مناقشةٌ هادئةٌ لموضوع "الإسلام والآخَر" ولموضوع "الديموقراطية والإسلام"

الإسلامُ والآَخَرُ

لعلَّ التعريف الأبسط للآخر "هو أنّ الآخر إمّا أن يكون فرداً مختلفاً أو مجتمعاً مختلفاً أو ثقافةً مُغَايرةَ". وعندما نتحدث عن الآخر بالنسبة للمسلمين فنحن نحدد هذا الآخر بأنه المختلِفُ عقائدياً عن المسلمين أيْ غير المسلمين سواء كانوا من أصحاب الديانات السماوية السابقة (اليهود والنصارى) أو غيرهم من أصحاب العقائد الوضعية.
أولاً: لعلَّ أول ما نلاحظه عن خصوصية النظرة الإسلامية للآخر أن الإسلام لم يرتبط بجنسٍ من بني البشر دون باقي الأجناس كما في الديانة الهندوسية مثلاً، أو اليهودية التي تُعتبَرُ ديانةً مُغْلَقَةً "أي تحجم عن التبشير".
بل إن المسيحية، لأسبابٍ تاريخيةٍ، ارتبطت بالجنس الأبيض، ويستغربُ كثيرٌ من أبناء شمال أوروبا اعتناق أحدهم ديانةً غير المسيحية البروتستانتية أو الكاثوليكية ... أما الإسلام فقد تجاوز هذه النظرة الضَيّقة العنصرية منذ بداية الدعوة، فهو رسالةٌ موجَّهةٌ للبشر كافة " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". ولم يجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم غضاضةً في انضمام غير العرب لدعوته مثل: بلال الحبشي وصهيب الرومي ثم سليمان الفارسي ...
ثانياً: إنّ الدّعوة الإسلامية مُوَجَّهَةٌ في الأساس لهذا الآخر، لهدايته، فالآخر موجود قبل وجود المسلمين، وكان هو الأكثرية في المجتمع المكّي، ثم في شبه الجزيرة العربية قبل عام الوفود. ولا يزال هذا الآخر الأكثرية في العالم. دعوة الإسلام لهداية هذه الأكثرية دعوة تتصف بالرحمة " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ".
وهذا الخطاب الإلهي يوضِّحُ لنا بدقّةٍ خصوصية النظرة الإسلامية للآخر، فالإسلام باعتباره الدين الخاتم المكمِّل للرسالات السابقة له، يتعامل مع الإنسان باعتباره مسلماً أو مسلماً محتَمَلاً، لذلك لا يقطع الإسلام كلَّ الخيوط مع هذا الآخر، بل العكس، يمدُّ الجسور لهذا الآخر حتى يصل في النهاية للطريق الحق " الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ".
ولعلَّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي يُقسِّمُ المخالفين معه في العقيدة إلى فئتين، فئةٍ غير مؤمنةٍ وفئةٍ أدركتْ نصيباً من الإيمان وإن كان غيرَ كاملٍ وهم أهلُ الكتاب. وهذا التقسيم على أساسٍ عقائديٍّ لا يعني استباحة مال ودم وعرض هذه الفئة دون تلك، ولكن يعني عدم المساواة بين مَنْ يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن ينكرهما. في بعض الخصوصيات كالزواج والطعام.
ثالثاً: هذا الآخر الذي يتعامل معه الإسلامُ بطريقةٍ خاصّةٍ جداً لا يقف على الطرف المقابل بشكل دائم؛ فما أسهل أن يُصبحَ جزءاً من الأنا باعتناق الإسلام، هذا الانتقال يعني التخلُّصَ تماماً من كل تراث الاختلاف أو حتى العداء؛ فدخول الآخر في الإسلام يُسْقِطُ عنه حتَّى الجرائم التي ارتكبها في حقِّ المسلمين بما فيها جرائم القتل، وهو قبولٌ للآخر لا نجد له مثيلاً، فاستسلام العدو في القوانين العسكرية أو حتى المدنية لا يعني إسقاط التهم عنه، أَمَّا الإسلام فإنه يجبُّ ما قبله.
رابعاً: إنّ الحقَّ سُبحانه وتعالى قرن الإيمان به وعبادته وحده ببرِّ الوالدين دون تحديد هوية الوالدين "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا". هذا الأمر الإلهي يُراعي أن الآخر يمكن أن يكون قريباً من المسلم، كأن يكون الأب أو الأم أو الأبناء والزوجة الإخوة، ويحفظ التاريخُ نماذجَ كثيرةً لهذه الحالات، فقد كان عبد الرحمن بن أبي بكر مشركاً ووالده الصدِّيقُ الصدوق لرسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وكان عبد الله بن سلول كبير المنافقين بالمدينة وابنه مؤمناً ... إلخ، ولا يزال الاحتمال قائماً، فربما يعتنق أحدهم الإسلام وتظلُّ عائلته أو أفراد من أسرته غير مسلمين ... لذلك تتجلّى صفة الرحمة في الإسلام تجاه الآخر فالحقُّ تعالى يأمر ببرِّ الأقارب والأهل خاصّةً الوالدين حتّى وإن خالفوا المسلم في العقيدة، فالبرُّ بالأهل أدعى لتقريبهم من الإسلام، أما معاملتهم باعتبارهم الآخر المختلف فَيُنَفِّرُ من الدين الحنيف.
خامساً: إنَّ منظومة القيم الأخلاقية التي يقرها الإسلام تسري على غير المسلم كما تسري على المسلم، يقول تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيراً". إنّ الأمانة يجب أن تُؤدَّى لصاحبها سواء كان مسلماً أو غير مسلم، والعدل هو الذي يجب إعلاؤه سواء كان الخصم مسلماً أو غير مسلم، بل وحتى إن كان أحد الخصمين مسلماً والآخر غير مسلم.
والوفاء بالعهد واجبٌ للمسلم ولغير المسلم، بل لا نبالغ إذا قلنا إنَّ كثيراً من المدن والبلاد التي فتحها المسلمون فُتِحَتْ بفضل وفاء المسلمين بعهودهم، حتى تسابقت المدن في الشام مثلاً لإبرام عهود مع المسلمين للسلام بدلاً من قتالهم، وظلَّ المسلمون أوفياء لما أبرموه من عهود. أيضاً يحض الإسلام على إجارة المستجير المسلم وغير المسلم، وعلى عدم الاعتداء.
سادساً: طرح الإسلامُ الآخرَ باعتباره المُخْتَلِفَ وليس الضدَّ أو النقيض. والفرق بين التصورين كبير، فالتعامل مع الآخر باعتباره المُخْتَلِفَ لا ينفي عنه صفاته الإنسانية أو يفترض فيه النقائص، بل يحدِّدُ وبدقّةٍ الوجه الذي عليه خلاف وفيه اختلاف، أما التعامل مع الآخر باعتباره الضدّ أو النقيض فيستلزم تجريد هذا الآخر من كل الصفات الحميدة، بل وتجريده أحياناً مِن إنسانيته، حتى يبدو وكأنه مخلوق غريب قادم من كوكب آخر يسعى للتدمير وبث الكراهية فتجب معاملته بالمثل.
سابعاً: إنّ الحقوق التي أقرها الإسلام للإنسان المسلم وغير المسلم "ليست مُجَرَّدَ حقوقٍ من حقِّ الفرد أو الجماعة أن يتنازل عنها أو عن بعضها، وإنما هي ضروراتٌ إنسانيةٌ، فرديةً كانت أو اجتماعيةً، ولا سبيل إلى حياة الإنسان بدونها، حياةً تستحقُّ معنى الحياة، ومن ثم فإن الحفاظ عليها ليس مجرَّدَ حقٍ للإنسان بل هو اجب عليه أيضاً، يأثم هو ذاته ـ فرداً أو جماعة ـ إذا هو فَرَّطَ فيها، وذلك فضلاً عن الإثم الذي يلحق كلَّ من يحول بين الإنسان وبين تحقيق هذه الضرورات". يأثم المسلم إذا فَرَّطَ في حّقٍ أقرّه الله له كما يأثم إذا منع حقاً منحه الله أو رسوله للآخر.
بهذه النظرة الأخلاقية الخاصة جداً تعامل الإسلام مع الآخر، وبهذه الروح حفظ للآخر كرامته وإنسانيته وحًرَّيته.
إنّ حدود العلاقة بين المسلمين والآخر لا تتحدد وفقاً للاختلافات العقائدية، فاختلاف الآخر عن جوهر التوحيد أو ابتعاده عنه، لهو أمرٌ بينَ هذا الآخر والله، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
أما علاقة المسلمين بالآخر فإنّها تتحددُ وفقاً لموقف هذا الآخر من المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، فإذا كان هذا الآخر مُعادياً للمجتمع الإسلامي أو الدولة الإسلامية سواء كان يعيش داخلهما أو خارجهما، وجب على المسلمين التصدّي له، ومعاملته بالمثل، وإذا كان مُحّافظاً على سلامة المجتمع الإسلامي ولا يسعى للفتنة أو إضعاف هذا المجتمع، ولا يتآمر على الدولة، وَجَبَ على المسلمين احترام هذا الآخر بل وحمايته وإقامة علاقاتٍ وديّةٍ معه والبُّر به والإقساط إليه ... فالإسلام عندما أقرَّ حقوقاً للآخر أقرَّها مع العلم بأنَّ هذا الآخر مُنْكِرٌ للإسلام غيرُ مؤمن به، وإلا لكان هذا الآخر ضمن فريق المسلمين ولما وقف على الطرف الآخر.
والدين الحنيف لا يقرُّ اتخاذ مواقف عدائيةٍ مسبقةٍ تجاه الآخر على أساسٍ عرقيٍ أو لغويٍ أو دينيٍ.
بهذه النظرة تعامل الإسلام مع الآخر، وتعامل غالبية حُكّام المسلمين الذين طَبَّقُوا ما أمرهم الحقُّ به، أما حالات الاضطهاد التي تعرض لها الآخر في عصورٍ وعهودٍ مُعَيّنةٍ فهي حالاتٌ استثنائيةٌ، صدرت عن مسلمين أساءوا فهم الدين الحنيف، أو عن حُكّامٍ تَمَيّزت عهودهم بالظلم، ظلم الآخر والمسلمين على حدٍّ سواء.
وعندما نريد أن نحدد حقوق الآخر التي أقرَّها الإسلام أو المبادئ والقواعد التي حدّدها الإسلام لتحكمَ العلاقة بين المسلمين والآخر فمرجعنا في هذا هو القرآن الكريم والسنة النبوية المُطَهَّرَةُ.
يقول الحق تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
هذا الخطاب الإلهي لم يُوَجَّهْ للمسلمين فقط، بل للبشرية كافّةً، ليعلم الناسُ أنهم إخوة، ورغم هذا فإن أتباع الدين الحنيف يعلمون أنَّ الذَّكرَ الحكيم إنما أَكَّد على هذه الحقيقة، "وحدة الأصل البشري" ليزيل من أنفسهم نزعات العنصرية والاستعلاء والإحساس بالتفوق أو التمايز على الآخرين، فإذا كان للإنسان أن يتمايز على إنسان فبالتقوى فقط، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يُذَكّرُ الناسَ (كلكم لآدم وآدم من تراب) ونراه صلوات الله وسلامه عليه يخاطب الناس كافّةً بقوله "لا فضل لعربيٍ على عجميٍّ ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى".
فلا شرعية إذاً للتفاخر بالأنساب والآباء، وما دام الأصل في النهاية واحداً، بل رَدَّهم أيضاً إلى ما وراء هذا، فعرفوا أنهم جميعاً لآدم وآدم من تراب، تمكيناً في الأذهان لعقيدة الخلق، وتأكيداً لسلطان الربوبية المطلق، وما يترتب عليه من الإقرار بالعبودية للخالق ووجوب طاعته في كل شيء.
لكننا للأسف ما زلنا نرى بعض الشعوب والأجناس التي تستعلي على شعوبٍ وأجناسٍ أخرى بسبب لون البشرة، بل وتُحَقِّرُ من شأنها.
وإذا كان العهد القديم قد ذكر قصة الخلق وأشار لأصل البشرية، فإنه سرعان ما اختصَّ بني إسرائيل بكل المزايا واعتبر غيرهم (أغيار) في منزلة الخدم المُسَخَّرين لخدمة شعب الله المختار ... فإن القرآن الكريم حارب هذه العنصرية، ويُذَكِّرُ تعالى في أكثر من موضع في القرآن الكريم بخلق آدم من طين وعداء أبليس له، الحقُّ تعالى يذكّرنا في هذه المواضع أنَّ صراع البشر ليس مع بعضهم البعض ولكن مع الشيطان، وأن البشر إما أن يكونوا طائعين لله فيستحقّون رحمته، أو طائعين للشيطان فيصيبهم سخط المولى عز وجل. وإذا كان الآخر بالنسبة للمسلم هو غير المؤمن، فإن إيمان المسلم أمرٌ بينه وبين ربه، ولا يجوز للمسلم أن يستعلي بإيمانه على الآخر.
إذا كان كلُّ دينٍ يميز أتباعه عن الآخرين ويكرمهم ويعلي من شأنهم فإنَّ قوله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء: 70) يُظهِرُ النظرة الإنسانية للإسلام؛ فالحقُّ تعالى كَرَّمَ الإنسان بشكلٍ عامٍ ونفخ فيه من روحه وجعله خليفةً في الأرض، هذا التكريم يتنافى بالطبع مع احتقار الآخر أو قتله دون ذنبٍ يستوجب القتل، أو استحلال ماله وعرضه، أو استباحته.
بل إنَّ الحق سبحانه وتعالى حين يتحدث عن قتل النفس البريئة لا يفرِّقُ بين نفسٍ مؤمنةٍ وغير مؤمنةٍ، فالنفس الإنسانية مُكَرَّمة بما وضعه الله فيها من أسرارٍ سواء كانت مؤمنةً أو كافرةً، والإنسان هو الذي يرتفع بنفسه بالطاعة، ليصبح في مصاف الملائكة، وهو الذي يهوى بها بالمعصية ليصل لدرك الشياطين والبهائم "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا".
لقد خَصَّصَ الحقُ تعالى سورة كاملة هي سورة (الكافرون) قَرَّرَ فيها مبدأ مهماً هو حرية العقيدة: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)".
وإذا كان الخطاب هنا مُوَجَّهَاً للكافرين الذين يُنكرون الدين والبعث والحساب فهو أيضاً يُقِرُّ لهم حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر والطقوس ـ والتي يعترض الإسلام على بعضها ـ فإذا كان الإسلام ينفي فكرة صلب المسيح أو تأليهه، فإنه يبيح للمسيحيين ممارسة صلواتهم التي يذكرون فيها الصلب وتأليه المسيح.
ولم نسمع عن حاكمٍ مسلمٍ قام بعمليات تطهير عرقي ضدَّ غير المسلمين لأسبابٍ عقائديةٍ، وإن حدث فلأسبابٍ سياسيةٍ أو أمنيةٍ ... هذا القبول بالآخر والقبول بسُنّة الله في الاختلاف لم تعرفه أوروبا في العصور الوسطى رغم كلّ ما تنادي به المسيحية من محبّةٍ، فقد تخلصت أوروبا من غير المسيحيين بالطرد والقتل، بل وتخلَّصت من مُسلمي الأندلس الذين اعتنقوا المسيحية.
إنَّ قبول الآخر والتعامل معه أمرٌ فرضَهُ الإسلام على المسلمين لسُنَّةٍ أرادها الله في كونه ... ولعلّ المولى عزَّ وجلَّ حين فرض هذا الأمر على أُمّةِ التوحيد إنما أراد لها أن تُقيم جسوراً بينها وبين الآخر لهدايته، فالدعوة إلى الله فرضٌ على كل مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ، فكيف أستطيعُ كمسلمٍ أن أدعو غيري أو أهديه للإسلام أو أدلِّلَ له على سماحة هذا الدين وروعته إذا كان هذا الآخر غير موجودٍ معي، أو إذا طردتُه أو قتلتُه أو نفيتُه!!؟؟.
                                
            الديمقراطيّة وموقفُ الإسلام منها

يرجع أصل كلمة "ديمقراطية" إلى كلمتين إغريقتين هما: "دميوس"، ومعناها الشعب. و"كراتوس" ومعناها سُلْطة. وبضم الكلمتين يكون معنى الديمقراطية: سُلطة الشعب. وكانت الديمقراطية قد بدأت ونمت في اليونان القديمة منذ القرن السادس قبل الميلاد؛ إذ شغف المفكرون السياسيون فيها بفكرة حكم القانون، وعَدّوا الاستبداد أسوأ أنواع الحكم، فنشأت في أثينا وبعض المدن اليونانية حكومات ديمقراطية.
ثم شاعت الديمقراطية في أكثر بلاد العالم بعد الحرب العالمية الثانية وبخاصة بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعيةُ العامةُ للأمم المتحدة. وجاء في مادته الحادية والعشرين فقرة (3): "إنَّ إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة". وينص الدستور المصري الصادر سنة 1971م في مادته الثالثة على أن: "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها".
توجد ثلاث صور للديمقراطية هي:
1. الديمقراطية المباشرة أو الصرفة أو القديمة: وفيها يجتمع الناس في مكانٍ واحدٍ ليسنّوا قوانين مجتمعهم بحسب الأغلبية أو الأكثرية. وقد طُبِّقَتْ في المدن الإغريقية القديمة، ولا توجد حاليَّا إلا نادراً.
2. الديمقراطية غير المباشرة أو النيابية أو الحديثة: وفيها ينتخب الشعب عدداً معيناً من بينهم؛ لينوبوا عنهم في ممارسة السلطة خلال مُدّةٍ معينةٍ قابلةٍ للتجديد، ويكون الحكم للأغلبية أو الأكثرية. ويجوز تسمية هؤلاء النواب برلماناً أو مجلساً أو هيئة تشريعية.
3. الديمقراطية شبه المباشرة أو المخلتطة: وفيها يُرْجَعُ إلى الشعب في بعض الأمور، ويُرْجَعُ إلى البرلمان المنتخَبِ في بعض الأمور، وذلك بهدف الحد من سلطات البرلمان.

تختلف صور الديمقراطية، ولكنها تتفق في المظاهر الأساسية والتي من أهمها:

1. الانتخابات الحُرّةُ لاختيار القادة والنواب.
2. الحكم للأغلبية في اتخاذ القرارات، وكثيراً ما تشترط الديمقراطية حكم الأكثرية في التغييرات الدستورية أو الأساسية.
3. تداول السلطة عن طريق التعددية الحزبية السياسية، ويكون الحكم لحزب الأغلبية ومن يأتلف معه.
ولعلّ نظام الشورى الإسلامي أكثرُ واقعيةً، وأسمى غايةً؛ ذلك بأنّ الديمقراطية معرَّضةٌ لكثير من الآفات والنقائص والثغرات، وربما أخرجَتْ للناس حاكماً جاهلاً، وربما قامت على عنصريةٍ عرقيةٍ، أو دينيةٍ، أو لغويةٍ، أو مذهبيةٍ طائفيةٍ ضيّقةٍ فلا تفيد الأمّةُ من ذلك الحاكم القاصر شيئاً ذا بال. ثُمّ إنّ الحكمة من النظام الشوري في الإسلام تقوم على حسن اختيار الحاكم المناسب للأمة، ليتولّى من بعد تسييرَ الحكمِ مع مراقبته، ومتابعة كل مواقفه ونقدها لدى الضرورة، ولذلك قال أبو بكرٍ الصدّيق، رضي الله عنه، كلمته الكبيرة لدى توليته الخلافة "إنّي وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، فمن رأى منكم فِيَّ اعوجاجاً فليقوّمه" فأجابه أعرابي (والله لو رأنيا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا!) وهذه الكلمة تنقطع دونها اليوم أعناق الحكّام، فأي حاكمٍ مُنتخَبٍ اليوم على الطريقة الديمراطية الغربية يستطيع أن يقول هذا أو مثله ...
وأمّا عيوب الديموقراطية الغربيّة فهي كثيرة، منها:
1. قلّة الإنصاف؛ فالخصم الذي ليس معه أغلبيّة، ولو كان من الضآلة بمكانٍ لا حقَّ له في ممارسته الحكم، كما أنّ الذين انتخبوه لا يكاد أحدٌ يراعي رأيَهُم فيظلّون يتفرّجون لبضع سنين، وكأنهم أجانب عن الوطن. (خذ لذلك مثلاً الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة التي لم يتغلّب فيها الجمهوريون على الديموقراطيين إلاّ بعددٍ قليلٍ من الأصوات).
2. قد لا يَنتخِبُ من الشعب إلا نسبةٌ ضئيلةٌ قد لا تبلغ الأربعين في المائة؛ فيُؤْخَذُ برأي هذه النسبة من الناس فتظل أغلبية المواطنين في الحقيقة غير مُمَثَّلة.
3. لا أحد يستطيع أن ينكر التزوير والأخطاء والتجاوزات في كل الانتخابات؛ فأكثر الانتخابات نزاهةً لا تعدمُ غِشّاً وتزويراً من نوعٍ ما؛ إمّا في مستوى فرز الأصوات، وإما بالتأثير في عواطف الناخب برشوه بالمال، وإغرائه بالمنصب، ووعده بالأمل الكاذب.
4. تمزيق وحدة المجتمع بعرض برامجَ مختلفةٍ، تكونُ في عامّتها إما متقاربة، وإمّا غير قابلة للتطبيق أصلاً. وتقسيم المجتمع الواحد باسم التعدّدية إلى شيعٍ وأحزابٍ لا يخلو من سوءات؛ لأننا لا نأمن أن يفضي ذلك إلى شيءٍ من التحاقد والتناحر بين المواطنين.
5. اضطرار المرشَّح للمنصب السياسي إلى الكذب على منتخبيه من أجل الفوز بالمنصب، ثم تراه من بعد ذلك إذا فاز لا يكاد يحقق لهم من الوعود إلاّ شيئاً قليلاً.

هل نظام الشورى هو الديمقراطيّة؟

1. إنّ من الواضح أنّ مفهوم الديموقراطية مفهوم واسع جداً، وقد مرّ بمراحلَ زمنيةٍ طويلةٍ، وهو سيبقى من المكتسبات الحضارية الكبرى للإنسانية؛ وسيظل مفهوماً مفتوحاً للبحث والنقاش بين المفكّرين والساسة.
2. ولمّا كان مفهوم الديموقراطية واسعاً جداً إلى حد الفوضى، باعتراف المُنَظِّرِين الغربيين أنفسهم بحيث نجد الديموقراطية الليبرالية، والديموقراطية الشعبية (المستوحاة من فلسفة كارل ماركس)، والديموقراطية المسيحية، فإنّ من حقنا نحن المسلمين أن نستوحي ديموقراطيتنا من المبادئ الإسلامية (الآيات القرآنية، أحاديث النبي صلى الله عليه وسلّم وسيرته، ثم اجتهادات الصحابة، ثم آراء الفرق الإسلامية، ثُمّ من النوازل التي وقعت في أطوار الحكم الإسلامي).
3. تتجلّى الديموقراطية الإسلامية في أروع مظاهرها يوم السقيفة، وكيف أن الأنصار يريدون الخلافة لهم بقيادة سعد بن عبادة، والمهاجرون يريدون لهم بقيادة أبي بكرٍ وعمر؟ وكيف وقع النقاش منفصلاً عن النصوص الدينية؟ وكيف سلّم الأنصار لأبي بكرٍ عن اقتناعٍ وحسن نيّة فبايعوه في السقيفة مع مَنْ بايعه. فقد أقنعهم أبو بكر بأنّ "العرب لا تعرف هذا الأمر إلاّ لقريش".
4. قام الحوار يوم السقيفة على التسليم بمبدأ مشاركة الأنصار والمهاجرين في الحكم، فبعد أن نادى بعض الأنصار مخاطباً المهاجرين: "منا أمير ومنكم أمير" أجاب أبو بكر: "نحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا نفتات عليكم بمشورةٍ ولا نقضي دونكم الأمور".
فكلٌ مِنْ الأنصار والمهاجرين كان مقتنعاً بإشراك الآخر في الحكم، ولكن الاختلاف وقع في مستوى المشاركة ودرجتها. بل إنّ أحد الأنصار اقترح التداول على السلطة صراحةً بين المهاجرين والأنصار، وإن شئتَ بين قريشٍ والأوس والخزرج، "فاقترحَ أن يكون أول خليفة من المهاجرين، فإن توفي كان الآخَرُ من الأنصار، فإذا هلك كان آخر من المهاجرين أبداً ما بقيت هذه الأمة".
5. ونلاحظ أن أبا بكر طمأن الأنصار باستشارتهم، وعدم إمضاء أي أمرٍ دونهم، فكان إعلان الإستشارة هو الذي أفضى إلى خلافة أبي بكر بمبايعته.
6. ونلاحظ أنّ أحداً من الصحابة في محاوراتهم يوم السقيفة لم يزايد بقِدَمِهِ في الإسلام، ولا بحسن بلائه في الغزوات، ولا أنّه من المبشرين بالجنّة، وإنما وقع الاحتكام إلى العقل والتدبير أساساً، ولذلك وعلى الرغم من أن أبا بكر كان الصدّيقَ وكان ثاني اثنين في الغار، فقد خاطب الناس في أول خطبة له: "إنّي وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم ..." وقد نشأ عن مبايعة أبي بكر من الوجهة الضمنية، جواز المفضول الفاضل لدى أهل السنة، لأنّ المسألة نسبية في الفضيلة ولا أحد يستطيع القطع فيها بتحديد الفاضل الذي يقع عليه الاتفاق بالإجماع.
7. لكن الصحابة يوم السقيفة، وإن لم يستشهدوا بآيتي الشورى فإن واقعهما كان يختلجهم ولذلك تحدّث أبو بكر حين خاطب الأنصار عن مبدأ الشورى لأنّ مفهوم الشورى هو الشكل الديمقراطي الذي كان ممكناً على ذلك العهد.
8. ولمَّا كان مفهوم الديموقراطية واسعاً، فإنّه لا مانع من عَدِّ نظام الشورى في الإسلام ديموقراطياً، إذ هناك ديمقراطيّات في أصل التنظير الفلسفي الإغريقي نفسه وخصوصاً جمهورية أفلاطون، وهي الفكرة التي وسعها أبو نصر محمد الفارابي فحاول تأسيس النظام الديموقراطي المثالي في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة".
9. انتقد سقراط النظام الديموقراطي الإغريقي ورأى أنّه ربما فتح الباب لرجلٍ غير مناسبٍ للحُكْمِ.
وإذن فما دامت الديموقراطية بهذه السعة في المعنى والتنوع في الممارسة، فلم لا تكون الشورى الإسلامية هي الرؤية الحقيقية للنظام الديموقراطي في الإسلام؟
كان الناس في العهد الإسلامي يستطيعون الاتصال بالخليفة متى شاءوا مباشرةً، وإن اقترحَ شيئاً ولم يروا رأيه اعترضوا.
والحق أنّ الفكر الإسلامي مِن السّعة والعمق والثراء والتنوّع والاختلاف على نحو يمكّننامن أن نجد فيه مرجعيات للديموقراطية والحريّة وحقوق الإنسان جميعاً. وكثيراً ما يتسرّع الناس في قراءة النصوص الإسلامية، فيقع استنتاج نتائج سطحية متسرّعة. وربما أحيانا مُغْرضة كماهو الشأن، بالقياس إلى بعض المستعربين والمستغربين جميعاً.
إنا لا ننكر أنّ الديموقراطية مرّت بأشواطٍ طويلةٍ، ومِحَنٍ قاسيةٍ، وثوراتٍ هوجاء حتّى بلغت ما بلغته من الإنجازات، لكن لا ينبغي أن نستنسخَ هذه الأشكال الديموقراطية كما هي في الغرب حرفياً، ثم نطِّبقُها على مجتمعاتنا العربية الإسلامية دون تغييرٍ أو تبديلٍ، بل نرى أن الإسلام بتجربته الطويلة في الحكم والانتشار في أصقاع الأرض والتعامل مع إرث إنساني كبير من القيم الحضارية والديموقراطية وبلورتها جديرٌ بأن يُثري التجربة الديموقراطية في العالم....

نشأة قضية الديمقراطية في الدول الإسلامية، وتحرير محل النزاع فيها

قضية "الديمقراطية في نظام الحكم الإسلامي" لم تكن معروفةً في البلاد الإسلامية، وذلك لاستغنائها بما جرى عليه العمل في الخلافة الإسلامية منذ بدايتها في القرن السابع الميلادي حتى سقوطها أوائل القرن العشرين بسبب الحربين العالميتين. وكان نظام الخلافة الإسلامية يقوم على البيعة للإمام الذي يحتكم إلى المرجعية الشرعية واجتهادات الفقهاء والعمل بنظام الشورى.
صدر الدستور المصري الأول سنة 1923م، وأقرَّ بأنَّ دين الدولة هو الإسلام، مراعاةً للواقع كما قرَّرَ أن نظام الحكم ديمقراطي؛ جرياً على نظام الدول الحديثة.

سبب الخلاف في تحكيم الديمقراطية في نظام الحكم الإسلامي

يرجع اختلاف الفقهاء المعاصرين في تحكيم الديمقراطية نظاماً للحكم إلى عدة أسباب من أهمها:
1. الاختلاف في مشروعية استحداث أنظمةٍ وعقودٍ جديدةٍ لم يرد اسمها أو شرطها في المرجعية الإسلامية الأصيلة من الكتاب والسنة.
2. الاختلاف في مشروعية التشبُّهِ بغير  المسلمين فيما يكون علامة لهم أو منسوباً إليهم ولو لم يكن مخالفاً للقواعد الشرعية العامة.
3. الاختلاف في طبيعة الولاية أو الحكم في الشريعة الإسلامية، أهي وظيفةٌ دينيّةٌ مؤبَّدةٌ تخضع لشروط الإسلام وشرط الذكورة ـ على الخلاف ـ لمن يتولاّها، أم هي وظيفة حياتيّةٌ مدنيّة كالطب والهندسة والزراعة والصناعة والتجارة لا يختلف فيها الناس بالعقيدة أو الجنس، وإنما يُحتكم فيها إلى اختيار الناس.
يمكن إجمال أقوال الفقهاء المعاصرين واحتمالاتهم الفقهية في تحكيم الديموقراطية نظاماً للحكم في البلاد الإسلامية في ثلاثة اتجاهات، أبرزها هو الاتجاه الذي يرى عدم مشروعية تحكيم الديمقراطيّة نظاماً للحكم في البلاد الإسلامية، وأنَّ البديل الشرعي هو نظام الشورى. وهذا اتجاهٌ غالبٌ عند عامّة الفقهاء المعاصرين؛ خاصة المتأثرين بالحركات الوطنية الرافضة للاستعمار الغربي بإيجابياته وسلبياته، والمنادية بمنع التطبيع مع الغرب ضغطاً للحصول على الاستقلال أو تمييزاً للهوية الإسلامية.

أدلَّةُ العلماء المعاصرين الرافضين لتحكيم الديمقراطية

1. إنّ مصطلح الديمقراطية ومدلوله غريب عن المصطلحات الإسلامية ودلالاتها، فهو بدعة مردودة؛ لما أخرجه الشيخان عن عائشة، أنَّ النبيّ، صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رَدٌّ". وفي لفظ: "منه". وفي رواية لمسلم بلفظ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ".
2. إنّ مصطلح الديمقراطية غربيُّ النشأة، ومرتبط بأفكار وعقائد غير المسلمين، فكان التعامل به محظوراً على المسلمين؛ لنهيهم عن التشبُّهِ بغير المسلمين.
3. أن طبيعة الديمقراطية تجعلُ الحُكمَ وظيفةً مدنيةً مؤقتةً؛ لأن الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب، ويُتَوصَّل إلى ذلك بنظام الانتخابات، فلا يُشترطُ في الحاكم إلا أن يكون مختاراً من الشعب، ولا فرق بعد ذلك بين الناس بالعقيدة أو الجنس. ثم إن نظام الانتخابات يقوم على فكرة منازعة ولي الأمر والخروج عليه فيما يُعْرَفُ بالمنافسة الانتخابية، وهذا يخالف طبيعة الشريعة الإسلامية التي تمنع منازعةَ وليِّ الأمر، كما تجعل الحُكمَ وظيفةً دينيّةَ مؤبدة؛  لما أخرجه البخاري عن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازعَ الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيثما كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم". ومِمّا يدلُّ على أنّ الحكم وظيفة دينية: أن الإمام يقوم على حكم الله وإقامة شعائره وحدوده، كما قال تعالى: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" وقال تعالى: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ". وقال تعالى: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ". ومقتضى الحكم بما أنزل الله أن يكون الحاكم مسلماً؛ لعموم قوله تعالى: " وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا".
كما يُشْتَرَطُ في الحاكم شروط أخرى دلّت عليها النصوص الشرعية من أهمها: الرضا كما في بيعة أبي بكر الصديق، والذكورة؛ لما أخرجه البخاري عن أبي بكرة، قال: لما بلغَ رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم، أنّ أهل فارس قد مَلّكُوا عليهم بنتَ كسرى، قال: "لن يُفلحَ قومٌ ولّوا أمرَهم امرأةً".
4. إنّ التكييف الفقهي للديمقراطية هو أنها غاية أو نظام فكري يقوم على مبادئ مُعيّنةٍ ترسخ سيادة الشعب في الحكم وتسوّي بين المواطنين دون التمييز بينهم بالجنس أو الاعتقاد، وهو ما يُعرَفُ بفصل الدين عن الدولة، وهذا يتعارض مع التكييف الفقهي للشريعة الإسلامية، وهو أنها نظام سماوي جاء لإصلاح الدين والدنيا، فالإسلام دين ودولة، قال تعالى: " ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ".

5. إنّه لا حاجة لنظام الديمقراطية في ظلِّ الكمال الذي تتصف به الشريعة الإسلامية في قوله تعالى: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ". وقد تضمَّنت أحكام الشريعة نظام الشورى الذي يُغني المسلمين عن أفكار غيرهم لمنع الاستبداد في الحكم، قال تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق