عن المصطلحات الإسلامية ودلالاتها، فهو بدعة مردودة؛ لما أخرجه الشيخان عن عائشة، أنَّ النبيّ، صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رَدٌّ". وفي لفظ: "منه". وفي رواية لمسلم بلفظ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ".
2. إنّ مصطلح الديمقراطية غربيُّ النشأة، ومرتبط بأفكار وعقائد غير المسلمين، فكان التعامل به محظوراً على المسلمين؛ لنهيهم عن التشبُّهِ بغير المسلمين.
3. أن طبيعة الديمقراطية تجعلُ الحُكمَ وظيفةً مدنيةً مؤقتةً؛ لأن الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب، ويُتَوصَّل إلى ذلك بنظام الانتخابات، فلا يُشترطُ في الحاكم إلا أن يكون مختاراً من الشعب، ولا فرق بعد ذلك بين الناس بالعقيدة أو الجنس. ثم إن نظام الانتخابات يقوم على فكرة منازعة ولي الأمر والخروج عليه فيما يُعْرَفُ بالمنافسة الانتخابية، وهذا يخالف طبيعة الشريعة الإسلامية التي تمنع منازعةَ وليِّ الأمر، كما تجعل الحُكمَ وظيفةً دينيّةَ مؤبدة؛  لما أخرجه البخاري عن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازعَ الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيثما كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم". ومِمّا يدلُّ على أنّ الحكم وظيفة دينية: أن الإمام يقوم على حكم الله وإقامة شعائره وحدوده، كما قال تعالى: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" وقال تعالى: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ". وقال تعالى: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ". ومقتضى الحكم بما أنزل الله أن يكون الحاكم مسلماً؛ لعموم قوله تعالى: " وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا".
كما يُشْتَرَطُ في الحاكم شروط أخرى دلّت عليها النصوص الشرعية من أهمها: الرضا كما في بيعة أبي بكر الصديق، والذكورة؛ لما أخرجه البخاري عن أبي بكرة، قال: لما بلغَ رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم، أنّ أهل فارس قد مَلّكُوا عليهم بنتَ كسرى، قال: "لن يُفلحَ قومٌ ولّوا أمرَهم امرأةً".
4. إنّ التكييف الفقهي للديمقراطية هو أنها غاية أو نظام فكري يقوم على مبادئ مُعيّنةٍ ترسخ سيادة الشعب في الحكم وتسوّي بين المواطنين دون التمييز بينهم بالجنس أو الاعتقاد، وهو ما يُعرَفُ بفصل الدين عن الدولة، وهذا يتعارض مع التكييف الفقهي للشريعة الإسلامية، وهو أنها نظام سماوي جاء لإصلاح الدين والدنيا، فالإسلام دين ودولة، قال تعالى: " ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ".
5. إنّه لا حاجة لنظام الديمقراطية في ظلِّ الكمال الذي تتصف به الشريعة الإسلامية في قوله تعالى: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ". وقد تضمَّنت أحكام الشريعة نظام الشورى الذي يُغني المسلمين عن أفكار غيرهم لمنع الاستبداد في الحكم، قال تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ".
 ***********************************************************
مراجعة عامّة هامّة لمادة "دعوة غير المسلمين"
إعداد الدكتور راجح السباتين / جامعة طيبة/ كلية العلوم والآداب بالعُلا
نظّم الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم في المجتمع الإسلامي على أسسٍ ثابتةٍ من العدل والتسامح، وهو ما لم تعرفه البشريّة قبل الإسلام. وقد أعطى التشريع الإسلامي لمن يعيش في المجتمع الإسلامي من غير المسلمين ومن أهل الذمة رعايةً خاصّةً.
يُطلق على المواطنين من غير المسلمين الذين يقيمون في المجتمع الإسلامي اسم "أهل الذمّة". و"الذمة" تعني العهد والضمان والأمان، وسُمّوا بذلك؛ لأنّ لهم عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلّم، وعهدَ المسلمين الذي يضمنُ لهم أن يعيشوا في المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، بناءً على "عقد ذمّة" بينهم وبين أهل الإسلام. وأيُّ مساس بهم، يُعَدُّ إخلالاً بهذا العهد العظيم، فهذه الذمّة تعطي أهلها من غير المسلمين ما يسمّى في العصر الحديث بالجنسيّة التي تمنحها الدولة لمواطنيها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنة ويلتزمون بواجباتها.
وقد قرّر الإسلام لأهل الذمّة مجموعةً من الحقوق وضمنها لهم، وهذه الحقوق، هي:
1. حرية الاعتقاد والعبادة: ترك الإسلام لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي حريّة اعتناق الإسلام. وتركَ لكُلِّ ذي دينٍ دينه، لا يُجبرُ على التحوّل منه إلى الإسلام؛ لأن الدخول في الإسلام لا يكون إلاّ بقناعة العقل ورضا القلب؛ قال تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ". كما ضمن لهم حق ممارسة شعائر دينهم وعبادتهم في ديانتهم وفق ما هو مقرر دون تَحَدٍّ لمشاعر المسلمين.
2. حقّ تنظيم الأحوال الشخصيّة: أباح الإسلام لأهل الذمّة تنظيم أحوالهم الشخصيّة وفق أحكام دينهم، في ما يتعلق بأمور الزواج والطلاق والنفقة والعلاقة بين الزوجين وغيرها من أحكام الأسرة.
3. حق المواطنة: يكتسب أهل الذّمة جنسيّة الدولة الإسلاميّة ومواطنتها، ما داموا ملتزمين بأحكامها محافظين على عهدهم معها، وتضمن الدولة لهم التمتّع بحقّ المواطنة من خلال مجموعةٍ من المظاهر، منها:
أ. الأمن على أنفسهم وأموالهم: حيثُ أكّدَ الإسلام على حفظ دماء أهل الذمّة وأعراضهم وأموالهم، وتحريم الاعتداء عليها؛ لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: "مَن قَتَل مُعَاهِداً لم يُرِح رائحةَ الجنة، وإنّ ريَحها ليُوْجَد من مسيرة أربعين عاماً".
ب. العدالة الاجتماعية: ساوى الإسلام بين أهل الذمّة والمسلمين أمام القضاء، وكفل لهم حقّ العمل والكسب وتولي الوظائف العامّة إلا رئاسة الدولة وقيادة الجيش، وما غلب عليه الصبغة الدينيّة، كالقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات، وضمن لهم التأمين عند العجز، أو الفقر، أو الشيخوخة، فقد رأى عمرُ بين الخطاب رضي الله عنه شيخاً يهوديًّا يسألُ الناس لكبر سنه، فأخذه إلى بيت مال المسلمين، وفرض له ولأمثاله راتباً، وقال: "ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شاباً، ثم نخذله عند الهرم".
ج. العيش الكريم: ضمن الإسلام لأهل الذمّة العيش الكريم في المجتمع، وصان كرامتهم وشخصياتهم الاجتماعيّة، وأباح للمسلمين الزواج من أهل الكتاب، والتجارة معهم، وأكل طعامهم، وأوجب الإحسان إليهم، قال تعالى: " لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ".
والتاريخ الإسلامي يشهد على التزام المجتمع الإسلامي بحماية أهل الذمّة مِن كلِّ ظلمٍ يمسّ حقوقهم، ومن أمثلة ذلك أنّ درعاً لأمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، سقطت فوجدها عند نصراني، فأقبل إلى القاضي شريح يخاصمه، فقال علي: هذا الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، فقال شريحٌ للنصراني: ما تقول في مايقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فقال شريح لعليٍّ: يا أمير المؤمنين، هل لك من بيّنةٍ؟ فضحك عليٌّ وقال: أصابَ شريح. ما لي بيّنة، فقضي بها شريح للنصراني، فأخذها النصراني ومشى خطوات ثم عاد وقال: إنّي أشهد أنّ هذه أحكام أنبياء؛ أمير المؤمنين قَدَّمني إلى قاضيه فيقضي لي عليه، أشهد أن هذا للحق، أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، الدرع درع أمير المؤمنين، فقال علي: أما إذا أسلمت فهي لك.
واجبات أهل الذمّة في المجتمع الإسلامي
كما أقرَّ الإسلامُ حقوق غير المسلمين وضمنها لهم، فقد أوجب عليهم واجباتٍ لا بدّ من القيام بها كغيرهم من المواطنين، ومن أهمِّ هذه الواجبات:
1. إلتزام أحكام الإسلام العامّة: من واجبات أهل الذمة إلتزام أحكام الإسلام العامّة التي تُطبّق على المسلمين في العقود والمعاملات والعقوبات؛ لأنهم بمقتضى الذمّة أصبحوا يحملون جنسيّة الدولة الإسلاميّة ولهم حق المواطنة فيها، وعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التي لا تمسّ عقائدهم وحريتهم الدينيّة، مثل: البيع والإجارة، وعدم الاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال، فإن وقعوا في شيء من ذلك طبّقت عليهم العقوبات الشرعيّة كما تطّبق على المسلمين.
2. مراعاة النظام العام: وعلى أهل الذمة مراعاة النظام العام وصون حرمة المجتمع الإسلامي، وعدم المجاهرة بتناول ما حرّمه الإسلام مما يعتقدون حِلَّهُ من طعامٍ أو شرابٍ، احتراماً لمشاعر المسلمين.
3. الإلتزامات المالية:فيجب عليهم أداء ما تقرّره الدولة على مواطنيها من التزامات مالية...
يرفض الإسلام فكرةَ الإكراه على الدين، وتغيير المعتقدات دون قناعةٍ فكريةٍ، واطمئنانٍ قلبيٍ، لا أثر فيه للضغوط والإرهاب، وإنما الحُكم للحُجَّة والبرهان، فقال تعالى: " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ". لذا لم يثبت في تاريخ الإسلام أنَّ المسلمين أكرهوا أحداً على اعتناق الإسلام، وإنما كانت مهمة النبيّ، صلّى الله عليه وسلم، ومِنْ بعده أصحابه وأتباعه إلى العصر الراهن هي الإنذار والتبشير، والتبيلغ والتحذير، والبيان والتوضيح، والمحاجّة والنقاش الهاديء المعتمد على قناعة العقل بسلامة المبدأ والاعتقاد، ويكفينا الاستدلال على ذلك بقوله تعالى مخاطباً رسوله: ".... إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ".
ويوضّحُ ذلك من الناحية الواقعية وجود التعايش الديني بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وأتباع الأديان الأخرى في وطنٍ واحدٍ تحت مظلّة الإسلام وسلطان المسلمين. وقد أقرَّ القرآن الكريم إبقاء هؤلاء على دينهم، وكان طابع التسامح معهم هو الظاهر المتميز عبر أدوار التاريخ المتلاحقة.
وقد ختمت الرسالات الإلهية بالإسلام، والدِّينُ دينُ الله وشرعُه، فما ارتضاه لعباده وجب اتباعه، وما نسخه أو ألغاه لانتهاء صلاحية وانتهاء دوره وجب هجرُه ونسيانه وتركه، سواء بقيت تلك الرسالات في صورتها الصحيحة التي نزلت على أنبيائها أو بُدِّلتْ وغُيِّرَتْ، أو فُقِدَتْ وضاعت، ولقد ضاعت التوارة ذاتها باعتراف اليهود، وكُتَبِتْ الأناجيل المتعددة بعد المسيح عليه السلام بنحوٍ قرن أو أكثر، ويعترف المسيحيون أنّ الأناجيل الأربعة المعترف بها لديهم ليست هي الإنجيل الذي نزل على عيسى عليه السلام.
الإسلام دينٌ عالميٌّ أو دِينٌ ذو نزعةٍ عالميةٍ
إن رسالة الإسلام رسالة عامة للبشرية قاطبةً، فهم جميعاً مطالبون باتباعه والاستجابة لتعالميه وأحكامه؛ لأنه حياةٌ جامعةٌ للناس، ويدعو إلى تصحيح العقيدة المنسجمة مع الفطرة، وتزكية النفس والضمير، وترقية العقل والفكر، وإصلاح الحياة من جوانبها المتعددة، وتدعيم الحضارة والمدنية، ويتلخص ذلك بما وصف الله به مَهمَّة رسوله، صلّى الله عليه وسلم، في قوله: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ".
ومِمَّا ثبت تواتُره أنّ الرسول الكريم بعث بكتبه يدعو إلى توحيد الله ملوكَ الآفاق، وطوائف بني آدم من عرب وعجم، كتابيٍّ وأميٍّ، امتثالاً لأمر الله له بذلك.
وكان الرسول، صلّى الله عليه وسلم، يتصدى لوفود الحجّاج، فيعرض عليهم دعوته ويرسل السفراء إلى القبائل يحملون كتباً مختلفة لتبليغ الرسالة، ويعقدُ المعاهدات مع الأقوام ليأمن شرَّهم وعدوانهم؛ فقد أرسل الرسول، صلى الله عليه وسلم، كتباً وسفراء ورسلاً إلى رؤساء الدول المجاورة على رأس بعثات سياسية أو دينية، فأرسل كتاباً إلى قيصر الروم، وآخر إلى كسرى الفرس، وثالثاً إلى المقوقس عظيم مصر، ورابعاً إلى النجاشي، وخامساً إلى المنذر الغساني في الشام، ثمَّ إلى غيرهم من الملوك والأمراء، كالمنذر بن ساوى في البحرين، وإلى ملوك اليمن وعُمان. وكان موضوع هذه الكتب واحداً يتلخَّصُ في الدعوة إلى الإسلام، كما يتضح ذلك من نصوصها وكان من أثر هذه الكتب، أن أسلم سائر الملوك الذين أرسل إليهم....
استمرت الدعوة إلى الإسلام في عصر الخلفاء الراشدين وفي العصر الحديث، لذا خاطب القرآن في كثير من آياته البشر بكلمة "الناس" أو "بني آدم" دون تمييز بين جنس وآخر، وفئةٍ وأخرى، فقال تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". وقال سبحانه: يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ".
وكان أتباع النبيّ، صلّى الله عليه وسلم، في بدء الدعوة متعددي الجنس واللون والسن والنوع والفئة، كالعربي أبي بكر وعمر، والحبشي بلال، والفارسي سلمان، والرومي صهيب، حتى بلغوا الآن أكثر من مليار ونصف المليار مسلم.
مدى الحاجة إلى التبصير بالإسلام
بالرغم من تقدّم العالم غير الإسلامي صناعياً وزراعياً وحضارياً، فإن هناك جوانبَ نقصٍ كثيرةً في تلك الحضارة والمدنية الحديثة، أهمُّها الفراغ الروحي، وتشويه العقيدة، والإمعان أو الإغراق في المادية، وهجر القيم الإنسانية على المستوى الشامل، وإن وُجِدَتْ بعضُ القيم المصلحية المقصورة على شعبٍ أو قومٍ أو جماعةٍ دون آخرين، ومن هنا تبدو بنحوٍ أجلى مهمَّةُ دعاة الإسلام الذين يحبون الخير لأمتهم وللعالم أجمع في التوجه نحو تصحيح المسيرة، إذ صلاح آخر الأمة بما صلح به أولها، كما جاء عن النبي، صلّى الله عليه وسلم.
والفراغ الروحي والظما الفطري إلى التدين هما سبب إحداث الهزات النفسية والاجتماعية، والاضطراب والقلق في العالم غير الإسلامي، مما أدى إلى كثرة حوادث الانتحار، وانتشار الجرائم. وهو الذي يجعلنا نلمس حاجة العالم الملحَّة إلى التبصير بالإسلام دين الوسطية، ورسالة التوازن بين الروح والمادة أو القيم الروحانية والمادية.
وليست الحضارة بالرقيّ الماديّ فحسب، ولا بالترف الذهني، ولا بمجرد عبور الفضاء والوصول إلى الكواكب البعيدة عن سطح الأرض كالقمر والمريخ وغيرهما، وإنما تتمثل الحضارة الحقيقية في الرقي الروحي الذي نسمو به إلى الملأ الأعلى، ونُحسُّ بسببه في أعماق نفوسنا بالسعادة: "... أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ".
أحكام تبصير المسلمين لغيرهم بالإسلام
قبل أن نبصّر العالم بالإسلام يجب بداهةً أن يكون المسلمون في ديار الإسلام على بصيرة صحيحة بالإسلام، ووعيٍ تامٍّ له، وإدراكٍ لمعانيه وأحكامه وآدابه، وأن يكونوا قدوة حسنة فعلياً، وترجماناً صادقاً لصورة الإسلام الصحيحة في الاعتقاد والعبادة والخُلُق والمعاملة.
والتبصير بالإسلام أو (التبليغ) واجبٌ صراحةً على النبيّ، صلّى الله عليه وسلم، وعلى العلماء وعلى أمته من بعده. أما وجوبه عليه فواضح من قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ".
وأما أمة النبيّ، صلّى الله عليه وسلم، وعلماؤها بالذات فَهُمْ مِنْ بعد نبيّهم مأمورون بالتبليغ والتبصير ودعوة الناس إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لقول الله تبارك وتعالى في آية العلماء العاملين بكتاب الله بإجماع المفسرين: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ". والمراد بالكتاب: القرآن الكريم، ومدح الله تعالى الدعاة بقوله: " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ". وهذا يشملُ النبيَّ، صلّى الله عليه وسلَّم، والعلماء من بعده والحكام العادلين.
لذا أمر النبيُّ، صلّى الله عليه وسلمَّ، صحابته ومَنْ يتبعهم بقوله: بلغوا عنّي ولو آية"، وقيام الأمة بواجب التبليغ شامل لكل أفرادها، فليس في الإسلام طبقةٌ مُعَيَّنةٌ هي طبقة رجال الدين، فعلى كلّ مَنْ علم من الإسلام شيئاً صحيحاً، وفهمه فهماً سليماً، وأدرك مراميه وأبعاده وأدلته أن يبلغه إلى غيره، ويكون مسؤولاً عن ذلك بين يدي الله عز وجل.
كما أوجب القرآن تخصيص فئة للدعوة والتبليغ، مع إبقاء الواجب العام قائماً على كل مسلم، فقال تعالى: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". وقد فسَّر ابن كثير الآية بقوله: "أن تكون فرقةٌ من هذه الأمة متصديةً لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه".
ومما يجب معرفته أن دعوة الناس إلى الإسلام وتبصيرهم به لا يُعَدُّ تدخلاً في شؤونهم، ولا مصادرةً للحرية التي يتمسك بها الجاهلون والعوام وبعض المثقفين غير الواعين، لأن الانتماء للإنسانية حقٌّ الجميع، ولأنَّ نظام المجتمع وبناءه على أسس سليمة حق أيضاً لجميع أبنائه، فيكون النصح والإرشاد والتبصير أمانةً في حق العلماء، وواجباً عليهم، وحقاً طبيعياً مقدساً لهم، لذا كان للمصلحين والحكماء وقادة الفكر في نهاية الأمر احترامٌ وتقديرٌ في كل أُمّةٍ.
وسائل التبصير بالإسلام أو وسائل الدعوة والإعلام
تعتمد وسائل التبصير بالإسلام (أو وسائل الدعوة والإعلام) على ذكاء المُبَصِّر أو الداعية وكياسته ولباقته، وحسن الاستفادة من التجارب، وكيفية التخلص من المآزق، كما تعتمد على دراسة البيئة وطبيعة كل بلد وشعب، ومعرفة تاريخه ووسائل نجاح الدعوة في الماضي، وتصوراتها في المستقبل، والاعتماد على بناء البلد.
وهناك وسائل موضوعية يُعْتَمَدُ عليها غالباً في كل البلاد، وأحياناً يمكن إهمال بعضها بحسب غنى الشعب ورفاه الفرد. وأهم هذه الوسائل ما يأتي:
1. الإتصالات الفردية سرّاً في مبدأ الأمر: فقد بدأت الدعوة الإسلامية سرّيةً قبل أن تنتقل إلى المرحلة العلنية. وسرية العمل بالدعوة، والإجماع عليها في بادئ الأمر كانت مفيدة، كما أنها مفيدة الآن في عصر التنظيم الدولي الإقليمي الحديث حيث يرى الداعية مدى ردود الفعل لدى الشعب ولدى حكومته، وحينئذٍ يستمر في منهجه، أو يتكيف مع الواقع أو يغير الأسلوب.
2. الحلقات الجماعية: إذا قوي انتشار الدعوة وكَثُرَ مؤيَّدُوها، فيمكن عقد اجتماعاتٍ دوريةٍ مُنَظَّمةٍ أسبوعياً مرّةً أو مرتين، لترسيخ أصول دعوة الإسلام في نفوسهم، إيماناً وفعلاً، ثم تحوَّلُ كل مسلم منهم إلى داعية يدعو زوجته وأولاده، وأصوله وأقاربه وجيرانه ثم مجتمعه إلى الدخول في الإسلام.
3. الحوار الهادئ والنقاش الحُرُّ والجدلُ المنطقيُ مع قادة الفكر الديني في كلِّ بلد: يحدثُ عادةً عقبَ انتشار الإسلام في كلِّ موقعٍ وبلدٍ، نوعٌ من التصادم الفكري الذي يمكن حسمه بإعلان حوارٍ علنيٍ يحضره جمهورٌ من الناس، وتدور المناقشات حينئذ بين الداعية المسلم وبين أنصار الدين القائم أو فلاسفة الفكر المادي المُلحِد، على أن يتم ذلك كلُّه بالحكمة والموعظة الحسنة.
4. المحاضرات العامة والندوات: يحسن عند الإمكان إلقاء بعض المحاضرات العامة والندوات الموجَّهَةِ المتخصّصة في موضوع ما، أو الشاملة لمعطيات الإسلام حسب الأحوال والظروف، فإن عقلية الجيل المعاصر تتقبل هذا الأسلوب.
5. أجهزة الإعلام الحديثة: إذا تمكَّنَ الداعية المسلم من النفاذ إلى قلب أجهزة الإعلام الحديثة، بادر إليها، سواء الصحف اليومية، أو المجلات والنشرات الدورية، أو الإذاعة المرئية (التلفاز) والمسموعة (المذياع) فكلُّ هذه الأجهزة مهّمةٌ جداً، ومؤثِّرةٌ في السامعين، ومفيدة في نشر الدعوة؛ لأننا نلاحظ أن كل ما يبث عن طريقها يتقبله الناس ويفهمونه، ويتناقلونه ويرددونه فيما بينهم.
6. الوعظ والإرشاد في المساجد في خطبة الجمعة والعيدين: لقد اعتمد الإسلام مع مرور الأيام على هذا الأسلوب لتذكير الناس، وحمايتهم من الانحراف، والحفاظ على بُنية المجتمع الديني من الانحلال والانهيار. ويكون للخطيب الناجح تأثير كبير واضح في أسماع الجمهور، وربطهم بالمسجد، وتآزرهم وتعاونهم مع بعضهم في القضايا العامة والخاصة. كما أنَّ منبر المسجد له احترامه والثقة برجاله، وبه يتمكن الخطيب من تفنيد الشبهات وإحباط التيارات التي تهدد العقيدة الإسلامية.
7. توزيع الكتب والرسائل الصغيرة والبحوث: إنّ السماع لا يبقى أثره في النفوس ما لم يكن مدعوماً بالقراءة والُمَدَّوَنات المكتوبة، فلا بدّ حينئذٍ من رفد كل داعية في البلاد المختلفة بطائفةٍ من الرسائل الصغيرة، والكتب المتوسطة الحجم التي تعرض الإسلام في عقيدته، وأخلاقه، وعباداته وقيمه ومبادئه، وأحكام شريعته، بأسلوبٍ واضحٍ مُبَسَّطٍ، وبلغةٍ سهلة الفهم، ليست عسيرة على إدراك متوسطي الثقافة والمعرفة. فيها تعريف عام بالإسلام في العقيدة والعبادة والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
8. تقديم المواد والخدمات والمعونات: تعاني بعض المجتمعات المتخلِّفة في أفريقيا وآسيا من آفات الجوع والحرمان والفقر والجهل والمرض ونحوها، ويتهدد كيان الفرد والأسرة الخطرُ والموتُ أحياناً، فمثل هؤلاء لابد من تقديم المسلمين ودعاتهم إليهم بعض الحوائج المادية والخدمات المجّانية المستمرة، كالطعام واللباس والعلاج والاستطباب؛ إذ لا يُعْقَلُ ولا يفيد الحديث مع إنسانٍ يشكو من الجوع أو المرض.
9. تكوين الدعاة المبصّرين: إنَّ حُسْنَ اختيار الدعاة كفيل بتحقيق أفضل النتائج والثمرات الطيبة، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (يُحْسِنُ) اختيار الدعاة، ويرسل كلاً منهم بما يناسب كلَّ بلدٍ حسب الحاجة، فقد أرسل مصعب بن عمير المقرئ إلى المدينة، وكان أولَ داعيةٍ فيها، وأرسل معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب إلى اليمن.
وأصبح عمل الداعية في هذا العصر مُعَقَّداً، ويحتاج إلى تأهيلٍ عالٍ، ودورات مكثفة، وخبرات سليمة، واستدعى عمله التخطيط والدراسة الموضوعية العلمية، وفهم طبيعة كل شعب، وبحث أوضاع الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
أهداف التبصير بالإسلام وغاياته
أ. أداء الأمانة وإقامة الحجة وإنقاذ الأمة
إن الدعوة أمانة وواجب، لأن فيها إقامة للحجّة على الناس، حتى لا يتعذر أحد بعدم بلوغ الدعوة إليه، لذا قال تعالى: "رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا". والدعاة حين يؤدون الأمانة ويقيمون الحجّة على الناس، يقدمون الخير لأمتهم، وينقذونهم من الضلال، ويأخذون بأيديهم إلى النجاة والفلاح، وليكونوا الفائزين المفلحين في الدنيا والآخرة.
ب. تصحيح العقيدة والوصول إلى الإيمان الصحيح
إنَّ الغاية الأساسية للدعاة تصحيح عقائد الناس والأخذ بيدهم إلى اعتناق الإسلام، وإعلان الإيمان بالله.
وقد حدَّد الرسولُ، صلّى الله عليه وسلم، الغاية السامية لكل داعٍ إلى الله، فقال لعلي رضي الله عنه يوم خيبر: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْرِ النِّعَمِ" أي: كرائم الأموال من الإبل.
ج. الردُّ على الشبهات
الشبهات: كل ما يُثارُ نحو الإسلام ومبادئه وأحكامه من شك وارتياب، وسوء فهم، وتفسير مذموم، وتشويه للحقائق، وهذا ما يروجُ له بعض المستشرقين عادةً في كتاباتهم عن الإسلام، وتردده بعض الصحف والمجلات، ويُدَسُّ في بعض الكتب الدراسية.
وعلى الداعي أن يكون منتبهاً لمثل هذه الشبهات، مستعداً علمياً وتاريخياً ونفسياً لتفنيدها وإظهار زيفها وبطلانها، لأن الدعاية السيئة تؤدي إلى حجب الحقائق، وتقويض جهود الداعي، وحرمان السامعين من كلامه وبيانه للحكمة أو السبب والعلاج.
د. إيقاف الحملات المعادية
على المراكز الإسلامية وجماعة الدعاة أن يتعاونوا في إصدار البيانات، وتقديم الاحتجاجات، ورفع البرقيات لإيقاف بعض الحملات التبشيرية المسعورة، والدعايات المُغْرِضَةِ، وتزييف ماجاء على لسان بعض رجال الدين الآخرين من اتهامات رخيصة للإسلام وتصريحات مغلوطة، يدفع إليها الحقد والتعصُّبُ الديني الدفين، والتقاليد الموروثة، والشائعات الكاذبة.
آفاق الدعوة الإسلامية
التبصير بالإسلام لغير المسلمين أو الدعوة إليه له مجالان: داخلي وخارجي.
أما الداخلي: فهو في داخل العالم الإسلامي حيث يوجد أناس في كثير من البلاد بنسبة تتراوح بين 5 – 10% يدينون بغير الإسلام، وهؤلاء أحوج وأقرب إلى الإسلام من غيرهم؛ لأنهم عايشوا المسلمين، وعرفوا شيئاً عن الإسلام وأخلاقه وآدابه وعقيدته ونظمه، ومصيرهم مشترك مع المسلمين، وربَّما تكون القدوة الحسنة من سلوك المسلمين أكثر تأثيراً وفاعلية، وأكثر جدوى للتعريف بالإسلام بين هؤلاء المواطنين التابعين لدولة واحدة، ولكن دون إزعاج ولا إكراه ولا مضايقة، وإنما بروحٍ طيبةٍ من التسامح واللين والرفق.
وأما الخارجي: فهو خارج نطاق العالم الإسلامي، حيث تكثر الأديان والملل والنحل، وتظهر العلمانية والمادية والوثنية.
ضوابط وقواعد التبصير بالإسلام
1. اتِّبَاعُ المنهج القرآني ومنهج الأنبياء وطريق العلماء
يتحدد هذا المنهج في الدعوة إلى تصحيح العقيدة بإثبات التوحيد ثم النقاش والجدل والتوضيح، ثم بيان التكاليف الشرعية.
أمَّا تصحيحُ الاعتقاد: فهو المحور الأساسي للدعوة الإسلامية، لذا ظلَّ القرآن المجيد في العهد المكي طوال ثلاث عشرة سنةً يدعو الناس إلى التوحيد وعبادة الله وطاعته، وإثبات الوحي والرسالة النبوية، والإيمان بالبعث والحساب والجزاء في عالم الآخرة، وغير ذلك من الإيمان بالغيبيات، والتزام مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال.
والأخلاق تلازم العقيدة، لذا كانت عناية القرآن في مكة بتصحيح الأخلاق والدّعوة إلى مكارم الفضائل والآداب العالية مثل العناية بالعقيدة، قال النبي، صلّى الله عليه وسلم: "إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق".


2. التركيز على مبادئ الإسلام الكبرى
على الداعية أن يبتدئ بالكليات والعموميات ومبادئ الإسلام الأساسية بعد العناية بالعقيدة والأخلاق، مثل بيان خصائص التشريع الإسلامي الثلاث: وهي التدرج في التشريع، وقلة التكاليف، ودفع الحرج (أو مبدأ السهولة واليسر والسماحة) في الأحكام وبيان مدى مرونة الشريعة وسعتها وبساطتها وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان، ووضوحها، وأنه لا تعقيد في شيءٍ من أصول الإيمان.
3. الدعوة على بصيرةٍ وعلمٍ
إن الدعوة الناجحة لا سيما في عصرنا هي التي تعتمد على المُسَلَّمَاتِ العقلية والفكرية، والبصيرية والعلم، فالعقل والعلم يلازمان مفاهيم الإسلام، وعليهما قام صرح الدعوة إليه، والبصيرة هي المعرفة والبيان والحجّة الواضحة التي تُمَيِّزُ الحق من الباطل. والعلم هنا: أمور الدين وأحكام الشرع، أو خفيات الأمور وضمائر الصدور.
كما تتطلب القاعدة معرفة لغة القوم الذين يخاطبهم الداعي؛ إذ يتعذر عليه الإفهام والنقاش والجدل، ومتابعة التبليغ من دون معرفة اللغة.
4. إتباع الحكمة والموعظة الحسنة
على الداعي أن يتبع أسلوب الحكمة لأنه المؤِّثُر في السامعين، والمؤدي للغرض المنشود، قال تعالى: " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...". والحكمة: معرفة أسرار التشريع، وإدارك مبانيها ومعانيها والنظر ببصيرة واعية للمخاطبين، واستعمال الأنسب المفيد لهم. والموعظة الحسنة: هي الكلمة الطيبة، كلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن التي تخرج من القلب واللسان فتصل إلى العقل والفؤاد، فيتأثر السامع بصدقها وما تهدفُ إليه من خير وإسعاد.
5. الرفق في الدّعوة
يتأثر الإنسان غالباً بلين الكلام ولطفه، وينفرُ من الغلظة والقسوة والاستعلاء، فعلى الداعي أن يأخذ بالرفق ما أمكنه ذلك، حتى يحقق الهدف الذي يرجوه، وهو استجابة المخاطبين لدعوته ومبادرتهم إلى تغيير معتقداتهم، قال تعالى مبيناً منهج الدعوة لرسوله الكريم: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ...". قال النبيُّ، صلَّى الله عليه وسلم: "إنَّ الله تعالى يحب الرفق في الأمر كلّه".
6. الترغيب والترهيب
إنّ منهج الدعوة في القرآن الكريم أو سياسة التبليغ تقوم على النصح والإرشاد المتكرر القائم على الترغيب تارةً والترهيب تارةً أخرى، والترغيب: كل ما يحبِّبُ الإنسانَ بالأمر المدعو إليه، ويدعوه إلى الاستجابة وقبول الحق والثبات عليه. والترهيب: كل ما يخيف الإنسان وينبهه إلى المخاطر، ويحذره من الإعراض عن الأمر المدعو إليه. والأول إِطماعٌ في ثواب الله تعالى في الآخرة، أو ظفر بالخير في الدنيا، والثاني تخويفٌ من غضب الله وسخطه وعذابه في الآخرة، أو عقابه أحياناً في الدنيا.
7. التخطيط والمتابعة
من أهم عوامل النجاح في الحياة وفي الدعوة أيضاً: التخطيط للهدف المراد، ويأتي دور المتابعة بعد وضع الخطة، ولقد كانت مناهج الرسل كلها تقوم في دعوة أقوامهم إلى التوحيد وعبادة الله على الخطة الواعية المدروسة الموجَّهةِ بالوحي أحياناً.
8. المُعَاصَرة
يَستحسن الناسُ عادةً كلَّ جديدٍ من المعلومات والأساليب والطرق المتبَّعة، وينفرون من القديم. وموقف الداعية حَسّاسٌ، لهذا كان عليه دراسة أوضاع العصر الذي يعيش فيه، والتعرُّف على الأسلوب الذي يستهوي الجمهور، واختيار الوسائل الناجعة في البيان والخطاب والأمثلة والتشبيهات.
آداب التبصير بالإسلام
للتبصير بالإسلام أو الدعوة إليه آداب كثيرة تُعتبرُ عوامل مهمّةً في إنجاح مهمة الداعي والظفر بمطلوبه؛ لأنَّ محورها الخُلُقُ الحسن، والخلق الحسن ذو تأثير فعّال في الناس، لذا وصف الله نبيه به بقوله: " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ".
وأهم هذه الآداب
1. الإيمان بالدعوة، ممّا يعطيه قوةً كبيرةً على القيام بمهمته، واعتبار الدعوة نوعاً من الجهاد.
2. كذلك أن يكون الداعي القدوة الحسنة خلقاً وقولاً وفعلاً، واستقامة.
3. بالإضافة إلى التضحية والإيثار والإخلاص، والصبر على الأذى.
4. الحلم وعدم اليأس، فقد روي عن الرسول الكريم قوله: "اللهم اغنني بالعلم، وزيني بالحلم، وأكرمني بالتقوى، وجملني بالصبر".
5. العفو والتسامح، قال تعالى: " فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ". وهو ما فعله الرسول الكريم بقريش بعد فتح مكة.
6. العفة والزهد عمّا في أيدي الناس، والتواضع، وأداء العبادة.

مسؤولية المسلمين عن إبلاغ الدعوة لغيرهم في عصرنا الحاضر
هذه المسؤولية تؤدَّى عن طريق الجهود الفردية أو الجماعية أو الدولية، وأداء الجهد الفردي هي نشاط كل مسلم، حيثما كان في العالم، فعليه واجب التبليغ والتبصير والدعوة إلى الله تعالى. والجهد الجماعي يتجلى في ضرورة التكتل عن طريق الجمعيات والمؤسسات والأوقاف الإسلامية لبعث وفود الدعاة إلى أنحاء العالم.
والواجب الأكبر والأهم هو واجب كلِّ دولةٍ إسلاميةٍ بقدر إمكاناتها أن تساهم في إرسال البعوث والدعاة إلى الله إلى بلاد الدنيا، لأن الدولة أقدر على هذا العمل من الفرد قطعاً، فقد فرضت الدولة هيمنتها في العصر الحديث على كل نشاطٍ فرديٍ وجماعيٍ في إقليمها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق