مراجعة مادة منهج الدعوة في القرآن والسنة + مادة الفرق الإسلامية


مراجعة عامّة هامّة لمادة "منهج الدعوة في القرآن والسُّنَّة"
إعداد الدكتور راجح السباتين / جامعة طيبة / كلية العلوم والآداب بالعُلا
التعريف بالمنهج لغةً واصطلاحاً والعلاقة بينهما
للمنهج في اللغة العربية عدّة مفاهيم وإطلاقات، أبرزها أنَّهُ مشتقٌ من الفِعل نَهَجَ، والمنْهَج مرادف للمِنْهَاج، ومن معانيه: الطريق المستقيم، والسَّبيلُ الواضحُ، والمسْلَكُ البَيِّنُ.
تعريف منهج الدَّعوة في الإصطلاح: عمليّة بناءٍ متكاملةٌ لطريقة الدَّعوة المستقيمة تشتمل على الأصول والمحتويات والقواعد والأساليب والوسائل الموصلة للدَّعوة، والمُعِيَنة لعمل الدّاعية في مخاطبة النَّاس مع مراعاة الظّروف الملائمة والأحوال المناسبة.
وللدّعوة في اللّغة العربية عدّة معانٍ، وهي مشتقَّةٌ من الفعل دعا، والاسم: الدّعوة، والقائم بها يُسمّى: داعية، وهي تفيد: إمالة شيءٍ ما إليكَ بصوتٍ وكلامٍ يكون منك بحقٍّ أو باطل.
الدّعوة إلى الله اصطلاحاً: هي قيام الدّاعية المؤهَّل بإيصال دين الإسلام إلى النّاس كافّة، وفق المنهج القويم، وبما يتناسب مع أصناف المدعوّين، ويلائم أحوال وظروف المخاطَبين في كلّ زمان ومكان.
يذهب بعض الكتّاب والمؤلّفين في موضوعات الدّعوة إلى الخلط بين منهج الدّعوة وبين أساليب ووسائل الدَّعوةٍ وآليّة تنفيذها، ومردّ هذا الخلط أو الإشكالية في مفهوم منهج الدَّعوة راجع إلى أمرين:
أولاً: عدم وضوح مفاهيم الدَّعوة سواءً منهجها أو أساليبها أو وسائلها أو ما يتعلّق بها من مسائل عديدة لدى بعض الكُتَّاب والمؤلِّفين.
ثانياً: تناول الكتابة في موضوعات الدّعوة ومنهجها ومسائلها لدى بعض الكتّاب والمؤلّفين من واقع الحماسة للدّعوة، والكتابة فيها مع عدم التخصّص العلميّ الكافي فيها المبني على الدّراسة التخصّصيّة في علوم الدّعوة ومناهجها.
وهنا نقرِّرُ أنّ منهاج الدَّعوة ليس أسلوب الدّعوة أو حتى وسيلتها وإنّما هو أوسع من ذلك وأشمل، وما الأسلوب أو الوسيلة إلاّ أداة تنفيذيّة من أدوات منهج الدّعوة. فالأسلوب والوسيلة إذاً من عناصر المنهج ومن آليات تنفيذه في أي مجال من المجالات.
وخلاصة القول: إنَّ منهج الدّعوة أعمّ وأشمل من الأساليب والوسائل، كما أنه من الخطأ إعتبار وسائل وأساليب الدّعوة مناهج وطرائق لها.

تنقسمُ مناهج الدعوة من حيث ركائزها إلى ثلاثة أقسام:
1. المنهج العاطفيّ             2. المنهج العقليّ               3. المنهج الحسّي.
أولاً: المنهج العاطفي: هو مجموعة الأساليب الدعوية  التي ترتكز على القلب، وتحرك الشعور والوجدان. ومن أبرز أساليب المنهج العاطفي ما يلي:
أ. أسلوب الموعظة الحسنة: وأشكاله كثيرة منها:
1. الخطابة                     2. التذكير بنعمة الله على عبده المستوجبة شكره.
3. الترغيب والترهيب، وذكر الثواب والعقاب.
4. قَصُّ القصص العاطفية المؤثرة.
ب. إظهار الرأفة والرحمة بالمدعوين: ويكون بكلمةٍ طيبةٍ مؤثرةٍ، مثل المناداة بكلمة: "ياأبت، ويابني، وياقوم ...".
ج. قضاءُ الحاجات، وتقديم المساعدات، وتأمين الخدمات: ويتنوع هذا الأسلوب بتنوع الحاجات المطلوبة، والمساعدات المُقَدَّمةٍ، ماديةً كانت أو معنويةً، قليلةً كانت أو كثيرةً.
يُستعمل المنهج العاطفي في حالات متعددة، ومواطن متنوِّعةٍ، يحسن بالداعية أن يتعرف عليها، ليتمكن من استخدام المنهج المناسب في الموطن المناسب، ومن هذه المواطن والحالات:
1. حالة دعوة الجاهل: لأنَّ الجاهل بحاجة إلى الرفق والاهتمام به، وتعليمه ما يفيده عن طريق ترغيبه بالعلم، ووعده بالخير الكبير من ورائه ...
2. حالة دعوة مَنْ تُجْهلُ حاله، ولا يُعرَفُ مستوى إيمانه قوةً أو ضعفاً.
3. في دعوة أصحاب القلوب الضعيفة كالنساء والأطفال، واليتامى والمساكين، والمصابين والمرضى ... وما إلى ذلك ...
4. في دعوة الآباء للأبناء، ودعوة الأبناء للآباء، ودعوة الأقارب والأرحام والأصدقاء فيما بينهم.
5. في مواطن ضعف الدعوة، والشدة على المدعوين.
من خصائص المنهج العاطفي
1. لطف أسلوبه، واختيار العبارات المؤثرة.
2. سرعةَ تَأثُّرِ المدعوين به، واستجابتهم لمن يُحسنُ استخدامه.
3. تخفيف وطأة العدوّ أو المخالف، ودفع أذاه.
4. سرعة التحول في آثاره تبعاً لتحول العواطف والمشاعر ...
5. سعة دائرة استعماله، لأن الطابع العاطفي في الناس أغلب من غيره.
ثانياً: المنهج العقلي: هو مجموعة الأساليب الدعوية التي ترتكز على العقل، وتدعو إلى التفكُّر والتدبُّرِ والاعتبار. ومن أبرز أساليب المنهج العقلي ما يلي:
1. المحاكمات العقلية، والأقيِسَةُ بجميع أشكالها.                         2. الجدل والمناظرة والحوار.
3. ضربُ الأمثال بأنواعها صريحةً كانت أو كامِنَةْ، أو أمثالاً سائرةً ...
4. القصص التي يغلب عليها الجانب العقلي، وتُساق من أجل الاعتبار بها.
يُستعَملُ المنهج العقلي في مواطنَ متعددةٍ، منها:
1. في مواطن إنكار المدعوين للأمور الظاهرة، والبدهيات العقلية.
2. مع المُعْتَدِّين بعقولهم وأفكارهم من المدعوين، لأنهم أسرع مَنْ يتأثر بالمنهج العقلي السليم.
3. مع المُنْصِفين من الناس، البعيدين عن التعصب لآرائهم، والمتجردين من الأغراض الخاصة.
4. مع المتأثرين بالشبهات، والمخدوعين بالباطل.
للمنهج العقلي خصائص ومزايا تختلف عن خصائص غيره من المناهج الأخرى، منها:
1. اعتماده على الاستنتاجات العقلية، والقواعد المنطقية، والفطرية.
2. عمق تأثيره في المدعوين، ورسوخ الفكرة التي يوصل إليها عن طريقه، إذ ليس من السهل تغيير القناعة والأفكار.
3. إفحام الخصم المعاند.
4. ضيقُ دائرته بالنسبة لدائرة المنهج العاطفي، وإن كان هذا الضيق أو السعة تختلف من قومٍ لقومٍ.
ثالثاً: المنهج الحسي أو (التجريبي): هو مجموعة الأساليب الدعوية التي ترتكز على الحواسِّ وتعتمد على المشاهَدات والتجارب. وللمنهج الحسي أساليب عديدة، منها:
1. لَفْتُ الحِسِّ إلى التعرُّفِ على المحسوسات، للوصول عن طريقها إلى القناعات.
2. أسلوب التعليم التطبيقي، على وجهٍ يشاهِدُ المدعو كيفية تطبيق الفعل المأمور به، والمدعو إليه، كما فعل، صلّى الله عليه وسلم، في دعوته لتعلُّمِ الصلاة، والحج.
3. القدوة العملية في تعليم الأخلاق والسلوك: كما جَعَلَ اللهُ رسوله، صلى الله عليه وسلم، قدوةً عمليةً للمؤمنين.
مواطن استخدام المنهج الحسّي عديدةٌ متنوعةٌ منها:
1. في تعليم الأمور التطبيقية العملية والدعوة إليها، وكُلَّما كان الأمرُ المدعو إليه دقيقاً وهاماً، كانت الحاجة إليه أشد، كما فعل، صلّى الله عليه وسلم، في تعليم الوضوء، والصلاة، والحج...
2. يُستخدم في دعوة العلماء والمتخصِّصين في العلوم التطبيقية التجريبية، ويعين في ذلك الاستدلال بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
3. يُستخدم في دعوة المتجاهلين للسنن الكونية، والمنكرين للبدهيات العقلية، فإنَّ المعاندين لاتفيد معهم إلا الحقائق المعتمدِةُ على الملموسات والمحسوسات.
من أبرز خصائص هذا المنهج الحسّي الدعوي:
1. سرعة تأثيره ذلك لاعتماده على المحسوسات التي يُسَلِّمُ بها كل إنسانٍ عادةً.
2. عمق تأثيره في النفوس البشريّةِ، لمعايَنَتها الشيء المحسوس.
3. سعة دائرته، لإشتراك الناس جميعاً في أنواع الحسِّ أو بعضها، لا يتخلّفُ عن هذا كبير أو صغير، ولا عالم أو جاهل ...
أصالة منهج الدّعوة إلى الله
لمنهج الدّعوة إلى الله أصالةٌ ينفرد بها عن غيره من المناهج  أو التيارات أو المذاهب التي تنتسِبُ إلى الدّعوة الإسلامية. وتتّضح هذه الأصالة من خلال ما يلي:
أولاً: انبثاق منهج الدّعوة من القرآن الكريم:
إن المتأمّل في كتاب الله تعالى يجد أنّه حافل بالعديد من الآيات الدّالّة على منهج الدّعوة والمقرّرة له والموضِّحة لمعالمه، والكاشفة عن جوانبه والدالَّةِ على أساليبه ووسائله والمرشِدة إلى كيفية تطبيقه على المدعوين ومخاطبتهم. ولا عَجَبَ في ذلك، فالقرآن الكريم هو كتاب الدّعوة الأوّل وهو دستورها ومنبعها وعلامة خيرها وفضلها ورمز وجودها واستمرارها، وجميع مصادر الدّعوة الأخرى إنما تنبع من القرآن وترجع إليه.
ومما يدلُّ على أنّ الآيات القرآنية الكريمة حثَّتْ على النهوض بواجب الدّعوة ما يلي:
أولاً: الانتصاب للدّعوة ومباشرتها، ومجيء ذلك على صيغة فعل أمرٍ كما في قوله تعالى: " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ".
ثانياً: مجيء القيام بالدعوة على صيغة فعل الماضي، ومنه قوله تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ"
ثالثاً: الحضُّ على الدّعوة على نحوٍ مستمرٍ، ومجيء ذلك في القرآن على هيئة الفعل المضارع الدالِّ على الاستمرار، كما قال تعالى: " قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ".
رابعاً: الدلالة على مشروعية المنهج، والإشارة إلى وجوب اتخاذ المنهج للسير عليه.
خامساً: الإرشاد إلى منهج الدّعوة وسبيلها الواجب إتِّباعُه والتمسّك به وعدم الابتداع فيه.
سادساً: لفتُ أنظار الدّعاة إلى قدوتهم وأسوتهم في تطبيق منهج الدّعوة ومخاطبة النّاس به وهو محمدٌ، صلّى الله عليه وسلم، وفي هذا أبلغُ الأثر إلى تنبيه الدّعاة لعدم اتخاذ أيِّ أحدٍ من النّاس قدوةً لهم وأسوةً يتأسّون به سوى رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، ومَنْ اقتفى أثره والتزم بهديه قال تعالى: " لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً". وهذا التوجيه الربّاني إنما هو عامٌ لجميع المسلمين، ولكنَّهُ في حقّ الدّعاة إلى الله أوثق وأوجب.
سابعاً: بيان القرآن العظيم لجُملةٍ من وسائل منهج الدّعوة الواجب على الدّعاة الأخذ بها وتطبيقها في دعوتهم، ومن ذلك قوله تعالى: " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"
ثانياً: اكتساب منهج الدّعوة هديه من السنّة النبويّة
يكتسب منهج الدَّعوة إلى الله أصالته من اهتدائه بالسنّة النبويّة، وإتباعه لسُنَنِهَا والتزامه بإرشاداتها وإقتفائهِ لمعالمها، وترك ما حَذَّرَت منه، وما نهت عنه والتعامل مع الناس بالحكمة، ومخاطبتهم بالحسنى مع الحرص على هدايتهم ورجاء نجاتهم.
والمتأمّل في حياة المصطفى، صلَّى الله عليه وسلم، ومسيرته في تبليغ الدّعوة إلى الله سواء في العهد المكيّ أو في العهد المدني يتَّضِح له بما لا يدع مجالاً للشكّ مدى فضل المنهج الذي سار عليه النبي، صلّى الله عليه وسلم، في إيصال الدّعوة للناس أجمعين.
ويمكن إيضاح بعض جوانب من أصالة منهج الدّعوة إلى الله، نتيجةً لاهتدائه بالسنة النبويّة، واكتسابه فضله وخيريّته ومنها، فيما يلي:
1. إيضاح السنّة النبويّة لمحتويات منهج الدّعوة وموضوعاته ومسائله التي يخاطب بها الناس، ويستبين ذلك من خلال مسار الدّعوة في عهد النبي، صلّى الله عليه وسلم، سواءً أكان في مكة أو في المدينة. وهذه الموضوعات تتسع لتشمل أمور العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق والمسالك والعلاقات بين المجتمع الإسلامي وغيره من المجتمعات.
وخلاصة القول: إنَّ السنّة النبوية عبارةٌ عن مستودعٍ لبيان كلِّ ما يهمّ المسلم في حياته الدّينية والدّنيوية والأخروية أَتمَّ بيانٍ بأوضح تنزيل.
2. بيان السنّة النبوية لأسس منهج الدّعوة،وما ينبغي على الدّعاة أن يتنبّهوا له ويهتمّوا به في دعوتهم للناس.
3. تضمُّنُ السنة النبوية للعديد من الوسائل والأدوات التي يمكن للداعية إلى الله أن يفيد منها في دعوته ومخاطبته للناس.
4. بيان السنّة النبويّة لكيفيّة التَّعامل مع أصناف المدعوين وطبقات المُخَاطَبِين، مما يتيح للدّاعية فهماً أكبر واستفادةً أعظم في مجال دعوتهم وعملهم.
5. إيضاح السنّة النبوية للأخلاق الكريمة والصفات العالية الرفيعة التي ينبغي أن يتحلّى بها الدّعاة إلى الله في دعوتهم للناس ومخالطتهم لهم.
ثالثاً: تمسُّكُ السَّلف الصَّالح بمنهج الدّعوة وتطبيقهم له في دعوتهم دون سواه
إنّ من أصالة منهج الدّعوة إلى الله تعالى هو تمسّك السّلف الصّالح، رضوان الله تعالى عليهم، وهم أهل القرون المفضَّلةِ الثلاثة ويأتي في مقدّمتهم صحابة رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وتابعوهم ومَنْ تبعهم، وهذا ما يعطي منهج الدّعوة إلى الله مزيداً من الأصالة والعلوّ على غيره من المناهج والتيّارات والمذاهب الدّعوية الأخرى، وذلك لأنَّ طريقة السّلف ومذهبهم أسلم وأعلم وأحكم من الطّوائف والمذاهب الأخرى.
رابعاً: استناد منهج الدّعوة إلى المصادر الصحيحة في دعوة النّاس ومخاطبتهم
ينطلق منهج الدّعوة إلى الله من مصادر صحيحةٍ صريحةٍ متنوّعةٍ بين المصادر الأصلية والمصادر التبعيّة. وهذه المصادر المتعدّدة تُعطي منهج الدّعوة أصالةً في علمه وعمله عن بقيّة المناهج والطرائق الأخرى؛ ومعنى ذلك أن منهج الدّعوة لا ينطلق من فراغٍ ولا يصدر عن مصادر مُبتدعةٍ أو متروكةٍ أو مشكوكٍ فيها بل إنّها مصادرُ قيِّمةٌ رفيعة عالية تضفي على منهج الدّعوة المصداقيّة والأصالة والقبول لدى النّاس.
خصائص منهج الدّعوة
إنّ المتأمِّل في خصائص منهج الدّعوة يجدها عديدةً، وهذه الخصائص تدلّ على ما لمنهج الدّعوة من سموٍّ ورفعةٍ وقوّةٍ وثباتٍ وإحكامٍ وفضلٍ وخيرٍ للنّاس.
ونظراً لكل ذلك: ينبغي لدعاة الإسلام العلم بهذه الخصائص، ومعرفتها جيّداً، وإعلام النّاس بها. وهذه الخصائص عديدة، ولكن يمكن إجمالها ودراستها باختصار فيما يلي:
1. الربّانية: إنّ من أبرز خصائص منهج الدّعوة كونه رَبَّانياً في جميع أموره وشؤونه ومتعلّقاته، وليس مُحرَّفاً أو بشرياً أو ملحداً. وَرَبّانية منهج الدّعوة تتّضح من خلال محاور عدّة منها: رَبّانية المصدر والمنبع ورَبّانية الاعتقاد والتشريع ورَبّانية الغاية والوجهة. والرَبّانية لا تحتاج إلى إثباتٍ في حياة الإنسان؛ فكلّ شيء ينطق بوجود الرّب الخالق.
2. الفطريّة: منهج الدّعوة القويم فطريٌّ المقصود باصطلاح خصيصة الفطرة في منهج الدّعوة هو: اشتمال منهج دعوة الإسلام على كلّ ما يناسب خِلقةَ الإنسان، ويُلبّي احتياجاته، ويفي بمستلزماته، ويُراعي نفسيّته أثناء مخاطبته.
وفطريّة منهج الدّعوة واضحةٌ كلّ الوضوح، وتختلف عمّا ذهبت إليه كثير من العقائد والشّرائع والتيّارات الأخرى التي لم تراعِ فطرة الإنسان من حيث تلبية رغباته، وإشباع غرائزه بالطّرق المشروعة، كما أنّ منهج الدّعوة لم يحجر على فطرة الإنسان ولم يحرمها فيما تتطلّع إليه، وتفكّر فيه، وتتمنّى الوصول إليه، بل دفعها إلى ذلك برفقٍ وتأنٍّ ووفق الضّوابط المشروعة.
3. الكمال: والمقصود بالكمال في المنهج الدعوي هو بلوغ منهج الدعوة الغاية في الفضل والجمال في جميع جوانبه، وتفوّقه على غيره في سائر المجالات.
        والمتأمل في منهج الدعوة إلى دين الإسلام الحنيف يجد أنَّ عقائد هذا الدين وأخلاقه وآدابه ومعاملاته قد بلغت من الكمال والحسن والنَّفع والصَّلاح الذي لا سبيل إلى الصّلاح بغيره. كما أنَّ أصول هذا المنهج وركائزه وأساليبه ووسائله وطرق مخاطبته للنّاس قد بلغت القمّة في الكمال والجمال والأثر الطيّب.
وكمال منهج الدّعوة يقتضي القيام بتحقيق أمرين هامّين هما:
أ. العلم بالمنهج الدَّعويّ.                ب. العمل به وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
4. الشّمول: المقصود بالشّمول في منهج الدعوة هو إحاطة منهج الدّعوة بكلّ احتياجات الإنسان، ووفاؤه لكل متطلّبات عمليّة الدّعوة.
        والمتأمل في رسالة الإسلام ومنهج دعوته الحقّ يجد أنها تتميز عن كلّ ما عرفه الناس من الأديان والفلسفات والمذاهب، بكلّ ما تتضَّمنه كلمة الشّمول من معانٍ وأبعادٍ، وأنه شمول يستوعب الزّمن كلّه، ويستوعب الحياة كلّها، ويستوعب كيان الإنسان كلَّه.
        وتؤكّد خصِّيصة الشّمول في منهج الدّعوة إحاطُة المنهج بجميع جوانب حياة الإنسان، مع التكفّل ببيان مستلزمات الدّين من عقيدةٍ وشريعةٍ ومعاملاتٍ وأحكامٍ وحدودٍ وأخلاقٍ وآداب وعلاقات مع الآخرين، مِمّا يوجب عدم النظر والاحتياج من أصحاب العقائد والشّرائع والاتجاهات الفكرية الأخرى.
5. الوسطيّة: وهي اشتمال منهج الدّعوة على كلّ أوصاف الخير ومحمود الصفات وعلوّ القيمة وفضل الهدف، والتزام الطّريق المستقيم في دلالة النّاس على الدّين وطلب دخولهم فيه، مع البعد تماماً عن أي انحرافٍ أو شططٍ أو غلوٍّ.
        ووسطيّة منهج الدّعوة تمتدّ لتشمل: العقيدة والعبادة، والمعاملات والأخلاق وسائر التشريعات الإسلامية. كما أن خصيصة الوسطيّة تجعل من منهج الدّعوة نظاماً فريداً متكاملاً في نُظُمِه الاجتماعية والاقتصادية والسيّاسية، جامعاً بين الثبات والتطوّر المفيد المشروع.
6. التّوازن: التّوازن في منهج الدعوة هو استقامة منهج الدّعوة على طريق الحقّ وبناء الحياة بناءً مُحكَماً، والاعتدال في النّظرة، والتّوجه في دعوة النّاس بتناسق.
        والتوازن مطلوب في حياة المسلمين عامَّة وفي حياة الدّعاة على وجه الخصوص، وذلك لأنّ عمل الدعاة لا يقتصر على أنفسهم بل يمتدّ ليشمل جميع الناس، المسلمين وغير المسلمين، وإنّ أيّ تقصير في عملية التّوازن أو إخلال به سوف يؤدّي إلى نوع من التخبّط والفوضى التي لا تُحمَدُ عقباها. والتّوازن الصّحيح في منهج الدّعوة لا يمكن تحقيقه إلاّ بشروط هامّة منها:
أ. الالتزام بالكتاب والسنّة النّبويّة.                ب. اقتفاء أثر الصحابة ومَنْ تبعهم بإحسان.
جـ. المواءمة بين مطالب الرّوح والجسد.  د. إنزال الأمور منازلها الصحيحة دون شطط.
هـ.  البعد عن الغلوّ والتطرّف.
7. الوضوح: الوضوح في منهج الدعوة هو استنارة طريق منهج الدّعوة، وبيان أهدافه، وبروز معانيه، وعدم خفاء أساليبه ووسائله.
والمتأمّل في منهج دعوة الإسلام يجد أنه واضح وبيّنٌ أتمّ بيان، وليس فيه إبهام أو خفاء أو لبس أو أسرار، بل إنّ الله تبارك وتعالى قد وصف كتاب الدّعوة بأنه واضح ومبين؛ قال تعالى: {الرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ}، كما وصف الله تعالى الدِّينَ الذي أرسل به رسوله محمداً، صلّى الله عليه وسلم، بأنّهُ بيّن وواضح وليس فيه غموض، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
وكما أن دين الإسلام واضح فإنّ الدّعوة إليه والطّرق الموصلة إلى النّاس من خلال الأساليب والوسائل المتنوّعة لابدّ أن تكون واضحةً كذلك.
8. الرّحمة: والمقصود بالرّحمة في منهج الدّعوة اشتمال الدّين الإسلامي الحنيف على الرِّقة والعطف بالخَلْقِ، ودعوتهم بكلّ مسلك فاضل طيِّب مع عدم الإساءة إلى أحد من النّاس.
        والمتأمل في منهج دعوة الإسلام يجد أنه منهج رحيم بالخلق، عطوف عليهم، بعيد عن العنف والقسوة والغلظة؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.
والداعية مُطَالَبٌ برحمة النّاس أثناء دعوتهم سواء أكانوا مسلمين أم غير ذلك، حتَّى يكون ترجماناً لمنهج الدّعوة الذي يدعو من خلاله الناس.
وخلاصة القول: فإنَّ منهج الدّعوة يشتمل على خصيصة الرّحمة سواء في محتواه أو في طريقة نشره وإيصاله للنّاس، وهذه الرّحمة تنافي كلّ ما يضادّها وينقضها من العنف والإكراه والقسوة، وعدم الرّأفة بالناس أو تحميلهم ما لا يطيقون، فكلّ تلك الأمور ليست من منهج الدّعوة القويم الذي جاء بالهدى والرّحمة للنّاس.
9. العالميّة: تُعَدُّ العالميّة خصيّصةً ظاهرةً من خصائص منهج الدّعوة، وذلك لعموم دعوة الإسلام لجميع الخلق، واتّصاف طرق مخاطبته للنّاس بصفات السموّ والرِّفعة والعلوّ.
والمقصود بخصيصة العالميّة في منهج الدّعوة مخاطبة منهج الدّعوة الإسلامية لجميع أصناف العالم، وإرادة الخير لكّل النّاس، بما يحمله هذا الدِّين من مضامين عالميّة صالحة لكلّ زمان ومكان.
والمتأمّل في النّصوص من الكتاب والسنّة يجد العديد من الأدلة على عالميّة هذا المنهج، كما تشهدُ بذلك مسيرة منهج الدّعوة واتساع رقعة المجتمعات الإسلامية، وامتداد المسلمين وتكاثرهم في جميع بقاع العالم المعاصر.
ومن النّصوص المتعددة نشير إلى قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}. والمتأمل في منهج الدّعوة الإسلاميّة يجد أنّه متضمّنٌ لكلّ مقوِّمات العالميّة، والتي لا يحدّها حدّ، سواء تعلّقت بالكتاب والسنّة أو ببشارات الكتب السّابقة، أو من حيث المرسل والرّسالة، أو من حيث جانب المكان والزّمان أو من حيث مخاطبتها لجميع البشر وللعقل والفكر الإنساني عامَّة في أي زمان ومكان. كما أن عالميّة منهج الدّعوة تتّضح من خلال هيمنتها وتفوّقها على غيرها من الدّعوات السّابقة.
كما تُلاحَظُ خصيصة العالمية في منهج الدّعوة من خلال سيرة النبي، صلّى الله عليه وسلم، الذي باشر عملياً تنفيذ عالمية الدَّعوة يوم أن سنحت له الفرصة بعد صلح الحديبيّة، حيث أرسل إلى الملوك والأمراء في كلّ الأرض يدعوهم إلى الإسلام ويحمّلهم إثم أتباعهم إن لم يبلِّغوهم.
10. الخاتمة: المقصود بالخاتمة في الدعوة انتهاء جميع الدّعوات بدعوة الإسلام، وعدم شرعيّة أيّة دعوة بعدها، وكون منهج الدّعوة آخر المناهج وأعظمها هيمنةً لصلاحه وفضله.
والمتأمل في النصوص يجدُ ما يدّل على كون دعوة الإسلام ومنهجها خاتمة الدّعوات والمناهج، ومن ذلك: قوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}.
أهداف منهج الدعوة
يمكن تعريف أهداف منهج الدَّعوة اصطلاحاً بأنَّها: المطالب العالية التي يسعى الدُّعاة إلى الوصول إليها وتحقيقها وفق المنهج القويم.
ويتّضح من خلال التَّعريف السَّابق مفهوم أهداف منهج الدّعوة التي يسعى الدّعاة إلى تحقيقها، وكون تلك الأهداف مطالب عاليةً رفيعةً سواء تعلّقت بمجال الدّنيا أو مجال الآخرة، ولكنْ بشرط أن تتمّ الدَّعوة إلى تلك الأهداف من خلال سبيل الدّعوة القويم الصّالح.
أبرز أهداف منهج الدَّعوة
أولاً: حماية جناب التّوحيد:
يعدُّ التّوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد أوّل وآخر واجبٍ على المسلم، وهو الذي من أجله أُرسلَتْ الرّسل، وأُنزلت الكتبُ، وخُلقت الجنّة والنّار.
والمقصود بالتوحيد إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً.
ومنهج الدّعوة الإسلامية يعتني أشدّ العناية بالتّوحيد، ويجعله الأساس والمنطلق لدعوة النّاس ومخاطبتهم، كما يؤكد منهج الدّعوة على أن أيَّ مخاطبة للنّاس وتوجّه لهم لا يقوم على التّوحيد ويرتكز عليه فإنّه تَوَجُّهٌ مُجانبٌ للحقّ والصّواب. وبناءً على ذلك فإنّ هدف منهج الدّعوة الأساس هو دعوة النّاس جميعاً لتوحيد الله تعالى، وتعليمه، وشرحه وبيانه، وإيضاح مقاصده ونتائجه وثمراته اليانعة، والتّحذير مما يضادّه ويخرمه.
ثانياً: تعميق الإيمان وزيادته:
        يهدف منهج الدّعوة إلى الاهتمام بالإيمان من جميع النّواحي، ويشمل ذلك بيان معانيه وأهمّيته وفضله وحاجة المسلم إليه وإلى التزوّد منه، والحذر من نواقضه. والقرآن العظيم والسنّة النبويّة حافلان بالحديث عن الإيمان والدّعوة إليه باعتباره هدفاً عظيماً يترتّب على تحقيقه صلاح حياة المسلم في دنياه وأخراه. والداعية الموفَّقُ هو الذي يفطن لهذا الهدف العظيم الذي يوليه منهج الدّعوة القويم أهمّيةً بالغة، في حياة الأفراد والجماعات والأمم، ويلفت الأنظار إلى أسباب الإيمان بالله تعالى وزيادته في النّفوس واستشعار عظمة الرّب تبارك وتعالى لتحصل معيّتُهُ وبركته. كما يهتمّ منهج الدّعوة بالتحذير مِمَّا يناقض الإيمان ويخدشه وبخاصّة تيّارات الكفر والإلحاد والأهواء والشّبهات.
ثالثاً: رجاء هداية النّاس:
بعث اللهُ تعالى نبيّه ورسوله محمداً، صلّى الله عليه وسلم، إلى النّاس كافّة رجاء هدايتهم إلى الدّين الإسلاميّ الحنيف، كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}. ولا يغيب عن ذهن أيّ داعية أنَّ الهداية بيد الله تعالى، وما مهمة الدّاعية إلاّ بيان الحقّ والدّلالة عليه دون التكفّل بالهداية وضمان الاستجابة. والدّاعية الحريص على هداية الخلق هو الذي يجتهد في إيصال الخير لهم وشرحه وبيانه وإيضاح فضائل ومحامد الدّخول في دين الإسلام وعواقب التخاذل أو عدم الدّخول فيه.
ومنهج الدّعوة لا يحمّل الدّاعية هداية النّاس ولو كان مُحِبَّاً لهم لقرابتهم أو مودّتهم؛ فإن ذلك ليس بيده أو مشيئته بل بيد الله تعالى ومشيئته.
رابعاً: إقامة الحجّة على النّاس والإعذار لله تعالى:
        حينما تتّجه الدّعوة إلى النّاس، وتصلهم عقيدة الإسلام، ويعرفون دين الله تعالى، فإنّ الحجّة تقوم عليهم بذلك، ويُعْذَرُ الدّعاة، وهذا من أهداف منهج الدّعوة الأصيل، الذي سار عليه الأنبياء والرّسل عليهم الصّلاة والسّلام في دعواتهم لأقومهم.
        والواجب على الدّعاة أن ينهضوا لتحقيق هدف منهج الدّعوة الأسمى وهو إقامة الحجّة الواضحة البيّنة الهادئة على النّاس، امتثالاً لأمر الله تعالى وإعذاراً له سبحانه. ولكن ينبغي أن يُعْلَمَ أنّ إقامة الحجّة على النّاس تتطلّب سلوك الطّرق الحكيمة في الدّعوة والأساليب المؤثّرة، والوسائل العمليّة النّافعة حتّى يتحقّق قيام الحجّة على النّاس.
قواعد منهج الدّعوة في الكتاب والسّنّة
القاعدة الأولى: العلم والبصيرة في الدّعوة.
        تعتبر هذه القاعدة من أهمّ القواعد التي ينبغي على الدّعاة فقهها والعمل بموجبها، إذ أنَّ كثيراً من الأضرار التي لحقت بالعمل الدّعوي إنما سببها الجهل وعدم العلم وانعدام البصيرة.
       

وقاعدة العلم والبصيرة في الدّعوة تقتضي من الدّاعية جملةَ أمورٍ هامّةٍ، نذكرها فيما يلي باختصار:
أ. العلم والبصيرة بمضامين الدّعوة ومحتوياتها، والعلم بالمعروف الذي يُؤمر به، والمنكر الذي يُنهى عنه.
ب. العلم والبصيرة بالمدعوّين الذين تتوجه لهم الدّعوة سواء أكانوا من أمّة الدّعوة أم من أمّة الاستجابة.
جـ. العلم والبصيرة بالدّاعية نفسه، وقدراته وإمكاناته وتهيئته للعمل.
د. العلم والبصيرة بالأساليب والوسائل المستعملة في الدّعوة.
القاعدة الثانية: الاتباع لا الابتداع في الدّعوة.
        والمقصود من هذه القاعدة: الاهتداء بالكتاب الكريم والسنّة النبويّة، والتّأسِّي بما سار عليه الصّحابة، رضوان الله عليهم، وبقيّة السّلف الصالح ومَنْ تبعهم بإحسان، وعدم الخروج عن هذا المسار.
القاعدة الثالثة: الائتلاف أولى من الاختلاف في مسار الدّعوة.
        والمقصود من هذه القاعدة: أن اجتماع الدّعاة على الحقّ والتّوحيد والهدى والعمل الصّالح، وائتلافهم على الطّريق القويم أفضل من اختلافهم وتفرّقهم وتشتت جهودهم وضياع كلمتهم.
        ومغزى هذه القاعدة: راجعٌ إلى ما في الاجتماع والائتلاف من قوّة وعزّة وتمكّن وتوحيد للجهود والطاقات، وعملٍ مثمرٍ نافع بنّاءٍ بإذن الله تعالى، وكذا ما في ضدّ ذلك من الاختلاف والتفرّق من إضاعة الجهود، وضعف القدرات، وعدم تمكن من الوقوف بقوّة إزاء التحدّيات والعقبات والمشكلات التي تواجه طريق الدّعوة، ومساراتها المتنوّعة.
القاعدة الرابعة: البدء بالأهمّ فالمهمّ في الدّعوة.
        والمقصود من هذه القاعدة: أن يبدأ الدّاعية دعوته للناس بأهم الأمور في الدّين ثمّ ينتقل إلى المهمّ أي أن يدعو إلى الأصول والأسس الكبرى ثم يدعو إلى المسائل الأخرى.
        والمتأمل في دعوة النبي، صلّى الله عليه وسلم، يجد أنه قد ابتدأ دعوته بالأهم فالمهمّ من أمور الدّعوة ومسائلها، وأوّل ما بدأ به الدّعوة إلى التوحيد وإلى أن يُعْبَدَ الله تعالى وحده دون شريك، وأن يُنَزّه عن كلّ الأنداد، وأن يُخْلَصَ في العبادة له وحده، وأن يجرّد كلّ أمور الإيمان لله تعالى، ثم انتقل، صلّى الله عليه وسلم، إلى الدّعوة إلى بقيّة أمور الدّين وأحكامه وأخلاقه.
القاعدة الخامسة: التدرج في الدّعوة.
        المقصود من هذه القاعدة: ترفّق الدّاعية في دعوته للنّاس، والانتقال بهم في سلم الدّعوة خطوةً خطوةً، ودرجةً درجةً، وعدم الإكثار عليهم، أو إعطائهم فوق طاقتهم، وأكثر من وسعهم، وخاصّة غير المسلمين، أو مَنْ أسلمََ حديثاً ولم يتمكّن الإيمان من قلبه، أو مَنْ يعيش في بلاد غير إسلامية ولم يَعرف الإسلام على حقيقته، أو ما شابه تلك الحالات، حتى ولو كان يعيش في المجتمع الإسلامي.
القاعدة السادسة: معرفة أحوال المدعوّين قبل دعوتهم.
        ومؤدَّى هذه القاعدة: أن يكون الدّاعية على علمٍ ومعرفةٍ بأحوال وظروف من تتوجّه لهم الدّعوة، ومَنْ يُقْصدون بالخطاب والبلاغ، وذلك قبل دعوتهم ومخاطبتهم.
        وهذه القاعدة هامّة في عمل الدّعاة، إذ إنها تستلزم ما يلي:
أ. معرفة ديانة المدعوين وعقائدهم وأفكارهم ولو على سبيل الإجمال.
ب. معرفة لغة المدعوين، ولهجتهم.
جـ. معرفة أحوال المدعوين الاجتماعية والاقتصادية والسيّاسية التي تحيط بهم، ومدى أثرها في محيطهم، وتقبّلها للدّعوة، وموقفها من الدّعاة.
د. معرفة الأساليب والوسائل المناسبة لدعوة أولئك النّاس.
هـ. معرفة المداخل المناسبة، والمفاتيح الملائمة لدعوة النّاس.
القاعدة السابعة: مخاطبة النّاس على قدر عقولهم وأفهامهم.
        والمقصود من هذه القاعدة: أنّ دعوة النّاس ومخاطبتهم ينبغي أن تكون على قدر عقولهم وأفهامهم وإدراكهم حتّى يستوعبوها ويفهموها ويطبقوها، وتتمّ بذلك الفائدة، وتؤتي الدّعوة ثمرتها وأُكُلَها. ومردُّ ذلك كلّه إلى أن الناس مختلفون في عقولهم، متفاوتون في أفهامهم، متنوّعون في توجهاتهم ومشاربهم واتَّجاهاتهم، فينبغي للدّاعية مراعاة ذلك، والتنبّه له وألاَّ يُغفله أو يتركه.
 ****************************************************************
مراجعةٌ عامّةٌ هامّةٌ لمادة "الفِرَق"
إعداد الدكتور راجح السباتين / جامعة طيبة / كلية العلوم والآداب بالعُلا
الفرقة في الإصطلاح هي "جماعة تربطهم معتقدات معينة، وكثيراً ما تعزلهم عن غيرهم فيكونون مجتمعاً مغلقاً، وقد يفتحون الباب لمن عداهم".
أما المذهب في الإصطلاح فهو "مجموعة مبادئ وآراء مُتّصلة ومنسّقة لمفكر أو لمدرسة، ومنه المذاهب الفقهية والأدبية والعلمية والفلسفية".
وقد وردت كلمة "الفرقة" في عدة أحاديث للرسول، صلى الله عليه وسلم، بينما لم ترد كلمة "المذهب" في أي اصطلاحٍ شرعيٍ من الكتاب أو السنَّة، وإنما عُرفت فيما بعد من قبل أتباع الفقهاء وغيرهم من المجتهدين. والفرقة مختلفة تماماً عن المذهب. فالفرقة، تعني الافتراق في أصول العقيدة، وهي مُلازِمة للطائفية؛ لأن الطائفية تجمع جماعةً حول مذهب تعتنقه وتدعو إليه، وتعدُّ كلَّ جماعةٍ لا تعتنقه ليست منها.
وقد ورد العديد من الأحاديث تنهى عن الفرقة والاختلاف، منها ما رواه الدارمي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه قال: "خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطّاً ثم قال: هذا سبيل الله، ثمَّ خطَّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سبلٌ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا: " وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ".
وقال عليه السلام: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".
وقد كان نهيُ الله تعالى في القرآن عن الفُرقة، وذمُّ الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، للجدال، رادعاً قوياً للمسلمين عن الاختلاف والفُرقة، لاسيّما في مسائل الاعتقاد. وقد استقامت حياة المسلمين في عهد رسول، صلى الله عليه وسلم، بعيداً عن الاختلاف والتنازع، إذ أن الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، كان المرجع الأساس للمسلمين في كل صغيرة وكبيرة، إليه تُرفع الخلافات وتُرد الأمور، فيرشد مَن يضل، ويردُ إلى الصواب من تشتبه عليه الحقائق، ولذلك لم نجد خلافاً بين المسلمين في عهد النبي، صلّى الله عليه وسلم، وإذا وُجِدَ فلم يلبث أن يزول وينتهي بخضوع الجميع لأمره وفقاً لقوله تعالى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً".

نشأة الفرق الإسلامية
بدأ الخلاف بين المسلمين أول ما بدأ، في أمورٍ اجتهاديةٍ لا تصل بأحدٍ منهم إلى درجة الابتداع والكفر، كالخلاف الذي وقع بينهم في سقيفة بني ساعدة في مَنْ يخلف رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، بعد وفاته وغير ذلك من الخلافات التي وقعت بينهم، ولم يكن لها خَطَرُها الذي ينجم عنه التفرُّقُ ووقوع الفتنة والبغضاء بين المسلمين.
ظلَّ الأمر كذلك إلى زمن عثمان، رضي الله عنه، وكان ما كان من خروج بعض المسلمين عليه، ومحاصرتهم لداره، وقتلهم له، فأصاب المسلمين من ذلك الوقت رَجّةٌ فكريةٌ عنيفةٌ، أطاحت بالروية، وذهبت بكثيرٍ من الأفكار مذاهب شَتّى، فقام قومٌ يطالبون بدم عثمان، ثم نشبت الحرب بين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، من أجل القصاص من قَتَلةِ عثمان، وكان لكل منهم شيعة وأنصار يشدون أزره، ويقوّون عزمه، وتبع ذلك انشقاقُ جماعة علي رضي الله عنه، بعد مسألة التحكيم في الخلاف بينه وبين معاوية ... فظهرت من ذلك الوقت فرقة الشيعة، وفرقة الخوارج، وفرقة المرجئة، وفرقة أخرى انحازت لمعاوية،وأيدت الأمويين على وجه العموم.
أسباب نشوء الفرق
1. الفتنة الكبرى ومقتل عثمان، رضي الله عنه:
قويت الوحدة الإسلامية في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، حتى أنه ما كان يحدث خِلافٌ إلا انتهى إلى وِفاقٍ، واستمرت الحال كذلك إلى أن ظهرت الفتن في القسم الثاني من خلافة الخليفة الثالث ذي النورين عثمان بن عفان. وقد كانت الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان رضي الله عنه، وما صاحبها من أحداث وما أعقبها من اضطرابات، موضوعاً خاض فيه كثيرٌ من المؤرّخين وأصحاب المقالات والفرق، حاول كلٌّ منهم أن يستكشف الأسباب التي أدت إلى الفتنة. ولعلَّ من أسباب اضطراب المؤرخين المعاصرين حول أحداث الفتنة أنهم اعتمدوا في استقاء أحداث الفتنة على بعض كتب التاريخ مثل كتاب الطبري؛ دون أن يأخذوا في الاعتبار أنّ الطبري وغيره من المؤرخين أوردوا في كتبهم هذه إلى جانب الروايات الصحيحة، العديد من الروايات الموضوعة والمكذوبة والواهية لأنهم أوردوا كلَّ ما سمعوه وتركوا لِمَنْ يأخذ عنهم أن يُميزَ، عن طريق السند، بين المكذوب والصحيح والثقة والضعيف.
لقد كانت الأوضاع هادئةً في أول سنوات خلافة عثمان، رضي الله عنه، ولكن في السنين الأخيرة تنادى رؤوس الفتنة من أمثال عبد الله بن سبأ وأتباعه، وأخذوا يفترون على عثمان وولاته الكذب، وكانوا كلما افتُضِحَتْ لهم مقالةُ سُوءٍ أظهروا مقالةً أخرى، وكانت إثارة تلك وذلك ضمن خطةٍ أعدوها لإثارة الفتنة عن طريق إقصائه عن الحكم أو قتله.
2. دور عبد الله بن سبأ اليهودي في الفتنة ونشر الأفكار الهدامة:
كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء، أسلمَ في زمن عثمان، رضي الله عنه، وتنقَّلَ في البلاد الإسلامية إلى أنْ اكُتشِفَ أمرُه وأُبعد منها حتى أتى مصر واستمال فيها قلوبَ بعض الناقمين على الولاة، وبدأ يبثُّ بينهم بعض العقائد المنحرفة كرجعة الأنبياء والأوصياء، وإنَّ كلَّ نبيٍ كان له وصيٌّ، وإنّ علياً وصيُ محمدٍ ... وانتقل بعد ذلك إلى الطعن في الخليفة عثمان وأنه أخذ الخلافة بغير حق. وقد استثار هذا اليهودي بعضَ من وقعوا تحت تأثيره إلى النهوض وزَيَّنَ لهم الطَّعنَ على الولاة والخروج عليهم في صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستطاع أن يكوِّن خلايا سريةً في تلك الأمصار تجري بينهم وبينه مُكاتَباتٌ، ويحيكون مؤامرات ويضعون الخطط للثورة والخروج على الخليفة.
صَمَدَ عثمانُ ـ رضي الله عنه ـ في وجه الثائرين، الذين شدّدوا الحصار على بيته حتى منعوا عنه الماء، وأخيراً تسوَّروا عليه الدار وقتلوه في وضح النهار. ويؤكِّدُ مسار الأحداث أن هذه الفتنة أشعل نارها وخطَّط لها ونَفَّذَها طوائف من المدفوعين بأغراض شخصية أو أهواء ذاتية، وأن خيار المسلمين من الصحابة لم يشتركوا فيها من قريب أو بعيد، ولم يدخل واحد منهم في دم عثمان ولم يرضَ بقتله، وإنما قتله، رضوان الله عليه، طائفة من المفسدين في الأرض.
لقد أدى مقتل عثمان، رضي الله عنه، إلى فتح أبواب الفتنة على مصاريعها، ولم تُجدِ البيعة لعليّ، رضي الله عنه، في استقرار الأحوال، فقد طالب معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، علياً قبل أن يبايعه بالخلافة أن يقتص من قَتَلةِ عثمان، رضي الله عنه، ولكنَّ علياً كان يقول: "أدخل فيما دخل فيه الناس وأحاكمهم إلى أن أحكم فيهم بالحق".
"كما أن جماعة من الصحابة على رأسهم أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير، رضي الله عنهم، خرجوا على علي، رضي الله عنه، واتجهوا إلى البصرة مُغاضبين، واحتج هؤلاء جميعاً لموقفهم هذا بدم عثمان وذهبوا إلى أنه لا بدَّ من القصاص من قَتَلته، ولم ينُقلْ أنّ عائشة ومَنْ معها نازعوا علياً الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولُّوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومَنْ معها على عليٍ منعه مِنْ قتلِ قَتَلةِ عثمان وترك الاقتصاص منهم".
وحاول علي أن يرد هؤلاء إلى الصواب، مبيناً أنه لم يشترك في قتل عثمان، رضي الله عنه ولم يظاهر عليه، ودعا على قاتليه باللعنة، وبذل أمير المؤمنين علي جهده في إقناع أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير بأنه لا بدَّ من خضوع الناس لإمامٍ واحدٍ يحتكمون إليه ويعضدونه حتى تقوى شوكة الدولة وتتمكن من تتبع قتلة عثمان، وإقامة حدود الله فيهم ... وبَيَّنَ لهم أنّ هؤلاء القتلة لهم شوكة في جيشه، فلا يمكن قتالهم أو النيل منهم، وبعث القعقاع بين عمرو إليهم، حيث استطاع أن يقنعهم بالصلح ويتفق معهم على ذلك.
هكذا اقتنعت أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير بالمصالحة وراجعوا موقفهم بعد أ ن تبين لهم خطؤه. وقد سُرَّ أميرُ المؤمين علي لمراجعتهم موقفهم وموافقتهم على الصلح.
ولكن سرعان ما تحركت عناصر الفتنة حينما علمت بنبأ الصلح "وخشي من كان في معسكر عليٍ ممّن شاركَ في مقتل عثمان مغبة هذا الصلح عليهم، كما كان معسكر أم المؤمنين عائشة يضم عناصر لا تريد أن تهدأ الفتنة، ومن ثمَّ سعى هؤلاء جميعاً إلى إشعال نار الحرب، ولم يشعر الصالحون في المعسكرين إلا والمناوشات قد بدأت قبيل صبيحة اليوم الثاني للاتفاق، فظنَّ كلُّ فريقٍ أنّ الفريق الآخر قد غرّر به وغدره وانتهى الأمر بموقعه الجمل الشهيرة التي سقط فيها عشرة آلاف من الطرفين، وقُتل فيها طلحة والزبير بأيدي مُدبري الفتنة من المعسكرين.
وقد بَيّنَ الطبري في تاريخه أنَّ الذي أشار على أصحاب الفتنة بأن يؤججوا القتال بين الطرفين هو عبد الله بن سبأ، ومما ذكره عن ابن سبأ قوله: "يا قوم إن عزّكم في  خلطة الناس فصانعوهم، وإذا التقى الناس غداً فانشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر ....
وهكذا أسهمت السبئية في القتال بشكل فَعّالٍ، وكان عملها إشعال نار الحرب كلما فترت ومن خلال هذا العرض يتبين بما لا يدع مجالاً للشك أثر ابن سبأ وأعوانه في موقعة الجمل، حيث لم يقتصر دورهم عند إثارة الفتنة الأولى التي كانت سبباً في مقتل عثمان رضي الله عنه، وإنما لعبوا دوراً خطيراً في الفتنة الثانية التي اندلعت بسبب مقتل عثمان، مما كان له أسوأ النتائج على وحدة المسلمين. وبعد وقعة الجمل تفرَّغ عليٌ لأمر معاوية وأهل الشام، والتقت سيوف المسلمين مرّةً ثانيةً في معركة صفّين، وكادت كفة عسكر علي أن ترجح، لولا رفع المصاحف مِن قِبل جيش معاوية والدعوة إلى التحكيم، وبهذا تمَّ التحكيم بين الطرفين، ورضي عليٌ بأبي موسى الأشعري مندوباً عنه في لجنة التحكيم.
وفي بداية الهدنة ظهر من بين صفوف جيش عليٍ مَنْ رفض الهدنة ورأى أنها مُخالِفة للقرآن، وقوي هذا الرأي وكسبَ له أنصاراً أعلنوا في النهاية العصيان والخروج، بل كَفّروا علياً رضي الله عنه، وكل من قبل الهدنة ورضي بالتحكيم ... ورفع هؤلاء شعار: لا حكم إلا لله ... وقد قوي أمر هؤلاء الخوارج حينما فشل التحكيم، وانصرفت جهود علي لاستصلاحهم بالحجّة ثم بالقوة حين لم تُجدِ الحجَّةُ". وفي هذا الوسط المضطرب بدأت تتبلور جماعة تشايع علياً وتنادي بِحَقِّه وحقِّ أولاده من بعده بالخلافة، وتحمل الدعوة إليهم، وهكذا تَولَّد عن هذه الفتن والاضطرابات فرقتان أو جماعتان هما: الخوارج والشيعة. وقد تفرع عنهما فِرقٌ كثيرة وظهرت بسبب آرائهما فرقُ أخرى كذلك.
3. ترجمة الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية، وافتتان البعض بها:
فقد كان للكتب الفلسفية المترجمة أثر واضح في الخلاف، إذ غزا الفكر الإسلامي كثيرٌ من المنازع الفلسفية والمذاهب القديمة في الكون، والمادة، وما وراء الطبيعة المحسوسة، وظهر من المسلمين مَنْ نزعوا منزع الفلاسفة الأقدمين وأخذوا بطريقتهم.
انبثق حول هذا المذهب أفكار مختلفة، وكان لها أثرها في التفكير الديني نفسه، حيث وجدنا مفكرين مسلمين يتعاملون مع العقائد الإسلامية تعاملاً فلسفياً، كالمعتزلة الذين نهجوا مناهج الفلاسفة في إثبات العقائد الإسلامية ....
4. دخول بعض المُغْرضين من أهل الديانات القديمة في الإسلام:
فقد دخل في الإسلام بعد الفتوحات الإسلامية العظيمة أقوام استجابوا لفطرتهم السليمة، فصفت نفوسهم، وتخلصت قلوبهم من أدران الوثنية. ودخل في الإسلام أيضاً أصنافٌ أخرى من الناس، من أهل الأديان والفلسفة المنتشرة في ذلك الحين ـ كاليهوديّة والنصرانية والمجوسية والفلسفية اليونانية، دخلوا طَمَعاً، فلم تخالط بشاشة هذا الدين قلوبهم، ولا اقتلعت من قلوبهم جذور والعصبيّة والحنين إلى أديانهم المندثرة. وبجانب هؤلاء دخل الإسلام بعض الدهاة والماكرين من أصحاب هذه الديانات تظاهروا باعتناق الإسلام وهمُ يضمرون في أنفسهم الكيد والحقد، والمكر والخديعة.
الـــخـــوارج
الخوارج اسم لحركة سياسية وفرقة دينية. وقد اختلف المؤرخون في سبب تسميتهم بها:
فيرى الأشعري أنهم سُمّوا خوارج "لخروجهم عن الناس أو عن الدين أو عن الحق أو عن علي، رضي الله عنه. ويرى الشهرستاني أنّ كلَّ مَنْ خرج على الإمام الحقِّ الذي اتفقت الجماعة عليه يُسّمى خارجاً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان. وأما الرازي فيرى أنّ الخوارج سُمْوا بذلك لخروجهم على كل إمام، واعتقادهم أن ذلك فريضة عليهم لا يسعهم المقام في طاعته حتى يخرجوا ويتخذوا لأنفسهم دار هجرة، وحتى يكونوا منابذين لمن خالفهم من المسلمين حرباً عليهم. والمسلمون عندهم كُفَّارٌ مشركون إلا من رافقهم وبايعهم واستجار بهم حتى يسمع كلام الله.
وقد قَبِلَ الخوارجُ هذه التسمية، ولكنهم فسَّروا الخروج بأنه خروج من بيوتهم جهاداً في سبيل الله، وفقاً لقوله تعالى: "وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ". وللخوارج أسماء وألقاب أخرى "فيسمون بـ (الحَرُورِيّةَ) نسبة إلى (حروراء)، وهي قرية بظاهر الكوفة اجتمعوا فيها بعد خروجهم من جيش علي، رضي الله عنه، في معركة صِفِّين".
"وقد أطلق على الخوارج أيضاً اسم (الشُّراة) وربما يكونون هم الذين وصفوا أنفسهم بذلك لأنهم يزعمون أنهم باعوا أنفسهم لله، كما ورد في قوله تعالى "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ".
نشأة الخوارج
يربط المؤرخون ظهور الخوارج جماعةً مُسْتقلَّةً مع حادثة التحكيم التي وقعت بعد معركة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، عندما قَبِلَ علي بالتحكيم في الخلاف بينه وبين معاوية بعد أن حمله الخوارج أنفسهم على ذلك، ولمَّا جاء أمرُ التحكيم بغير ما يرضون قالوا "لِمَ حَكَّمْتَ الرجال في أمر الله؟ لا حكمَ إلا الله". وبعد أن انحسر الخوارج إلى حروراء، ورفضوا الانصياع للحق، والرجوع إلى جماعة المسلمين، وردَ إلى علي، رضي الله عنه، نبأ إفساد الخوارج في الأرض واستحلالهم لدماء المسلمين وأموالهم، وقتلهم عبد الله بن خباب بن الأرت. وحينئذٍ لم يجد عليٌّ بُداً من قتال هؤلاء الذين أفسدوا في الأرض، "ولما قابل علي الخوارج طلب منهم تسليم قتلة عبد الله بن خباب للقصاص منهم، قالوا: (كلنا قتلناه)، فصمَّمَ على قتالهم بعد أن تبين له أَنهم الفئة الخارجة التي أشار إليها الرسول، صلى الله عليه وسلم، في أحاديثه، وخطب عليٌ أصحابه وأخبرهم بما سمع عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في شأن الخوارج ... وهكذا كانت موقعة (النهروان) التي أُبيد فيها الخوارج ولم يَنْجُ منهم إلا نفر قليل".
الآراء العامة للخوارج
1. تكفير علي وعثمان والحكمين (عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري)، وأصحاب الجمل (عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير).
2. تكفير مرتكب الكبيرة واعتباره كافراً مخلداً في النار.
3. وجوب الخروج على الإمام الجائر، إذ جَوَّزُوا أن تكون الإمامة ـ خلافاً لأهل السنة ـ في غير قريش، وكل من نَصَّبُوه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور كان إماماً، ومن خرج عليهم يجب نصب القتال معه، وإن غَيَّرَ السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله.
وقد أسهب الخوارج في شرح المبدأ الثاني، وهو تكفير مرتكب الكبيرة، حيث بنوا ذلك على رأيهم: "أن العمل بأوامر الدين والانتهاء عن ما نهى عنه جزء من الإيمان، فمن عَطّلَ الأوامر وارتكب النواهي لا يكون مؤمناً بل كافراً، إذ الإيمان لا يتجزأ ولا يتبعَّضُ ... ولم يقفْ الخوارج عند هذا الحدَّ بل عدّوا الخطأ في الرأي ذنباً، واتخذوا هذا مبدأ للتبري والولاية، فمن ارتكب خطأ تبرّأوا منه وعدُّوه كافراً، ومن اتبع رأيهم وسلم من الذنوب في ظنهم تولوه".
أهمُّ فِرق الخوارج
تفرقت الخوارج إلى عدّة فرقٍ بلغت عند بعض كُتَّابُ الفَرَق (العشرين)، والخلاف بين هذه الفرق لم يكن في أمورٍ خطيرةٍ تستدعي إلى الانشقاق وتكوين فرقة مستقلة، حيث كانت معظم نزاعاتهم في أمورٍ فرعية ... ومن أشهر فرقهم ما يلي:
1. النَّجْدَات: وهم أتباع (نجدة بن عامر الحنفي)، وكان السبب في زعامته، أنَّ نافعاً بن الأزرق ـ أحد زعماء فرق الخوارج ـ، قد أظهر البراءة من القاعدين عن القتال، وسمّاهم مشركين، واستحلَّ قتل الأطفال والنساء من المخالفين، ففارقته جماعة منهم (نجده بن عامر) الذي خرج على نافع بن الأزرق وذهب إلى اليمامة.
أشهر آراء النجدات
نعم، لقد كان فكر النجدات ردَّ فعلٍ من قبل (نجدة) على تطرف نافع بن الأزرق، ولكنّ رد الفعل هذا قد تَمَّثلَ في تحللّه من الشريعة تحللاً لا يُعرفُ له نظير ... ونرى ذلك في مبادئه التالية:
1. العُذْرُ بالجَهالات، تكفير مَنْ خاف العذاب على المجتهد المخطئ في الأحكام، فمن استحل باجتهاده شيئاً محرماً فهو معذور، ومن خاف العذاب على المجتهد المخطئ قبل قيام الحجة عليه فهو كافر. وهذا المبدأ يعني إلغاء الشريعة تماماً، إذ عَدَّ (نجدة) أنَّ الدين هو معرفة الله ومعرفة رسله وتحريم دماء المسلمين وأموالهم، والإقرار بما جاء من عند الله جُملةً، وما سوى ذلك معذورون بالخطأ في الاجتهاد فيه، وقد أُطلِقَ على النجدات بسبب هذا الرأي (العاذرية) لأنهم عذروا بالجهالات في أحكام الفروع.
2. وتفرَّعَ عن المبدأ الأول أنَّ نجدة تولّى أصحاب الحدود من موافقيه، وقال: لعلّ الله يعذبهم بذنوبهم في غير جهنم ثم يدخلهم الجنة، وزعم أنَّ النار يدخلها مَنْ خالفه في دينه.
3. ومن ضلالات (نجدة) أنه أسقط حد الخمر.
4. ومن ضلالاته أيضاً أن أصبح الحد الفاصل ـ عنده ـ بين الدين وعدمه، الإصرار وعدمه دون النظر إلى حقيقة الذنب المرتكَبِ، فمن نظر نظرةً صغيرةً، أو كذب كذبةً صغيرةً، ثمَّ أصر عليها فهو كافر، ومن زنى وسرق وشرب الخمر غير مُصِرٍّ فهو مسلم، إذا كان من موافقيه على دينه.
5. ثم إن النجدات، بعد كل هذا، قد حطَّموا المبدأ الذي كان سبباً في خروج الخوارج، وهو الظهور وعدم الخفاء، فأجازوا التقية في القول والعمل، فاتفقوا في ذلك مع الشيعة".
6. ومن مبادئهم أيضاً "أنهم يرون أنَّ إقامة إمامٍ ليست واجبةً وجوباً شرعياً، بل هي واجبة وجوباً مصلحياً، أي أنهم يرون أنه إذا أمكن للمسلمين أن يتواصوا بينهم بالحق وينفذوه فهم في هذه الحالة ليسوا في حاجةٍ إلى إقامة إمام.
2. الأزارقة: هم أتباع نافع بن الأزرق الحنفي، المُكَنى بـ (أبي راشد) الذين خرجوا مع نافع من البصرة إلى الأهواز، فغلبوا عليها، وما وراءها من بلدان فارس ... ولم تكن للخوارج قط فرقة أكثر عدداً ولا أشد شوكةً منهم. وقد بايع الأزارقة نافعاً، وسمّوه أمير المؤمنين، وانضمَّ إليهم خوارج عمان واليمامة، وخَرَجَ إليهم المهلّب بن أبي صفرة وقاتلهم حتى انهزموا وقُتِلَ نافع بعد تلك الهزيمة.
أشهر آراء الأزارقة:
1. أنه كفَّرَوا علياً رضي الله عنه، وقالوا: إن الله أنزل في شأنه: " وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ". وفي المقابل صوَّبوا قتله من قبل عبد الرحمن بن ملجم، وزعموا أن الله تعالى أنزل في شأن ابن ملجم قوله: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ". وعلى هذه البدعة مضت الأزارقة، وزادو عليه تكفير عثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وسائر المسلمين معهم، وتخليدهم في النار جميعاً.
2. القَعَدةَ، وهم أول من أظهر البراءة من القعدة عن القتال، وإن كان موافقاً لهم على دينهم، وكفروا مَنْ لم يهاجر إليهم.
3. إباحة قتل أطفال المخالفين والنساء معهم.
4. إسقاط الرجم عن الزاني، إذ ليس في القرآن ذكره، وإسقاط حد القذف عن قذف المحصنين من الرجال، مع وجوب الحدِّ على قاذف المحصنات من النساء.
5. الحكم بأن أطفال المشركين في النار مع آبائهم.
6. أن التقية غير جائزة في قول ولا عمل.
7. تجويزهم أن يبعث الله تعالى نبياً يعلم أنه يكفر بعد نبوته، أو كان كافراً قبل البعثة.
والثامنة: أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كَفَرَ كُفرَ مِلَّةٍ، خرج به عن الإسلام جُملةً، ويكون مخلداً في النار مع سائر الكفار.
ملحوظة هامة:
إنَّ مَنْ ينظر في آراء الأزارقة يرى أنهم لم يكونوا يعرفون الأمر الوسط بين الإيمان والكفر، فالإنسان ـ عندهم ـ إما أن يكون مؤمناً وإما أن يكون كافراً، وأن الإيمان قول وعمل، وأنه أمر كلي لا يتجزأ فمن حقَّق الإيمان بجميع أقواله وأفعاله فهو مؤمن، وإلا فهو كافر".
وقفة هامة تقويم آراء النجدات والأزارقة:
كان إدراك الخوارج وفرقها جمعاء، للنصوص القرآنية إدراكاً سطحياً، وكان يصاحبه إخلاصٌ لما عرفوه من الدين على حسب فهمهم له، وهذا الإنكار جعلهم يحكمون على مخالفيهم أحكاماً فيها الغلو والتطرّف، فقد حكموا عليهم بالكفر أو بالشرك، فهم لم يعرفوا أن الكافر قد فقد جزئي الإيمان، وهما الاعتقاد والعمل، وأن مَنْ يرتكب أمراً مخالفاً لأوامر الدين قد هدم أحد جزئي الإيمان، وعلى هذا لا يصح أن يُسَّمى كافراً. والذي أدى بالخوارج إلى مثل هذه الآراء هو سوء فهمهم للقرآن، فهم لم يقصدوا معارضته، ولكن فهموا منه ما لم يدلّ عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب، إذا كان المؤمن هو البرّ التقي، فمن لم يكن براً تقياً فهو كافرا وهو مخلد في النار، ثم قالوا: إنَّ عثمان وعلياً ومن والاهما ليسوا بمؤمنين لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله، واستشهد الخوارج بآية الحج، والآية التي تتحدث عن بياض وجه المؤمنين وسواد وجه الكافرين يوم القيامة .... وهذه الآيات والاستدلالات التي استشهد بها الخوارج واضح فيها تمسكهم بظواهر النصوص، ومحاولة فهمها من غير اعتبار للآيات الأخرى التي تصف مرتكب الكبيرة بأنه مؤمنٌ، ومن غير اعتبارٍ لعمل الرسول، صلّى الله عليه وسلم، وسنته التي تُبَيِّنُ القرآن وتفسّره. وهذه الآيات التي احتج بها الخوارج تصف حال المؤمنين والكُفَّار في الآخرة، فبينما تبيض وجوه المؤمنين ويعلوها البِشْرُ، تسودُّ وجوه الكفار وتعلوها الغبرة، فالحديث ليس عن عصاة المؤمنين، كما أن آية الحج ليس الكفر فيها وصفاً لمن لم يحج، إنما الكفر فيها وَصْفٌ لمن أنكرَ فريضةَ الحج وجحد وجوبها.
ومن المُلاحَظِ في فكر الخوارج غُلُّوه في حق المسلمين، كما يُلاحظُ تناقضهم وعدم وضوح تصورهم للأحكام التي كانوا يطلقونها جزافاً، ويظهر هذا في تناقضهم المتعلَّق بالحكم على الأطفال "حيث إنهم قضوا على أطفال المشركين بأنهم في النار مع آبائهم، فكأنَّ أطفال المشركين مشركون مثل آبائهم، مع أنهم لم يحكموا على أطفال المسلمين بالإسلام تبعاً لآبائهم كما حكموا على أطفال المشركين تبعاً لآبائهم".
وإذا كان صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى كافراً، ولا يُجَوَّزُ أن يجري عليه أحكام الكَفرة فكيف يستحق الإمامان الجليلان عثمان وعلي أن يَحكَمَ عليهما الخوارجُ بالكفر، وهما ليسا من أصحاب الكبائر؟ وإذا كان أصحاب الكبائر لا يحق لنا أن نطلق عليهم كفاراً فمن باب أولى أنَّ مَنْ بُشِّرَ بالجنة لا يجوز لنا أن نطلق عليهما كفاراً أو نحكم عليهما بالكفر، وهما صحابيان شريفان!!! والخوارج لم يكفروا عثمان وعلياً فقط، بل كَفّروا أصحاب الجمل، وفيهم نَفَرٌ من صحابة رسول، الله صلّى الله عليه وسلم، ثم إن أصحاب الجمل لم يقتلوا المؤمنين عمداً، وإنما قتالهم فيه قتال البغاة وهم مؤمنون.
وأما ما استدل به الخوارج من الآيات والأحاديث الأخرى الدالة على تكفير مرتكب الكبيرة، فمحمول على مَنْ استحلَّ شيئاً من الكبائر أو جحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة كالصلاة والحج، وترك الصلاة وقتال المسلم. والله تعالى يقول: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ". وممّا يوضح لنا أن المسلم لا يُكَفَّرُ بالمعاصي والكبائر قول الله تعالى: "قُلْ يعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". فالله يغفر الذنوب فيما عدا الشرك الذي بينت آية النساء السابقة أن الله لا يغفره.
الشِّيعةُ
الشِّيعةُ من حيث مدلولها اللغوي تعني (القوم والصحب والأتباع والأعوان) فشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، وكلُّ قومٍ اجتمعوا على أمرٍ فهم شيعة، وكل قومٍ أمرهم واحد يتبع بعضهُم رأيَ بعضٍ فَهمُ (شيع). أما معنى الشيعة اصطلاحاً فَيُطلقُ على من شايعوا علياً، رضي الله عنه، على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نَصّاً ووصيّةً، إما جلياً، وإمّا خفيّاً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلمٍ يكون من غيره، أو بتقيةٍ من عنده، وقالوا: ليست الإمامة قضيةً مصلحيةً تُناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين، لا يجوز للرسل عليهم الصلاة والسلام إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامّة".
بداية التشيُّع
تعودُ بداية التشيع إلى السنين الأخيرة من خلافة عثمان، رضي الله عنه، عندما قامت فتنة عبد الله بن سبأ ضدَّ عثمان بتأليب الناس عليه، وإرساله إلى البلاد والأمصار رسلاً يتهمون عثمان بين الناس بالاتهامات الباطلة. ولذلك فإن السبئيّة ـ أي عبد الله بن سبأ وأتباعه ـ كانوا بداية ظهور التشيع، عندما ادعوا أحقَّيةَ علي بن أبي طالب بالخلافة، وغالوا في تقديسه، حتى قال بعضهم لعلي: "أنت الإله، فأحرقَ عليٌ قوماً منهم". وهم أول مَنْ أظهر القول بإمامة علي، رضي الله عنه، ومنه تشعّبتْ أصنافُ الغلاة، وزعموا أنَّ علياً حيٌّ لم يمت، ففيه الجزء الإلهي، ولا يجوز أن يُستولى عليه، وهو الذي يجيء في السحاب، والرعدُ صوتُه، والبرق تبسُّمُه، وأنه سينزل إلى الأرض بعد ذلك فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئتْ جوراً.
وأهمية السبئية ـ على هذه الصورة ـ تنحصر في أنها مَهّدت السبيل للفرق الشيعية الأخرى لأن تبدأ مما أنتهت إليه عقيدتها أو ـ على الصحيح ـ إتجاهها المتضمّن للغلو في كره الغاصبين ـ حسب رأيهم ـ والحب للعلويين أصحاب الحق الشرعي. وقد أنبتت السبئية نباتاً لم يزل ينمو حتى كاد يصبغ التشيع بصبغة قائمة من الكره والحقد والمرارة جعلته يطرق سبلاً لم يعرفها في سبيل إنفاذ أمره وتنفيذ مشيئته، وصارت السبئية بداية للغلو.
ويمكننا أن نقول: إنّ فكرة التشيُّع بما حملته من أفكار الوصية والرجعة وغير ذلك تعود إلى ما قاله ابن سبأ، وأن هذه البذرة وجدت لها بيئة ملائمة في العراق حيث كان موطناً للعديد من الديانات والأفكار والفلسفات، إضافة إلى وجود الفرس الذين تظاهروا بالإسلام في العراق، فقد  أدت جميع هذه العوامل إلى نشأة الفكرة الشيعي كما نراه الآن.
الـزيـديـة
الزيدية فرقة من فرق الشيعة، أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها، ولم يُجَوِّزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلا أنّهم فضّلوا أن يكون كلُّ فاطمي عالماً شجاعاً سخياً، إماماً واجب الطاعة، سواء كان من أولاد الحسن، أم من أولاد الحسين رضي الله عنهما.
إنّ افتراق الشيعة إلى عدّة طوائف بدأ بعد استشهاد الحسين بن علي، رضي الله عنهما، حيث تَفَرَّقَ فيها أتباعه وأهله، وممّا لا شكّ فيه أنَّ نقاط الاختلاف كانت حول مَنْ يتولّى الخلافة ... فكانت تلك مشكلة قد أدت إلى تشعُّبِ الشيعة فرقاً متعددةً، راحت كل واحدةٍ تحتج بالحجج والبراهين لتدلل صحة ما ذهبت إليه، فَادّعَدتْ بعضها أن الإمامة تأتي عن طريق النصّ لا بالتعيين، فاعتبرت الإمامة تنتقل من الأب إلى الابن في أولاد علي بن أبي طالب، ومن نسل الحسين ابن علي دون أن يتدخل أحد في تعيينهم باعتبار أنهم منصوص عليهم، ويُعرفُ هؤلاء بالإماميّة، أو الإنثى عشرية ... وقالت طائفة أخرى من الشيعة إنّ الإمامة لا تأتي عن طريق النص بل بالانتخاب ... وهؤلاء هم الزيدية".
ويبين البغدادي سبب تسمة هذه الفرقة بالزيدية وانشقاقها عن بقية الشيعة بالقول: وقيل لهذه الفرقة وأتباعها (زيدية) لقولهم بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في وقته وإمامة ابنه يحيى بن زيد بعد زيد، وكان زيد بن علي قد بايعه على إمامته خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة، وخرج بهم علي والي العراق وهو يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام بن عبد الملك على العراقيين، فلما استمر القتال بينه وبين يوسف بن عمر الثقفي قالوا له: إنا ننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر اللذين ظلما جَدَّكَ علي بن أبي طالب، فقال زيد: إني لا أقول فيهما إلا خيراً، وما سمعت أبي يقول فيهما إلا خيراً، وإنما خرجتُ على بني أمية ... ففارقوه عند ذلك حتى قال لهم: (رفضتموني)، ومن يومئذ سُمّوا رافضة ... وثبت معه مقدار مائتي رجل، وقاتلوا جند يوسف حتى قتُلِوا عن آخرهم، وقتل زيد .... وهرب ابنه يحيى بن زيد إلى خراسان فقتل هناك".
"وروافض الكوفة موصوفون بالغدر، وبالبخل، وقد سار المثل بهم فيهما، حتى قيل: أبخلُ من كوفي، وأغدرُ من كوفي، والمشهور من غدرهم ثلاثة أشياء:
أحدها: أنهم بعد قتل علي، رضي الله عنهم، بايعوا ابنه الحسن، فلما توجَّه لقتال معاوية غدروا به في (ساباط المدائن)، فطعنه سنان الجعفي في جنبه فصرعه عن فرسه، وكان ذلك أحد أسباب مصالحته لمعاوية.
والثاني: أنهم كاتبوا الحسين بن علي، ودعوه إلى الكوفة لينصروه على يزيد بن معاوية فاغترَّ بهم، وخرج إليهم، فلما بلغ كربلاء غدروا به، وصاروا مع عبيد الله بن زياد يداً واحدةً عليه، حتى قُتِلَ الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء.
والثالث: غدرهم بزيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب بعد أن خرجوا معه على يوسف بن عمر، ثم نكثوا بيعته وأسلموه عند اشتداد القتال حتى قُتِلَ وكان من أمره ما كان".

أهمُّ آراء ومعقتدات الزيدية
1. الإمامة: تضع الزيديّةُ شروطاً خاصة لمن يكون إماماً للمسلمين، فالإمامة عندهم تأتي عن طريقين: أولهما: التعيين، وثانيهما: الترشيح أو الاختيار، فالتعيينُ يُقصَدُ منه أن تقتصر الإمامة في آل البيت، والترشيح معناه أن يُخَتارَ من آل البيت مِمَّنْ تتوفر فيه شروط الإمامة من أولاد الحسن والحسين على السواء، أي مَنْ دعا منهم إلى طاعة الله من آل محمدٍ، صلى الله عليه وسلم، فهو إمامٌ مفترَضُ الطاعة.
ومذهب الزيدية في الإمامة قائم كذلك على مبدأ هام يُناقض فيه بوضوح عقيدة الشيعة الإمامية وهو جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل، قال زيدٌ: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه أفضل الصحابة، إلا أن الخلافة فُوِّضَتْ إلى بكرٍ لمصلحة رأوها، وقاعدةٍ دينيةٍ راعواها، من تسكين ثائرة الفتنة، وتطييب قلوب العامة ... فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين، والتودة، والتقدم بالسن،والسبق في الإسلام، والقرب من رسول الله، صلّى الله عليه وسلم.
2. التقية: لقد كان لاشتراط الإمام زيد في الإمام المستحق للإمامة: أن يخرج داعياً لنفسه دعوةٌ لهجر مبدأ التقية الذي كان قد التزمه آل البيت بعد مقتل الحسين بن علي.
والمقصود بالتقية عند الشيعة "كتمان الحق، وستر الاعتقاد به، ومكاتمة المخالفين، وترك مظاهرتهم".  ولهذا نرى الزيدية الذين أنكروا النص الجلي القطعي على إمامة الأئمة، وأقاموها على الشورى والنظر والانتخاب قد رفضوا مبدأ التقية، بل لاموا الإثني عشرية عليه،وكان ذلك من أسباب الشقاق والخلاف الأساسية بينهم.
3. وقد كان لصلة التملذة بين زيد وواصل بين عطاء، أثر في ربط الفكر الزيدي في مسائل الاعتقاد بآراء المعتزلة، وإلى وجود اتفاق بين الفريقين في الأصول الخمسة جميعاً. فنجد الزيدية مثلاً يتبنون فكرة المعتزلة في أنَّ مرتكب الكبيرة مُخلَّدٌ في النار.
كما نجد منهج الزيدية يتفق مع منهج المعتزلة القائم على التأويل، فالتوحيد عندهم يعني تنزيه الله تعالى، ويقوم على تأويل الآيات التي تدل على رؤية الله تعالى.

الإمـامـيّـة
سُمِّي الإمامية بهذا الاسم نسبةً إلى الإمام، لأنهم أكثروا من الاهتمام به وركزوا كثيراً في تعالميهم حوله، فكانوا يرون أنَّ علياً يستحق الخلافة بعد النبي، صلّى الله عليه وسلم، لا من طريق الكفاية وحدها، ولا من طريق ما ورد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من أوصافٍ لا تنطبق إلا عليه، بل من طريق النصِّ عليه بالاسم. ثم يرون أن الأئمة هم علي وأبناؤه من فاطمة، على التعيين واحداً بعد واحد، وأن معرفة الإمام وتعيينه أصلٌ من أصول الإيمان، وإذا كان علي مُعَيَّنَاً بالاسم من النبي، صلّى الله عليه وسلم، فأبو بكر وعمر مغتصبان ظالمان يجب التبرؤ منهما.
وسُميت هذه الفرقة كذلك (الإثنا عشرية)، وسبب ذلك لأنهخم ساقوا الإمامة في إثنى عشر إماماً رتَّبُوهم تاريخياً على النحو التالي:
1. علي بن أبي طالب.                 2. الحسن بن علي.            3. الحسين بن علي.
4. علي (زين العابدين) بن الحسين.    5. محمد (الباقر) بن علي.    
6. جعفر (الصادق) بن محمد.          7. موسى (الكاظم) بن جعفر. 
8. علي (الرضا) بن موسى.            9. محمد (الجواد) بن علي.   
10. علي (الهادي) بن محمد.          11. الحسن (العسكري) بن علي.
12. محمد (المهدي) بن الحسن.
ويُطلق على هذه الفرقة كذلك اسم (الجعفرية) نسبة إلى جعفر بن محمد الملقب بـ (الصادق)، وذلك لأنهم يُقَلِّدُون جعفراً في مذهبه الفقهي. ومن الأسماء التي يطلقها أهل السنة على هذه الفرقة (الرافضة)، وذلك لأنهم عندما خرجوا مع زيد بن علي رفضوا إمامته والقتال معه، لأنه لم يتبرأ من أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما وذكرهما بخير.
عقائد الإمامية وآراؤها
1. الإمامة: أهم عقيدة يدور عليها كلام الإمامية موضوعُ (الإمامة)، فهي أصل بحوثهم، وبها تسمّوا وخلاصةُ عقيدة الشيعة في الإمامة "تقوم على النظر إلى الإمام نظرة التقديس، فهو ـ عندهم ـ يتلقَّى علمه من الله عن طريق الوحي، ويعدُّهُ الله إعداداً خاصاً منذُ أن يكون نطفةً، ويحفظه برعايته السامية، ويعصمه من الذنوب، ويورّثه علم الأنبياء والمرسلين، ويُطلعه على كل ما كان وما سيكون، وكان النبي، صلّى الله عليه وسلم، يعلّم علماً للناس، وعلماً آثرَ به علياً،  وعليٌ آثر به وصيته، وهكذا إلى المهدي الثاني عشر. والإمام ظِلُّ الله في أرضه، ونور الله في أرضه، والوسيلة الوحيدة لمعرفة الحق والباطل. والاعتقاد بذلك جزء من الإيمان، كالإيمان بالله ورسوله، لا تنفع أعمال الإنسان إلا به، بل إنّ عصيان المؤمن قد يُخَفِّفُه أو يمحوه الإيمانُ بالإمام ... إنّ الإمام في نظر الشيعة فوق أن يُحكم عليه، وهو فوق الناس في طينته وتصرُّفاته، وهو مُشرَّعٌ، وهو مُنَفِّذٌ، ولا يُسأل عما يفعل، والخير والشر يُقاس به، فما عَمِله هو خير، وما نهى عنه فهو شر...
قد سجّل الكليني في كتابه (أصول الكافي) الذي هو عند الشيعة الإمامية بمنزلة صحيح البخاري عند "أهل السنة والجماعة" نعوتاً وأوصافاً للأئمة الإثنى عشر ترفعهم عن منزلة البشر إلى منازل معبودات اليونان في العصور الوثنية. ولو أردنا أن ننقل ذلك عن أصول الكافي وكتبهم الأخرى المعتبَرَةِ عندهم لملأ ذلك مجلداً ضخماً، لذلك نكتفي بنقل عناوين بعض الأبواب بنصّها عن كتاب الكافي، إضافة لبعض رواياته، أما اسماء وعناوين الأبواب في الكافي والمتعلقة بالإمام فمنهاما يلي:
1. باب أن الحُجَّةَ لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام.
2. باب في أن الأئمة شهداء الله عز وجل على خلقه.
3. باب أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه.
4. باب الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتي.
5. باب أن الآيات التي ذكرها الله في كتابه هم الأئمة.
6. باب عرض الأعمال على النبي، صلى الله عليه وسلم، والأئمة.
7. باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها.
8. باب أنه لم يَجمع القرآنَ كله إلا الأئمة.
9. باب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل.
10. باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم.
11. باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم شيء.
12. باب أن الله لم يعلِّم نبيه علماً إلا أمره أن يعلِّمه أمير المؤمنين، وأنه شريكه في العلم.
هذه بعض عناوين كتاب الكليني، أحد علماء الشيعة المُعْتبَرِين، وهذه الأوصاف التي أسبغوها على الأئمة تدلنا على المكانة التي وصل إليها ... ويروي الكليني عن الإمام الثامن عندهم وهو (الرضا) قوله: "هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم، إنّ الإمامة أجلُ قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم ... إن إلإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء ... الإمام يُحل حلال الله، ويُحرم حرام الله.
والإمام عند الشيعة لا تصل ولايته على البشر فقط، وإنما تنتقل إلى الكون وما فيه، يقول الخميني في بيان خلافة وولاية الإمام الكونية: إنّ للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافةً تكوينيةً تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون. وإنَّ من ضروريات مذهبنا أنَّ لائمتنا مقاماً لا يبلغه مَلَكٌ مقرَّبٌ، ولا نبيٌ مرسَل. وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم والأئمة كانوا قبل هذا العالم أنوراً فجعلهم بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله".
2. المهدي والرجعة أسندت الشيعة الإمامية (المهدويةَ) إلى آخر أئمتهم (محمد بن الحسن العسكري)، الذي يقولون بأنه دخل السرداب بسامراء بعد موت أبيه، وعمره إما سنتان أو ثلاث وإمّا خمس، واختفاؤه بعد ذلك أو غيبته. والغيبة ـ عند الشيعة ـ غيبتان: (صغرى، وكبرى)، فعندما تُوفي الحسن العسكري، وكان عقيماً لا عقب له، أخذ أخوه جعفر جميع تركته على أنه لا ولد له فَوَرِثَ جميعَ ماله، وهذا أمر ثابت في كتب الشيعة الإمامة ... ومن هنا انقطعت سلسلة الإمامة على الإمامية، فلما رأى أتباع الإمامية أنَّ المذهب سيموت بذلك الانقطاع، فَكَّرَ جماعة من أتباع المذهب في حيلةٍ أنقذت الموقف ... فادعوا أنَّ للحسن العسكري ولداً خَبَّأَه في سرداب بيت أبيه خوفاً عليه من الظَّلَمَةِ، وأرادوا بذلك الاحتيال على عوام الشيعة للاستمرار في جباية الأموال وأخذ الزكاة منهم باسم إمام موجود ... وأصبح لصاحب السرداب المُلَقَّبِ (بصاحب الزمان) سفراء بينه وبين الشيعة، فكان الشيعة يحملون الأموال إليهم لإيصالها إلى صاحب الزمان، ويكتبون رسائل يستفتون فيها عن مسائل علمية ودينية أشكلت عليهم، وسفراء صاحب الزمان يدخلونها عليه وبعد أيام يحضر المستفتي فيجد الجواب قد خرج بتوقيع صاحب الزمان وخطِّه على تلك الأسئلة.
وكان عدد السفراء أربعة في الغيبة الصغرى، والتي امتدت حوالي سبعين سنة بعد غيبة الإمام، وابتدأت الغيبة الكبرى بموت آخر السفراء الأربعة، والتي لا تزال إلى وقتنا الحاضر.
ومن الواضح أن عقيدة الرجعة ملازمة لعقيدة المهدي الغائب، وضرورتها ترتبط بالانتقام من الذين خالفوا الأئمة أو ظلموهم ... وعقيدة الرجعة من الأفكار اليهودية المدسوسة بين المسلمين، والتي تولَّى نشرها ابن سبأ اليهودي، عندما زعم في أول الأمر رجوع محمد، صلّى الله عليه وسلم، بعد وفاته، ثمَّ بعد ذلك زعمه أن علياً سيعود بعد موته.
3. التقيَّةُ: من أهم العقائد التي تدين بها الشيعة عقيدة التقية وهي: أن يُظْهِرَ الإنسان خلاف ما يُبطن، وتعدُّ عندهم من الركائز الأساسية عند التعامل مع غيرهم. والتقية عند الشيعة شُرعت لأجل مداراة مخالفيهم وكتمان اعتقادهم، وفي ذلك يقول الشيخ المفيد، وهو من أكابر علمائهم: التقية كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم، بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا ... وقد استخدم الشيعة مبدأ التقية لتفسير أحداث تاريخهم، فذهبوا إلى سكوت عليٍ عن أبي بكر وعمر وعثمان كان تقيةً، وتنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية كان تقية ... وقد اتخذ الشيعة التقية وسيلةً لتحميل الكلام معاني خفية وجعلهم للكلام ظاهراً يفهمه الناس، وباطناً يفهمه الخاصة.
وقد حفلت كتب الشيعة بأحاديث مروية عن أئمتهم يحثون على التقية، ويعدونها تسعة أعشار الدين، ومن هذه المرويات ما روي عن أبي عبد الله: إنَّ تسعةَ أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء .... إنه من كانت له تقية رفعه الله، ومن لم تكن له تقية وضعه الله".
4. موقف الإمامية من القرآن والسنة والصحابة
لقد كان لعقيدة بعض علماء الشيعة الإمامية في الإمامة ومحاولة الدفاع عنها، أثر كبير في دفعهم إلى تبنّي عقائد خطيرةٍ حول القرآن والسنة والصحابة، رضوان الله عليهم، فزعموا تحريف القرآن ونقصه، وأنكروا أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، وطعنوا في الصحابة وجرحوهم، ونسبوا إليهم تعمُّدَ الكذب وتحريف القرآن.
"أما القرآن، فقد زعموا أنه قد حُرِّفَ وأُسقِطَ منه بعض السور وكثير من الآيات التي أُنزلت في فضائل أهل البيت والأمر باتباعهم، والنهي عن مخالفتم وإيجاب محبتهم، وأسماء أعدائهم والطعن فيهم، ولعنهم.
أما موقف الشيعة من الصحابة، رضوان الله عليهم، فكتبهم مملوءة بالطعن والتجريح بهم. وقد وضع الكثير من كُتّاب الشيعة صورةً قاتمةً لحياة الصحابة فيها كثير من التجني والتجريح لشخصياتهم، واستخدموا في ذلك أقبح الأوصاف وأقذع الألفاظ مما يعف اللسان عن ذكره .... وقد كان لنظرة الشيعة ورأيهم في الصحابة أثر كبير في موقفهم من السنة النبوية، إذ أنكر الشيعة كل الأحاديث التي وردت عن طريق هؤلاء الصحابة، بل إنهم شنوا هجوماً عنيفاً على رواة الحديث كأبي هريرة، وسمرة بن جندب، وعروة بن الزبير، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة وغيرهم، واتهموهم بالوضع والتزوير والكذب، ولم يقبل الشيعة، مِن ثمَّ، إلا الأحاديث الواردة عن طريق الأئمة من أهل البيت، أو ممن نسبوهم إلى التشيع كسلمان الفارسي وعمار بن ياسر".
تقويم الفكر الشيعي:
إذا تتبعنا عقائد الشيعة الغلاة وأفكارهم وقَوَّمناها تقويماً شرعياً ينطلق من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، نجد "أنّ الإمام في نظرهم فوق أن يُحكَم عليه، فهو فوق الناس في طينته وتصرفاته، وهو مُشَرِّعٌ، وهو منفذ، ولا يُسألُ عمّا يفعل، والخير والشر يقاس به، فما عمله فهو خير، وما نها عنه فشر، وهو قائد روحي، وله سلطة روحية تفوق حتى سلطة البابا في الكنيسة الكاثوليكية، فالصلاة والصيام والزكاة والحج لا تنفع إلا بالإيمان به ... فعقيدة الشيعة على هذا المنوال تشل العقل، وتُميت الفكر، وتعطي للخليفة أو الإمام سلطة لا حد لها، فيعمل ما يشاء، وليس لأحد  أن يعترضَ عليه، ولا لثائر أن يثور في وجهه ويدعم الظلم، لأن العدل هو ما فعله الإمام".
وقد ظهر أنَّ عقيدة الإمامة عندهم لا تستند إلى شيءٍ من القرآن الكريم، واستدلالاتهم وتأويلاتهم التي انفردوا بها، لم يصح شيء منها بما يمكن أن يكون دليلاً على مذهبهم، ومن ذلك قولهم: أن الاعتقاد بإمامة الأئمة الإثنى عشر ركن من أركان الإيمان، فكيف يصح والقرآن ـ وهو التبيان لكل شيء ـ لا يبين هذا الركن ـ المزعوم ـ بنصوص ظاهرة من آياته البينات؟!
ومما يُذكر في هذا المقام، أن الشيعة في كل ما نسبوه إلى الإئمة أيضاً لا سند له ولا أساس.
أما زعم الشيعة أن الإمام معصوم عن الخطأ: "فيمكن الرد عليهم بأن وظيفة الإمام وواجبة حفظ مصالح الأمة وتطبيق شرع الله فيها عن طريق إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام ودرء المفاسد، وهذا كله لا يحتاج إلى عصمة مَنْ يقوم به ... هذا بالإضافة إلى أن الأئمة الذين نسبوا لهم العصمة قد باشروا كثيراً من الأعمال، فكانت أعمالهم واضحة للناس بعضها صواب وبعضها خطأ، فلم يكن هناك مجال لإدعاء عصمتهم ... ولو كان عليٌّ معصوماً من الخطأ أو عالماً بالغيب، كما قالوا، لما قبل التحكيم. ولو كان الحسين كذلك لما انتهى إلى المصير الذي انتهى إليه. وتاريخ أئمة الشيعة واضح ومليء بالأخطاء والمواقف التي لا يمكن تسويغها، مما يدل على عدم عصمتهم، بل أنهم لو كانوا معصومين لتغير وجه التاريخ.
وعقيدة العصمة بالنسبة للأئمة غريبة على الإسلام، فلم يثر هذا الموضوع في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا في صدر الإسلام، بل ولا وصف العصمة أُسْنِدَ إلى الأنبياء في هذا العصر ... وفي القرآن يقول الله لرسوله، صلى الله عليه وسلم " عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ" وعاتبه بقوله: "عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى"، فمفهوم هذه الآيات واضح، وهذا لا يتفقُ مطلقاً مع ما يدعيه الشيعة لعصمة أئمتهم، فإذا كان هذا ما قصَّهُ الله عن الأنبياء، فكيف يرقى الأئمة منزلة فوق منزلة الأنبياء".
أما فيما يتعلق بعقيدة المهدي الغائب عند الشيعة، "فهي نظرية لا تتفق وسُنَّةَ الله في خلقه، ولا تتفق والعقل الصحيح خاصَّةً وأن هذا الإمام عندهم لا يزال حياً، ويتلقى الأسئلة ويردُّ عليها، إلى غير ذلك من الخرافات التي لا تتفق مع العقل السليم، والفكر القويم. وهذا ينطبق على عقيدة الشيعة في الرّجعة، إذ لا تتوافق مع ما قرره الإسلام بعدم عودة أي إنسان إلى الحياة قبل يوم البعث، إلا في الحالات التي أرادها الله عز وجل لإثبات وإظهار القدرة الإلهية العظيمة.
وعقيدة التقية عند الشيعة "مخالفة للقرآن والسنَّةِ كلَّ المخالفة، حيث أن معناها الكذب المحض والنفاق الخالص، ولم يَردْ آيةٌ في القرآن تبيح الكذب والنفاق، ولا رواية عن رسول الله تُجيزهما ... وقوله تعالى: "لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً". إنما هو الأمر بالإتقاء من الكفار، لا الأمر بالنفاق والكذب، والله تعالى قد أباح لمن أُكْرِهَ على كلمة الكفر أن يتكلم بها إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان".
وموقف الشيعة من الصحابة يناقض ما جاء في القرآن، الذي مدحهم، ووصفهم بأحسن الأوصاف التي تدل على رضى الله عنهم، يقول تعالى: "وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ"، ويقول عز وجل " لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ" ويقول سبحانه وتعالى: "لَقَدْ تَابَ اللّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ" فهل بعدَ هذا الرضى الرباني مَنْ يزعم أي قدح أو تجريح في صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟!

الـمُـعْـتَـزِلَـةُ
سبب تسمية هذه الفرقة بـ (المعتزِلة)، كما يقول الشهرستاني "أَنَّه دخلَ واحدٌ على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين لقد ظهر في زماننا جماعة يكفرون أصحابَ الكبائر ... وجماعة يرجئون أصحابَ الكبائرُ، والكبائر عندهم لا تضر مع الإيمان ... فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟
ففكَّرَ الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنَّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين: لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى إسطوانة من إسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعةٍ من أصحاب الحسن، فقال الحسن: أعتزل عنا واصلٌ. فُسمي هو وأصحابه (معتزلة).
وقد لقبت المعتزلة نفسها بلقب آخر، فقالوا نحن أهل العدل والتوحيد. ورأس المعتزلة هو (واصل بن عطاء)، الذي اعتزل مجلس الحسن البصري بعد اختلافه معه في حكم مرتكب الكبيرة وكان عمرو بن عبيد بعده في ظهور المعتزلة بين الناس.
آراء المعتزلة وأفكارها (الأصول الخمسة)
كان منهج المعتزلة في الاستدلال على العقائد متميزاً عن غيرهم من الفرق، فكانوا يعتمدون ـ في الاستدلال لإثبات العقائد ـ على القضايا العقلية، وكانت ثقتهم بالعقل لا يحدُّها إلا احترامهم لأوامر الشرع. فكل مسألة من مسائلهم يعرضونها على العقل، فما قبله أقروه، وما لم يقبله رفضوه.
وللمعتزلة مبادئ يكاد الجميع يشترك فيها، فرجال المعتزلة تجمعهم أصولٌ خمسةٌ، فلا يُعَدُّ معتزلياً مَن لا يؤمن بها كلّها، يقول أبو الحسن الخياط وهو أحمد علمائهم: وليس يستحق أحدٌ منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
الأصل الأول: التوحيد وهو عند المعتزلة لبُّ المذهب وأساسه، ويقوم فهمهم لهذا الأصل على عدة أمور هي:
أ. التنزيه: ويعنون بالتوحيد التنزيه المُطْلَقَ لله عن صفات المخلوقين، وقد جاء قولهم في التوحيد معارضاً للتصور اليهودي لله من جهة، ولآراء المجسمة والمشبهة والحشوية من جهة أخرى.
ب. صفات الله عينُ ذاته: قالت المعتزلة: إنَّ مع جهلنا بحقيقة الذات الإلهية فإنه يمكن أن نصفها بصفاتٍ دون أن يفيد ذلك التشبيه.
ج. تأويل الصفات الخبرية: صعوبة أخرى واجهها المعتزلة بعد أن ذهبوا في التنزيه إلى حدِّ نفي أدنى مماثلةٍ بين الله والإنسان، ألا وهي الآيات التي تُوهِمُ التشبيهَ، وقد تأَوّلَها المعتزلة على نحوٍ مُتَّسِقٍ مع تنزيههم المطلَقِ لله.  حيث تَأَّولُ المعتزلة الآيات التي يفيد ظاهرها أن لله يداً أو وجهاً أو عيناً، فاليد، عندهم، تفيد النعمة، أو التاييد والنصرة، ووجه الله هو الله، والعين تعني الرعاية ... كذلك أنكر المعتزلة كل معنى يفيد لفظ الاستواء، فالاستواء، عندهم، يعني الاستيلاء أو التمكن".
د. نفي رؤية الله يوم القيامة: أنكر المعتزلة إمكان رؤية الله بالأبصار لاقتضائها الجسمية والجهة.
هـ. كلام الله، وأنّ القرآن مخلوق: "الكلام لدى المعتزلة ـ شأنه في ذلك السمع والبصر ـ ليس صفةً من صفات الذات، فكلامُ الله ـ بما في ذلك القرآن ـ ليس أزلياً.
الأصل الثاني: العدل: إذ قيل إنه تعالى (عَدْلٌ) فالمراد به ـ عند المعتزلة ـ أنَّ أفعاله كلها حسنة، وأنه لا يفعل القبيح، ولا يُخِلُّ بما هو واجب عليه.
وقد اختار المعتزلة من بين جميع صفات الفعل الإلهي صفة العدل ليجعلوها الأصل الثاني، لأنّ العدل هو رأس الفضائل التي تحكم الأفعال المتعدّية إلى الغير، لاسيما في علاقة ربٍّ بمربوبين ... وتكاد تندرج معظم نظريات المعتزلة التي تفسر صلة الله بالإنسان تحت أصل العدل، بل إن الأصول الثلاثة الباقية متفرعة عن العدل داخلة تحته. وهذا يوجب على المعتزلة أن تُلَقَّبَ بالفرقة العدلية. ويتضمن هذا الأصل (العدل) عند المعتزلة عدة نظريات هي:
أ. نفي صدور القبح عن الله.
ب. اللطف الإلهي: والمقصود باللطف كل ما يوصل الإنسان إلى الطاعة ويبعده عن المعصية.
وقال المعتزلة: وإنه سبحانه ما دام قد كَلَّفَ الإنسان فإنَّ عليه أن يُمَكِّنَهُ مما كَلَّفهُ، ويُزيلَ الموانع والعلل التي تعترضه، وييسر له الأسباب التي تجعله أقرب إلى فعل ما كلف به من الطاعات، واللطف من هذا النوع الذي يجعل المكلف أقرب إلى القيام بالواجب ... ويمكن اعتبار النبوة ـ عند المعتزلة ـ من أنواع اللطف، لأنها تُيَسِّرُ للإنسان أن يكون أقرب إلى فعل الواجب وأبعد عن ارتكاب القبيح.
ج. حرية إرادة الإنسان والقول بخلق الأفعال، فالمعتزلة يعتقدون أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم، وأنها من عملهم هم لا من عمل الله، وباختيارهم المحض، ففي قدرتهم أن يفعلوها وأن يتركوها من غير دخل لإرادة الله وقدرته.
الأصل الثالث: الوعد والوعيد: ومعناه عند المعتزلة: "أنَّ الله تعالى وعدَ المطيعين بالثواب، وتوعَّد العُصاةَ بالعقاب، وأنه يفعل ما وعد به وتوعَّدَ به لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب". "وأصل الوعد والوعيد متفرعٌ عن أصل العدل، إذ تقتضي العدالة الإلهية أن تُثيِبَ الأخيار وأن تُعاقِبَ الأشرار".
الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين: وهذا الأصل يُعَدُّ من وجهة نظر الباحثين نقطة البدء التاريخية في نشأة المعتزلة، وهو الخلاف الذي حصل بين واصل وأستاذه الحسن البصري حول مرتكب الكبيرة، عندما قال واصل: إنه ليس مؤمناً ولا كافراً ولكنه في منزلة بين المنزلتين. ففاعل الكبيرة، كما قال واصل، يُشبهُ المؤمن في عقيدته ولا يشبهه في عمله، ويشبه الكافر في عمله ولا يشببه في كفره، فهو في منزلة بين المنزلتين.
الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والمقصود بالأمر بالمعروف: إيقاع المعروف، وبالنهي عن المنكر: زوال المنكر، فإذا وقع الغَرَضُ بالأمر السهل، لم يَجُزْ العدولُ عنه إلى الأمر الصعب، وهذا مِمّا يُعلم عقلاً وشرعاً.
وهذا هو الأصل العملي الوحيد، إذا الأصول الأخرى تتعلق بالنظر والاعتقاد، وقد مارست المعتزلُة هذا الأصل عملياً، فقد عُرِفَتْ سيرةُ رجالهم بجهاد الزنادقة، فضلاً عن وقوفهم أمام معترضي أفكارهم وأصولهم.
الـمـرجـئـة
الإرجاء في اللغة على معنيين: هما التأخير وإعطاء الرجاء. أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح، لأنهم كانوا يؤخِّرون العمل عن الإيمان. وأما المعنى الثاني فظاهر، لأنّهم كانوا يقولون: لا تضرُّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. فالمرجئة إذن: "هم الذين جعلوا الإيمان مُجَرَّدَ الاعتقاد القلبي، وقالوا: كما لا تنفع مع الكفر طاعةٌ، كذلك لا تضرُّ مع الإيمان معصيةٌ، لذا قرروا أن مرتكب الكبيرة مؤمن، وامتنعوا عن تعيين القصاص الذي يستحقه على كبيرته، وقالوا: نُرجئ، (أي: نؤجل) حكمه إلى الله، ويوم القيامة إن شاء عَذَّبه، وإن شاء غفر له.
ومن الواضح فيما سبق أن معنى الإرجاء صار يعني: أن الإيمان إقرار وتصديق واعتقاد، ولا يضره ارتكاب معصية، أو أيّ عملٍ من أعمال الكفار.

نشأة المرجئة وتطوُّرها
يرى بعض المؤرخين أنَّ بداية تسمية المرجئة كان بإطلاقها على طائفةٍ امتنعت عن الخوض في الفتن التي حدثت في عهد عثمان وانتهت بقتله. ثمَّ لما امتدت أعقابها إلى عهد علي، رضي الله عنه، استمروا على امتناعهم، ولم يعنوا بإبداء رأيهم في الحروب التي وقعت.
ولما اشتدت الاختلافات بين المسلمين، ولم تقفْ عند الحكم في قضية الخلافات، وانضمت إليها مسألة مُرْتَكِبِ الذَّنْب وُجِدَتْ طائفةٌ تنهج منهج الإرجاء الذي نهجه بعضُ الصحابة في هذه المسألة فقرروا أن مرتكب الكبيرة يُرجأ أمره، ويُفَوَّضُ الحكم فيه إلى علاّم الغيوب، فامتنعوا عن الخوض في الخلاف السياسي وامتنعوا عن الخوض في أمر مرتكب الذنب لأنه انبعث أيضاً من الخلاف السياسي.
ثم ظهرت من بعد ذلك فرقة تحمل ذلك الاسم، ولم تكن كأولئك المُتَحَفِّظِين المحتاطين، بل تركت ذلك إلى الكلام في مرتكب الكبيرة، فلم يرجئوا الحكم، بل حكموا باطلاً، فقالوا إنّ الإيمان إقرار وتصديق، ولا يضر مع الإيمان معصية، فالإيمان مُنفصلُ عن العمل، والله تعالى يقول: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ". بل غالى بعضهم وتطرَّفَ، فزعم أن الإيمان اعتقاد بالقلب، وإن أعلن المسلمُ الكفرَ بلسانه، بل وإن عبد الأوثان ... وبهذا تحول اسم المرجئة من طائفة متحفظةٍ إلى طائفة متحللّةٍ من القيود، وأساس مذهبها بعد الانحراف أن الله يعفو عن كل الذنوب ما عدا الكفر، فلا يضرُّ مع الإيمان معصيةٌ، كما لا يضرُّ مع الكفر طاعةٌ.
ومن أشهر مفكري المرجئة: (غيلان بن مروان الدمشقي)، فقد كان يرى "أن الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله تعالى ورسله وإن مرتبة كلَّ الأعمال بعد مرتبة الإيمان.
لقد كان لغيلان آراء كثيرة، منها قوله بالقدر، ولهذا يدعوه المؤرخون (غيلان القدري)، وكان يقول "بالاختيار أي أنَّ العبد قادر على أفعال نفسه، فهو الذي يأتي الخير بإرادته وقدرته، ويترك الشر أو يفعله باختياره أيضاً، وليس للقدر سلطان عليه.
أشهر أفكار وآراء المرجئة
أساس فكر المرجئة هو تحديد معنى (الإيمان)، وما يتبع ذلك من أبحاث، ولعل هذه المسألة هي محور معتقدات المرجئة. "فالمرجئة يرون أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، أو بعبارة أخرى هو معرفة الله بقلبه، ولا عبرة بالمظهر، فإن آمن بقلبه، فهو مؤمن مسلم، وأن لم ينطق لسانه بالشهادتين، وليس الإقرار باللسان ولا الأعمال من صلاة وصوم ونحوما جزءاً من الإيمان.
وحُجَّتُهُم أن القرآن نزل بلغة العرب، والإيمان في اللغة هو التصديق فقط، وأما العمل بالجوارح فلا يُسمّى في اللغة تصديقاً، فليس إيماناً، وقد جاء في القرآن حكاية عن إخوة يوسف: " وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا" (يوسف / 17) أي بمصدقٍ ما حدثناك به.
وقد تفرَّعَ عن مسألة تحديد معنى الإيمان عند المرجئة مسألة: هل الإيمان يزيد وينقص؟ أو لا يزيد ولا ينقص؟ فلما قال المرجئة بأن الإيمان هو التصديق بالقلب، أو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأن التصديق غير قابل للتشكيك، والإقرار باللسان إما أن يكون أو لا يكون، فلا محل للزيادة ولا النقصان.
الإسماعيلية
الإسماعيلية، فرقة من فرق الشيعة، أخذت أصولها المذهبية عن الأصول الشيعية التي وجدت قبل ظهورها. وقد انقسمت الشيعة بعد وفاة جعفر الصادق إلى فرقتين، فرقة نادت بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق، وسلسلوا الإمامة في الأكبر سناً مِن عقبه، ولذلك لقبوا بالإمامية الإثنى عشرية، أما الفرقة الثانية التي تفرعت عن الشيعة فهي فرقة الإسماعيلية، الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن جعفر، والذي تُنسب إليه هذه الفرقة.
ويقول مؤرخو الإسماعيلية إن سبب انشقاق أتباع جعفر إلى هاتين الفرقتين، أن جعفر نصَّ على أن يتولى إسماعيل الإمامة من بعده، ولكن إسماعيل توفي في حياة أبيه، وبذلك انتقلت الإمامة إلى ابنه محمد بن إسماعيل بن جعفر، لأن الإمامة لا تكون إلا في الأعقاب، ولا تنتقل من أخٍ إلى أخيه إلا في حالة الحسن والحسين إبنَيْ عليٍّ بن أبي طالب فقط. أما الأئمة بعد الحسن والحسين فلا بد أن تنتقل من أب إلى إبنٍ، وأوّلوا الآية الكريمة " وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ" (الزخرف / 28)، بأن معنى الكلمة هي الإمامة، ومن ناحيةٍ أخرى فقد كان محمد بن إسماعيل أكبر سناً من عمه موسى الكاظم، فبناءً على التقليد الشيعي الذي يوجب تسلسل الإمامة في أكبر أهل البيت سنّاً، كان محمد بن إسماعيل إذن أحق من عمه موسى الكاظم بالإمامة".
غير أنَّ هناك روايات كثيرة تفيد أن جعفر لم يكن راضياً عن تصرفات ابنه إسماعيل، وتذهب إلى أن إسماعيل بن جعفر لم يكن بالرجل الذي يصلح للإمامة، فقد كان مدمناً على شرب الخمر ولوعاً بالنساء، وأنه كان من أصدقاء (أبي الخطاب الأسدي) الفاسق الملحد الذي أدعى ألوهية جعفر الصادق وأنه (أي أبا الخطاب) كان رسوله، مما جعل جعفر يتبرأ منه ولا يرضى عن الصلة التي كانت بينه وبين إسماعيل".
وللإسماعيلية ألقاب وأسماء كثيرة غير اسم الإسماعيلية، ومن ألقابهم (الباطنية)، فالكثير من المؤرخين عندما يذكرون هذا الاسم يقرنونه (بالإسماعيلية)، وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويلاً.  "والتأويل حسب المفهوم الإسماعيلي يختلف تمام الاختلاف عن التفسير، فالتأويل يقصد به باطن المعنى أو رموزه وإشاراته". ومن ألقابهم وأسمائهم أيضاً: القرامطة، والفاطمية، والحشاشون، والأغاخانية، والبهرة، وإخوان الصفا.
عقائد الإسماعيلية وآراؤها
1. الألوهية: تذهب الإسماعيلية في عقائدها إلى النفي المطلق للصفات عن الله (الذي يسمّونه المُبدِعُ الأول) لأنه تعالى فوق متناول العقلِ والعقلُ عاجزٌ عن إدراك كنهه ... والإسماعيلية بعد أن تجرّد الله عزَّ وجلَّ من جميع أسمائه وصفاته، تحوّلها إلى أول مبدَعٍ أبدعه وهو ـ كما يزعمون ـ العقل الأول، فالواحد ـ كما يزعمون ـ أبْدَعَ من نوره أول مُبْدَعٍ وهو (السابق)، فهو إذن العقل الأول والحجاب المفضل، ثم ظهر عنه (التالي) من نوره، ثم ظهرت جميع الموجودات منهما وبها، فالفيض الأول (أي العقل الأول أو السابق) هو أصل الإيجاد، وهو المبدأ وإليه المعاد".
والإسماعيلية تقول: "إنَّ العقل الأول أو المبدع الأول هو الذي رمز إليه تعالى بـ (القَلَم) في الآية الكريمة " ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ"، وعلى هذا فالقلم هو الخالق المصوِّرُ، وهو الذي أبدع النفس الكلية التي رمز إليها القرآن بـ (اللوح المحفوظ)، ووُصِفَتْ بجميع الصفات التي للعقل الكلي، إلا أنّ العقل كان أسبق إلى توحيد الله وأفضل فسمي بـ (السابق) وسُمِّيت النفس بـ (التالي)، وبواسطة العقل والنفس وجدت جميع المبدعات والمخلوقات، من جماد وحيوان ونبات وإنسان، وما في السموات من نجوم وكواكب.
فالخالق عند الإسماعيلية إذن هو العقل الكلي والنفسُ الكلية، وبمعنى آخر إنّ ما يقوله المسلمون عن الله سبحانه وتعالى خلعه الإسماعيلية على العقل الكلي فهو الإله عند الإسماعيلية، وإذا ذُكِرَ الله عند الإسماعيلية فالمقصود هو العقل الكلي.
وهذه الصفات التي أسبغوها على العقل الأول أو السابق وعلى التالي كذلك لم تعلنها الإسماعيلية عبثاً بل جاؤوا بها لإسباغ صفة خاصة على الإمام، ذلك أنهم ذهبوا إلى أن العقل الكلي في العالم العلوي يقابله الإمام في العالم الجسماني. ومعنى هذا عندهم أن كل الأسماء والصفات التي خلعت على العقل الكلي هي أيضاً صفات وأسماء للإمام، لأن الإمام مثل للعقل الكلي، فأسماء الله الحسنى التي قالوا إنها أسماء العقل الكلي هي أسماء للإمام، فالإمام إذن هو الواحد، والأحد، والفرد، والصمد، والمنتقم والجبار.
ومن اعتقاداتهم أيضاً في النفس الكلية أو (التالي) زعمهم بأنبثاق سبعة عقول قائمة بالفعل عنه ... وعلى أساس معتقدهم هذا فهم يزعمون أنّ هذا العالَمَ له دوراتٌ مُتعاقِبةٌ تقوم على مبدأ الرقم (سبعة)، وكلُّ دورٍ له أسس أو أوصياء أو أئمة سبعة، فإذا انتهى أو تمَّ دورُ العقل السابع والأخير، أتى من بعده دور جديد متمثل بناطقٍ جديدٍ أو (نبيٍ) يدعو إلى شريعةٍ جديدةٍ ينسخ بها شريعة النبي الذي كان قبله، ولهذا فهم يزعمون أن (محمد بن إسماعيل) مؤسس فرقتهم هو الناطق أو النبي الجديد الذي افتتح دوراً جديداً في دورات العالم هو (دور القيامة)، بعد أن انتهى الدور السابق، والذي بدأ به (محمد صلّى الله عليه وسلم) وأساسه أو وصيُّهُ (علي بن أبي طالب)، وتم بـ (إسماعيل بن جعفر) فهو ناسخٌ لشريعةِ محمدٍ وفاتحٌ لعهدٍ جديدٍ.
2. النبوَّات: الوحي عند الإسماعيلية بعيدٌ كل البعد عن الحقائق والأخبار التي وردتنا عن رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، لأنه قائم على اعتقادهم بأن العقل وليس الله هو مدبر هذا الكون، وهو مرسل الوحي إلى الأنبياء، وعلى هذا فهم يزعمون أن الوحي هو: "ما قبلته نفس الرسول من العقل، ، وقلبه من أمر باريه". والنبيُّ عندهم شخص فاضت عليه من السابق ـ بواسطة التالي ـ  قوة قدسية صافية.
وينبغي على النبي قبل أن يصل إلى مرتبة النبوة أن يمرَّ بمرتبة الولي أو (الولاية)، لأنه يجمع في نفسه الصفات الثلاث: الولاية والنبوة والرسالة".
واستناداً إلى ذلك، "فالوحي والقرآن مُستمَدٌّ من سلسلة الحدود العلوية التي أولها السابق (العقل الأول). لذلك فالقرآن ليس كلام الله، لكنه في نفس الوقت ليس كلامَ رجلٍ يطلقه كما يشاء، وهكذا فالقرآن والنبوة عموماً، ليسا سوى جزءٍ أو مرحلةٍ من استمرار السابق والتالي لتدبير العالم بشطريه المادي والروحي ...
3. اليوم الآخر: تؤمن الإسماعيلية بتناسخ الأرواح، وتُنكر البعث والحساب والجنة والنار، والمقصود بتناسخ الأرواح، أنَّ الروح بعد موت جسدها تنتقل إلى جسد آخر، وهذا الجسد يكون حسب ما كانت عليه في حياتها السابقة، فإما أن تحل الروح في جسدٍ إنسانيٍ، وإما في جسدٍ حيوانيٍ، أو حتى في جمادٍ أو نباتٍ.
ونظرية الدور عندهم والتي تقوم على أن الوجود يقوم على العدد سبعة، تدل على إيمان الإسماعيلية بالتناسخ، فهذ النظرية جعلت الأنبياء شخصاً واحداً وكذلك الأئمة يظهرون في كل دور بنفس ظهورهم في الدور الذي سبقه، أي بمعنى آخر تفني أجسامهم وتبقى أرواحهم تتعاقب على أجسامٍ أُخرى. وقد أَوَّلَتْ الإسماعيلية القيامة وكل ما يقع فيها من أحداث وحقائق، فقالوا: القيامة هي قيام النفوس الجزئية المفارقة للمدركات الحسية، والآلات الجسدانية، وقيام الشرائع والأديان، بظهور صاحب الزمان. وجنة النعيم هي عالم العلم، ودرجاتها هي مراتب العلوم ... وعلى هذا فإن نعيم الجنة ولذاتها عند الإسماعيليين، إنما هي لذات معنوية، وليست حسية، وتبعاً لذلك فإنهم ينكرون الجنة والنار، ولا يؤمنون بهما.
4. التَقِية: هي إحدى عقائد الشيعة الرئيسة على اختلاف طوائفها، فالشيعي لا يستطيع أن يخفي مذهبه ويكتم عقيدته فحسب، بل يجب عليه أن يفعل ذلك وأن يبالغ في الإخفاء والكتمان ... فأصبحت هذه العقيدة صفتهم المميزة وسمةً مألوفةً في سيرهم. وقد آمنت الشيعة بهذه العقيدة، حتى تستطيع أن تحرك قواها عبر الدعاية الخفية المستترة، فكثرت أسرارها العقائدية التي لا يجوز البوح بها للآخرين، فاستعان بها دعاة التشيع وجعلوها مبدأ من مبادئهم الأساسية مستهدفين من وراء ذلك عدم إفشاء أسرارهم ليوهموا الناس أنها مُقَدَّسَةٌ.
5. التأويل الباطني: التأويل، حسب الإسماعيلية، يعني: تفسير الكتب المقدسة تفسيراً مجازياً أو رمزياً يكشف عن معانيها، فالشريعة، عندهم، مُشتملةٌ على ظاهر وباطن ... فكان لابد من إخراج النص من دلالته الظاهرية إلى دلالته الباطنية بطريق التأويل، فالظاهر هو الصور والأمثال المضروبة للمعاني، والباطن هو المعاني الخفيّة التي لا تتجلى إلا بالدليل والبرهان.
والتأويل هو أحد الوسائل الرئيسية التي اتخذتها الحركات الباطنية لجعل عقائدها شرعيّةً وصحيحةً، فكان بالنسبة إليهم أداةً صالحةً لإيهام الناس أنَّ آراءها متفقةٌ مع نصوص القرآن الكريم. حتى صارت تلك الحركات ترى في هذا التحوير للمعنى الظاهري السبيل الوحيد لتفهم القرآن، وبذلك أهملوا التفسير الصحيح، بل صارت أحكام القرآن في رأي أتباعها غيرَ واجبةِ الإتبّاع، وهم في تأويلهم للقرآن يعتقدون بأن هناك وراء المعنى الحرفي للآيات حقائق فلسفية تُستخلص بالتفسير المجازي، ولكي يُضْفوا على هذا التفسير الباطني مسحةً شرعيةً زعموا بأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضى لوصيّه (علي) بالمعنى الباطني لآيات القرآن، وأن هذا المعنى لا يُلَقَّنُ إلا عن طريق التعليم من الإمام أو من معلم يُنيبه ....
لقد كثرت الفرق التي انبثقت من الإسماعيلية، وبناء على ذلك كثرت الأسماء والألقاب التي عرفت بها عبر تاريخها، ومن أهم اسمائهم وفرقهم ما يلي:
1. القرامطة: فرع من فروع الإسماعيلية، ينتسبون إلى (حمدان الأشعث)، وق لُقِّبَ بقرمط، لِقِصَرٍ كان فيه، إذ كان قصير القامة ورجلاه قصيرتان بشكلٍ يلفت الانتباه، فكان خطوُهُ قصيراً".
2. الفاطميون: ومن الألقاب التي عُرِفَ بها الإسماعيليون (الفاطميون)، وهو لقب عرفوا فيه بالمغرب العربي، بعد إقامة دولة إسماعيلية هناك عُرفت (بالدولة الفاطمية) نسبة إلى فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، بعدما استطاع أحد دعاتهم أن يوجج ثورة هناك عن طريق البرابرة، أدت إلى قيام تلك الدولة ومجيء (عبيد الله المهدي) من السلمية إلى المغرب لقيادتها، وكان ذلك سنة 297هـ. "وقد حاول عبيد الله وبمساعدة دعاته أن يحل في قلوب الناس أسمى مكانةً، فأخذوا يذيعون بين الناس عنه كثيراً من الصفات التي تحوطه بهالة من التقديس، حتى أن بعضهم كان يقول للناس: هو المهدي ابن رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وحجَّةُ الله على خلقه، وبعضهم يقول: هو رسول الله وحجة الله، بل هو (الله الخالق الرازق) ... وقد انتهز اصحاب القلوب المريضة تلك الفرصة، فمدحوه مدحاً وصل إلى حد الكفر والشرك ...
3. إخوان الصفا: هي جماعة شيعية إسماعيلية باطنية، عُرفت في منتصف القرن الرابع الهجري في بغداد، والسنوات أياماً سيئةً على العالم الإسلامي، فقد بلغت فيها الخلافة العباسية من الضعف حَدّاً جعل الأمور تفلت من يدها، فاستقل كل أمير بمقاطعته، مما شجع آل بويه الشيعة على دخول بغداد والاستيلاء على مقر الخلافة العباسية، وكان هذا نذير شرٍ على العالم الإسلامي، حيث تجرأ على الخلافة العباسية كل ناعق وكل زنديق، ويظهر أن إخوان الصفا كانوا من هؤلاء الذين تشجعوا بمجيء آل بويه الشيعة، فاظهروا من أمرهم ما كان خافياً، وتجرأوا على إظهار رسائلهم.
ومما يُذكرُ أن رسائل إخوان الصفاء تتكون من اثنتين وخمسين رسالة، قسموها إلى أربعة أقسام، وعلى أية حال، فإنه مما لا جدال فيه أن رسائل إخوان الصفا ليست من تأليف شخص واحد. بل من تأليف جماعة متعددة، تتباين معارفهم وأساليبهم، وهذا واضح جداً في رسائلهم، وربما كان فيهم بعض أئمة الإسماعيلية المستورين، أو أن هؤلاء الأئمة أوعزوا لدعاتهم بكتابة هذه الرسائل لتكون لسان دعاية لمذهبهم. "والإسماعيلية في القرنين الماضيين اتخذت رسائل إخوان الصفاء، رسائلَ مقدّسةً تصل في قدسيتها إلى مرتبة القرآن الكريم. فكأن الرسائل عند الإسماعيلية أصبحت متساويةً مع القرآن الكريم، بل هي أكثر من ذلك لأنها من كلام الأئمة. والباعث الذي جعل إخوان الصفا يكتبون من أجله رسائلهم هو: أن الشريعة قد دُنِّسَتْ بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، وذلك لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال؟!.
الـقـاديـانـيـة
القاديانية حركة نشأت سنة 1900م بتتخطيط من الاستعمار الإنجليزي في القارة الهندية بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد بشكلٍ خاصٍ حتى لا يواجهوا المستعمر باسم الإسلام. وقد كان مرزا غلام أحمد القادياني (1839 – 1908م) أداة التنفيذ الأساسية لإيجاد القاديانية. وكان ينتمي إلى أسرةٍ اشتهرت بخيانة الدين والوطن. وهو معروف عند أتباعه باختلال المزاج وكثرة الأمراض وإدمان المخدرات. وله أكثر من خمسين كتاباً ونشرة ومقالاً. ومن أهم كتبه: "إزالة الأوهام"، "إعجاز أحمدي"، "براهين أحمدية"، "أنوار الإسلام"، "إعجاز المسيح"، "التبليغ"، "تجليات إلهية" وقد جاء بعده نور الدين: الخليفة الأول للقاديانية. ووضع الإنجليز تاج الخلافة على رأسه فتبعه المريدون. وكان من أبرز مؤلفاته: فصل الخطاب.
أبرز الأفكار والمعتقدات القاديانيّة
1. يعتقدون أنّ الغلام هو المسيح الموعود.
2. يعتقدون أن الله يصوم ويصلي وينام ويصحو ويكتب ويوقع ويخطئ ويجامع تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
3. تعتقد القاديانية بأن النبوة لم تُختَمْ بمحمدٍ، صلّى الله عليه وسلم، بل هي جارية، والله يرسل الرسل حسب الضرورة، وأنَّ غلام أحمد هو أفضل الأنبياء جميعاً.
4. يعتقدون بأن جبريل عليه السلام ينزل على غلام أحمد وأنه يوحي إليه وأنّ إلهاماته كالقرآن.
5. يقولون: لا قرآن إلاّ الذي قَدَّمه المسيح الموعود (الغلام)، ولا حديث إلا ما يكون في ضوء تعليماته، ولا نبي إلا تحت سيادة غلام أحمد.
6. يعتقدون بأن كتابهم مُنزلٌ واسمه "الكتاب المبين" وهو غير القرآن الكريم.
7. يعتقدون بأنهم أصحاب دين جديد مستقل وشريعة مستقلة وأن رفاق الغلام كالصحابة.
8. يعتقدون بأن "قاديان" كالمدينة المنورة ومكة المكرمة بل وأفضل منهما وأرضها حَرَمٌ وهي قِبلتهم وإليها حَجُّهم.
9. كل مسلمٍ عندهم كافر حتى يدخل القاديانية كما أن من زَوَّجَ أو تزوَّجَ من غير القاديانيين فهو كافر.
يعيش معظم القاديانيين في الهند وباكستان وقليل منهم في إسرائيل والعالم العربي ويسعون بمساعدة الاستعمار للحصول على المراكز الحساسة في كل بلد يستقرون فيه.
الـبـابـيـة والـبـهـائـيـة
البابية والبهائية حركة نشأت سنة 1844م تحت رعاية الاستعمار الروسي واليهودية العالمية والاستعمار الإنجليزي بهدف إفساد العقيدة الإسلامية وتفكيك وحدة المسلمين وصرفهم عن قضاياهم الأساسية. وقد أسسها الميرزا علي محمد رضا الشيرازي (1235 – 1265هـ) وأعلن أنه الباب سنة 1260 هـ. ولمّا مات قام بالأمر من بعده الميرزا حسين علي الملقب بالبهاء وسمى الحركة بالبهائية وله كتاب سماه "الأقدس" وقد توفي البهاء سنة 1892م.
وأما أهم شخصيات هذه الحركة بعد المؤسس وخليفته:
1. قرة العين: وهي امرأة منحرفة السلوك فَرّتْ من زوجها وراحت تبحث عن المتعة. أعلنت عن نسخة الشريعة الإسلامية في مؤتمر بدشت سنة 1269هـ، وقد أعدمها الشاه في نفس العام.
2. يحي علي أخو البهاء: وهو المُلقَّبُ بالأزل، نازع أخاه في خلافة الباب ثم انشق عنه، له كتاب سماه "الألواح". غدر به أخوه وقتله هو وأتباعه.
أبرز الأفكار والمعتقدات البهائيّة
1. يعتقد البهائيون أنَّ البابَ هو الذي خلق كلَّ شيءٍ بكلمته وهو المبدأ الذي ظهرت عنه جميع الأشياء.
2. يقولون بالحلول والاتحاد
3. يقولون بالتناسخ وخلود الكائنات وأنَّ الثواب والعقاب إنما يكونان للأرواح فقط على وجهٍ يُشبه الخيال.
4. يُقَدِّسُون العدد "19" ويجعلون عدد الشهور "19" وعدد أيام الشهر "19" يوماً.
5. يقولون بنبّوة بوذا وكنفوشيوس وبراهما وزرادشت وأمثالهم من حكماء الهند والصين والفرس.
6. يوافقون اليهود والنصارى في القول بصلب المسيح.
7. يؤولون القرآن تأويلاتٍ باطنيةً ليتوافق مع مذهبهم.
8. ينكرون معجزات الأنبياء وحقيقة الملائكة والجنّ. كما ينكرون الجنة والنار.
9. يُحَرِّمون الحجاب على المرأة ويحللون المتعة.
10. يقولون بأن دين الباب ناسخ لشريعة محمدٍ، صلّى الله عليه وسلم.
11. يؤولون القيامة بظهور البهاء. أما قبلتهم فهي البيت الذي وُلِدَ فيه البابُ بشيراز.
12. ينكرون أن يكون محمد، صلّى الله عليه وسلّم، خاتم النبيين مُدّعين استمرار الوحي. وقد وضعوا كتباً مُعارِضَةً للقرآن الكريم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق