ثالث أركان رد الشبهات عن الاسلام و نبوة سيدنا محمد


ردّ الشبهات والمطاعن التي أوردها الرهبان والمستشرقون في الإسلام ونبوِّة رسول الله r (3)
بقلم الدكتور راجح إبراهيم السباتين
الشَّبهةُ التّاسعةَ عشرةَ ودفْعُها
إنَّ القرآن الذي جاء به محمدٌ، يزعمُ أنّ محمّداً مكتوبٌ في التوراة والإنجيل. كما يزعمُ أنّ اليهود والمسيحيين من بعدهم اتّفقوا على محو اسم (محمدٍ) مِنَ الكتاب المقدَّس! فهل يُعقلُ أن يتّفقَ اليهود والمسيحيون في شرق العالم وغربه وشماله وجنوبه على محو اسم (محمد) من الكتاب المقدَّس، وهو غيرُ مذكورٍ فيه أصلاً؟؟
- تتركب هذه الشّبهةُ من جزأين:
أولهما: القطعُ بعدم ورود نصٍّ كتابيٍّ يذكر اسمَ محمدٍ أو نبوّته.
ثانيهما: اتِّهامُ القرآن لأهل الكتاب بالتواطؤ والتآمر لمحو اسم محمّدٍ من الكتاب المقدس.
- أمّا عن الردّ على الجزء الثاني من هذه الفرية، فهوَ أنّ أساسها مبنيٌ على فهمٍ فاسدٍ؛ وهو أنّ المسلمين يعتقدون أنّ اسمَ النبيَّ r الصريحَ، وهو محمدٌ بالعربية، مذكورٌ في التوراة والإنجيل" وهذا لم يَقُلْهُ عالِمٌ من علماء المسلمين ولا أخبرَ اللهُ سبحانه به في كتابه عنهم، ولا رسولُه ولا بَكَّتَهُمْ به يوماً من الدهر، ولا قاله أحدٌ من الصحابة ولا الأئمةُ بعدهم، ولا علماء التفسير، ولا المُعتنون بأخبار الأمم وتواريخهم.
وإنْ قُدِّرَ أنه قالهُ بعضُ عوام المسلمين يقصدُ به نصرَ الرسول فقد قيل: يضرُّ الصديقُ الجاهلُ أكثرَ مما يضرُّ العدو العاقل. وإنما أُتِيَ هؤلاء مِن قلَّة فهم القرآن، وظنّوا أنّ قوله تعالى: " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ" [الأعراف: 175]، دَلَّ على الاسم الخاص بالعربية في التوراة والإنجيل المخصوصين وأن ذلك لم يوجد البتة ... فالرب سبحانه: إنَّما أخبرَ عن كون رسوله مكتوباً عندهم، أي الإخبار عنه وصِفَتهِ ومَخْرَجِه ونعتهِ، ولم يُخْبِرْ بأنّ صريحَ اسمه العربيّ مذكورٌ عندهم في التوراة والإنجيل، وهذا أبلغُ من ذكره بمجرد اسمه، فإنّ الاشتراك قد يقعُ في الاسم فلا يحصل التعريفُ والتمييزُ، ولا يشاءُ أحدٌ يُسمَّى بهذا الاسم أن يدَّعي أنه هو إلاّ فَعَلَ، إذ الحوالة إنما وقعتْ على مجرّد الاسم، وهذا لا يحصلُ به بيانٌ ولا تعريفٌ ولا هُدىً، بخلاف ذكره بِنَعته وصِفته وعلاماته ودعوته وَصِفَةِ أُمَّتِه ووقتِ مخرجهِ ونحو ذلك، فإن هذا يُعَيِّنُهُ ويميِّزُه ويحصر نوعه في شخصه([1]).
- أمّا عن الردّ على الجزء الأول من هذه الشّبهة وهو القطع بعد ورود نصٍّ كتابيٍّ يذكرُ نبوّةَ محمدٍ r فقد بحَثَ علماؤنا المهتمّون بدراسة اليهودية والمسيحيّة هذا الموضوع بحثاً مستفيضاً ينمُّ عن اطِّلاعهم على الكتاب المقدّس ودراستهم له، وكانوا ولا زالوا يضعون بين كلِّ فترةٍ وفترةٍ كتاباً يتناول هذا الموضوع. ولعلَّ معظم عناوين أبحاثهم المتعلّقة به قد حملت عنوان (المبشِّرات) أو (البشارات) أو (التباشير). وهم يقصدون بها نصوصَ الكتاب المقدَّس التي تحدّثتْ عن أوصاف ونبوّة سيّدنا محمدٍ r.
ولعلَّ أنفع كتبهم وأكثرها دقةً، حسْبَ تقييمنا المتواضع، خمسةٌ هي:
1. الجواب الصحيح لمن بَدَّل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية، يرحمه الله، ويكاد هذا الكتاب يكونُ العمدةَ في هذا الموضوع؛ حيث نَهلَ اللاحقون لابن تيمية من صفحاته خيراً كثيراً وبالذات تلميذه ابن القيّم. وقد شرح ابن تيمية في هذا الكتاب اثنتين وعشرين بشارةً من بشارات الكتاب المقدّس بنبوّةِ محمدٍ r.
2. هداية الحيارى لأجوبة اليهود والنصارى، لابن قيم الجوزية.
3. إظهار الحق، لرحمت الله الهندي.
4. محمدٌ في الكتاب المقدّس، لعبد الأحد داود، والذي كان يُسمّى سابقاً دافيد بنجامين كلداني، والذي كان أباً روحياً وقسّيساً لطائفة الكلدانيين.
5. تباشير الإنجيل والتوراة بالإسلام ورسوله محمدٍ r، للدكتور نصر الله عبد الرحمن أبو طالب. وهذا الكتاب جهدٌ علميٌّ ضخمٌ جمعَ فيه المؤلِّفُ خلاصة جهود السابقين في هذا الموضوع وناقشها فقبل بعضها واستبعدَ بعضَها الآخر لضعفٍ في دلالتها، كما قال، ثم أضافَ عليها بشاراتٍ جديدةً هامّةً، مؤكِّداً أنّ كلَّ ما ضَّمنهُ في كتابه هذا إنّما هو دلالةٌ قاطعةٌ لبشارات الكتاب المُقدَّسِ على الإسلام يستحيلُ تفسيرها بغير ذلك.
لقد رصدنا في هذه الدراسة الكتبَ الخمسة السابقة رصداً متأنِّياً، وقُمنا بتحليل أبرز مضامينها المتعلّقة بالبشارات الدالّة على أوصافه ونبوّته r. وكان من نتائج ذلك، أنّ نصوص الكتاب المقدّس التي استدلَّ بها علماؤنا قديماً وحديثاً متشابهةٌ جدّاً بل تكاد تكون هي عينها التي استدلَّ بها كل منهم. وكذا كان حال التفسير والتوجيه الذي قدّمه كلٌّ منهم لهذه النّصوص، ولكنْ مع فروقٍ قليلةٍ غير هامّةٍ.
وقد تفاوتت أعداد هذه البشارات عند علمائنا حتى زادت عن الخمسين عند بعضهم، مع ذِكرهم لترجماتٍ وتفصيلاتٍ كثيرةٍ قد يُشكِلُ على الكثيرين فهمها.
ولتسهيل الأمر وتوطئته على القارئ الكريم، فإننا سنسوقُ أبرزَ وأهمَّ هذه البشارات مع شرحٍ مُختصَرٍ لها([2]):
أولاً: "جاء الربُّ مِن سِيناءَ وأشرقَ من سَعير وتلألأَ من جبل فاران".([3]) وهذه البشارة متضمنةٌ النبوات الثلاث: نبوَّةَ موسى، ونبوَّةَ عيسى، ونبوَّةَ محمدٍ r؛ فمجيئه من "سيناء" وهو الجبل الذي كلَّم اللهُ عليه موسى ونَبَّأَه عليه، إخبارٌ عن نبوّته. وتجلِّيهِ من ساعير هو مظهرُ المسيح من بيت المقدس، و"ساعير" قريةٌ معروفةٌ هناك إلى اليوم، وهذه بشارة بنبوّة المسيح. و"فاران" هي مكّةُ. وشبَّه سُبحانهُ نبوّةَ موسى بمجيء الصباح، ونبوّةَ المسيح بعدها بإشراقهِ وضيائه، ونبوَّةَ خاتم الأنبياء بعدهما باستعلاء الشمس وظهور ضوئها في الآفاق. وقد وقعَ الأمرُ كما أخَبرَ به؛ فإنّ الله سبحانه صَدَّعَ بنبوّةِ موسى ليلً الكفر فأضاء فَجْرَهُ بنبوّته، وزادَ الضياء والإشراق بنبوّة المسيح، وكَمُلَ الضياءُ واستعلنَ بنبوَّةِ محمدٍ صلوات الله وسلامه عليهم.
وذِكْرُ هذه النبوّات الثلاث التي اشتملت عليها هذه البشارةُ نظيرُ ذِكرِها في أول سورة " وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَـذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ"([4]). فَذَكَرَ أمكنةَ هؤلاء الأنبياء وأرضَهم التي خرجوا منها و"وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" المرادُ بهما منبتهُما وأرضُهما وهي الأرضُ المقدَّسةُ التي هي مظهر المسيح، و"وَطُورِ سِينِينَ" الجبل الذي كلَّم اللهُ عليه موسى فهو مظهرُ نبوَّته، و"وَهَـذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ" مكّةُ، حرمُ الله وأمنه التي هي مظهرُ نبوَّةُ محمدٍ صلوات الله عليه وسلامه عليهم. فهذه الثلاثة نظيرُ تلك الثلاثة، سواءٌ قالت اليهودُ: "فاران" هي أرض الشام وليست أرضَ الحجاز أم لم تقلْ. وليس هذا ببدْعٍ من بُهْتِهم وتحريفهم، فعندهم في التوراة: إنّ إسماعيل لمّا فارق أباه سَكَنَ في بريّة فاران. هكذا نطقت التوراة، ولفظُها "وسَكَنَ في بريّةِ فاران، وأخذت له أمُّهُ زوجةً من أرض مصر"([5]).
ولا يشكُّ علماءُ أهل الكتاب أنَّ فاران مسكنٌ لآل إسماعيل، فقد تَضَمَّنَت التوراةُ نبوّةً تنزلُ بأرض فاران، وتضمَّنت نبوّةً تنزل على عظيمٍ من ولد إسماعيل، وتضمَّنتْ انتشارَ أُمَّتِهِ وأتباعه حتى يملأؤا السهل والجبل. ولم يبقَ بعد هذا شُبهةٌ أصلاً في أنَّ هذه هي نبوّةُ محمدٍ r التي نزلت بفاران على أشرف ولد إسماعيل حتى ملأت الأرض ضياءً ونوراً وملأ أتباعهُ السهل والجبل. وهنا نسألُ منكري ذلك والمكابرين: أيُّ نبوَّةٍ خرجت من الشام فاستعلَتْ استعلاءَ ضياءِ الشمس، وظهرت فوق ظهورِ النبوَّتينِ قبلها؟!.
ثانياً: "هو ذا عبدي الذي أعضُدُهُ مُختاري الذي سُرَّتْ به نفسي، وضعتُ روحي عليه، فيُخْرِجُ الحقَّ للأمم، لا يصيحُ ولا يَرفعُ ولا يُسمَعُ في الشارع صوتُه، قصبةً مرضوضةً لا يَقصِفُ وفتيلةً خامدةً لا يُطفئُ، إلى الأمان يُخْرِجُ الحقَّ، لا يكلُّ ولا ينكسرُ حتى يضع الحقّ في الأرض وتنتظرُ الجزائرُ شريعته. وهكذا يقولُ خالقُ السماوات وناشرُها، باسطُ الأرضِ ونتائِجِها مُعطي الشّعبِ عليها نَسمةً والساكنين فيها روحاً، أنا الربُّ قد دعوتُكَ بالبِرِّ فأمْسِكُ بيدك وأَحَفَظُكَ وأجعلُكَ عهداً تفتح للشعب ونوراً للأمم، لتفتح عيون العميّ، لتُخْرِجَ من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظُّلمِة"([6]).
"هو ذا الأوّلياتُ قد أتت والحديثات أنا مُخبِرٌ بها، قبل أن تَنْبُتَ أعلمُكم بها، غنّوا للربِّ أغنيةً جديدةً تسبيحةً من أقصى الأرض، أيها المُنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسُكَّانُها. لِتَرْفَعِ البريةُ ومدنُها صوتَها، الدِّيارُ التي سكنها قيدارُ، لتترنَّمْ سكانُ سَالِعُ، من رؤوس الجبال ليهتفوا، ليعطوا الربَّ مجداً ويخبروا بتسبيحه في الجزائر. الربُّ كالجبار يخرجُ، كرجل حُرُوبٍ يُنْهِضُ غيرتَه، يهتف ويصرُخُ ويقوى على أعدائه"([7]). "يَخْزَى خِزَياً المُتَّكلِونَ على المنحوتات القائلون للمسبوكات انتنَّ آلهتنا ..."([8]).
هذا حديثٌ بَيِّنٌ عن عبد الله المُخْتَارِ الذي سَيُرْسَلُ إلى كلِّ الأمم ... الذي تنتظر الأممُ شريعتَه والنور الذي معه والذي من خلاله سيتم عهد الله مع أمم الأرض.
مُؤيّدٌ بالله محفوظٌ مِن قِبلِ الله يأتي بشريعة وتسبيحةٍ جديدةٍ ... يُفَتِّحُ بها عيون العُمي من بين الظلمات، ويُخرج بها الناسَ من حبس الدنيا، إلى سعة الدنيا والآخرة. فتبدّدُ الظلماتِ في أرض البرية التي سكنها قيدار ابن إسماعيل (الحجاز والجزيرة العربية) ... فيعبدون الله ويُسَبِّحُونه ويرفعون أصواتهم بذكره من فوق الجبال (بما فيها جبل سلع في المدينة) ... ويقاتلون أعدءهم فَيُنْصَرون عليهم ...
ما تَمَّتْ هذه النبوءةُ إلا بظهور الإسلام من جزيرة العرب حيث سكن أبناءُ إسماعيل الذين قاموا بنشره بين أمم الأرض ... فنقلوها من جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سَعَة الدنيا والآخرة ... وأخرجوا الحقّ والإِيمان الذي طالما كان مُستضعَفَاً ومُطارَداً إلى برّ الأمان والعزّة ... وكان المصطفى المختار، r، قد لُقِّب في القرآن مراراً بعبد الله، وهو الذي تَعَهَّدَ اللهُ بحفظه وعصمته من الناس وأَيَّدهُ بنصره، ووَهبَه خُلُقاً عظيماً وجعله إماماً في مكارم الأخلاق.
هذه النبوءة لا تنطبق على كورش الفارسي كما هو واضح، وإنْ كانت إصحاحاتٌ تاليةٌ تتحدثُ بعد ذلك عن شخصية كورش، إلا أنَّ المشهورَ عنه وَثَنيَّتُهُ وعدُم إيمانه، فكيف يُنسَبُ إلى المرسَلين؟ وكورش لم ينشر النور ولا الهدى في أرض بني إسماعيل، ولا أصبح الناسُ من بعده في هذه الديار مؤمنين، ولا تنطبق هذه النبوءة من أيِّ ناحيةٍ على المسيح عليه السلام، خلافاً لزعم المسيحيين ... هذا إضافةً إلى نسبة العبودية إلى هذا الرسول، وهم يزعمون أنه هو الله أو أنه ابنهُ المساوي له في الجوهر والمقام ... ويكفي، فوقَ أنَّ هذه النبوّةَ لم تتحقق إلاّ على يدي رسول الله محمد r، يكفي بها تلك الإشارة الواضحة إلى موطن ظهور المختار وأنها الديار التي سكنها قيدار ... وقيدار هو ثاني أبناء إسماعيل كما تذكرُ التوراة. وقد أورد المؤرِّخون اسمه ضمن أسماء أجداد قبيلة قريش التي سكنتْ مكةَ، والتي ظهر منها رسولُ الله محمد r والسؤال ـ الذي ليس له إلاّ جوابٌ واحدٌ ـ هو متى تبَدّدت الظلماتُ في الحجاز؟ ومتى آَمنَ أبناء إسماعيل بالله وتركوا عبادة الأصنام إلاّ عند مجيء رسول الله محمد r؟ هذا في الوقت الذي أعلن فيه المسيح، عليه السلام، عن خصوصيّة دعوته لبني إسرائيل، وأنَّ هدفها تبشيرهم بقرب مجيء مملكة الله حتى يستقبلوها برضىً وإيمان.
ثُمَّ، مَنْ غيرُ رسول الإسلام محمد r مُؤَهَّلٌ لهذه الصفات..؟ هو المختار (مختاري) أو المصطفى والمصطفى من أسمائه وألقابه المشهورة ... هو الذي أعلنَ منذُ اللحظة الأولى في دعوته أنهُ رسولٌ لكلِّ الأمم (فيُخْرِجُ الحقَّ والعدل للأمم) .. ولم يكن ذلك لأيِّ نبيٍ قبله بما فيهم عيسى، عليه السلام، الذي نُقلتْ عنه الأناجيلُ الحاليّةُ إعلانه أنَّ دعوته خاصّةٌ ببني إسرائيل ... وهو صاحبُ اللقب "عبد الله" في الوحي ... ولم يشتهر أحدٌ بهذا اللقب أو يُعرفُ به ـ وإن كان الجميع عبيد الله ـ إلاّ رسولُ الإسلام محمد r. وهو النبيُّ الذي اشتُهِرَ بأخلاقه وكمال أدبه وإن كانت أخلاقهم جميعها لعالية ... وأُثِبْتَ الثناءُ على أخلاقه في مواضعَ متعددةٍ من القرآن الكريم لتكون شاهداً لنبوّته في حياته وبعد مماته. ويكفي هنا تذكيرُ القارئ الكريم بقوله تعالى "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ"([9]). فما كان يرفعُ صوته في الأسواق والطرقات ... كان يبني ولا يهدم ... كان يفرح ويشجِّعُ على الخير حتى وإن كان ضئيلاً بل يأمرُ بالخير وعمله حتى لو كانت القيامةُ بادئةً كما في أمره بمواصلة الغرس حتّى لو قامت القيامة... ولم ييأس في دعوته ولم يكلَّ حتى انتصرَ الدِّينُ الذي جاء به وأقام دولته التي حكمتْ جزيرةَ العرب كاملةً في حياته ... ومن بعد موته انتشر الدِّينُ خارج الجزيرة وبلغ الأمصار التي كانت تنتظرُ شريعته ... "لا يكلّ ولا ينكسر حتى يَضَعَ الحقَ في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته".
ثالثاً: 1. "فقال لها [لهاجر] ملاكُ الربِّ: ارجعي إلى مولاتِكِ واخضعي تحت يديها. وقال لها ملاكُ الربِّ: تكثيراً أُكَثِّرُ نسلَكِ فلا يُعدُّ مِن الكثرةِ وقال لها ملاكُ الربِّ: ها أنت حُبْلى فتلدين ابناً وتدعين اسمه إسماعيل"([10]).
2. "وأما إسماعيلُ فقد سَمِعْتُ لكِ فيه، ها أنا أباركه وأُثْمِرُهُ وأُكثِّرُه كثيراً جداً، إثني عشر رئيساً يلدُ، وأجعله أُمَّةً كبيرةً"([11]).
3. "قومي احملي الغُلامَ [أي إسماعيل] وشُدّي يدَكِ به لأني سأجعلهُ أمّةً عظيمةً"([12]).
4. ونادى ملاكُ الربِّ إبراهيمَ ثانيةً من السماء، وقال بذاتي أقسمتُ يقول الربُّ إنّي من أجل أنَّكَ فعلتَ هذا الأمرَ ولم تُمسكْ ابنَكَ وحيدك أُبِارككَ مباركةً وأُكَثِّرُ نسلكَ تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلُكَ بابَ أعدائه ويتبارك في نسلِكَ جميعُ أمم الأرض"([13]).
تتأكَّدُ هذه البشارة لإبراهيم في مباركة ذريّته في مواضع متعددةٍ كما نرى ... ثلاثُ مراتٍ منها خاصّةٌ بنسل إسماعيل وأخرى بنسله عامّةً ... تتكرر الثلاث الأولى مؤكدةً بأنّ أبناء إسماعيل سيكثرون، ويبارك اللهُ فيهم حتى يكونوا أمةً عظيمةً وكبيرةً ... ومعلوم بدهياً أن أبناء إسماعيل لم يكونوا سوى قبائل قليلةٍ متناحرةٍ بينها بالجزيرة العربية، ويعبد غالبيتُها الأصنام ... وقد أُهْمِلَ ذِكُر العرب على مدى التاريخ، وأصبحوا موضعَ احتقارٍ من اليهود من أبناء يعقوب وإسحاق ومن الأمم الأخرى ... فهم الأمةُ الوثنيّةُ الجاهلة، ولم يتحقق لأبناء إسماعيل ذِكْرٌ ولم يصيروا أُمَّةً عظيمةً غالبةً على أعدائها إلا بظهور رسول الله محمد r بينهم ... فلمّا ظهر بينهم رسولُ الله أظهرهم اللهُ بفضله على سائر الأمم فحكموا بالإسلام معظم المعمور من الأرض في الزمن الماضي، من أطراف الصين حتى إسبانيا وتوالت بعد دولةِ الرسول r دولُ الأمويين والعباسيين وغيرهم وهم من أبناء إسماعيل مباشرةً ... واستمر الحكم الإسلامي بعد ذلك في حكم العثمانيين، وهم إن لم يكونوا عرباً إسماعيليين فقد حكموا مُنتَسِبين لرسول الله r فَكَأَنَّهم ولاةٌ عنه في أمّةٍ عظيمةٍ، راسخةٍ في الأرض ـ وإن ضعفت أحياناً ـ زعيمُها ومُؤَسِّسُها رسول الله r.
ولولا أنّ الإسلام حق ... وأنّ رسول الله r حَقٌّ، لما بُشِّرَ إبراهيم عليه السلام بظهور أبناء إسماعيل أُمّةً عظيمةً وكبيرةً ... فما كان الله عز وجلّ ليُبشِّرَ إبراهيم بضلال أبنائه ولكن بهدايتهم وكثرتهم على الحق والهدى.
رابعاً: "أُقيمُ لهم نبيّاً من وسط إخوتهم مِثْلَكَ، وأجعلُ كلامي في فِمهِ، فيكلّمُهُم بُكِلِّ ما أوصيه به، ويكون أنَّ الإنسان الذي لا يسمعُ لكلامي الذي يتكلَّمُ به باسمي أنا أطالبهُ([14])، وأمّا النبيُّ الذي يُطغي فيتكلَّمُ باسمي كلاماً لم أوصهِ أن يتكلَّم به، أو الذي يتكلَّمُ باسم آلهةٍ أُخرى فيموتُ ذلك النبيُّ"([15]).
هذا النصُّ مما لا يمكنُ لأحدٍ منهم جحدُه وإنكارُه ولكنْ لأهل الكتاب فيه أربعةُ طرقِ: أحدها: حملهُ على المسيح وهذه طريقة النصارى.
وأَمَّا اليهود فلهم فيه ثلاثةُ طرقٍ:
أحدها: أنه على حذف أداة الاستفهام، والتقدير: أُقِيمُ لبني إسرائيلَ نبياً من إخوتهم؟ أي لا أفعلُ هذا، فهو استفهامُ إنكارٍ حُذِفَتْ منه أداة الاستفهام.
الثاني: أنه خَبَرٌ ووعد، ولكنَّ المراد به شمويل النبيّ [صموئيل]، فإنّه من بني إسرائيل، والبشارةُ إنّما وقعت بنبيٍّ من إخوتهم، وإخوةُ القومِ هم بنو أبيهم، وهم بنو إسرائيل.
الثالث: أنه نبيٌّ يبعثه الله في آخر الزمان يقيمُ به مُلْكَ اليهود ويعلو به شَأْنُهُم وهم ينتظرون إلى الآن.
والذي نراه نحنُ أنّها بشارةٌ صريحةٌ في النبيّ العربي الأميّ محمدٍ بن عبد الله r لا تحتملُ غيرَه. فإنها إنما وقعت بنبيٍّ من إخوة بني إسرائيل لا من بني إسرائيل أنفسهم. والمسيحُ من بني إسرائيل، فلو كان المراد بها هو المسيح لقالَ: أُقيمُ لهم نبيّاً من أنفسهم، كما قال تعالى: " لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً منْ أَنْفُسِهِمْ"([16]).
وإخوةُ بني إسرائيل هم بنو إسماعيل، ولا يُعْقَلُ في لغةِ أُمَّةٍ من الأمم أنَّ بني إسرائيل هم إخوةُ بني إسرائيل، كما أنَّ إخوةَ زيدٍ لا يدخل فيهم زيدٌ نفُسه. وأيضاً فإنه قال: "نبياً مثلك" وهذا يَدُلُّ على أنه صاحبُ شريعةٍ عامّةٍ مثل موسى وهذا يُبْطِلُ حَمْلَهُ على شمويل [صموئيل] من هذا الوجه أيضاً، ويُبطِلُ حملَهُ على يوشع من أربعة أوجه:
أحدها: أنه من بني إسرائيل لا مِن إخوتهم.
الثاني: أنه لم يكن مثل موسى، وفي التوراة: "ولم يقم بَعْدُ نبيٌّ في إسرائيلَ مِثلُ موسى. الذي عرفه الربُّ وجهاً لوجه. وفي جميع الآيات والعجائب التي أرسلهَ الربُّ ليعمَلَها في أرض مصر بفرعون وبجميع عبيده وكُلِّ أرضه"([17]).
الثالث: أن يوشع نبيٌّ في زمن موسى، وهذا الوعدُ إنما هو بنبيٍّ يُقيمه الله بعد موسى.
وبهذه الوجوه الثلاثة يبطلُ حملُه على هارون، مع أنّ هارون توفّي قبل موسى، ونبّأهُ اللهُ مع موسى في حياته.
الرابع: إن في هذه البشارة أنّه يُنزِلُ عليه كتاباً يظهَرُ للناس مِن فيه، وهذا لم يكن لأحدٍ بعد موسى غيرِ النبي r، وهذا من علامات نبوّته التي أخبرَ بها الأنبياءُ المتقدِّمون.
خامساً: "ترنّمي أيتهُا العاقرُ التي لم تَلِدْ، أشيدي بالترنُّمِ أيتها التي لم تَمْخَضْ، لأنَّ بني المستوحِشَةِ أكثرُ من بني ذات البعل قال الربُّ. أوسعي مكانَ خيمتكِ ولتُبْسَطْ شقُقُ مساكنِك. لا تمسكي أطيلي أطنابَكِ وشَدَّدي أوتادَكِ، لأنك تمتدِّينَ إلى اليمين وإلى اليسار ويرثُ نَسلُكِ أمماً ويَعمرُ مدناً خَرِبةً، لا تخافي لأنك لا تَخْزِينَ .."([18]).
لا يستقيمُ المعنى هنا إلاّ بأن يكون الخطابُ موجَّهاً إلى مدينة مكة لا القدس ... فإن مكّةَ هي مدينةُ هاجر وإسماعيل .. وبنو المستوحشة التي تركها بعلُها هم بنو هاجر وإسماعيل ... وقد وُصِفَ إسماعيلُ، عليه السلام، في التوراة المعاصرة بأنه وحشيٌّ (مستوحِش). وقد ظلّتْ مكة مهجورةً مُوحِشةً من الوحي، عاقراً لا تلد أنبياء كمدينةِ القدس ... فجاءتها البشرى هنا بأنّ أبناءها سيكثرون ... وهو ما ينسجم مع البشارات السابقة والعديدة حول إكثار أبناء هاجر، وما ينسجم مع واقع الناس في الماضي والحاضر ... فسيكثر أبناء إسماعيل كما بُشِّرَ بذلك من قبل وستمتدُّ دولتهم وأُمَّتُهم إلى ما حولهم من البلاد والمدن فيعمرونها ويقيمون دولةً عالمية تنضوي تحتها الأمم (ويرث نسلُكَ أمماً) ... وهو ما تم فعلاً على أيدي أبناء إسماعيل فقط، ولم يتمَّ مثلُه على أيدي أبناء ذات البعل سارة عليها السلام.
فهذا تبشيرٌ واضحٌ بالإسلام ودولته ... إذ لم يتحقق لأبناء إسماعيل (أبناء هاجر / أبناء مكة) ذِكرٌ ولا تاريخٌ إلا بمجيء الإسلام.
سادساً: البشارات الواردة في إنجيل يوحنا بـ (البارقليط أو الفارقليط) أو (المُعَزّي)، وهي التالية:
1. "بهذا كَلّمتُكُمْ وأنا عندكم، وأما المُعَزّي الروحُ القدُس الذي سيرسلُه الآبُ باسمي فهو يُعَلِّمُكُم كلَّ شيءٍ ويُذكِّركُم بكلِّ ما قلتُه لكم ..."([19]).
2. "وأنا أطلبُ من الآب فيُعطِيكم معزِّياً آخر ليمكُثَ معكم إلى الأبد .."([20]).
3. "لَكِنّي أقولُ لكم الحقَّ إنه خيرٌ لكم أن أنطلقَ، لأنَّه إنْ لم أنطلِقْ لا يأتيكُمُ المُعَزِّي ولكن إنْ ذهبتُ أُرسِلُهُ لكمُ، ومتى جاء ذاك يُبَكِّتُ العالمَ علي خَطِيّةٍ وعلى بِرٍّ وعلى دينونةٍ"([21]).
4. "ومتى جاء المُعَزَّي الذي سأُرسلُهِ أنا إليكم من الآب رُوحُ الحقِّ الذي من عند الآب يَنبثِقُ فهو يشهدُ لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنَّكُم معي من الابتداء"([22]).
5. "إنّ لي أموراً كثيرةً أيضاً لأقولَ لكم، ولكنْ لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأمّا متى جاءَ ذاكَ روحُ الحقّ فهو يرشدكم إلى جميع الحقّ، لأنّه لا يتكلَّمُ من نفسِه، بل كلُّ ما يَسَمعُ يتكلَّمُ به ويخبركم بأمورٍ آتيةٍ، ذاك يمجّدني، لأنّه يأخذُ ممّا لي ويخبرُكمُ"([23]).
وننبِّهُ قبل الشروع في تفسير المعاني المقصودة من النصوص السابقة من إنجيل يوحنا إلى أمرين هامَّينِ:
الأمر الأول: إنّ هناك خلافاً شديداً قد وقع بين العلماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب من المسيحيين في ترجمة كلمة (Paraclytos) اليونانّية إلى اللغة العربيّة، ففي حين ترجمها المسيحيون المعاصرون إلى لفظ (المُعَزّي) تَمَسَّك العلماء المسلمون بترجمتها إلى (الفارقليط أو البارقليط)([24])، وقد احتّج العلماء المسلمون بأمرين، أولهما أنّ كلمة المعزّي هي ترجمةٌ لكلمة (Paracalon) التي لم ترد في الإنجيل اليونانيّ وليست ترجمةً لكلمة (Paraclytos) التي وردت بحرفيّتها في الإنجيل اليونانيّ. وثاني الأمرين اللذين احتّجَ بهما العلماء المسلمون هو وجود لفظ (الفارقليط) في الأناجيل القديمة التي كانت مُستعملةً أيام الإمام الماوردي على سبيل المثال وهو متوفَّى في عام (450 للهجرة)، وقد أورده في "أعلام النبوّة". كما كان هذا اللفظ موجوداً في الأناجيل التي كانت مُستعملةً أيام شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو متوفّى في عام (728 للهجرة)، وقد أوردَها عدّة مراتٍ في "الجواب الصحيح لمن بَدَّل دين المسيح".
الأمر الثاني: لا يُنكرُ علماء المسيحيين هذه البشارةَ، ولكنّهم يستدلّون بها استدلالاً، نراه خاطئاً، على المسيح، عليه السلام، تارةً وعلى الروح القدس تارةً أخرى. بينما يستدلُ بها العلماء المسلمون على سيّدنا محمدٍ r.
ولكي لا نخوض في تفاصيل الترجمات، والاتهامات بصحّة الاستدلالات أو خطأها فيما يتعلّق بـ (البارقليط) أو (المعزّي)، فإنَّنا نرى أنّ الحلّ المناسب لهذه المشكلة هو إيراد وتحليل مواصفات هذا (البارقليط) أو (المعزّي) كما وردت في إنجيل يوحنا لنرى على أيِّ نبيٍّ أو شخصٍ تدلُّ، وذلك على النحو الآتي:
1. إنّ استخدام كلمة روح الحقّ في النصوص السابقة لا تدلُّ على الروح القدس، وذلك لما يلي:
أ. إنّ يوحنّا نفسه الذي وردت البشاراتُ السابقة في إنجيله قد عبَّر عن معنى النبيِّ الصادقِ بكلمة (روح الحقّ) كما عبَّرَ عن معنى النبيِّ الكاذبِ بكلمة (روح الضلال)، وقد ورد ذلك في رسالته الأولى، الإصحاح الرابع عند تحذيره من اتّباع الأنبياء الكَذَبةِ فقال: "أيّها الأحبّةُ لا تصدِّقوا كلَّ روحٍ، بل امتحنوا الأرواحَ هل هي من الله؟ لأنّ أنبياءَ كَذَبةً كثيرين قد خرجوا إلى العالم، بهذا تعرفون روح الله"([25]). وقال: "من هذا نعرفُ روحَ الحقِّ وروحَ الضَّلال"([26]). وواضحٌ أنَّ يوحنا يتحدث هنا عن النبيِّ الحق الذي بَشَّرَ به المسيحُ، عليه السلام، وتمييزه عن الأنبياء الكَذَبَةِ الذين حذَّرَ منهم المسيحُ عليه السلام ... ولا معنى للحديث عن تمييز روح القدس عن الأنبياء الكذبة فليس ذلك ما يريد.
ب. إنَّ الروح التي زعموا أنها زارت جماعةً منهم لم تمكُثْ معهم إلى الأبد، ولم تُبَيِّنْ للعالم ضلالَ عقيدته عن الله وعن المسيح وعن الخطيئة والبِرِّ ويومِ الدينونة، ولا تنطبق بقيةُ الصفات أعلاه عليها، ثمّ كيف وهم يؤلِّهونَها والذي بَشَّرَ به المسيحُ، عليه السلام، مِنْ بعده يُوصفُ بأنه لا ينطقُ من ذات نفسه بل مما يُوحى إليه، ثُمَّ إنها لم تُسمَّ هنا بروح القدس بل سُمِّيَتْ روحَ الحق.
2. إنَّ محمداً r هو الذي جاء بعد عيسى، عليه السلام، فَمَجَّدهُ والأنبياءَ ودفع عنهم افتراءات اليهود بأنَّ منهم مَنْ عبدَ الأصنام أو ارتكبَ الفواحش أو سرقَ أو سكرَ ... ودفعَ افتراءات اليهود عن المسيح وعن أُمّهِ عليهما السلام.
3. إنّ محمداً r هو الذي جاء بعد عيسى، عليه السلام، وبيَّن للناس أوجَه البِرِّ وأنذرهم يومَ الدينونة، وأخبرَ أنّ تعاليمه للناس هي الأخيرةُ من عند الله تعالى وبالتالي فهي أبديّةٌ ولن تتغيّر، ولن تُنسخَ.
4. إنّ محمداً r هو النبيُّ الذي جاء بعد عيسى، عليه السلام، أُمّيّاً لا يقرأ بل يتلقّى الوحيَ سَمَاعاً ويقول للناس إنّه لا ينطقُ عن نفسه بل عن وحيٍ يُوحى من الله تعالى.
5. إنّ محمداً r هو النبيُّ الذي جاء بعد عيسى، عليه السلام، وأخبرَ الناس بأحداثٍ قادمةٍ ستقعُ، ونبؤاتٍ ستتحقّقُ وقد وقعتْ وتحقّقتْ.
ونترك لرأي القارئ الكريم أن يختارَ ويقرّرَ مَنْ هو الذي تنطبق عليه الأوصاف السابقة أمحمدٌ هو أم الروح الحقّ؟؟؟ كما نتركُ لرأيه كذلك أن يتفكَّر فيما سُقناه من بشاراتٍ بنبوّته، عليه السلام، في الكتاب المقدّس ليقرِّرَ بنفسه أوردَ ذِكرهُ، عليه السلام، في الكتاب المقدّس أم لا؟؟.



الشُّبهةُ العشرون ودفْعُها
إن كانّ قرآنُ محمدٍ موحىً به من عند الله كما يزعمُ، فكيف نُسَوِّغُ وجودَ النَّسخِ فيه؟ كيف يقول اللهُ قولاً ثمَّ يرجعُ عنه وينسخُه بقولٍ آخر؟؟ وإن كان اللهُ يعلمُ الغيبَ فكيف ينسِبُ إليه محمّدٌ أقوالاً ثمّ يزعمُ أنّه غَيَّرَها فيما بعد؟؟
- إنّ الذي دفع هؤلاء الرهبان الطاعنين لنحت هذه الشبهة أمران اثنان: أمّا الأوّلُ فهو تصوُّرهم أنّ النسخ يُجَوِّزُ على الله تعالى البدَاء؛ بمعنى أنّه يأمرُ بأمرٍ ثم يعودُ عنه لحكمةٍ بدت له وظهرت بعد أنْ كانت خافيةً عليه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. أمّا الأمر الثاني فهو أنّ هؤلاء الطاعنين يتوهّمون أنّ النّسخَ لم يَرِدْ في كتابهم المقدّس، وهذا أمرٌ غير صحيحٍ فقد وردت في الكتاب المقدّس آياتٌ ناسخةٌ للعديد من الأحكام في العهدين القديم والجديد، وهو ما سنذكرُ شواهده في نهاية تفنيدنا لهذه الشّبهة وردِّنا عليها.
ونقرُّ بادئ ذي بدءٍ أنَّ القرآن الكريم ذَكَرَ النسخ في عدّةٍ آياتٍ نذكرُ منها قوله تعالى: "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا أَوْ مِثْلِهَا"([27]). ومنها قوله تعالى: "وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ"([28]). وقد لخَّصَ الزرقانيُّ، يرحمه الله، الحِكَمَ الإلهيةَ في النسخ، فقال: "إنَّ الله تعالى حينَ نسخ بعضَ أحكامه ببعضٍ، ما ظَهَرَ له أمرٌ كان خافياً عليه وما نشأ له رأيٌ جديدٌ، كان يفقده مِن قبلُ، وإنّما كان سبحانه يعلمُ الناسخَ والمنسوخَ أزلاً من قبل أن يشرعهما لعباده، بل مِن قبلِ أن يخلقَ الخَلْقَ، ويبدأ السماء، والأرض؛ إلاّ أنه ـ جلَّت حكمتُه ـ عَلِمَ أنّ الحُكمَ الأول المنسوخ منوطٌ بحكمةٍ، أو مصلحةٍ تنتهي في وقتٍ معلوم. وعَلِمَ بجانب هذا أنَّ الناسخَ يجيءُ في هذا الوقت المعلوم منوطاً بحكمةٍ، ومصلحةٍ أخرى. ولا ريْبَ أنّ الحِكَمَ، والمصالحَ تختلفُ باختلاف النّاس، وتتجدَّدُ بتجدُّدِ ظروفهم، وأحوالهم، وأنّ الأحكام، وحِكَمَها، والعباد، ومصالحهم، والنواسخ، والمنسوخات كانت كلّها معلومةً له من قبل، ظاهرةً لديه لم يخفَ شيءٌ منها عليه. والجديدُ في النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما عُلِمَ لعباده لا ظهور ذلك له"([29]).
وقد ذكر صاحبُ "هدى الفرقان" كلاماً قريباً من كلام الزرقانيّ السابق في ردّه على إمكانية تجويز النسخ للبداء على الله تعالى فقال: "إنَّ نسخَ الله تعالى لحُكمٍ من أحكامه، أساسُه حِكمةٌ ظاهرةٌ، ومعلومةٌ لله تعالى، ويستحيلُ أن تخفَى عليه. وغايةُ الأمر أنّ الله تعالى عندما ينسخُ حكماً بحُكْمٍ آخر، فإنّ الحُكمَ الناسخ يأتي بحكمةٍ غير الحِكمة التي أتى بها الحكمُ الأولُ المنسوخ. وعلى اعتبار أنّ هناك مصلحةً جديدةً للعباد اقتضتها عمليةُ النّسخ، وجاء بها الحكمُ الناسخ. فمصالحُ العباد تتجدَّدُ بتجدُّدِ الأزمان، وتختلفُ باختلاف الأشخاص، والأحوال. ولذا فإنّ النَّسْخ يعني أن هناك مصلحةً جديدةً فيأتي الله بِحُكمٍ جديدٍ يتضمَّنُها، وينسخُ به الحكمَ السابق الذي يتضمن المصلحةَ السابقة. والله تعالى أَحَاطَ بكُلِّ شيءٍ علماً، فلا يستلزم النسخ إذن الجهلَ، أو العبثَ على الله تعالى"([30]).
ولربّما يعترضُ مُعترِضٌ فيقول: إن النَّسخَ يقتضي اجتماع الضّدَّيْنِ، وهذا مُحالٌ وتوضيح ذلك: أن الله إذا أمرَ بحكمٍ فيعني هذا أنه حَسنٌ، ومرغوبٌ فيه، وإذا نهى عنه فيعني هذا أنه خبيثٌ، وغيرُ مرغوبٍ فيه، ولذا فالأمر بالشيء، والنهي عن معناه اجتماع الصِّفات المتضادة في الحكم الواحد، أو الفعل الواحد الذي تعلَّقَ به الأمر، والنهي.
وهذا الاعتراض مردودٌ بما يلي:
"إنَّ الحُسْنَ، والقُبحَ ليست من صفات الفعل الذاتي حتى تكون ثابتةً فيها لا تتغير؛ بل هي تابعةٌ لتعلُّق أمر الله، ونهيةِ بالفعل. وعلى هذا يكون الفعلُ حسناً، ومرغوباً فيه ما دام مأموراً به من الله تعالى، وكذلك يكون هذا الفعل نفسُه قبيحاً، وغيرَ مرغوبٍ فيه عند الله تعالى ما دام منهياً عنه منه تعالى. والقائلون بالحسن، والقبح العقلييْن هم المعتزلة، وهم يعترفون أنَّ الحُسنَ، والقُبحَ يختلفان باختلاف الأشخاص، والأحوال، والأوقات. وبهذا التأصيل ينتفي اجتماعُ الضّديْن؛ لأنّ الوقتَ الذي يكون فيه الفعل حسناً غيرُ الوقت الذي يكون فيه ذلك الفعل قبيحاً، فلم يجتمع الحسنُ، والقبحُ في فعلٍ واحدٍ، وفي وقت واحدٍ"([31]).
ولمزيدٍ من الفائدة التي نرجو أن تتحقّق للقارئ الكريم فإننا نَضَعُ بين يديه مزيداً من الفوائد والحِكَم التي تناسبُ أنواعَ النسخ المتعدّدة، نعم فلكُلِّ نوعٍ من أنواع النَّسخ حِكَمٌ وتُرافقه وتناسبه، ومِنْ ذلك ما يلي([32]):
أولاً: حكمة نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض: تتجلّى حكمة الله في هذا النوع من النسخ في أنَّ الله أخذَ الناسَ بالتدريج في فرضيّة الأحكام، رأفةً بهم، وتيسيراً عليهم، وتدريباً للنفوس على تَقَبُّلِ الأحكام، وتلطُّفاً بالأمّة في التطبيق للفرائض، ومراعاةً للشعور في التحليل، والتحريم. ويدعم صحّة هذا الكلام قولُ عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها: "إنّما نزلَ أوَّلَ ما نزلَ منه سورةٌ من المُفَصَّلِ فيها ذِكرُ الجنة والنار، حتّى إذا ثابَ الناسُ إلى الإسلام نزلَ الحلالُ والحرامُ، ولو نزلَ أولَّ شيءٍ: لا تشربوا الخمر؟ لقالوا: لا نَدَعُ الخمرَ أبداً. ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا نَدَعُ الزنا أبداً"([33]).
ثانياً: حكمة نسخ الحكم الأصعب إلى الأسهل منه: وتتجلّى حكمة الله في هذا النوع من النسخ في التخفيف، والتسهيل، والتهوين على الناس؛ وإظهاراً لفضل الله، ورحمته بالعباد، وابتلاءً لهم في الشكر لله على نعمائه، وحفزاً لهم على طاعته.
ثالثاً: حكمة نسخ الحكم الأسهل إلى الأصعب: وتتجلّى حكمة الله في هذا النوع من النسخ في كون هذا ابتلاءً، واختباراً للمؤمن في طاعة ربه، وتمحيصاً للنفس البشرية المؤمنة، من الكافرة، والصابرة من الهلوعة، والمُطْمَئِنَّةِ من المتُشَكِّكَةِ.
رابعاً: حكمة نسخة الحكم إلى المساوي له: وتتجلّى حكمة الله في هذا النوع من النسخ في تثبيت أفئدة المؤمنين على الأحكام الربانيّة بِتَقَبُّلِ ما يُملى عليهم منها، ودعوتهم إلى الاستمرارية في الطاعة، والامتثال؛ حفزاً لهم في الأخذ، والتطبيق، وامتحاناً لهم في الطاعة، والقبول.
خامساً: حكمة نسخة الحكم مع بقاء التلاوة: وتتجلّى حكمة الله في هذا النوع من النسخ في إسباغ الثواب الالهي على التلاوة؛ حيث إنَّ الآيات المنسوخة حكماً الباقية تلاوةً مُتَعَبَّدٌ بتلاوتها يُثاب المؤمن على مجرد قراءتها، وإنْ لم يُطَبِّقْ حُكمَها، فضلاً عن الثواب لمجرد الاستماع إلى التلاوة؛ وكل هذا من شأنه أن يغرس شواهد الإيمان في النفوس، ويعمق شواهد الطاعة للخالق المعبود.
سادساً: حكمة نسخ التلاوة مع بقاء الحكم: وتتجلّى حكمة الله في هذا النوع من النسخ في الابتلاء الربانيّ للمؤمنين بتطبيق الأحكام، ومدى الالتزام بالأمر الربانيّ في تطبيق الحكم دون وجود اللفظ.
لقد كان من الجدير بالرهبان الطاعنين الاطَّلاعُ على الحِكَمِ الربّانية في النسخ والتماسها وفهمها عوضاً عن تقديمها في ثوب المَنْقَصَةِ والطَّعنِ فيها. وإننا إذ نقول ما نقول فسنقفُ بهؤلاء على أبرز ما ورد في كتابهم المقدَّسِ من الناسخ والمنسوخ الذي أنكروه ورفضوا الاعتراف بوجوده فيه.
شواهد الناسخ والمنسوخ في الكتاب المقدّس
نكتفي تحت هذا العنوان بإيراد بعض الشواهد من الكتاب المقدّس التي تُثبتُ وقوع النسخ فيه([34]) وهي التالية:
أولاً: الفرضُ بصدق شهادة المسيح ابن مريم عليه السلام، ودليله: "أجَابَ يَسُوعُ: وَإنْ كُنْتُ أشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ"([35]). ثُمَّ نُسِخَ هذا الفرضُ بصدق شهادة المسيح ابن مريم عليه السلام وأنّها الآن ليستْ حقاً. ودليلهُ ما يلي: "إنْ كُنْتُ أشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً"([36]).
ثانياً: السماح بالزواج من أُختين في نفس الوقت ليعقوب، عليه السلام. ودليلهُ أنّ يعقوب قد تزّوج الأختين "ليئة وراحيل"([37]) ثُمَّ جاءَ نسخُ السَّماح بالزواج من الأختين، ودليل ذلك: "وَلاَ تَأخُذِ امْرَأةً عَلَى أخْتِهَا للِضِّرِّ لِتَكْشِفَ عَوْرَتَهَا مَعَهَا فِي حَيَاتِهَا"([38]).
ثالثاً: السماح بالزواج من العَمَّةِ لعمرام أبي موسى عليه السلام. ودليلهُ: أثبت سفر الخروج إباحة الزواج بالعمة: "وَأخَذَ عَمْرَامُ يُوكَابَدَ عَمَّتهُ زَوْجَةً لَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ هَارُون ومُوسَى. وَكَانَتْ سِنُو حَيَاةِ عَمْرَامَ مِئَةً وَسَبْعاً وَثَلاَثِينَ سَنَةً"([39]). ثم جاءَ نسخُ السماح بالزواج من العمّة، ودليل ذلك: "عَوْرَةَ أخْتِ أبيكَ لا تَكْشِفْ. إنَّهَا قَريِبَةُ أبيكَ"([40]).
رابعاً: إباحة الحلف بالله. ودليله: "الرَّبَّ إلهَكَ تَتَّقِي وَإِيَّاهُ تَعْبُدُ وَبِاسْمِهِ تَحْلِفُ"([41]). ثم جاء نسخُ إباحة الحلف بالله، ودليله ما يلي: "أيْضاً سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَحْنَثْ بَلْ أوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. وَأمَّا أنَا فَأقْولُ لكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّة لاَ بالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللُّهِ وَلاَ بالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ وَلاَ بأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلاَ تَحْلِفْ برَأسِكَ لأنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةٍ بَيْضَاءَ أوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ لاَ  لاَ. وَمَا زَادَ عَلى ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّير"([42]).
خامساً: جاء الأمرُ بالقصاص في شريعة التوراة. ودليل ذلك: "وإن حصلتْ أذيّةٌ تُعطي نفساً بنَفْسس وعيناً بعينٍ وسِنِّاً بِسِنٍّ ويداً بيدٍ ورِجلاً برِجلٍ وكَيّاً بكيٍّ وجُرْحاً بجُرحٍ ورضّاً برضٍّ"([43]). ثمّ جاء الإنجيل ونسخَ القصاصَ. ودليلُ ذلك على لسان المسيح عليه السلام: "سمعتُم أنّه قِيلَ عينٌ بعينٍ وسِنٌّ بِسنٍّ، وأمّا أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرَّ بَلَ من لطمَك على خدِّكَ الأيمن فَحوِّل له الآخرَ أيضاً، ومن أرادَ أن يخاصمك ويأخذ ثوبكَ فاترُك له الرداء أيضاً"([44]).
سادساً: إباحة أكل كلِّ حيوانات الأرض. ودليلهُ، "كلُّ دابّةٍ حيّةٍ تكونُ لكم طعاماً كالعُشب الأخضر دفعتُ إليكم الجميع"([45]). ثمّ جاء الأمرُ بنسخ ذلك، بتحريم أكل بعضها كالخنزير على سبيل المثال، ودليل ذلك ما يلي: "والخنزيرَ لأنّهُ يشقُّ ظلفاً ويقسِمُه ظلفينِ لكنّه لا يجتَرُّ، فهو نِجسٌ لكم، من لحمها لا تأكلوا، وجُثَّتَها لا تلمسوا، إنّها نجسةٌ لكم"([46]).
سابعاً: قالت التوراة بفرض الختان على كل الذكور، "وقَالَ اللهُ لإِبْرَاهِيمَ: وَأمَّا أنْتَ فَتَحْفَظُ عَهْدِي أنْتَ وَنَسْلُكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أجْيَالِهِمْ. هَذَا هُوَ عَهْدِي الَّذِي تَحْفَظُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ: يُخْتنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ فَتُخْتَنُونَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِكُمْ فَيَكُونُ عَلاَمَة عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. اِبْنَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ فِي أجْيَالكُمْ: وَلِيدُ الْبَيْتِ وَالْمُبْتَاعُ بفِضَّةٍ مِنْ كُلَّ ابْنِ غَرِيبٍ ليْسَ مِنْ نَسْلِكَ. يُخْتَنُ خِتَاناً وَلِيدُ بَيْتِكَ وَالْمُبْتَاعُ بفِضَّتِكَ فَيَكُونُ عَهْدِي فِي لحْمِكُمْ عَهْداً أبَديّاً"([47]).
وقد اختتن يوحنا المعمدان، "وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ جَاءُوا لِيَخْتِنُوا الصِّبِيَّ وَسَمَّوْهُ بِاسْمِ أبيهِ زَكَرِيَّا. فَقَالَتْ أُمُّهُ: لاَ بَلْ يُسَمَّى يوحنّا"([48]).
وكذلك اختتن المسيح ابن مريم عليه السلام: "وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أيَّامٍ لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ سُمِّيَ يَسُوعَ كَمَا تَسَمَّى مِنَ الْمَلاَكِ قَبْلَ أنْ حُبِلَ بِهِ فِي الْبَطْنِ"([49]).
ثم قال الإنجيل بنسخ فرض الختان حيثُ ألغاه بولس في رسالته إلى أهل غلاطية: "هَا أنَا بُولُسُ أقُولُ لَكُمْ: إنَّهُ إنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئاً! لَكِنْ أشْهَدُ أيْضاً لِكُلِّ إنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ أنَّهُ مُلْتَزِمٌ أنْ يَعْمَلَ بكُلِّ النَّامُوس. قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ أيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوس. سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ"([50]).
ثامناً: تحدَّثَ إنجيلُ متّى عن أنّ رسالة المسيح، عليه السلام، كانت موجّهةً لبني إسرائيل فقط. ودليل ذلك "وقالَ لم أُرْسَلْ إلاّ إلى خِرافِ بيت إسرائيل الضّالَّةِ"([51]).
ثم جاءَ إنجيل مرقس ليقرِّرَ بأنَّ المسيح لم يُرسَلْ لبني إسرائيل فقط، بل للعالم كلِّه. ودليل ذلك "وقال لهم: إذهبوا إلى العالمِ أجمَعَ، واكرزوا بالإنجيل"([52]).
تاسعاً: سمحت التوراةُ بالزواج من الأخت، فقد ذكرتْ أنّ إبراهيم، عليه السلام، قد تزوج أخته سارة من أبيه: "وَبالْحَقِيقَةِ أيْضاً هِيَ أُخْتِي ابْنَة أبِي غَيْرَ أَنَّهَا لَيْسَتِ ابْنَةَ أُمِّي فَصَارَتْ لِي زَوْجَةَ"([53]).
ثمُ جاءَ الأمُر بنسخ السماح بالزواج من الأخت، ودليلُ ذلك: "مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ يَضَاجِعُ أُخْتَهُ ابْنَةَ أُمِّهِ أوِ ابْنَة أبِيهِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين"([54]).
عاشراً: أباحت التوراةُ الطلاقَ "إذا أخذَ رجلٌ امرأةً وتزوّجَ بها فإنْ لم تَجِدْ نعمةً في عينيه لأنّه وجَد فيها عيبَ شيءٍ وكَتَبَ لها كتابَ طلاقٍ ودفَعهُ إلى يدها وأطلقَها من بيته ..."([55]).
ثم جاء الإنجيل بنسخ الطَّلاق وتحريمه، ودليل ذلك ما يلي: "فالذي جَمَعُه اللهُ لا يفرِّقُه إنسانٌ. قالوا له فَلِمَاذَا أوْصَى مُوسَى أنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَقٍ فَتُطَلّقُ؟ قَالَ لَهُمْ: إنَّ مُوسَى مِنْ أجْلِ قَسَاوِةَ قُلُوبِكُمْ أذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلَكِنْ مِنْ الْبَدْءٍ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا. وَأقْولُ لَكُمْ: إنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأتَهُ إلاَّ بِسَبَبِ الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بأخْرَى يَزْنِي وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي"([56]).
حادي عشر: جاءت التوراة بحكم تقديس يوم السبت وتعظيمه وتخصيصه للعبادة، لأنّه اليوم الذي استراح فيه الربُّ بعد إتمامه لخلق السماوات والأرض كما ذكرت التوراة "فأُكْمِلت السمواتُ والأرضُ وكلُّ جُندها، وفرغَ اللهُ في اليوم السّابع من عملهِ الذي عَمِلَ، فاستراح في اليوم السّابع من جميع عمله الذي عَمِلَ، وباركَ اللهُ اليومَ السابعَ وقدَّسهُ لأنّه فيه استراحَ من جميع عَملهِ الذي عَمِلَ اللهُ خالقاً"([57]).
ثُمَّ جاء الإنجيلُ لينسخَ تقديسَ السبت ويستبدِلَهُ بتقديس وتعظيم يوم الأحد وجعله للعبادة. حيث يذكر الإنجيلُ أنّ السبب في ذلك راجعٌ لكون الأحد اليوم الذي قام فيه المسيحُ من قبره بعد الصَّلب ولكونه كذلك اليوم الذي كان فيه الرسل (تلاميذ المسيح) يجتمعون للعبادة أيام الكنيسة الأولى. وهنا نشيرُ إلى أنّ لفظ الأحد لم يُذكر في الإنجيل ولكنّ الذي ذُكِرَ هو الإشارة إليه بـ "اليوم الأوّل من الأسبوع"([58]). كما جاء التعبيرُ عنه في رؤيا يوحنا بـ "يوم الربّ"([59]).
يُعتبَرُ ما سبق إيراده من شواهدَ أدلّةً قاطعةً على ورود الناسخ والمنسوخ في كتاب الرّهبان الطّاعنين المُقَدَّسِ. ولكن يبدو أنّ هؤلاء لا يقرؤون كتابهم حقَّ القراءة. وهذا صحيحٌ؛ فهم مُنشغِلون بقراءة كتابنا العزيز في محاولةٍ يائسةٍ منهم لإثبات بشرّيته ووقوع التناقض والاختلاف فيه، فعجباً لهم، عجباً!!!.
الشّبهةُ الحادية والعشرون ودَفْعُها
إنّ القرآن الذي جاء به محمدٌ مليءٌ بالتناقضات. وفيه آياتٌ تعارضُ وتناقضُ في مضمونها آياتٍ أُخريات. ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:
الآية
الآية التي تعارضها وتناقضُها
لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ
وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ
لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ
- مما لا شكّ فيه أنّ هذه الشبهة مُلتصقةٌ تمام الالتصاق بما سبقها من شبهة الناسخ والمنسوخ. وقد حرصنا على إيرادها وذِكرِ المُرَاد منها، والله أعلم بمراده، وذلك توضيحاً للقارئ الكريم، لئلا يقع في قلبه ما يرجوا الرهبانُ الطَّاعنون أن يقعَ، وإنّا لموردوها مع توثيقها وتخريجها، حيث حرص الرهبان على إيرادها دون توثيقٍ كما حرصوا على اقتطاعها وإخراجها من السِّياق الذي وردت فيه لِيُوهموا الناسَ بوقوع التعارض والتناقض فيها.
أمّا الآية الأولى فقد وردت في سياق قوله تعالى: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"([60]).
ومعنى قوله تعالى "لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ" "أيْ أنّ هذا الوعد بالبُشرى لعباد الله الصالحين في الدنيا والآخرة لا يُبَدَّلُ ولا يُخْلَفُ ولا يُغَيَّرُ، بل هو مُثْبَتٌ لا محالة، ذلك هو الفوز العظيم. فلا تبديل لأقوال الله تعالى ولا إخلافَ لمواعيده سُبحانه، كقوله تعالى: "مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ"، وذلك إشارةٌ إلى كونهم من المُبَشَّرِين في الدَّارين فلا خُلْفَ لوعده سُبحانه"([61]).
وقيلَ في تفسيرها كذلك: لا تبديلَ لأخباره أيْ لا يَنسخُها بشيءٍ ولا تكون إلاّ كما قال([62]).
أمّا قوله تعالى " وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ"([63]). فهو يَتَحَّدثُ عن الناسخ والمنسوخ، والذي تقدّم القولُ فيه، ونُشيرُ هنا إلى أنّ "النسخ لا يكون إلاّ في الأحكام، أمّا العقائدُ فلأنّها حقائقُ صحيحةٌ لا تقبلُ التغييرَ والتبديلَ فبدهيٌ أَلاّ يتعلَّقَ بها نسخ ... ولا نسخَ لمدلولات الأخبار المَحْضَةِ لأنّ نسخها يؤدّي إلى كذب الشارع في أحد خبريه الناسخ والمنسوخ، وهو مُحَالٌ عقلاً ونقلاً"([64]). وإنّه من الواضح تماماً أنّ الآية الأولى كانت تتحدث عن إخبار الله أنّ وعدَ عباده المصّالحين بالبشرى والتثبيت في الدنيا والآخرة وهو إخبارٌ لا يُخْلَفُ ولا يطاله النسخُ.
أمّا قوله تعالى: "وَاتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً"([65]) فيعني أنه "لا مُغَيِّرَ ولا مُحَرِّفَ ولا مُزُيِل لكلمات الله تعالى ولا يقدرُ أحدٌ على تبديلها وتغييرها، إنّما يقدرُ على ذلك هو وحده " وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ"([66]).
وقال القرطبيُّ: قيلَ هو مِن تمام قصّة أصحاب الكهف: أيْ اتَّبِع القرآن فلا مُبَدِّلَ لكلمات الله ولا خُلفَ فيما أخبر به من قصّة أصحاب الكهف([67]). وقال الطبريُّ: لا مُغَيِّرَ لما أَوعدَ بكلماته التي أنزلها عليك أهلَ معاصيه والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناهُ إليك"([68]).
ونُشيرُ هنا إلى أنّ بعض التفاسير المعاصرة لـِ (كلماته) أو (كلمات الله) قد جاءت بمعنى سنن الله وقوانينه في الكون. وعلى ذلك يكون معنى (كلمات الله) أو (كلماته) "آيات الله تعالى في الكون والسنن والقوانين التي وضعها اللهُ له فهي لا تتغيّرُ ولا تتبدّل"([69]).
ومن المعاصرين مَن فسّرها بـ "قضاء الله الذي يقضيه في شؤون الكائنات"([70]). ولا تعارض بين الآية السابقة من سورة الكهف (لا مبدِّلَ لكلماته) وبين قوله تعالى في سورة البقرة " مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"([71]) لأنّ الآية الأولى تقول باستحالة أن يَقدِرَ أحدٌ على تغيير أو تبديل أو تحريف كلام الله، بينما الثانية تتحّدث عن الناسخ والمنسوخ في القرآن، والذي هو من اختصاص الله تعالى وحده ولا يقدرُ على نسخه أو تبديله أحدٌ سواه. وأنّه لا يكون إلاّ لِحِكَمٍ وفوائدَ سبقَ لنا ذكرُها وتعدادها في ردّنا على الشُّبهة السابقة.
أما قوله تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"([72])، فلا ندري كيف فهم الرهبانُ الطّاعنون تعارضه وتناقضه مع قول الله تعالى: " يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ"([73])؟؟
فالآية الأولى صريحةٌ في الدلالة على حفظ الله تعالى للقرآن الكريم من التغيير والتحريف والتبديل، والآية الثانية تتحدّث عن الناسخ والمنسوخ في القرآن والذي هو من اختصاص الله تعالى وحده، بل وهي تدلُّ على أنّ النسخ الذي يُحدثه الله تعالى لبعض آياته في القرآن الكريم معلومٌ مُقدَّرٌ عنده في اللوح المحفوظ (أم الكتاب) قبل خلقه تعالى للخلق.
قال قتادة وابن زيدٍ وسعيد جُبَير: يمحو اللهُ ما يشاء من الفرائض والنوافل فينسخُه ويُبَدِّلُه ويُثبِتُ ما يشاء فلا ينسخه، وجُملةُ الناسخ والمنسوخ عنده في أمِّ الكتاب"([74]).
وإن كان الرهبان الطاعنون يتوهّمون ويزعمون وجود تناقضاتٍ وتحريفاتٍ في القرآن الكريم فإنّهم مطالَبون بالإجابة عن السؤالين التاليين:
السؤال الأول: كيف نوفِّقُ بين نسخ الإنجيل لكثيرٍ من أحكام وتشريعات التوراة وبين قول المسيح عليه السلام "لا تظنّوا أنّي جئتُ لأنقُضَ الناموس أو الأنبياءَ. ما جئتُ لأَنقُضَ بل لأكمِّلَ. فإنّي الحقَّ أقولُ لكم إلى أن تزولَ السماءُ والأرضُ، لا يزولُ حرفٌ واحدٌ أو نقطةٌ واحدةٌ من الناموس حتى يكون الكُلُّ"([75])؟؟
فإنّ الذي نراه أن النسخَ الذي أحدثه الإنجيل على الكثير من أحكام وتشريعات التوراة إنّما هو نقضٌ وتبديلٌ وتغييرٌ وليس تكميلاً!!.
السؤال الثاني: ما تعليقُ الرهبان الطاعنين، يا تُرى، على نشر الهيئة الكهنوتية في الكنيسة الكاثوليكية لوثيقة "هِبَة الكتاب المقدَّس"، التي ذكرت أنّ بعضَ أجزاء الكتاب المقدّس غيرُ صحيحةٍ وأنّ علينا أَلاَّ نتوقَّعَ العثورَ على كلامٍ علميٍ دقيقٍ وإحكامٍ تاريخيٍ بالغِ الدّقّةِ أو تامٍّ في الكتاب المقدّس!!
"أوردت صحيفة "التايمز" البريطانية، في عددها الصادر الأربعاء 5/10/2005، أنَّ الأساقفة ذكروا في وثيقتهم المُسَمّاة "هبة الكتاب المقدس"، "يجب علينا ألاّ نتوقَّع العثور على كلامٍ علميٍ دقيقٍ وإحكامٍ تاريخيٍ بالغ الدقة أو تامٍّ في الكتاب المقدس".
ويتزامن تقديمُ هذه الوثيقة مع النهوض المستمر لليمين المسيحي وخاصّةً في الولايات المتحدة الأمريكية. ويطلب بعضُ المسيحيين التأويلَ الحرفيَّ لقصَّة الخلق في سفر التكوين التي يتمُّ تعليمها مع نظرية النشوء والتَطُّورِ لـ "داروين"، معتقدين أنها نظريةٌ جديرةٌ بالتصديق حول كيفية نشوء العالم. وفصول سفر التكوين الـ 11 التي تروي قصّتين متناقضتين حول الخلق، هي من بين القصص التي يصرُّ الأساقفة الكاثوليك على أنها لا يمكن أن تكون "تاريخيةً".
وتضيف الصحيفة إنَّ الوثيقة تسرد موقف الكنيسة الكاثوليكية منذ القرن السابع عشر عندما أدانت غاليليو واعتبرته "مُهَرْطِقا" لسخريته من اعتقادٍ كان سائداً آنذاك حول الوحي الإلهي للكتاب المقدس، وذلك بدفاعه عن وجهة نظر كوبرنيكوس حول النظام الشمسي.
ويرى الأساقفة أنَّ الاطِّلاع على الكتابِ المقدَّسِ يجب أن يكون في ضوء معرفة أنه ـ أي الكتاب المقدس ـ كلمة الله التي تم التعبير عنها في لُغةٍ بشريةٍ.
ويقولون إنّ الكنيسة يجب أن تُقَدِّمَ الكتابَ المقدَّسَ عبر طرقٍ مناسبةٍ للزمن المتغير وطرق ذكية للناس الذي يعيشون في هذا العصر.
ويتابعون: "الكتاب المقدس فيه فقراتٌ صحيحةٌ تتحدَّثُ عن تخليص الإنسان ... لكن يجب علينا ألاَّ نتوقع دقةً كاملةً في الكتاب المقدس في مسائلَ دنيويةٍ أخرى".
وفي نفس السياق، يرفضُ الأساقفةُ في وثيقتهم نبوءات سفر الرؤيا، آخرِ كتابٍ في الإنجيل المسيحي، والذي يصف كتابهُ قيامةَ المسيح وموت البهيمة. ويعلِّقُ الأساقفة: إنَّ هذه اللغة الرمزية يجب أن تُحترمَ لما هي عليه ولكن ليس لكي يتم تأويلها بشكلٍ حرفيٍّ، كما يجب ألا نتوقعَ اكتشافَ تفاصيل في هذا الكتاب حول نهاية العالم".
وتختم صحيفة "التايمز" أن الأساقفة يذكرون في وثيقتهم أيضاً أنَّ الناسَ يتطلَّعون اليوم نحو الأشياء القابلة للتصديق والصحيحة والتي تكون جديرةً بالاهتمام"([76])!!!






الشُّبهةُ الثانية والعشرون ودَفْعُها
هاجم الرهبانُ الطاعنون عقيدةَ المسلمين في موضوع الجبر والاختيار، وكانوا في هجومهم هذا فريقين اثنين:
أما الفريق الأول: فقال بأن المسلمين جبريّون يعتقدون بعدم حرّية الإرادة البشريّة ويفرضون قَسْراً على التصرّفات البشريّة بسبب المعرفة الإلهية المُسبقة وبسبب النظام الإلهي، وهم يعتقدون بأنّ لكلِّ إنسانٍ قَدَرَهُ المكتوبَ على جبينه.
وأمّا الفريق الثاني: فَوَجَّهَ نقداً للإسلام في هذه القضيّة بحجّة أنّ محمداً نفسه كان غيرَ حاسمٍ في الإجابة عن سؤال (هل الإنسان حرٌّ أم مُجبرٌ في تصّرفاته؟) وأنَّ القرآن نفسَه فيه آياتٌ تتحدّث عن الجبر وأخرى تتحدّث عن الاختيار، وأنّ علماء الإسلام لم يتّفقوا على رأيٍ واحدٍ في هذه المسألة.
- أمّا عن عدم اتفاق علماء المسلمين على رأيٍ واحدٍ في هذه المسألة فهو كلامٌ باطلٌ مردودٌ. لأنّ الذين كانوا يقولون بأنّ الإنسان مجبورٌ في أفعاله وأنّه لا خيار ولا قدرة له وأنّه كالريشة في مهبّ الريح، فهؤلاءِ نفرٌ قليلٌ ظهروا في التاريخ الإسلاميّ ثم ماتوا ومات معهم مُعتَقَدُهم وكان من هؤلاء الجعد بن درهم والجهمُ بن صفوان، وبعض المعتزلة. أمّا بقيةُ علماء الإسلام من أهل السنّة والجماعة فمتّفقون على أن الإنسان، فيما هو محاسبٌ عليه ومُجازىً به في الدنيا والآخرة، مُخَيّرٌ قد أعطاهُ اللهُ عقلاً وأعطاه مشيئةً وإرادةً يتصرّفُ بها، فإنْ فعلَ الخيرَ نال الثوابَ والأجرَ من الله تعالى، وإذا فعل الشرَّ استحقَّ العقابَ من الله تعالى. ولا شكّ أنَّ أهل السُّنّة والجماعة هم السواد الأعظم والأغلبية الساحقة من أبناء الإسلام. ولمّا كانت هذه الدراسة غيرَ مختصةٍ بدراسة موضوع الجبر والاختيار فإننا سنكتفي، لردّ شبهة الرهبان ومطعنهم في الموضوعِ، بإيراد إيجازٍ يُلَخِّصُ موقفَ ومُعتقَدَ أهل السّنّة والجماعة في موضوع الجبر والاختيار، على النحو التالي([77]):
أ. لا خالقَ غيرُ الله، فأفعال العباد التي صاروا بها مُطيعينَ وعُصاةً، يخلقهُا الله تعالى، فالحقُّ سبحانه منفرِدٌ بخلق المخلوقات.
ب. أفعال الناس كلُّها لا تقعُ بغير مشية الله وقدرته، فالأدلة كلُّها تدلُّ على عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأشياء والأفعال.
ج. والإنسانُ، مع ذلك، غيرُ مجبورٍ على أفعاله وأقواله، وأنها ليست لا إراديةً، وأنّ أفعال الإنسان، وإن كان اللهُ هو الذي خلقها، إلاّ أنّ الإنسان هو الذي فَعَلَها حقيقةً، وأنه اختارها وأرادها حقيقةً، وأنَّ نسبةَ أفعاله إليه نسبةٌ حقيقيّةٌ وليست مجازاً، ولذا بما أنَّ البشرّ فاعلون لأفعالهم حقيقةً، فإنّهم يستوجبون عليها المدحَ أو الذمَّ.
وباختصارٍ فإنَّ أفعال الناس لا يخلقها الناسُ، بل هي من خلق الله تعالى، وفعلِ الإنسان وكَسْبِه.
د. كونُ الله سبحانه وتعالى خالقاً لأفعال العباد، لا يعني أنَّ فعل العبد هو نفسُ فعلِ الله، ففعلُ العبد يخلقه الله، ويفعله العبد، ويكسب آثارَهُ العبدُ، سواء كانت هذه الآثار والنتائج، نفعاً أو ضرراً.
وقد بَيّن اللهُ تعالى أنه قد خلقَ كلَّ شيء، قال تعالى: "اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ"([78]). وقال تعالى: "كُلٌّ مِنْ عِندِ اللَّهِ"([79]). إنّ الله سبحانه وتعالى قد خصَّ الإنسانَ بطبيعةٍ خاصّةٍ، فقد خلق له قدرةً وإرادةً حُرّةً مُخْتارةً، تختار ما تريدُ من الأفعال دون إكراهٍ ولا إجبارٍ، وهذا واضح في قوله تعالى: "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ"([80]) وفي قوله عز وجل " إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً"([81]) وفي قوله تعالى: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"([82]). وبناءً على ذلك فالإنسانُ يشاءُ ويريد ويفعل ويعمل ويصنع ويكسب، والله عزَّ وجلَّ بعد أن منحَ الإنسانَ الحريةَ والاختيارَ سَهَّلَ له السبيل إلى ما يختارُ أيّا كان اختياره، فلا يحملهُ عليه كرهاً ولا يجبره، ولكنه يُسَهِّلُ له سلوك ما يختار من سبيلٍ. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: " فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى"([83]) ويقول تعالى: " فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ"([84]).
وأمثالُ هذه الآيات كثيرٌ جداً في القرآن، ويُلاحَظُ في الآيات كلِّها أنَّ العبد هو الذي يبدأ باختيار السبيل الأقوم، فتكون حينئذٍ هداية الله بفتح باب الخير له، أو باختياره طريق الشر ويتبع ذلك الإضلالُ مِن الله لمن بادر الضلال.
وخلاصةُ القول، إنَّ الجبرَ لا يكون مُطلَقاً، وإنَّ الاختيار، لا يجوز أن يكونَ مُطلقاً، بل الحقُّ التوسُّطُ بين هذين الرأيين، وذلك أن أفعال الإنسان ليست اختياريةً تماماً ولا اضطراريةً تماماً.
- أمّا بالنسبة لردّنا على الرهبان الطاعنين الذين يتّهمون الإسلام بالجبرية فنقول([85]):
أولاً: إن الله الذي خلق الكون وقَدَّرَ سُنَنَهُ وأجرى حوادثه وفق تلك السنن التي قَدَّرها، عالِمٌ به وبحوادثه قبل وقوعها، وهو الذي خلق الإنسان، وخلق له إرادةً حُرَّةً وهو عالِمٌ به وبما سيختار. وعلِمُ الله هذا السابق لوقوع الحوادث، ومن جملتها أفعال البشر، لا يقتضي حَمْلَ الناس وإكراههم على تنفيذ مُقْتَضَى علْمِهِ. ولنضرب مثلاً من البشر أنفسهم على سبيل التقريب ـ ولله المثل الأعلى ـ فلو أنَّ مُعَلِّماً عرفَ مِن مجرى حياة تلاميذه خلال السنة كلها: صفاتهم، عاداتهم، ومواهبهم، لتمكَّنَ قبلَ الامتحان من أن يعرفَ إلى حدٍّ كبيرٍ الناجحَ والراسبَ، فهل نجاحُ أيِّ طالبٍ أو رسوبُه كما قال المعلم، كان إجبارياً لأنَّ المعلم علم بذلك؟؟
ثانياً: إذا كان ما يجري في الكون من حوادث، وما يفعله البشر كذلك من أفعالٍ ضمنَ مشيئة الله وتحقيقاً لقوانين أو خِطَطٍ أو سُنَنٍ قَدَّرَها لها، فلا ينتج عن ذلك وقوفُ الإنسان أمامها موقفَ الموافق لها والراضي عنها كُلِّها، لأنَّ مِن تلك التقديرات الإلهية: إرادة الإنسان، ومن الأوامر الإلهية الموجَّهة إلى الإنسان، أن يتولى تغيير أحوال وأوضاع واقعةِ أي (مُقَدَّرهِ).
فالقرآن الكريم يأمرُ الإنسان بمحاربة الكفر والظلم ... ومعنى ذلك أنَّ بعض ما يجري في الكون من الأقدار نفسها ينبغي مكافتحه، وهذه المحاربة نفسها من القدر، فقد جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهد خلافته قاصداً دخول الشام، فوجد الطاعونَ منتشراً فيها، فلم يدخل، فقال أبو عبيدةَ، رضي الله عنه: أتفرُّ مِن قدرِ الله؟! قال: أفَرُّ من قدِر إلى قدر الله؟! وهكذا يخطئُ مَنْ يظنُّ أنَّ الإسلام يطلب من الإنسان أن يقبل الواقع مُطَلقاً وأيّاً كان ذلك الواقع، وتسقط حجَّةُ مَنْ يقول كذلك بقبول الواقع، لأنه قدرٌ إلهي، فَمِنَ القدَرِ ما أُمِرْنَا أن نقاومه بَقَدَرٍ مثلهِ، فَعَمَلُنَا جزءٌ من القَدَرِ.
ثالثاً: القولُ بالجبر منافٍ للتوحيد، ومع منافاته للتوحيد فهو منافٍ للشرائع ودعوة الرسل والثواب والعقاب، فلو صحَّ الجبرُ لبطلت الشرائعُ، وبطل الأمرُ والنهي، ويلزم من بطلانِ ذلك بطلانُ الثواب والعقاب.
أمّا بالنسبة لاعتراض الرهبان الطّاعنين على ذكر القرآن للجبر في آياتٍ وللاختيار في آياتٍ أُخرى، فنقول: "لو أنّ القرآن الكريم صَرَّح بأنّ الإنسان مسلوبُ الاختيار دائماً لما كان هناك معنىً للمسؤولية، ولو سقطت المسؤوليةُ لسقطَ الجزاءُ على الأعمال، فلا يكون هناك فَرقٌ بين المُحسنِ والمُسيء. ولو صَرَّحَ بأنَّ له الاختيار المُطلَقَ في أفعاله، حتى أنّه يقدرُ على كلِّ ما يريد، لكان في هذا ما يُشبه أن يكونَ مُشَارَكةً لله في خلقه ... فَوقف القرآنُ فيها عند هذا الحدِّ، وعبرَّ عنها بآياتٍ، تدلُّ في مجموعها على أنَّ للإنسان اختياراً بمقدار ما يُصَحِّحُ مسؤوليَّتهُ، لا اختياراً مُطلَقاً يجعله يخرج عن حدوده البشرية، ولا جبراً مطلقاً يسلب عنه المسؤوليّة"([86]).
الشّبهةُ الثّالثةُ والعشرون ودفْعُها
في مواصلةٍ منه لنهج الضّغط والتضييق على غير المسلمين الذين يسكنون في البلاد الإسلامية شَرَعَ محمدٌ مبدأ الجزية عقاباً لِكُلِّ مَنْ رفَضَ اعتناق الإسلام من اليهود والمسيحيّين!!
- يبدو أنَّ الرهبان الطّاعنين في حيرةٍ من أمرهم؛ فتارةً يقولون: إنّ محمداً قد أَجبرَ اليهود والمسحيّين الذين يعيشون في البلاد الإسلامية على اعتناق الإسلام بالقوّة والإكراه.وتارةً يقولون: إنّه قد فرضَ عليهم الجزية عقاباً لهم لأنّهم رفضوا الدخول في الإسلام!!.
ومن الواضح تماماً مدى التناقض بين هاتين الفِرْيتين، وقد تقدّم سابقاً الردُّ على أولاهما، ونذكر تالياً الردّ على أُخراهما:
إنَّ الذي فَرضَ الجزية هو الله تبارك وتعالى، وقد جاء الأمرُ بها في سورة التوبة في قوله تعالى: " قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ"([87]).
وتكاد تفاسير القرآن الكريم التي رجعنا إليها تُجمِعُ على أنّ معنى "وهم صاغرون" أي أَذِلاَّءُ مقهورون خاضعون لأحكام الإسلام. وليس هناك مجالٌ لتقديم تفسيرٍ جديدٍ يُخالِفُ التفاسيرَ السابقةَ من أجل التقرُّبِ من غير المسلمين وتطييب خاطرهم بتفسيرٍ أكثر ليونةً يرضون عنه ويقبلون به، لأنّ تفسيراً كهذا سيكون مُنافياً للحكمة التي لأجلها شرعَ اللهُ تعالى الجزية على أهل الكتاب. وهنا نلحظُ اختلافاً بين بعض الفقهاء والعلماء حول تعليل دفع أهل الكتاب للجزية على النحو التالي:
1. يرى صاحب الأحكام السلطانية([88])، أنّه يجبُ على وليِّ الأمر المسلم أن يضعَ الجزية على رقاب مَن دَخلَ في الذَّمةِ مِن أهل الكتاب لِيقرّوا بها في دار الإسلام، ويلتزم لهم ببذلها حَقّانِ: أحدُهما الكفُّ عنهم، والثاني: الحمايةُ لهم ليكونوا بالكفّ آمنين وبالحماية محروسين.
2. يرى الإمام الشافعي أنها "وجبت بدلاً عن الدم وسُكنى الدار"([89]). أي بدلاً عن عصمة دمائهم من القتل وبدلاً عن سُكناهم لدار الإسلام.
3. يرى المالكيةُ أنّها وجبت بدلاً عن القتل بسبب الكُفر([90]).
والذي نختاره مِمّا سبق ذِكرُه وإيرادُه قولَ الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ وهو منسجمٌ مع الآية الكرية الواردة في الموضوع (وهم صاغرون)، "فالصوابُ في الآية أنّ الصَّغَار هو التزامهم لجريان أحكام المِلَّةِ عليهم وإعطاءُ الجزية، فإنّ التزام ذلك هو الصَّغار"([91]).
ولا يُجانبُ الصّواب أن نقول: إنّ الإسلام أجبرَ أهل الكتاب الذين يعيشون في دياره على دفعِ الجزيةِ مقابلَ تأمينه لسكنهم بأمانٍ وحمايته لهم ومنع أيِّ إنسانٍ من التعرُّض لهم أو الإساءة لهم، ومقابل ماذا؟ مقابل مردودٍ ماليٍّ صغيرٍ جدّاً "قدّره الشافعي، رحمه الله، بأربعةِ دنانير في السّنة على الكتابي الغنيِّ وبدينارٍ واحدٍ فقط في السنّة على الفقير المعتملِ منهم، وقدّره أصحابُ مالك بأربعة دنانير على أهل الذهب لا يُزادُ عليها. فإن كان منهم ضعيفٌ خُفِّفَ عنه بقدر ما يراهُ الإمام المسلم"([92]). وذلك رَاجِعٌ لعدم تحديد مقدارها شرعاً.
وقد تقدّم معنا أنّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وضعَ الجزيةَ عن فقيرٍ من أهل الكتاب لا يقدرُ على دفعها وأنّه أعطاهُ من صدقات بيت المال. ويُفهم من هذا أنّ الجزية تسقطُ عَمَّنْ عَجِزَ عن دفعها من أهل الكتاب، "ولا يُكَلَّفُ أغنياءُ أهل الكتاب دفعها عن فقرائهم"([93]). ومن المفيد هنا التنبيه على أنّ الإسلام لم يفرض الجزيةَ على كُلِّ فئات أهل الكتاب "فالذي دلَّ عليه القرآنُ أنَّ الجزيَة تُؤخذُ من الرجال المقاتِلين؛ لأنه تعالى قال: "قَاتِلُوا الذَّينَ" إلى قوله ـ "حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ" فيقتضي ذلك وجوبَها على مَنُ يقاتل.ويدلّ على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتِلاً؛ لأنه لا مال له. وهذا إجماعٌ من العلماء على أنَّ الجزية إنما تُوضَعُ على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يُقاتِلون دون النساء والذرّية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني([94]).
كما أنّه من المفيد التنبيه هنا إلى أنّ أهل الجزية إذا دفعوها فإنّه لا يجوزُ أن يُؤْخَذَ بعدها شيءٌ من ثِمَارِهم ولا تجارِتهم ولا زروعِهم.
ولعلَّ قصرَ دفع الجزية على الرجال القادرين على القتال وحملِ السلاح يعود لرغبة الشارع الحكيم في إشعار هذه الفئة من أهل الكتاب بهيبة السُّلطان المسلم وباستمراريّة خضوع هذه الفئة لأحكامه وسلطاته. ولو كان المقصود من الجزية، كما يزعم الرهبان الطّاعنون، الإمعان في إهانة وإذلال أهل الكتاب واستمرارية الضغط عليهم لفَرَضَ الإسلامُ الجزيةَ عليهم جميعاً رجالاً ونساءً وأولاداً وبناتٍ وشيوخاً ... ولفرضَ عليهم أداءَ مبالغَ ماليةٍ ضخمةٍ ترهقهم في الدَّفع والسَّداد وتجبرهم على الهجرة إلى ديارٍ غير ديار الإسلام. ثُمَّ لماذا يتجاهل ويتناسى الرهبان الطاعنون حقَّ الحكومات والدّول في فرض رسومٍ ومطالبَ ماليةٍ على رعاياها دون استثناء، فالرعايا المسلمون يدفعون الزكاة والرعايا غير المسلمين يدفعون الجزية.
ولعلَّ مقارنةً سريعةً بين الجزية والزكاة لكفيلةٌ بتذكيرنا بأنّ قيمة الجزية التي يدفعها غير المسلم مرّةً في السّنة لهي أقلُّ بكثيرٍ من قيمة الزكاة التي يدفعها المسلم مرّةً في السّنة، ويكون (الذميُّ) مُتمتِّعاً مقابل ذلك بالأمان والطمأنينة على نفسه وأهله وبيته وذريّته، وممارساً لعقائده وشعائره في دور عبادته وفي بيته بسقفٍ من الحريّةِ لم تعرف البشريةُ مثيلاً له في غير ظلِّ الإسلام. إننا نقول هذا الكلام ونحن نرى ما نراه من ظلمٍ واضطهادٍ وأذىً يلحق بالمسلمين الذين يعيشون في ديار الحضارة المسيحية الغربيّة من منعٍ للحجاب في بعض تلك الدول، ومن منعٍ لمآذن المساجد في بعضها الآخر، ومن حملاتٍ تشهيرّيةٍ يتعرّضون لها وهم الحبيب المصطفى r، هذا إضافةً لما تمارسه دول وحكومات الغرب (المُتَحَضِّرِ) بحقّهم من تمييزٍ في المعاملات وفي الوظائف العامّة، لا لشيءٍ إِلا لأنّهم مُسلمون لا يدينون دينَ الدولة المسيحية التي يعيشون في كنفها سواءً في أوروبا أو في أمريكا.
ينزعج الرهبان من كلمة (الجزية) ومن كلمة (صاغرون) وهم يتعامون تماماً عمّا تمارسه حكومات بلادهم من إذلالٍ وقهرٍ لشعوب العالم الإسلامي صباحَ مساء حتى جَعَلَتْهُمْ صاغرين حتى وهم في عقر دارهم!! ينزعجون من دينار ذهبٍ كان المسيحي يدفعه للدولة الإسلامية مرّةً واحدةً في السنّة ويتناسون المبالغ الضخمة والشروط والكفالات المالية المُرْهِقةَ التي يدفعها المسلمُ عندما يسعى للحصول على تأشيرة زيارةٍ أو عملٍ في بلاد الغرب المسيحي!!!.
بقي أن نضع بين أيدي القارئ الكريم معلومةً مفادها أنّ مفهوم (الجزية) غيرُ جديدٍ على الرهبان الطّاعنين فهم يعرفونه حقَّ المعرفة؛ إذ وَرَدَ في كتابهم المقدّس بعهديه القديم والجديد. فنحنُ نقرأ في العهد الجديد أنّ بولس الرسول قد حثّ أتباعه على دفعها وعدمَ التعرُّضِ للسلطان، وكذلك فعلَ المسيح، عليه السلام، عن محاولة اليهود لإيقاع الفتنة بينه وبين حكومة القيصر الروماني آنذاك. والدليل ما يلي:
أولاً: "فاعطوا الجميع حقوقهم: الجزيةَ لمن له الجزيةُ، الجبايةَ لمن له الجبايةُ. والخوفَ لمن له الخوف. والإكرامَ لمن له الإكرام"([95]).

ثانياً: "أيجوزُ لنا أن نُعطيَ جزيةً لقيصرَ أم لا؟ فشعرَ بمكرهم وقال لهم: لماذ تُجَرِّبُونني؟ أروني ديناراً. لمن الصورةُ والكتابة؟" فأجابوا وقالوا: "لقيصر" فقال لهم: "أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله" قلم يقدروا أن يمسكوه بكلمةٍ قُدَّامَ الشّعبِ، وتعجبوا من جوابه وسكتوا"([96]).
وقد وردَ في العهد القديم أنّ يعقوب، عليه السلام، قد أخذَ الجزية، كما وردَ أنّ يوسف عليه السلام قد دفعها والدليل على ما يلي:
أولاً: "وكانَ لمَّا تشدَّدَ إسرائيلُ أنه وضع الكنعانيين تحت الجزية ولم يطردهم طرداً"([97]).
ثانياً: "فعزم الأَمُوريون على السَّكنِ في جبل حارس في أيلّونَ وفي شعلبيّم. وقويت يدُ بيتِ يوسف فكانوا تحت الجزية"([98]).
الشُّبهةُ الرّابعةُ والعشرون ودَفْعُها
إنَّ القرآن الذي جاء به محمدٌ لا يتَّفقُ مع العقل في الكثيرِ من أحكامه وتشريعاته. وقد قام محمدٌ بفرض نصوص كتابه هذا على أتباعه، وأَوجبَ عليهم الالتزامَ بما جاء فيه وتنفيذه دونَ أن يسمحَ لهم بالتفكير في مضمامينه أو مناقشتها.
ولا زال التزامُ المسلمين بهذا الكتاب عائقاً أم تقّدُّمِهم العلميّ وتطوّرهم، حتى عصرنا هذا.
- إنّ هذه التُّهمةَ والفرِية ساقطةٌ من عدَّة وجوهٍ، هي التالية:
أولاً: إنّ القرآن الكريم في إقامته لأدلّة وجود الخالق سبحانه وتعالى، أَمرَ الإنسانَ أوَّلَ ما أمره بإعمال النظر العقليّ في خلق الكون وموجوداته وما فيه من مخلوقاتٍ ليكون ذلك سبيلاً للاهتداء إلى وجود الله تعالى، ومن ثمّ ليكون سبيلاً للاهتداء إلى وحدانية الله عزّ وجلّ.
كما أنّ منهج القرآن في إثبات كلِّ قضايا الإيمان وأركانه يدعو العقل البشريّ إلى النظر والتأمُّل في مظاهر عظمة الله، عن طريق التفكير في كونه الواسع. والإنسانُ بحكم تفكيره القاصر لابدَّ له من الاستعانة بما ذكره القرآن الكريم عن تلك القضايا. ومن خلال النظر في الكون والنفس الإنسانية نتبيَّنُ أنه لا بُدَّ لكلِّ حادثٍ من مُحدِثٍ واستحالة أن يتمَّ هذا الخلق بلا خالق، قال الله تعالى: "أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ"([99]).
ثانياً: إنّ معرفة الله تعالى يجبُ أن تكون معرفةً يقينيّةً لا تحصُلُ بالتقليد. قال تعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلا اللَّهُ"([100]). ولذلك رفضَ القرآنُ الكريم التقليدَ في العقيدة وعدّه مانعاً للعقل البشري من التفكير. وأثنى اللهُ تعالى الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسَنه ويذرون ما هو غير حَسَنٍ " فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ"([101]). كما ندَّدَ القرآنُ الكريم بالمقلِّدين الذين لا يُفكَّرون إلا بعقول غيرهم " وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ"([102]).
ثالثاً: إنَّ القرآن الكريم هو مصدُر العقلانية المؤمنةِ، والباعثُ عليها، والدّاعي لاستخدام العقل والتفكُّرِ والتدُّبرِ في آيات الله المنظورة والمسطورة جميعاً ... وآياتُ القرآن التي تحضُّ على العقل والتعقُّلِ تبلغُ تسعاً وأربعين آيةً ... والآياتُ التي تتحدث عن "اللُّبِّ" ـ بمعنى عقلِ وجوهرِ الإنسان ـ هي ستَّ عشرةَ آيةً. كما يتحدثُ القرآن عن "النُّهى" ـ بمعنى العقل ـ في آيتين ... وعن الفكرِ والتفكُّرِ في ثمانيةَ عشرَ موضعاً ... وعن الفقه والتفقُّهِ ـ بمعنى العقل والتعقُّل ـ في عشرين موضعاً ... وعن "التدبُّرِ" في أربعة آيات ... وعن "الاعتبار" في سبع آيات ... وعن "الحكمة" في تسعَ عشرةَ آيةً .. وعن "القلب" كأداةٍ للفقه والعقل ـ في مائةٍ واثنين وثلاثين موضعاً ... ناهيك عن آيات العلم والتعلم والعلماء التي تبلغُ في القرآن أكثرَ من ثمانمائة آيةٍ ... فالقرآن الكريم هو الدّاعي للتعقُّل والتدبُّرِ والتفقّه والتعلّم ... والعقل الإنساني هو أداة فقه الشرع، وشرطُ ومناطُ التديُّنِ بهذا الشرع الإلهي ... ولذلك لا أَثَرَ للشرع بدون العقل، كما أنه لا غنىَ للعقل عن الشرع، وخاصّةً فيما لا يستقلُّ العقلُ بإدراكه من أمورِ الغيب وأحكام الدين([103]).
رابعاً: أمّا بالنسبة لعلاقة القرآن بالعلم فنُذَكّرُ الرهبان الطاعنين بما يلي:
1. تَمَيَّزَ الإسلام بكونه الدِّين الوحيد الذي جعل طلبَ العلم فريضةً على أتباعه. وقد كان أولَ ما نزل من آيات القرآن الكريم قوله تعالى: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ "([104]).
2. ومِمّا يدلُّ على مكانة العلم في الإسلام، أنَّ الله تعالى أقسم به وبأدواته في القرآن الكريم، فقال الله تعالى: "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ"([105]). فقد ابتدأت السورةُ بأحد الأحرف المُستَعمَلة في الكتابة، ثم أقسمَ اللهُ تعالى بالقلم الذي تُكتبُ به العلومُ والمعارف، وفي هذا تنبيهٌ من الله تعالى للخلق على ما أنعمَ به عليهم من تعليم الكتابة التي تُنال بها العلوم. ثم أقسمَ اللهُ تعالى بما يسطره الناس أي ما يكتبونه، وهذا قَسَمٌ بالعلم، وفي ذلك كله دلالةٌ على منزلة العلم وأهله([106]).
3. الأمر بالاستزادة من العلم، فقد أمرَ اللهُ تعالى نَبِيَّهَ محمداً r، بطلب المزيد من العلم بقوله تعالى: "وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً"([107]). وإذا كان هذا الأمر للنبي r وهو ذو منزلةٍ عاليةٍ علماً وفضلاً وكرامةً فإن المسلمين مدعوون لذلك لأنَّ خطابَ النبيِّ خطابٌ لأمّته([108]).
4. أكَّدَ القرآن الكريم على أنّ العلم سببٌ مباشرٌ لرفعة العلماء وأنّه بالعلم يعلو قَدرُ الإنسان وتعلو منزلته، قال تعالى: " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"([109]).
ولا نأتي بجديدٍ ولا نذيعُ سِرّاً إذا قلنا: إنّ القرآن الكريم قد قرَّر الكثير من الحقائق العلمية التي لم يقدر العلم على إثبات صحّتها إلاّ مؤخَّراً([110]). إنّ الرهبان الطاعنين لمطالَبون أن يأتونا ولو بمثالٍ واحدٍ من القرآن الكريم يناقضُ حقيقةً علميةً ثابتةً.
وبعد أن طوينا صفحة الحديث عن منزلة العقل والعلم في القرآن الكريم نرى من المناسب أن نفتح الصفحةَ ذاتها في الكتاب المقدّس لنرى مدى انسجامه مع العقل وتوافقه مع العلم ولنرى موقع العلماء من سطوره.
أولاً: يذكر العهدُ القديمُ من الكتاب المقدَّسِ أنّ الحيّة هي التي أغرت المرأة (حواء عليها السلام) لتأكل من الشجرة التي أوصى الربُّ آدم وحوّاءَ أَلاّ يأكُلا منها، فكانت النتيجةُ أن غَضِبَ اللهُ على الحيّة ولعنها وكتبَ عليها أن تسعى على بطنها زاحفةً وأن تأكل التراب طيلة حياتها!! وكذلك فقد حكمَ على المرأة عقاباً لها التعبَ والوجعَ عند الحمل وعند الولادة!!! "فقال الربُّ إلاله للحيّة لأنّك فعلتِ هذا ملعونِةٌ أنتِ من جميع البهائم ومن جميع وحوش البريّة، على بطنِك تسعين وتراباً تأكلين كلَّ أيام حياتك ... وقال للمرأة تكثيراً أُكَثِّرُ أتعابَ حَبَلكِ بالوجع تلدين أولاداً"([111]).
ثانياً: يذكر العهد القديم من الكتاب المقدّس أنّ فترة النَّفَاس التي تقضيها المرأة بعد الولادة لتطهُرَ تكون أربعين يوماً إن كان مولودها ذكراً. بينما تمتدُّ هذه الفترة لتكون ثمانين يوماً إن كان مولودها أنثى!! "إذا حبلت امرأةٌ وولَدَت ذكراً تكون نجسه سبعة أيام ... ثم تُقيمُ ثلاثةً وثلاثين يوماً في دم تطهيرها ... وإن وَلَدت أنثى تكون نجسةً أسبوعين ... ثُمَّ تُقيمُ ستّةً وستّين يوماً في دم تطهيرها"([112]).
ثالثاً: تتجلّى تناقضات العهد القديم مع العقل في أبرز صورها في سفر التكوين، والذي هو أولُ أسفار التوراة؛ ففي هذا السِّفر تبرز لدينا روايتان متناقضتان عن قضيّة الخلق وترتيبِ خلق المخلوقات في كلِّ واحدٍ من أيام الأسبوع، "كما يبرز لدينا تناقضٌ واضحٌ في الروايتين اللتين ذَكَرَتا موضوعَ الطُّوفان حيث أنّ إحداهما تذكر أنَّ سبب الطوفان هو ماءُ المطر، بينما تذكرُ الرواية الأخرى أنَّ سبب الطوفان مزدوجٌ؛ أيْ مِنْ ماء المطر ومن ينابيع الأرض. وبينما تذكر روايةٌ أنّ مدّة الطوفان أربعون يوماً تذكر نصوصٌ أخرى أنّ مدّة الطوفان كانت مائةً وخمسين يوماً"([113]).
وممَّا يجدر ذكره هنا أنَّ كبار رهبان وعلماء المسيحيّة قد تصدُّوا للدفاع عن وجود التناقضات والأمور المنافية للعقل في الكتاب المقدّس بقولهم: إنّ ذلك يعود لضعف عقول الناس وعدم فهمهم له. وفي هذا يقول القديس أوغسطين "فعندما ألتقي في هذه الكتب بدعوى تبدو مناقضةً للحقيقة فإننّي عندئذٍ لا أشكُّ في أن نصَّ نُسختي لا يحتوي على خطأٍ أو أنّ المترجِمَ لم يترجم النصَّ الأصليّ بشكلٍ صحيحٍ أو أنّ مقدرتي على الفهم تَتَّسمُ بالضَّعف"([114]).
رابعاً: المسيحيون متّفقون على أن المسيح، عليه السلام، هو الذي ألهم كُتَّابَ الأناجيل الأربعة (متى، ومرقص، ولوقا، ويوحنا) القيامَ بكتابتها، ويُفِهَمُ من ذلك وبكلِّ تأكيدٍ، استحالة وجود تناقضٍ أو تعارضٍ بينها وبين بعضها البعض، وذلك لأنها إلهامٌ من المسيح الربِّ وهنا نُذَكِّرُ الرهبان الطاعنين في القرآن الكريم والزَّاعمين وجود التناقض بين آياته ووجود التعارض بينه وبين العقل بما يلي([115]):
1. إنّ الفصح([116]) في الأناجيل الثلاثة مختلفٌ زمنياً مع عشاء المسيح الأخير مع الرسل، عنه في الإنجيل الرابع، فبينما يضعُ يوحنّا العشاءَ السريَّ "قبل عيد الفصح" يضعه الثلاثة الآخرون أثناء الفصح نفسه. ويُستنتَجُ من هذا اختلافٌ صريحٌ مع الحقيقة. ولا يمكن قبول هذه الواقعة بسبب وضع عيد الفصح المُعَيَّنِ بالنسبة إليه. وعندما نعلم أهمية الفصح في الطقوس الدينية اليهودية وأهميّة عشاء المسيح الوداعيّ مع تلاميذه، فكيف يُتَصَوَّرُ أن تفقد الذاكرةُ مركز أحدهما بالنسبة إلى الآخر في الرواية المنقولة فيما بعد من الإنجيليين!!.
2. تختلف روايات "الآلام"([117]) بصورةٍ عامّةٍ فيما بين الإنجيلييّن وبخاصّةٍ بين الأناجيل الثلاثة الأوائل وإنجيل يوحنا. ويشغل العشاءُ الأخيرُ للمسيحِ والآلامُ في إنجيل يوحنا حَيِّزَاً كبيراً يكاد يكون ضعفَيْ الحَيِّزِ الذي عند مرقس ولوقا. وطولُ نَصِّهِ أكبرُ من الذي عند متى بمرّةٍ ونصفِ المرَّة. هذا ويروي يوحنا أيضاً خطاباً طويلاً جداً من المسيح إلى تلاميذه، يملأ من إنجيله أربعةَ فصولٍ أعطى فيه تلاميذَهُ الذين يوّدعهم آخرَ توجيهاته، ووصيته الروحيَّةَ، بينما لا نجدُ لذلك أيَّ أثرٍ في الأناجيل الأخرى. بل على العكس فإنّ متى ولوقا ومرقس، يروون صلاةَ المسيح في حديقة الزيتون التي لا يتكلَّمُ عنها يوحنا أبداً!!
3. إنّ الحدثَ الأهم الذي يصدم قارئ قصّةِ الآلام في إنجيل يوحنا، هو أنه لا يَتَعَّرضُ لأيِّ ذكرٍ لتأسيس سر "الأفخارستيا"([118]) خلال عشاء المسيح الأخير مع الرسل!!
وما من مسيحيٍ لا يعرف صورة "العشاء السري"؛ حيث كان المسيح يجلسُ للمرَّةِ الأخيرة، إلى المائدة وسط الرسل. وقد أبرزَ أعاظمُ الرسّامين في هذا الاجتماع الأخير وبالقرب من عيسى يوحنا الذي جرت العادةُ على اعتباره كاتب الإنجيل المعروف باسمه.
ويوحنا الرسول، مهما كان مُدهِشاً هذا للكثيرين، ليس مُعتبرَاً في نظر أكثرية الاختصاصيّين كاتبَ الإنجيل الرابع الذي لم يذكر تأسيس الإفخارستيا. وهذا التقديس للخبز وللخمر اللذينِ يستحيلان جسدَ المسيح ودمَهُ هو العمل الطقسيُّ الأساسيُّ للمسيحيّة، يتكلم عنه الانجيليّون الثلاثة الآخرون كما ذكرنا آنفاً وإن كان بعباراتٍ مُختلِفةٍ. أَمَّا يُوَحنَّا فلا يذكرُ عنه أيَّة كلمةٍ!!.
4. إنّ يوحنا هو الإنجيليُّ الوحيد الذي نقل في نهاية عشاء المسيح السريِّ وقبلَ توقيفه واقعة الأحاديث الختامية مع الرسل التي خُتِمَتْ بخطابٍ طويلٍ جداً خصّصَ له أربعةَ فصولٍ من إنجيله، لا نجدُ أيَّةَ صلةٍ بها في الأناجيل الأخرى. ومع ذلك فإنَّ هذه الفصول تعالج عند يوحنا مسائلَ أوليَّةً في رؤى المستقبل ذاتَ أهميةٍ أساسيةٍ معروضةٍ بأسلوبٍ فخمٍ وإطارٍ عظيمٍ يتميز بهما هذا المشهد الوداعيُّ بين المعلم وتلاميذه.
وكيف يمكننا تفسيرُ انعدامِ الوجود المطلَقِ لرواية الوداع المؤثِّرةِ التي تحتوي وصية المسيح الروحية لدى متى ومرقس ولوقا؟؟
5. لم يذكر يوحنّا ومتّى قصّةَ صعودِ عيسى، عليه السلام، إلى السماء وجلوسه عن يمين أبيه، بينما ذكرها كلٌّ من مرقس ولوقا!!.
6. كيف يمكنُ التوفيق بين اعتزاز المسيح، عليه السلام، ببطرس وثقته العالية به وترشيحه ليكون رأساً للكنيسة، وأمرِه له ببنائها حين قال "أنت بطرس، وعلى هذه الصّخرة أبني كنيستي، وقوّاتُ الجحيم لن تقدر عليها، وأُعطيكَ مفاتيح ملكوت السماوات"([119]).
نقول كيف نوفّق بين هذا القول للمسيح، عليه السلام، وبين توبيخ المسيح لبطرس لمّا حاول أن يُبعِدَهُ عن طريق الصّلب وقوله له: "إذهب عنّي يا شيطان"([120])!! هذا عدا عن إخبار المسيح، عليه السلام، أنَّ بطرسَ سَيُنِكرُه ثلاثَ مرّاتٍ ويحلفُ بأنّه لا يعرفه([121]).
7. بماذا نعلِّلُ فقدان النسخ الأصلية للأناجيل الأربعة؟ وبماذا نُعَلِّلُ الخلافَ حول اللغة التي كُتِبَ بها كلٌّ منها؟ وبماذا نُعَلِّلُ عدمَ معرفة المترجِمِ الحقيقيِّ لكلِّ واحدٍ منها؟ وبماذا نُعَلِّلُ الاختلافات التي بين الأناجيل في ذكر نسب المسيح، عليه السلام؟؟؟
- أمّا بالنسبة لاتّهام الرهبان الطاعنين القرآن الكريم بأنّه السبب الذي يعوق التطوّر والتقدُّمَ العلميّ للمسلمين، فقد كان حَرِيّاً بهؤلاء أن يتذكّروا أنّ النهضة العلمية والتطوُّرَ الذي عَرَفَتْهُ القارةُ الأوروبية لم يقُمْ إلا بعد أن أزاحت الكنيسةَ عن طريقها وعزلَتْها عن التدخُّل في كل نواحي الحياة.
وكان حرّياً بهم أن يراجعوا صفحات تاريخهم الملطّخة بدماء العلماء الأبرياء الذين لم يكن لهم ذنبٌ سوى أنّهم وضعوا نظرياتٍ علميّةً هامّةً خالفت في مضمونها بعضَ كلمات الكتاب المقدَّس، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ وشهيرةٌ، ومنها:
أولاً: قامت مجموعةٌ من رهبان الكنيسة المسيحية في عام 415 للميلاد بقتل "هيباثيا" ابنة "نيون السَّكَندريّ"  الذي كان مُديراً لمكتبة الإسكندرية. وقد كانت "هيباثيا" آخرَ أكبرِ عالمة رياضياتٍ وفلسفةٍ في مدرسة الاسكندرية آنذاك. وقد تَمَّتْ عملية القتل بناءً على توجيهاتٍ وأوامرَ مِن أُسْقُفِ الإسكندرية "سيريل" الذي جَعَلَتْهُ الكنيسةُ البابوية قدّيساً فيما بعد!!! "وبعد إعدامها بلا محاكمةٍ، قام الجُناةُ بسحب جُثَّتِها داخل الكاتدرائية وتولَّى الرهبانُ تقطيعَ جسدها. وكانت حُجّةُ المسيحيين في النيل منها أنها كانت مُدَرِّسَةَ رياضياتٍ بارعةً وتُمَثِّلُ تهديداً ضد انتشار المسيحية بسبب تعليمها العلوم وفلسفة الأفلاطونية الجديدة. ويُمَثِّلُ مقتلُها نقطةَ تحولٍ كبرى إذا غادر العديدُ من العلماء مدينة الإسكندرية مُتَّجِهين إلى الهند أو فارس ولم تعد الإسكندرية تمثل مركزَ الإشعاع العلميَّ في العصر القديم"([122]).
ثانياً: جاء العالِمُ "كوبر نيكوس" بنظريته التي تقول بأنَّ الشمسَ هي مركز الكون وليس الأرض، وإنّ الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس بسرعةٍ. فإذا نظرنا إلى السماء فتصَّورنا أنّ الأجرام السماوية تتحركُ، فما ذلك إلا نتيجةً لدوران الأرض في الاتجاه المعاكس. وظَلَّتْ نظرية "كوبرنيكوس" ناقصةً، ولكنَّ عالم الفيزياء الألماني "يوهانز كيبلر" تمكّن من توفير الأدلة الحسابية على صِحَّتها، ثم قام الفلكي "جاليليو جاليلي"، بإجراء اختبارٍ علميٍّ تجريبيٍّ لتلك "الفرضية" عن طريق رصد الكواكب "بالتليسكوب". "وقد لاقت نظرية "كوبر نيكوس" مُحَارَبةً شديدةً من قِبَلِ رجال الكنيسة، لأنَّ فيها، كما يقولون، مخالفةً لما جاء في الكتب المقدسة، ومن ذلك ما كتبه "فروماندوس"، وهو أحد رجال الدِّينِ، في مقالته التي سمّاها "أرسطارخس" حيثُ بدأ أولَ صفحةٍ منها بلعنة "كوبرنيكوس" ثم أعلَنَ "أن التنزيل يقاوم "كوبر نيكوس وأنصاره"([123]).
ومن أجل أن يُبرهنَ على فساد نظرية "كوبر نيكوس" وأنها ضربٌ من ضروب الكفر والإلحاد، رجعَ إلى النصوص المقدَّسة التي تتحدَّثُ عن شروق الشمس وغروبها وثبات الأرض، حيث استندَ على نصٍّ من التوراة جاء فيه، أنَّ الأرض ثابتةٌ إلى الأبد، "ما الفائدة للإنسان من كلِّ تعبه الذي يتبعهُ تحت الشمس، دورٌ يمضي ودورٌ يجيء، والأرض قائمةٌ إلى الأبد، والشمس تشرق والشمسُ تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تُشرق"([124]).
ثالثاً: جاء العالم "جيوردانو برونو" بفرضيّةٍ علميّةٍ وصفَ من خلالها الكون بأنه "لا نهائي" كما تَضَمَّنتْ فرضيتهُ معلوماتٍ أخرى منها على سبيل المثال (أنّ هنالك أشكالاً من الحياة خارج الكرة الأرضية) مِمّا أثار غضبَ رجال الكنيسة الذين كانوا يعتقدون بأن الأرض مُنبسِطَةٌ، وبناءً على ذلك فقد وجَّهت الكنيسةُ تهمة (الهرطقة) إلى "جيوردانو برونو" وقامت بمحاكمته لمدّةٍ قاربت الثماني سنوات "تمَّ خلالها انتزاعُ الاعترافات من "برونو" عن طريق التعذيب وحُكِمَ على "جيوردانو برونو" بالموت لأنه "مُتَعنِّتٌ مُصِرٌّ على هرطقته" ... وكان قد جاهد ليشرح أنّ أفكاره ليست خطأً، دون جدوى. وتم حرقُه حيّاً في "كامبو دي فيوري" وقد كمَّموه قبل أن يأخذوه إلى المَحْرَقَةِ لتفادي أن تتسبّبَ عباراته في قلقلة معتقدات الجمهور الذي حضر لمشاهدة المَحْرَقِة. وقد تَمَّ إضفاءُ رُتْبةِ "كبير علماء الكنيسة" عام 1930م على "الكاردينال بلّلارمين" الذي تولّى إدانة "برونو" رسميا...([125]).
رابعاً: كما ذكرنا في النقطة الثانية أنّ العالم (جاليليو جاليلي)، وهو أحدُ علماء الفلك الأكثر شهرةً في تاريخ إيطاليا قد تمكّن من إجراء اختباراتٍ علميةٍ تجريبيةٍ أثبت من خلالها صحّة نظرية "كوبر نيكوس"، وذلك عن طريق رصده للكواكب باستخدام "التليسكوب". وأثبتَ دوران الأرض حول الشمس على خلاف الاعتقاد الكنسيِّ القائم على أنَّ الأرض ثابتةٌ لا تتحرك، وأنّها مركز الكون، كما استطاع هذا العالِمُ الفذُّ المُبدِعُ أن يُثبتَ أنَّ هنالك كواكبَ سيّارةً تدور حولها، وأنَّ عددها يزيد عن سبعة كواكب على خلاف الاعتقاد الكنسيِّ السائد آنذاك والذي كان يحصرها في سبعة كواكب فقط. فثارت ثائرة الكنيسة وأعلنت هرطقةَ وكفرَ وإلحادَ هذا العالم مُستندةً إلى أنَّ أقواله تخالف ما ورد في الكتاب المقدس. وتم تحويل (جاليليو) إلى محكمة التفتيش في روما.
"وأجبرته لجنةُ المحكمة على الرجوع في رأيه بأن عرضتْ عليه أولاً وسائل التعذيب المستخدَمَةَ إذا ما أصرَّ على رأيه ... وكانت أعمالُ "جاليليو" قد أدُينت ووُضعت في كشف الممنوعات منذ عام 1616م([126]). وقد أمضى بقية حياته معتقَلاً في منزله إذ أنَّ شهرته العالمية قد سمحتْ له بتفادي العواقب الوخيمة، فكانت عمليّةُ اعتقاله في منزله هي الوسيلة الوحيدة لتفادي عمليات التعذيب الرسمية التي تمارسها اللجنة .."([127]) خصوصاً بعد أن صدر الحكم عن محكمة التفتيش بسجنه وتعذيبه بشدّةٍ مما اضطرّهُ للتراجع عن نظرياته العملية [التي أثبت العلُم صحَّتها تماماً] وأعلن أمام البابا "أربان الثامن" تراجعه وتوبتَهُ عمَّا قاله. وقال في إعلانه هذا: "أنا غاليليو، وفي السبعين من عمري، سجينٌ جاثٍ على ركبتيَّ، وبحضور فخامتِكَ، وأمامي الكتاب المقدس، الذي ألمسُه الآن بيدي أُعْلِنُ أنّي لا أشايع، بل ألعنُ وأحتقر خطأَ القول وهرطقةَ الاعتقاد بأنَّ الأرض تدور"([128]).
ولرّبما يسألُ سائلٌ عن الدّافع الذي كان يؤدّي بالكنيسة ورجالها إلى فعل ما فَعلوه بعلماء من أمثال (جاليليلو وهيباثيا) وآخرين؟؟ والجواب على ذلك: أنّ رجال الكنيسة كانوا يعتقدون بأنّ الكتاب المقدَّس يتضمَّنُ كلَّ أنواع العلوم التي يحتاجها الناسُ، سواءٌ أكانت علوم دينٍ أو علوم دُنيا "وأنَّ أساس كلِّ علمٍ، عندهم، هو الكتاب المقدّس وتقاليدُ الكنيسة وأنَّ الله لم يقصُرْ تعليمنا بالوحي على الهداية إلى الدِّينِ فقط بل علَّمنا بالوحي كلَّ ما أراد أنْ نعلَمه من الكون، فالكتاب المقدّس يحتوي من المعرفة على المقدار الذي قُدِّر للبشر أن ينالوه، فجميع ما جاء في الكتب السماوية من وصف السماء والأرض، وما فيها، وتاريخ الأمم ممّا يجب تسليمُه مهما عارضَ العقلَ أو خالفَ شاهِدَ الحسِّ، فعلى الناس أن يُؤمنوا به أولاً، ثم يجتهدوا ثانياً في حمل أنفسهم على فهمه"([129]).
ولأنّ الأوروبيين أعلمُ بشؤون بلادهم وأعلمُ بتاريخهم وأخبرُ بالجراحات والأذى الذي سبّبته لهم الكنيسةُ فقد رفضت أكبرُ جامعةٍ إيطاليةٍ استقبال بابا الفاتيكان بنديكتيوس السادس عشر عندما همَّ بزيارتها وتعرّضت شخصيّتهُ للاستهزاء والسّخرية، فما كان منه إلاّ أن تراجع عن زيارته لهذه الجامعة، وهي جامعة (الأسابينتسا) جامعة روما الأولى.
"وكلُّ ما استطاع البابا أن يفعله هو التراجع عن زيارة الجامعة، وسط سُخريةِ وتهكُّمِ أهل العلم التجريبيِّ والفيزياء والأجيال الجديدة من الطلبة. حيث قال رئيس قسم الفيزياء في جامعة روما الأولى "جان كارلو رووكو"، وهو القسم الذي تَزَّعَم أساتذتُه وطلبتُه الاحتجاجات على الزيارة المُلْغَاة لبابا الفاتيكان، في حديثٍ مع قناة "سكاي تي جي 24" الإخبارية الإيطالية: "تاريخ الصراع بين الفيزياء والكنيسة قديمٌ جداً ولا يزال قائماً حتى الآن" ... وأضاف: "لا نريد العودة إلى تاريخ وجغرافية الكنيسة ... لقد تجاوزنا القرون الوسطى حيث كانت الكنيسة تفرض تاريخاً وجغرافيةً مغلوطين عن تاريخ الكون وشكل الكرة الأرضة"([130]).
"وفي خضمِّ الجدل الدائر حول الزيارة المُلغاةِ لبابا الفاتيكان لجامعة روما الأولى (لاسابينتسا) بمناسبة افتتاح السنة الأكاديمية، قالت وزيرة التجارة الخارجية والسياسات الأوروبية "إيما بونينو": "لا أحدَ يريد أن يُكَمِّمَ البابا أو يمنعه من الكلام ... إنَّ ما نشهده يومياً يدعو للقلق، فالوحيد الذي يتكلَّمُ صباحَ مساءَ هو البابا وأتباعه بالخزعبلات الكاثوليكية"، وأضافت: "أيُّ شخصٍ يُفَكِّرُ بشكلٍ مُختلفٍ، أو يتولَّى المسؤولية استجابةً لحاجات المواطنين الإيطاليين من أيِّ دينٍ كانوا، يجدُ نفسه في نهاية المطاف بلا صوتٍ، إنَّ البابا يريدُ من الأصوات الأخرى أن تخرس".
وكان الفاتيكان قد حاول عبثاً دحض الشائعات التي سرت حول إلغاء الزيارة، وأَكَّدت الدائرةُ الصحافيةُ للفاتيكان أنَّ البابا بنديكت السادس عشر سيزور جامعة روما الأولى (لاسابينتسا) يوم الخميبس 17 كانون الثاني 2008م، وقال الأب "تشيرو بينيديتيني" نائب مدير الدائرة الصحفية: "سيقوم البابا بالزيارة وليس هناك أيُّ تغييرٍ سيطرأ عليها".
وقد أعلن الفاتيكان إلغاء زيارة البابا إلى حرم جامعة روما الأولى، وأصدرت الدارُ الصحافية في الفاتيكان بياناً رسمياً جاء فيه: نظراً للوقائع التي شهدتها الأيام الماضية فيما يتعلق بزيارة الأب الأقدس إلى جامعة روما الأولى للدراسات (لاسابينتسا) بدعوةٍ من رئيسها فقد اعْتُبِرَ أنَّ مِن الملائم إرجاء الزيارة" وختم بالقول: "وسيقوم الأب الأقدس بإرسال كلمته على أية حال"([131]).
ونشيرُ هنا إلى أن إلغاء زيارة البابا إلى جامعة روما الأولى بعد إصدار أكثر من ستين أستاذاً في الجامعة نفسها نداءً اعتبروا فيه زيارة رأس الفاتيكان إلى جامعةٍ علميةٍ أمراً "غير لائق"، بينما أعلن تجمعٌ طلابيٌ واسعُ النطاق في الجامعة أسبوعاً لـ "مناهضة الإكليروس".
"وكان من ردود أفعال الكنيسة ما أطلق عليها رئيس أساقفة روما الكاردينال "كاميللو رويني" دعوةً لكل المؤمنين لحضور "صلاة الملاك" الأحد 20 كانون الثاني 2008م في ساحة كنيسة القديس بطرس، لإظهار تلاحمهم وتأييدهم للبابا "بنديكت السادس عشر". وقال في بيانٍ صادرٍ عن الكاردينال: إنه "تابع خطوةً بخطوةٍ بالتعاون مع أعضاء وهيئات الكرسي الرسولي الأحداث المؤسفة التي أرغمت الأبَ الأقدسَ على إلغاء زيارته لجامعة روما الأولى، والتي دُعي إليها منذ وقت طويل" ... وتابعَ: "وفي هذه الظروف المحْزنة والمؤثِّرةِ على المدينة بأكملها، تُعَبِّرُ كنيسةُ روما عن قربها من أسقفها البابا وترفع صوتها مُعلنةً حُبَّها وثقتها وتقديرها وامتنانها له ولمكانته التي تحتل قلوب سكانها..
وكان الرد سريعاً وحاسماً من أساتذة وطلبة الجامعة على حَمْلِةِ الفاتيكان ضدهم: لم نحرق أحداً. ونِسبةُ الغلط إلى المخالفين وإلى حدِّ الهرطقةِ وما يترتَّبُ عليها أمرٌ معروفٌ ومعهودٌ في تاريخ الكنيسة"([132]).
وفي ختام ردّنا على فرية وشبهة عدم اتّفاق القرآن مع العقل، نذكِّرُ الرهبان الطاعنين بقول الراهب مارتن لوثر مؤسِّسِ المذهب البروتستانتي: أنتَ لا تستطيعُ أن تقبلَ كُلاًّ مِن الإنجيل والعقل، فأحدُهما يجبُ أن يُفسحَ الطريق للآخر ... "إنَّ كلَّ آيات عقيدتنا المسيحية التي كشفَ لنا اللهُ عنها في كلمتهِ أمام العقل مستحيلةٌ تماماً ومنافيةٌ للمعقول وزائفةٌ. فإذاً كيف يعتقدُ ذلك الأحمق الصغير الماكر([133]) أنّ هناك شيئاً يمكنُ أنْ يكونَ أكثرَ مجافاةً للعقل واستحالةً من أنَّ المسيح يُعطينا جسده لنأكله ودمه لنشربه في العشاء الأخير؟ ... أو أنَّ المسيحَ إبنَ الله حملتْ به مريمُ العذراء وولدته ثم غدا رجلاً يتعذَّبُ ثم يموتُ مِيتةً مُخْجِلةً على الصليب؟ ... إنَّ العقل هو أكبرُ عدوٍّ للإيمان"([134]).



([1] ) ابن القيّم [م. س]، ص 90، 91 بتصرف واختصار.
[2]  انظر:
أ. ابن تيمية [م. س] ص 266 – 302.
ب. ابن القيم [م. س] ص 109 – 117، 147 – 157، 174 – 184.
ج. الهندي [م. س] ص 519 – 545
د. داود، عبد الأحد، محمد في الكتاب المقدّس، ترجمة فهمي شمّا، ص 30 – 35، 36 – 54.
هـ. أبو طالب، نصر الله عبد الرحمن، تباشير الإنجيل والتوراة بالإسلام ورسوله محمدٍ r، ص 250، 251، 273، 274، 315، 316، 371، 372، ط2، كتاب منشور في موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنّة www.55a.net
([3] ) سفر التثنية: 33: 2
([4] ) سورة التين: الآيات 1 – 3.
([5] ) التكوين: 21: 21.
([6] ) إشعياء: 42: 1 – 7.
([7] ) إشعياء: 42: 9 - 13
([8] ) إشعياء: 42: 17
([9] ) سورة القلم، الآية 4
([10] ) التكوين: 16: 9 – 13.
([11] ) التكوين: 17: 20.
([12] ) التكوين: 21: 18.
([13] ) التكوين: 22: 15 – 18.
([14] ) وفي ترجمة البروتستانت (فأكون أنا المنتقم)، وفي بعض الترجمات الكاثوليكية الأُخْرى (فإني أحاسبُه).
([15] ) التثنية: 18: 18 – 20.
([16] ) سورة آل عمران، الآية 164.
([17] ) التثنية: 34: 10، 11.
([18] ) اشعياء: 54: 1 - 4
([19] ) يوحنا: 14: 25، 26.
([20] ) يوحنا: 14: 16.
([21] ) يوحنا: 16: 7، 8.
([22] ) يوحنا: 15: 26، 27.
([23] ) يوحنا: 16: 12 – 14.
([24] ) للتوسع، انظر:
أ. الهندي [م. س]، ص 549، 550، 551.
ب. داود [م. س]، ص 216 – 218.
([25] ) رسالة يوحنّا الرسولي: 4: 1، 2.
([26] ) رسالة يوحنا الرسولي: 4: 6
([27] ) سورة البقرة: الآية 106.
([28] ) سورة النحل: الآية 101.
([29] ) الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج2، ص 78، ط3، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
([30] ) عناية، غازي، هُدى الفرقان في علوم القرآن، ج2، ص 187، ط1، 1996، عالم الكتب للنشر والتوزيع، بيروت.
([31] ) المرجع السابق نفسه ص 188، 189.
([32] ) المرجع السابق نفسه ص 194، 195، بتصرف واختصار.
([33] ) صحيح البخاري [م. س]، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، ج9، ص 45.
([34] ) للتوسع انظر: بحث الدكتور حبيب عبد الملك بن حبيب "الناسخ والمنسوخ بين الكتاب المقدّس والقرآن الكريم" المنشور على موقع شبكة ابن مريم الإسلامية، www.ebnmaryam.com، ضمن سلسلة مؤلفاته في مقارنة الأديان. وقد ذكر في هذا البحث ما يزيد على الثلاثين شاهداً على وقوع النسخ في الكتاب المقدّس.
([35] ) يوحنّا: 8: 14
([36] ) يوحنّا: 5: 31.
([37] ) انظر سفر التكوين: 29: 23 – 30.
([38] ) اللاويين: 18: 18.
([39] ) الخروج: 6: 20.
([40] ) اللاويين: 18: 12.
([41] ) التثنية: 6: 13.
([42] ) متّى: 5: 33 – 37.
([43] ) الخروج: 21: 23 – 25.
([44] ) متى: 5: 38 – 40.
([45] ) التكوين: 9: 3
([46] ) اللاويين: 11: 7، 8.
([47] ) التكوين: 17: 9 – 13.
([48] ) لوقا: 1: 59، 60.
([49] ) لوقا: 2: 21.
([50] ) رسالة بولس الخامس إلى غلاطية: 2 – 4.
([51] ) متى: 15: 24.
([52] ) مرقس: 16: 15
([53] ) التكوين: 20: 12
([54] ) التثنية: 27: 22
([55] ) التثنية: 24: 1
([56] ) متى: 19: 6 – 9.
([57] ) التكوين: 2: 1 – 3.
([58] ) انظر:
أ. لوقا: 24: 1 – 7.
ب. أعمال الرسل: 20: 7.
([59] ) رؤيا يوحنّا: 1: 10.
([60] ) سورة يونس، الآيات 62 – 64.
([61] ) انظر: ابن كثير [م. س] ج2، ص 439، الزمخشري [م. س]، ج2، ص 357، بتصرف.
([62] ) القرطبي [م. س]، المجلد الرابع، ج 7 – 8، ص 359.
([63] ) سورة النحل، الآية 101.
([64] ) الزرقاني [م. س]، ص 107، 108 بتصرف.
([65] ) سورة الكهف، الآية 27
([66] ) انظر: ابن كثير [م. س] ج3، ص 84 والزمخشري [م. س]، ج2، ص 716.
([67] ) القرطبي [م. س] المجلد 5، ج 9 - 10، ص 389.
([68] ) الطبري، جامع البيان [م. س]، ج 15، ص 154.
([69] ) انظر كتاب (كشف كذب اللئيم حول الإسلام العظيم) المنشور بتاريخ 5/4/1425 هـ في موقع ملتقى أهل الحديث www.ahelalhadeeth.com من غير اسم مؤلف.
([70] ) المرجع السابق نفسه.
([71] ) سورة البقرة، الآية 106.
([72] ) سورة الحجر، الآية 9.
([73] ) سورة الرعد، الآية 39.
([74] ) القرطبي [م. س] المجلد ج 9 – 10، ص 331.
([75] ) متى: 5: 17، 18.
([76] ) قناة العربية الإخبارية، 5/10/2005، في موقعها الإلكتروني www.alarabiya.net.
([77] ) الخطيب، محمد أحمد، الفرق الإسلامية، ص 71، 72، بتصرف واختصار، ط1، 1996، منشورات جامعة القدس المفتوحة، الأردن.
([78] ) سورة الرعد، الآية 16.
([79] ) سورة النساء، الآية 78.
([80] ) سورة البلد، الآية 10.
([81] ) الإنسان، الآية 3.
([82] ) سورة الشمس، الآيتان 7، 8.
([83] ) سورة الليل، الآيات 5 - 10
([84] ) سورة الصفّ، الآية 5.
([85] ) الخطيب [م. س]، ص 76، 77، بتصرف واختصار.
([86] ) الغرابي، علي مصطفى، تاريخ الفرق الإسلامية، ص 37، 38، بتصرف، ط2، 1985، مكتبة الانجلو، القاهرة.
([87] ) سورة التوبة، الآية 29.
([88] ) الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد، الأحكام السلطانيّة والولايات الدينيّة، ص 182، 183، ط1، 1985، دار الكتب العلميّة، بيروت.
([89] ) ابن قيم الجوزية، شمس الدين محمد بن أبي بكر، أحكام أهل الذمة، ج1، ص 118، ط1، 1997، دار ابن حزم، بيروت.
([90] ) القرطبي [م. س]، ج8، ص 113.
([91] ) ابن قيم الجوزية [م. س]، ص 121.
([92] ) ابن قيم الجوزية [م. س]، ص 123.
([93] ) القرطبي [م. س]، ج8، ص 115.
([94] ) المرجع السابق نفسه، ج8، ص 112.
([95] ) رومية: 13: 7
([96] ) لوقا: 20: 22 – 26.
([97] ) القضاة: 1: 28
([98] ) القضاة: 1: 35، 36.
([99] ) سورة الطُّور، الآيتان 35، 36.
([100] ) سورة محمد، الآية 19.
([101] ) سورة الزمر، الآيتان 17، 18.
([102] ) سورة البقرة، الآية 170.
([103] ) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين [م. س]، الرد على الشبهة رقم 63 حول تناقض القرآن مع العقل.
([104] ) سورة العلق، الآيات 1 – 5.
([105] ) سورة القلم، الآية 1.
([106] ) الصوا، علي، وآخرون [م. س] ص 36.
([107] ) سورة طه، الآية 114.
([108] ) الصوا، [م. س]، ص 36.
([109] ) سورة المجادلة، الآية 11.
([110] ) انظر كتاب موريس بوكاي (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم).
([111] ) التكوين: 3: 14 – 16.
([112] ) اللاويين: 12: 1 – 5.
([113] ) بوكاي موريس، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم، ص 44 فما فوق بتصرف، ط1، 1978، دار الكندي، لبنان.
([114] ) المرجع السابق نفسه ص 48.
([115] ) بوكاي [م. س] ص 94، 95.
([116] ) الفصح: اسم عبريٌ معناه عبور،وهو أول الأعياد السنوية الثلاثة، وهو يعرف أيضاً بعيد الفطير.
([117] ) اشارة إلى آلام المسيح ابتداءً من ألمه في بُستان جشيماني وانتهاءً بموته على الصليب كما يعتقد المسيحيون.
([118] ) الإفخارستيا أو سر التناول أو العشاء الرباني، هو أحد الأسرار السبعة المقدّسة في الكنيسة الكاثوليكية، وهو تذكير بالعشاء الذي تناوله المسيح بصحبة تلاميذه عشيّة آلامه.
([119] ) متّى 16: 18، 19.
([120] ) متى 16: 23.
([121] ) انظر متى: 26
([122] ) ريبوني، إنريكو، الإلحاد وأسبابه "الصفحة السوداء للكنيسة" ترجمة د. زينب عبد العزيز، ص 69، ط1، 2004، دار الكتاب العربي، مصر.
([123] ) وايت، آندروديكسون، بين العلم والدِّين، ترجمة إسماعيل مظهر، ص 73، ط1، 1930، دار العصور، مصر.
([124] ) سفر الجامعة : 1: 3 – 5.
([125] ) ريبوني [م. س]، ص 100.
([126] ) قامت اللجنة الخاصة بالحكر على الفكر التابعة للكنيسة بإصدار (الإندكس) أو قائمة الكتب التي يمُنع نشرها وتداولها وكان من ضمنها كتب (كوبر نيكوس) و(جاليلو).
([127] ) ريبوني [م. س] ص 103.
([128] ) وايت [م. س]، ص 79، 80.
([129] ) عبده، محمد، الإسلام والنصرانيّة مع العلم والمدنيّة، ص 27، ط3، 1341 هـ، مطبعة المنار، مصر.
([130] ) مجلة المجتمع، العدد 1788، بتاريخ 9/2/2008.
([131] ) المرجع السابق نفسه.
([132] ) المرجع السابق نفسه.
([133] ) يقصد البابا
([134] ) ديورانت، [م. س]، الكتاب الثالث والعشرين، ص 56 بتصرُّف.