آخر أركان رد الشبهات+شهادات النصارى للاسلام



الشُّبهةُ الخامسة والعشرون ودَفْعُها
يزعمُ محمدٌ أنّ الله يصلّي عليه!! وكيف لعقلٍ أن يَتَخَيَّلَ قيامَ الربّ بأداء الصَّلاة على واحدٍ من الذين خلقهم؟؟
- إنّ ممّا توهّمتهُ عقولُ الرهبان الطّاعنين أنّ الله تعالى يُصلّي على محمدٍ r بهيئة الصّلاة المعروفة الظّاهرة في صلوات المسلمين!!.
وفي هذا التوهُّم دلالةٌ واضحةٌ على ضحالة فهمهم للإسلام وسوء تصوّرهم له. وتوضيحُ صلاة الله تعالى على حبيبه المصطفى هو التالي:
وردت صلاة الله تعالى على رسولنا الكريم r في قوله تعالى: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً"([1]). وينقل لنا الإمام البخاري، رحمه الله تعالى، في صحيحه تفسير ذلك، فيقول: "قال أبو العالية: صلاةُ الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدُّعاءُ. قال ابن عبّاس: يُصلُّونَ: يُبَرِّكُون. أي يدعون له بالبركة"([2]).
هذا عن تفسير معنى صلاة الله على النبيّ r. أمّا عن معنى صلاة المؤمنين على النبي r فيوضِّحُها الحديث الشريف التالي: روى البخاري عن سعيد بن يحيى قال: حَدَّثنا أبي حَدَّثنَا مِسعرٌ عن الحَكَمِ عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه: "قيل: يا رسولَ الله، أمَّا السَلامُ عليك فقد عرفناه، فكيف الصّلاةُ عليك؟ قال: قولوا: اللهُمَّ صلَّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صلَّيتَ على آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركتَ على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ"([3]).
الشُّبهةُ السادسة والعشرون ودفْعُها
كان محمدٌ يُغَيِّرُ خِطَطه حسبَ الظروف التي يُوجَدُ فيها. فعندما كان ضعيفاً في مكّة قدَّم الإسلام على أنّه دينٌ عربيٌ، ولمّا اشتدَّ عودُه وقَويَ جيشه بعد الهجرة إلى المدينة جَعَلَ محمدٌ الإسلام ديناً عالميّاً.
- تشتمل هذه الفريةُ على مَطعنين هاميّن خطيرين؛ أولهما: مطعنٌ في أخلاق الرسول الكريم r واتّهامه بالمصلحيّة والافتقار إلى وجود المبدأ. وثانيهما: مطعنٌ في الإسلام، وذلك بوصفه رسالةً خاصّةً بالعرب وحدهم.
وهذا الكلام مُتَهَالِكٌ وساقطٌ من عدّة وجوهٍ أبرزها ما يلي:
1. لن نُجَاريَ أولئك الذين يقولون بالتدرُّجِ في إعلان الإسلام على عالميَّته فهذا الأمرُ قد صرَّحتْ به الكثيرُ من الآيات المكيّة التي نزلت قبل الهجرة إلى المدينة (واشتداد عود مُحَمّدٍ على حدِّ قول الرهبان الطاعنين) ومن هذه الآيات على سبيل المثال لا الحصر.
أ. " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً"([4]).
ب. " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً للعَالَمِينَ"([5]).
ج. "هَـذَا بَلاَغٌ للنَّاسِ"([6]).
ويفهم من هذه الآيات أنَّ القرآن الكريم كان واضحاً وصريحاً في الإعلان عن عالميّة الدعوة التي يقدّمها للبشرية وأنّها ليست خاصّةً بقومٍ ولا بأهل بلدٍ مُعَيَّنةٍ.
2. ليس من الصواب الاستدلال على أنّ محمداً بُعثَ للعرب فقط بدليل أنّه كان يتحَّدثُ اللغةَ العربيةَ، فإنّ الحكمة من إرسال الرسل عموماً بألسنةِ أقوامهم لِيكونَ ذلك أبلغَ في الفهم بينه وبينهم، حتّى تقوم الحُجَّةُ ويحصلَ البلاغُ وحتّى يكون ذلك أدعى إلى فهم غيرهم.
3. "لو صَّح أنْ نقول: إنّ كونَ القرآنِ عربيّاً وتَحدُّثَ محمدٍ بالعربية دليلٌ على أنّه مرسلٌ للعرب فقط وأنَّ رسالته خاصّةٌ بهم، لَلَزِمَ من ذلك بأنّ المسيحيين مخطؤون في اتّباعهم لأحكام التوراة لأنّها نزلت بغير لسانهم"!([7]).
4. "ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول دعوتَه العلنيَّةَ بإنذار عشيرته الأقربين، إذ أنَّ مكّةَ بلدٌ توغَّلتْ في الرُّوح القَبَليةُ، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يُعينُ على نصرته وتأييده وحمايته، كما أنّ القيام بالدعوة في مكة لابدَّ أن يكون له أثر خاصٌّ، لِمَا لهذا البلد من مركزٍ دينيٍّ خطيرٍ، فَجَلْبُها إلى حظيرة الإسلام لابدَّ وأن يكون له وقعٌ كبيرٌ على بقية القبائل ... على أنّ هذا لا يعني أنّ رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودةً بقريش، لأنَّ الإسلام كما يتجلّى من القرآن اتخذَ الدعوةَ في قريشٍ خطوةً أُولى لتحقيق رسالته العالمية، والواقع أنّ كثيراً من الآيات المكيّة كانت تنصُّ على أنَّ القرآن "وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ"([8]) الأمر الذي يدل على أنَّ فكرة الدعوة العالمية كانت قائمةً منذ هذا الوقت المُبَكِّرِ"([9]).
5. إنّ الدعوة التي جاءت خاصّةً بقومٍ بعينهم ليست دعوةَ الإسلام، بل هي دعوة المسيح، عليه السلام، ويشهدُ لذلك قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم"([10])، كما يشهدُ لذلك قول المسيح، عليه السلام، "لم أُرسَلْ إلاّ إلى خِراف بيت إسرائيل الضّالَّةِ"([11]). ولكنَّ الذين جاؤوا من بعده أحدثوا أمراً غير هذا، وارتأوا نشرَ دعوة المسيح خارج حدود بني إسرائيل فأصبحت الآية "اذهبوا إلى العالمِ أجمعَ واكرزوا بالإنجيل للخليقة كُلِّها"([12]).
ويمكننا من خلال ذلك أن نقول وبكلِّ صراحةٍ: إنّ المسيح، عليه السلام، قدّم الدعوة المسيحيّة في ثوبٍ إسرائيليٍّ خاصٍّ ببني إسرائيل. ولمّا اشتدّ عودُ دعوتهِ وكَثُرَ عددُ أتباعها والمتعاطفين معها جعل منها هؤلاء ديناً عالميّاً.
ولرُبّما يسألٌ سائلٌ فيقول: لماذا جاهدَ محمدٌ في المدينة بالقتال والسّيف، ولم يفعل ذلك في مكّة؟ أليس هذا تغييراً للخطط وافتقاراً للمبدأ؟؟ والردُّ على هذا السؤال سهلٌ وميسورٌ ولا يختلفُ عمّا ذكرناه في النقاط الخمس السابقة؛ فتغييرُ الخِطَطِ يجب أن يُفْهَم في إطار الحكمة الإلهية في التدرُّج في التشريع، حيث كان من الطبيعي أن يتصرّف الرسولُ r في العهد المكيّ وتحت ضغط المشركين على خلافِ تَصَرُّفِه في العهد المدنيّ، الذي تأسّست فيه الدولة الإسلامية وبرز فيه المجتمع المسلم بكلّ ما يشتمل عليه من معاملاتٍ وتصّرفات وعمليات تفاعلٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ وثقافيٍ وأخلاقيٍّ.
كانت تلك أبرز الشّبهات والمطاعن والافتراءات التي أثارها رهبان الكنيسة الغربيّة حول الإسلام ونبوّة الحبيب المصطفى r. وحقيقةُ الأمر أنّ المطاعن والشُّبهات أكثرُ من ذلك عدداً، ولكنَّ اختيارنا وَقَعَ على أبرزها وأخطرها، وذلك لما لها من شهرةٍ وتداولٍ عبر العصور والأزمنة، ولِمَا لبعضها من تأثيرٍ في نفوس بعض العوام من المسلمين.
وكُنّا قد عمدنا إلى دمج بعضها ببعضٍ وذلك لتقاربها وتداخُلِها في المضمون والمحتوى.
ونسألُ الله تعالى أن نكون قد وُفِّقنا في عرضها ونقدها ونقضها، مُبدين الاستعداد الكامل لقبول كلِّ إضافةٍ قد تطرأُ عليها أو تلحقُ بها، فنهاية هذا البحث وهذه الدراسة لا تعني أبداً توقُّفَنا عن الدراسة والبحث.
وختاماً، نذكّرُ القاريء الكريم، إن رغب في الاستزادة، بالرجوع إلى ما خطّهُ علماؤنا الأفاضل قديماً وحديثاً، جزاهم الله خيراً، في كتبهم ومؤلَّفاتهم وبالذات تلك التي أوردناها في هذا البحث المتواضع.


([1] ) سورة الأحزاب، الآية 56.
([2] ) صحيح البخاري [م. س]، كتاب التفسير، باب "إن الله وملائكته يصلّون على النبي ...".
([3] ) المرجع السابق نفسه.
([4] ) سورة الفرقان، الآية 1.
([5] ) سورة الأنبياء، الآية 107.
([6] ) سورة إبراهيم، الآية 52.
([7] ) الرومي [م. س]، ج1، ص 316.
([8] ) سورة القلم، الآية 52.
([9] ) العمري [م، س]، ج1، ص 143، نقلاً عن "دراسة في السيرة" ص 22 لعماد الدين خليل.
([10] ) سورة الصفّ، الآية 6.
([11] ) متى: 15: 24
([12] ) مرقص: 16: 15.
...................................................................................................................................................................

مسيحيّون أنصفوا الإسلام وشهدوا له
وشَهِد شاهدٌ من أهلها
بقلم الدكتور راجح السباتين
نورد في هذا الركن مقتطفاتٍ من آراء بعض العلماء والمفكِّرين والأدباء المسيحيين. يذكرون فيها بكُلِّ حياديّةٍ وتجرُّدٍ وإنصافٍ رفضهم لما أُثيرَ من طعونٍ وشبهاتٍ صَنَعها وخطَّها رهبانُ العصور الوسطى، ورجال الاستشراق الدِّينيّ الإعلاميّ المعاصر، ومخالفين لما رَوَّجته الكنيسةُ بهذا الصَّدد.
وقد اخترنا أن نُعَنوِنَ لموقف وآراء هؤلاء المُنصفين بـ "وشهدَ شاهدٌ من أهلها". وهي شهاداتٌ تناقض وتعارض ما سبق إيراده من شبهاتٍ وأباطيل، ونؤكِّدُ هنا على أنّ هذه الآراء والمواقف إنّما هي صادرةٌ عن شخصيّاتٍ لها وزنها واعتبارها في العالم المسيحيّ، وكما نؤكِّدُ في الوقت ذاته على أنها غُيِّبَتْ وكان صوتُها غيرَ مسموعٍ في الضمير المسيحي الغربيّ، في الوقت الذي ضَخَّمتْ فيه آلاتُ الإعلام صوتَ الباطل والافتراء على الإسلام وخلقت رأياً عامّاً مُضلِّلاً أنشأته على كراهية الإسلام ورفض الاعتراف بنبوَّة الحبيب المصطفى r. وشهادات هؤلاء التي كانت مُنصفةً للإسلام وللحبيب المصطفى r هي التالية:
أولاً: شهادة الكاتب الإنجليزي الشّهير توماس كارلايل([1]):
مِمّا يبُطلُ دعوى القائلين أنَّ مُحمَّداً r لم يكن صادقاً في رسالته أنّه قضى عنفوان شبابه ومرارةَ صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنَّة لم يحاول أثناءها إحداثَ ضجّةٍ ولا دويٍّ ممّا يكون وراءه ذِكرٌ وشهرةٌ وجاهٌ وسُلطةٌ. ولم يك إلاّ بعد أن ذهب الشباب وأقبل المشيب أن فار بصدره ذلك البركان الذي كان هاجعاً وثار يريد أمراً جليلاً وشأناً عظيماً .. وقد لوحظ على مُحمّدٍ r أنه كان شاباً مُفكِّراً، وقد سمّاه رفقاؤه الأمين ـ رجل الصدق والوفاء ـ الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره. وقد لاحظوا أنه ما مِن كلمةٍ تخرجُ من فيه إلا وفيها حكمةٌ بليغةٌ، وإنّي لأعرفُ عنّه أنه كان كثيرَ الصمت يسكتُ حيث لا مُوجِبَ للكلام فإذا نطق فما شئتَ مِن لُبٍّ وفضلٍ وإخلاصٍ وحكمةٍ، لا يتناول غرضاً فيتركه إلا وقد أنار شبهته وكشف ظلمته .. وقد رأيناهُ طول حياته رجلاً راسخَ المبدأ صارمَ العزم بعيد الهمِّ كريماً بَرّاً رؤوفاً تقياً فاضلاً حُرّاً، رجلاً شديد الجدِّ مُخلِصاً وهو مع ذلك سهل الجانب لَيِّنُ العريكة، جمُّ البشر والطلاقة، حميد العشرة، وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامةٌ مشرقةٌ من فؤادٍ صادقٍ .. وما مكان محمدٌ r أخا شهواتٍ برغم ما اتُّهِمَ به ظلماً وعدواناً، ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوانيّاً لا هَمَّ له إلا قضاء مآربه من الملاذِّ، كلا! فما أبعدَ ما كان بينه وبين الملاذِّ أيّاً كانت. لقد كان زاهداً مُتقشِّفاً في مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره وأحواله، وكان طعامه عادة الخبز والماء، وربما تتابعت الشهورُ ولم تُوقَدْ بداره نارٌ .. وكان يُصلحُ ثوبه بيده، فهل بعد ذلك مكرمةٌ ومفخرةٌ؟
ثانياً: شهادة مونتجمري وات([2]):
لستُ مُسلماً بالمعنى المألوف، ومع ذلك فإنّي أرجو أن أكون مُسلماً كإنسانٍ استلسمَ لله. بيد أنّي أعتقدُ أنَّ القرآن وغيره من تعبيرات المنظور الإسلامي، ينطوي على ذخيرةٍ هائلةٍ من الحقِّ الإلهيِّ، الذي ما زال يجبُ عليَّ أنا وآخرين من الغربيين أن نتعلَّمَ منه الكثير.
ومن المؤكَّدِ أنَّ الإسلامَ منافسٌ قويٌّ في مجال إعطاء النظام الأساسيِّ للدين الوحيد الذي يسود في المستقبل.
ثالثاً: شهادة الكاتب الإسبانيّ بلاسكو إبيانز([3]):
إنّ النّهضة الأوروبية لم تأتِ من الشمال، وإنما جاءت من الجنوب مع المسلمين الفاتحين، الذين حملوا معهم المدنيَّةَ والتقدُّم، وأدخلوا الثقافة الشابَّةَ الفتيَّةَ النَّشطةَ، ذات صنوف التقدم السريعة المدهشة، التي انتصرت بمجرِّدِ ولادتها على أرض الأندلس. هذه الحضارة التي قامت بفضل المناخ الحُرِّ الذي أتاحه الإسلام للعقل، أن يبحث ويسبح من أجل المعرفة، ولم يُقيّده بقيودٍ كتلك التي فرضَتْها الكنيسةُ على العقلية الأوروبية.
رابعاً: شهادة المستشرق السويسري إدوارد مونتيه([4]):
"إنَّ الإسلام في جوهره دينٌ عقلانيٌ وفقَ أوسع المعاني لهذا المصطلح من الوجهة الاشتقاقية والتاريخية. إنَّ تعريف العقلانيّة، باعتبارها نظاماً يُقيمُ المعتقدات الدينية على مبادئ يدعمها العقل، إنّما ينطبق تماماً على الإسلام. وعلى الرَّغمِ من التطوُّرِ الخصب، بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لتعاليم النبيِّ، فقد احتفظَ القرآنُ بمنزلته الثابتة، كنقطة البداية الرئيسية لفهم الدين، وصار يُعلنُ دائماً عن عقيدة توحيد الله في سموٍّ وجلالٍ وصفاءٍ .. مع اقتناعٍ يقينيٍّ متميزٍ من الصَّعب أن يُوجَد ما يفوقه خارج نطاق الإسلام. .... إنَّ عقيدةً بمثل هذه الدّقّةِ، ومجرَّدَةً من كل التعقيدات اللاهوتية، وبالتالي يمكن للفهم العاديِّ أن يتقبِّلَها بسهولةٍ، من المتوقَّع أن تكون لها قدرةٌ عجيبةٌ ـ وهي في الواقع تمتلك هذه القدرة ـ على اكتساب طريقها إلى ضمائر البشر.
خامساً: شهادة الدكتور الفرنسي ديفيد دي سانتيلانا([5]):
إنَّ هذا الاستسلامَ المُفعمَ بالاتّضاع والأمل (لله) إنما هو الإيمان الصحيح. لذلك كان الإسلامُ (ومعناه تسليم المرء نفسه لله) عقيدةً دينيةً صحيحةً، فذلكم هو الشكل الوحيد الذي يجب أن تتخذه النفس المؤمنة في حضرة الله .. ذلكم هو شكل النظام الجديد الذي دعا إليه مُحَمّدٌ، ونحن نجدُ في ظله أنَّ قيمة الفرد بدأت تتضحُ وكينونته البشرية أخذت تبرز إلى عالم الوجود، فصار يستمدُّ حقوقه وواجباته من إيمانه ويستقيها من مَعينِ دينه لا من روابطه الاجتماعية والعرفية. فمن جماعة المؤمنين هؤلاء تكون المجتمع الإسلامي .. إنَّ آيات القرآن فُصِّلت للناس بمعرفة خبيرٍ حكيمٍ لتكون شريعةً للحرية وقانوناً للرحمة التي أنعم اللهُ بها على الجنس البشري للتخفيف من صرامة الكتب (الدينية) الأولى. فالإسلام هو عودٌ إلى القانون الطبيعي، بل عودٌ إلى الإيمان الأول الذي بشَّرَ به الأنبياء الأقدمون والذي ابتعد به اليهود والنصارى عن غرضه الحقيقيّ. إنّ الشريعة الجديدة ألغت القيود الصارمة والمُحَرَّماتِ المختلفة التي فرضتها شريعة موسى على اليهود، ونسخت الرهبانية المسيحية وأعلنت رغبتها الصادقة في مسايرة الطبيعة البشرية واستجابت إلى جميع حاجات الإنسان العملية في الحياة.
سادساً: شهادة الناقد الإنجليزي روم لاندو([6]):
في الإسلام لم يولِّ كلٌ من الدِّينِ والعلم ظهرَهُ للأخر، ويتخذ طريقاً معاكسةً. والواقع أنَّ الأول كان باعثاً من البواعث الرئيسية للثاني فالعلمُ الإسلاميُّ لم يَنفصل عن الدِّين قطّ. والواقع أنَّ الدِّينَ كان هو ملهمه وقُوَّتَهَ الدَّافعةَ الرئيسيةَ. ففي الإسلام ظهرت الفلسفةُ والعلم معاً إلى الوجود، لا لِيَحُلاّ محلَّ ألوهيّةِ الدِّينِ ولكن لتفسيرها عقلياً، لإقامة الدليل عليها وتمجيدها ... إنَّ المسلمين وُفِّقُوا، طوال خمسة قرونٍ كاملةٍ، إلى القيام بخطواتٍ حاسمةٍ في مختلف العلوم من غير أن يديروا ظهورهم للدين وحقائقه وإنَّهم وجدوا في ذلك الانصهار عامل تسريعٍ وانجاحٍ لا عامل تعويقٍ وإحباطٍ .. إنّ مجموعةَ الشرائع التي نشأت من طريق النظام والتنظيم اللذين أحدثهما الإسلامُ ليس لها ما يقابلها في القوانين الغربية التي انبثقت من أنماطٍ من السلوك مُتَعارفٍ عليها. ذلك أنّ القانون في الإسلام أُسِّسَ منذ البدءِ، تأسيساً مباشراً على الوحي الإلهي الذي تلقاه محمدٌ .. وبسببٍ من طبيعته الإلهية، وبالتالي المعصومة عن الخطأ، سنَّ القرآنُ شرائعَ منزهةً عن الضّلال مفروضاً في المؤمنين أن يعملوا بموجبها، لا كواجبٍ اجتماعيٍ، كما هي الحال في الغرب، ولكن كجزءٍ من الإيمان بالله.
سابعاً: شهادة الكاتب والمفكِّر الإيرلندي جورج برنارد شو([7]):
لقد كنتُ دائماً احتفظُ لدين مُحمَّدٍ عندي بأعلى التقدير، وذلك بسبب حيويَّتهِ المدهشة. إنّه الدينُ الوحيد الذي يبدو لي أنه يمتلك القدرة على استيعاب تغيُّرِ أطوار الحياة بما يجعله محلَّ إعجابٍ لكل العصور.
لقد درستُ محمداً ـ ذلك الرجل العجيب ـ وفي رأيي أنه أبعد ما يكون عَمَّنْ يُسمّى ضدَّ المسيح، ويجب أن يُسَمّى: مُنْقِذَ الإنسانيّة.
إنّي أعتقدُ لو أنَّ شخصاً مثله تولَّى الحكم المُطْلَقَ للعالم المعاصر لنجح في حلِّ مشاكله بطريقةٍ تجلبُ له ما هو في أشدِّ الحاجة إليهما من سلامٍ وسعادةٍ.
لقد تنبَّأتُ بأنَّ دينَ محمدِ سيكون مقبولاً في أوروبا الغد، كما أنه يكون مقبولاً في أوروبا اليوم.

ثامناً: شهادة المؤرخ الإنجليزي هربرت فيشر([8]):
وخلالَ السنوات الأولى من التوسُّعِ العربيِّ، ما كان الفاتحون في حاجةٍ إلى بذل مجهودٍ كبيرٍ لكسب مُهتدين إلى الإسلام. فعلى العكس من ذلك، كان نجاحهم في الحكم متوقِّفَاً إلى حدٍّ كبيرٍ على سياستهم الحكيمة في التَّسامح التي مارسوها تجاه اليهود والمسيحيين. لقد اشتمل الدِّينُ الجديد، منذ البداية، على قدرٍ كبيرٍ من السياسة .. وهكذا انتشرت الحضارةُ الإسلاميةُ، وكانت مراكزها السياسية: في دمشق تحت حكم الأمويّين، وفي بغداد تحت حكم العباسيين، وفي مصر تحت حكم الفاطميين. ولقد ساهم فيها السوريون والفرس والترك والبربر والإسبان، ليقدِّمُوا جميعاً العصرَ الرائع للآداب والفنون الإسلامية، التي مَكَّنَتْ شعوبَ الإسلام من السِّيادة الفكرية للعالم طيلة أربعة قرونٍ، بينما كان العقلُ الأوروبيُّ غارقاً في قيعان الجهل والكسل.
تاسعاً: شهادة المؤرخ الأمريكي ول ديورانت([9]):
إنَّ المسلمين ـ كما يلوح ـ كانوا رجالاً أكملَ من المسيحيين، فقد كانوا أحفظَ منهم للعهد، وأكثرَ منهم رحمةً بالمغلوبيين، وقَلَّما ارتكبوا في تاريخهم من الوحشيَّةِ ما ارتكبه المسيحيون عندما استولوا على بيت المقدس من عام 1099م .. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية والذين كانوا يلقون صوراً من الاضطهاد على يد البطارقة، أصبحوا أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين .. بل لقد ذهبَ المسلمون إلى أبعد من هذا؛ إذ عيَّنَ والي أنطاكية في القرن التاسع الميلادي حَرَسَاً خاصّاً ليمنعَ الطوائفَ المسيحيةَ المختلفة من أن يقتل بعضُها بعضاً في الكنائس ... وكانت طوائفُ الموظَّفين الرسميين في البلاد الإسلامية تضم مئاتٍ من المسيحيين .. فعلى الرُّغم من خطّة التسامح الدينيّ التي كان ينتهجها المسلمون الأوَّلُون، أو بسبب هذه الخطة، اعتنق الدينَ الجديدَ معظمُ المسيحيين، وجميع الزردشتيين والوثنيين، إلا عدداً قليلاً جداً منهم، وكثيرون من اليهود .. وحيث عجزت الهلينيةُ عن أن تُثَبِّتَ قواعَدها بعد سيادةٍ دامت ألف عامٍ، وحيث تركت الجيوشُ الرومانيةُ الآلهةَ الوطنيَّةَ ولم تغلبها على أمرها، وفي البلاد التي نشأت فيها مذاهبُ مسيحيةٌ خارجة على مذهب الدولة البيزنطية الرسمي، في هذه الأقاليم كُلِّها انتشرت العقائد والعبادات الإسلامية، وآَمنَ السكّانُ بالدّين الجديد وأخلصوا له واستمسكوا بأصوله إخلاصاً واستمساكاً أنساهم بعد وقتٍ قصيرٍ آلهتهَم القدامى، واستحوذ الدِّينُ الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلاد الممتدة من الصِّين وحتى الأندلس، وتَمَلَّكَ خيالَهم، وسَيطرَ على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث فيهم آمالاً تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها، وأوحى إليهم العزّةَ والأنفة، حتى بلغ عدد من يعتنقونه ويعتزّون به في هذه الأيام مئات الملايين من الأنفس، يُوَحِّدُ هذا الدين بينهم ويُؤَلِّفُ قلوبَهم مهما يكن بينهم من الاختلافات والفروق السياسية.


عاشراً: شهادة الطبيب المصري القبطي نظمي لوقا في دفاعه عن تعدّد زوجات الرسول r([10]):
تسعُ زوجات عددٌ ليس بالقليل، ولكنَّ العبرة ليست بالعدد، العبرةُ بالظروف التي أفضت به إلى الجمع بينهنَّ، ومنها ظروفٌ اجتماعيةٌ ترجع إلى الأحداث التي كان هو محورها ولا يمكن أن يُعفي نفسه من المسؤولية والالتزام ببعض آثارها، ومنها ظروفٌ نفسيةٌ مرجعها إلى عواطفه ومراميه. ولا نفهم هذه الظروف حقَّ فهمها إلا إذا قَدَّرْنا المرحلةَ الطويلةَ من عمره قبل زواجه من التسع. مرحلةٌ طويلةٌ خطيرةٌ من عمره، مداها ربعُ قرنٍ من الزمن، هي فترة الشباب العارم والرجولة الفتيَّةِ ولم يكن فيها زوجاً للعدد العديد من الحريم. بل كان بعل امرأةٍ واحدةٍ هي خديجة بنت خويلدٍ تكبره بنيّفٍ وخمسةَ عشرَ عاماً. تَزَوَّجَها وهو في الخامسة والعشرين، وهي فوق الأربعين، وقيل وهي تناهز الخامسة والأربعين. وماتت وهي فوق الخامسة والستين على الأقل، وكان هو في الخمسين. ربع قرنٍ لم تكن فيه هذه الزوجة الواحدة مَقْنَعَاً لشابٍّ في سنِّ ابنها لو كان هذا الزواج أخا شهوةٍ، لا نقول جامحة، بل متوقِّدة ذات سلطانٍ على نفسه. ربع قرن لم تكن فيه الزوجة الواحدة فرضاً مفروضاً عليه، والبيئة لا تعرف إلا التعدُّدَ الذي لا حصر له، وليس للتوحُّدِ في الزواج قيمةٌ مُتَّفَقٌ عليها هناك في ذلك الزمن. ومع ذلك لم يتزوج محمدٌ طيلة تلك الفترة الطويلة إلا خديجة المُسِنَّةَ، ولم ينشد سواها صاحبةً بزواجٍ أو بغير زواجٍ. لم يكن أخا لهوٍ وشرابٍ ومجونٍ ومَيسرٍ كسائر نظرائه من أبناء البيوت المرموقة في قريش لتلك الحقبة من الزمن. ولو كان محمدٌ أخا مجانةٍ لما كان ذلك مستغرَباً لدى أحد، إلا أنهم كانوا جديرين أن يتَشدَّقُوا به أول ما يتشدَّقُون بالمطاعن على الرسول يوم نهض بالدعوة إلى عبادة الله وما ينبني عليها من التعفف والاستقامة والطهر .. ما تورعوا عن التلفيق في التُّهم [كفار قريش]، فما الذي اسكَتَهُم عن هذه لو أنها كانت صحيحةً مُشَاهدَةً؟ ولكنها لم تخطر ببالهم على كثرة ما رموه من البذاء، لسببٍ واحدٍ لا يُعْقَلُ سواه: إنّه كان في سلوكه الشخصي على نقيض ذلك، وكان مشهوراً بالتزام العفّة والطُّهر والبعد عن الشّهوات.
حادي عشر: شهادة السياسيّ والبرلماني الإنجليزي إدوارد جيبون([11]):
إنَّ مواهبَ مُحمَّدٍ تجعلنا نكيلُ له المديح، إلا أنَّ نجاحه ربّما كان هو الذي جذب بقوةٍ انتباهنَا إليه. وإنَّ ما يستحقُّ إعجابنَا ليس انتشارَ ديانته، وإنما استمراريتها. إنَّ نفسَ الانطباع النقيَّ الكامل الذي حفره في الأذهان في مكة والمدينة لا يزال مَصوناً إلى اليوم بعد انقضاء اثنيَّ عشرَ قرناً، عند الذين اهتدوا بالقرآن من هنودٍ وأفارقةٍ وتركٍ ...
لقد نفثَ محمدٌ بين المؤمنين روح الأخوّة والإحسان وأوصي بممارسة الفضائل الاجتماعية، وكَبَحَ بشريعته وتعاليمه الأخلاقيّة التعطُّشَ إلى الانتقام وظلم الأرامل واليتامى. ولقد توحَّدت القبائلُ التي كانت في عداءٍ تحت مظلّة الدّين والطّاعة، وتوجَّهت شجاعةُ المقاتلين ـ التي أُنفِقَتْ هدراً في صراعاتٍ داخليةٍ ـ نحو العدو الخارجي، فانتشرت بذلك أمصارُ الأمة الإسلامية شرقاً وغرباً.

ثاني عشر: شهادة الكاتب الفرنسي فولتير([12]):
لا يزالُ القرآنُ، في واقع الأمر، يشتهرُ إلى اليوم بأنه الكتاب الأكثرُ تَمَيُّزَاً وسُمَّواً، الذي كُتِبَ بهذه اللغة (العربية). لقد ألصقْنَا بالقرآن ما لا نهاية له مِن السَّفاهات التي لم تكُنْ به على الإطلاق. لقد كان هذا موجَّهاً بالدرجة الألى ضدَّ الترك الذين أصبحوا من أتباع محمدٍ، فكتب رهبانُنا الكثيرَ من كتب المطاعن هذه، إذ لم تكن هناك وسيلةٌ تمكِّنُهمُ من مواجهة فاتحي القسطنطينية، خلاف ذلك. كما أنَّ مؤلِّفينا، والذين هم في كَثرتهم الهائلة أكبرُ عدداً من جنود الإنكشارية، لم يجدوا صعوبةً تَذكرُ في جعل نسائنا تقف في صَفِّهم؛ لقد أقنعوهُنَّ بأنَّ محمّداً لم يعتبرهنَّ ضمن الحيوانات الذكيّةِ، وأنهنَّ جميعاً إماءٌ وِفْقَ شريعة القرآن، ولن ينلن أيَّ خيرٍ في هذه الحياة، وفي الحياة الأُخرى لا نصيبَ لهنَّ في الفردوس على الإطلاق. من الواضح أنَّ كلَّ هذا كذبٌ وبطلانٌ اعتقدوا فيه بكلِّ قوةٍ.
ثالث عشر: شهادة الدكتور القبطي نبيل لوقا بباوي ([13]):
صدرت في مصر مؤخراً دراسة قبطية للباحث الدكتور نبيل لوقا بباوي، تحت عنوان "انتشار الإسلام بحدّ السَّيف بين الحقيقة والافتراء" ردَّ فيها على الذين يتهمون الإسلام بأنّهُ دين انتشر بحدِّ السيف، وأنه أجبر الناس على الدخول فيه، واعتناقه بالقوة. وناقشت الدراسةُ هذه التهمة الكاذبة بموضوعيةٍ علميةٍ وتاريخيةٍ، وبرهنت على بطلانها وكذبها، موضحةً أنّ الإسلام لم ينفرد وحدة بالتناقض بين أحكامه وشرائعه ومبادئه التي ترفض الإكراه على الدين، وتُحَرِّمُ الاعتداء على النفس البشرية، وبين سلوك وأفعال بعض أتباعه من الولاة والحكّام وعامّة المسلمين، والتي لا تَمتُّ إلى تعاليم الإسلام بصلة، وأشارت الدراسة إلى أنّ المسيحية أيضاً تشارك الإسلام في التناقض بين تعاليمها ومبادئها التي تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام بين البشر، وعدم الاعتداء على الآخرين، وبين ما فعله بعضُ أتباعها في بعضهم من قتلٍ، وسفك دماءٍ، واضطهادٍ، وتعذيبٍ، ترفضه المسيحية، ولا تقر مبادئُها. وأشارت إلى الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمذابح التي وقعت على المسيحيين الأرثوذكس في مصر من الدولة الرومانية، ومن المسيحيين الكاثوليك.
وأشار الباحث إلى الحروب الدمويّةِ التي حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا، وما لاقاه البروتستانت من العذاب، والقتل، والتشريد، والحبس في غياهب السجون والإعدام بالجملة، إثرَ قيام الراهب مارتن لوثر بإنشاء المذهب البروتستانتي بعد أن فاض به الكيل من صكوك الغفران التي كانت تُمْنَحُ لبعض أتباع الكنيسة من أجل جمع الأموال، وبعد أن أصبحت صكوك الغفران تجارةً رابحةً للكَهَنةِ.
وقد هدفت دراسة الدكتور بباوي إلى ما يلي:
أولاً: عقد مقارنةٍ بين الاضطهاد الديني الذي وقع على المسيحيين الأرثوذكس من الدولة الرومانية، ومن المسيحيين الكاثوليك؛ وبين التسامح الدينيِّ الذي حَقَّقتهُ الدولة الإسلامية في مصر، وحرية العقيدة الدينية التي أقرَّها الإسلامُ لغير المسلمين، وتركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية داخل كنائسهم، وتطبيق شرائع مِلَّتِهِم في الأحوال الشخصية.
ثانياً: إثبات أنَّ الجزية التي فُرضت على غير المسلمين في الدولة الإسلامية بموجب عقود الأمان، التي وُقِّعَتْ معهم، إنما هي ضريبةُ دفاعٍ عنهم في مقابل حمايتهم والدِّفاع عنهم من أيِّ اعتداءٍ خارجيٍ؛ لاعفائهم من الاشتراك في الجيش الإسلاميِّ، حتى لا يدخلوا حرباً يدافعون فيها عن دينٍ لا يؤمنون به.
ثالثاً: إثبات أنَّ تجاوز بعض الولاة المسلمين أو بعض أفرادهم في معاملاتهم لغير المسلمين إنما هو تصرفات فرديّةٌ شخصيّةٌ، لا تمتُّ لتعاليم الإسلام بصلةٍ، ولا علاقة لها بمبادئ الدين الإسلامي وأحكامه، فإنصافاً للحقيقة ينبغي أَلا يُنْسَبَ هذا التجاوز إلى الدِّين الإسلامي، وإنما يُنْسَبُ إلى مَنْ تجاوزَ ذلك بتصرفاتٍ لا علاقة لها بالإسلام.
رابع عشر: شهادة الفيلسوف والمؤرِّخ الفرنسي غوستاف لوبون([14]):
وسيرى القارىء، حين نبحثُ في فتوح العرب وأسباب انتصاراتهم، أنَّ القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن "الإسلام"، فقد ترك العربُ المغلوبين أحراراً في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعضُ الأقوامِ النصرانيةِ الإسلامَ واتخذوا العربية لغةً لهم فذلك لما رأوا من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل .. وقد أثبتَ التاريخُ أنّ الأديان لا تُفرض بالقوة، فلمَّا قهر النصارى عربَ الأندلس فضَّل هؤلاء القتلَ والطردَ عن آخرهم على ترك الإسلام ... لم ينتشر الإسلام بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوبُ التي قهرت العربَ مؤخراً كالترك والمغول. وبلغ القرآن من الانتشار في الهند، التي لم يكن العربُ فيها غيرَ عابري سبيل ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نَفْسٍ فيها، ولم يكن القرآن أقلَّ انتشاراً في الصين التي لم يفتح العربُ أيَّ جزءٍ منها قط .. وكانت أخلاق العرب في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبةً، ولا سيّما الأمم النصرانية ، وكان عدلهم واعتدالهم ورأفتهم وتسامحهم نحو الأمم المغلوبة ، ووفاؤهم بعهودهم ونبل طبائعهم مما يستوقفُ النظرَ ويناقضُ سلوكَ الأمم الأخرى، ولا سيما الأمم الأوروبية أيّامَ الحروب الصليبية ... الحقُّ أنَّ الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً مثل دينهم.



([1]) انظر: كارلايل، توماس، الأبطال، ترجمة محمد السبّاعي ص 43، 50، 51، 64، بتصرف واختصار من دون رقم طبعةٍ ومن دون تاريخ نشر، الدار القوميّة، القاهرة.
([2]) انظر: عبد الوهاب، لواء أحمد، الإسلام في الفكر الغربي، دينٌ ودولةٌ وحضارةٌ، ص 19، ط1، من دون سنة نشر، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة. وقد ترجم هذه العبارة نقلاً عن مونتجمري وات في كتابه (الإسلام والمسيحية اليوم) المنشور في لندن عام 1983.
([3]) النبراوي، فتحيّة، عالميّة الحاضرة الإٍسلامية ودورها في النهضة الأوروبية مجّلة الدراسات الإنسانية، العدد (19) ج(2)، سنة 2001، جامعة الأزهر.
([4]) عبد الوهاب، [م. س]، ص 20، 21، نقلاً عن مونتيه وترجمةً لكتابة (الدعاية المسيحيّة وأعداؤها المسلمون) الصادر في باريس عام 1890م.
([5]) سانتيلانا، ديفيد دي، تراث الإسلام، ترجمة جرجس فتح الله، ص 410، 406، 411، 412، بتصرفٍ واختصارٍ، ط1، 1972، دار الطليعة، بيروت.
([6]) لاندو، روم، الإسلام والعرب، ترجمة منير البعلبكي، ص 280، 281، 187، بتصرف واختصارٍ، ط2، 1977، دار العلم للملايين، بيروت.
([7]) عبد الوهاب، [م. س]، ص 22، نقلاً عن برناردشو في كتابه The Genuine Islam وترجمةً لعباراته.
([8]) عبد الوهاب، [م. س]، ص 28، 29، نقلاً عن فيشر في كتابه تاريخ أوروبا المختصر. وترجمةً لعباراته.
([9]) ديورانت ول، قصّة الحضارة [م. س]، المجلد الثالث عشر، ص 131 – 133، بتصرف واختصار.
([10]) لوقا، نظمي، محمدٌ في حياته الخاصّة، ص 22 – 44، بتصرف واختصار، ط1، 1969، دار الهلال، القاهرة.
([11]) عبد الوهاب، [م. س]، ص 36، 37، 38، بتصرف، نقلاً عن جيبون في كتابه انحدار الإمبراطوريّة الرومانيّة وسقوطها، وترجمةً لعباراته.
([12]) عبد الوهاب، [م. س]، ص 50، 51، نقلاً عن القاموس الفلسفي لفولتير، وترجمةً لعباراته.
([13]) انظر ملخَّص هذه الدراسة في مجلة المستقبل الإسلامي الإلكترونية، في موقع الألوكة الإلكتروني بتاريخ 17/1/2008.
([14] ) لوبون [م. س]، ص 125 – 129، بتصرف واختصار.