أول أركان رد الشبهات عن الاسلام و نبوة سيدنا محمد


ردّ الشبهات والمطاعن التي أوردها الرهبان والمستشرقون في الإسلام ونبوِّة رسول الله r (1)
بقلم الدكتور راجح إبراهيم السباتين
الشّبهة الأولى ودفعها:
كان محمدٌ مُصَاباً بالصَّرع، وكان يُعَلِّلُ حالات الصَّرع التي تُصيبه بأنّها وحيٌ ينزلُ عليه من السماء بواسطة مَلَكٍ اسمه جبريل. وقد حدث ذات مرّةٍ أن غابت عنه حالات الصّرع الذي يُسميّه وحياً لفترةٍ غير قصيرةٍ فشرعَ محمدٌ في الانتحار.
- هذه الشبهة مركّبةٌ من جزأين، أولهما أنّ رسول الله r كان يُصاب بالصرع وثانيهما أنّه، حاشاه، عليه قد شرع في الانتحار.
- أما عن أكذوبة إصابة النبي r بنوباتٍ من الصّرع فيكذبها ما يلي:
"إنَّ المريض بالصرع يُصاب بآلامٍ حادّةٍ في أعضاء جسمه كافّة، يحسُّ بها عندما تنتهي نوبة الصرع، ويظل حزيناً كاسف البال، وكثيراً ما يحاول مرضى الصرع الانتحارَ من قسوة ما يعانون من الآلام. فلو كان ما يعتري النبيَّ  r عند الوحي صرعاً، لَحَزِنَ لوقوعه ولَسَعِدَ بانقطاعه، ولكنَّ الأمر بخلاف ذلك. ثمّ إنّ الثابتَ علمياً أنَّ المصروع أثناء الصرع يتعطَّلُ تفكيرُه وإدراكه تعطُّلاً تاماً فلا يدري المريضُ في نوبته شيئاً عمّا يدور حوله، ولا ما يجيش في نفسه، كما أنه يغيب عن صوابه. والنبيُّ r  بخلاف هذا كلِّه كان يتلو على الناس، بعد انتهاء لحظات نزول الوحي، آياتٍ بَيِّنَاتٍ وعظاتٍ بليغاتٍ، وتشريعاً مُحكَماً، وأخلاقاً عاليةً، وكلاماً بلغ الغاية في الفصاحة والبلاغة، فهل يُعقلُ أن يأتيَ المصروعُ بشيءٍ من هذا؟؟"([1]).
ثمَّ إنْ كان محمدٌ  r مصاباً بالصرّع فلماذا سكتت عن ذلك نساؤه رضوان الله عليهنّ؟؟ ثم لِمَ اتّبَعهُ أحكمُ رجال قريشٍ وأعقلهم كالفاروق والصدّيق وعثمان وعليّ رضوان الله عليهم؟؟ وقبل هذا كلّه وذاك فلماذا يسكت صناديدُ قريش من أعدائه عن ذلك، وهم الذين يتربّصون به ريب المنون آناء الليل وأطراف النهار؟؟ لماذا يسكتون وهم كانوا بانتظار ولو هفوةٍ أو زلَّةٍ ليجعلوا منها مأخذاً عليه وعلى نبوّته؟؟ لعمري لو كان هذا صحيحاً لسَرَتِ الفضيحةُ في السرّ والعلن، ولسار بخبرها الرّكبانُ ولعِلمَ بها القاصي والداني. ولكنّها شمس الحق عندما تشرق فتغطيّ على كل نورٍ سواها، شمس الحقّ التي تشرقُ كلّ يومٍ على ما يزيد عن المليار والنصف من سكّان هذه الأرض الذين يؤمنون بدعوة هذا الحبيب المصطفى r.
- أمّا عن أكذوبة شروعه r في الانتحار، فقد بنى الكاذبون شبهتهم وفريتهم هذه على ما ورد في بعض كتب السِّيَرِ والتفسير من أنّ النبي r قد حزن حزناً شديداً لمّا فتر الوحي وأصابه ضيقٌ وألمٌ لذلك. فزعم المفترون أنّه عليه السلام قد فكّر بالانتحار وقتلِ نفسه بسبب ذلك وأخذ يتنقّلُ في رؤوس الجبال ليُلقي نفسه من أعلاها، فنزل القرآن مُعاتباً له يقول "فلعلّك باخعٌ نفسك". وفسروا ذلك بقولهم: أي فلعلّك تقتلُ نفسك غمّاً!!! وكلام هؤلاء باطلٌ مردودٌ ليس له ما يدعمه من حديثٍ صحيحٍ ولا حسنٍ ولا حتّى ضعيف. وليس هناك تفسيرٌ عند أيٍّ من علمائنا الأفاضل يؤيّده، فقوله تعالى: " فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً"([2]) يُجَسِّدُ وبكلِّ وضوحٍ حرص النبي r على هداية قومه ويُظهرُ تألُّمَهُ بسبب تكذيبهم له وصدّهم عنه، وذلك إشفاقاً منه عليهم بسبب ما ينتظرهم من عذاب الآخرة إن هم بقوا مصرّين على كفرهم وعنادهم.
فكيف فَهِمَ هؤلاء الزاعمون دلالةَ هذه الآية على محاولة النبيّ الانتحار ورغبته فيه لاندري!!! ثمّ كيف يُعقَلُ أن يقوم النبي بذلك وقد رَفَضَ الصلاة على رجلٍ قتل نفسه بنصلِ سهمٍ، وكذلك أخبرنا بأنّ المنتحرَ خالدٌ مُخلَّدٌ في نار جهنم!! روى الإمام النسائي([3]) في الجزء الرابع من سننه في كتاب الجنائز في (باب ترك الصلاة على من قتل نفسه) قال: "أخبرنا إسحق بن منصور قال أنبأنا أبو الوليد قال حدثنا أبو خيثمة زهير قال حدثنا سماك عن ابن سمرة أنَّ رجلاً قتل نفسه بمشاقص([4]). فقال رسول الله r أمَّا أنا فلا أصلّي عليه. أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا خالد قال حدثنا شعبة عن سليمان سمعتُ ذكوان يُحدَّثُ عن أبي هريرة عن النبي ـ r ـ قال: مَن تردّى من جبلٍ فقتلَ نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالداً مخلّداً فيها أبداً. ومن تحسَّى سُمّاً فقتل نفسه، فسمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلّداً فيها أبداً. ومَن قتلَ نفسه بحديدةٍ ثم انقطع عليَّ شيءٌ خالدٌ يقول كانت حديدتُه في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً".
ونقول تأكيداً على ما سبق: إن كان النبي ـ r ـ قد رفض الصلاة على من مات منتحراً فكيف يُعقل أن يكون عليه السلام قد شرع في الانتحار؟؟ لعمري إنه كلام تقشعر له الأبدان.
الشّبهة الثانية ودفعها:
إن كان محمدٌ يزعمُ أنّ كتاباً أُنزِلَ عليه من السّماء، فإنّ هذا الكتاب عينَه يُخبرنا أنّ محمداً كان مُذنباً (واستغفِرْ لذنبكَ) كما يُخبرنا هذا الكتاب كذلك أنّ محمداً كاد أن يُفتنَ (وإن كادوا ليفتنوك).
- هذه الشبهة هي الأخرى مركبةٌ من جزأين أولهما اتّهامُ الرسول ـ r ـ بارتكاب الذنوب وثانيهما اتّهامه بأنّه كاد أن يُفتنَ.
- أمّا عن شبهة ذنوب النبي r فتفنيدها هو التالي:
من الطبيعيّ والمتوقَّع أن يقودَ أخذُ الآيات الكريمة السابقة على ظاهرها إلى فهمٍ غير صحيحٍ لها، حيث أنّ المعنى الظاهر هنا يُعارضُ عصمةَ الله تعالى لأنبيائه ورسله عن الوقوع في المعاصي والآثام والذنوب، إذ لا يصلُحُ مذنبٌ وآثمٌ وعاصٍ لأن يكون قدوةً للناس يأخذ بيدهم إلى الخير والفلاح ويقودهم لتطبيق تعاليم شرع الله تعالى "فذنبُ الرسول r ليس ذنباً حقيقياً، قائماً على فعل المعصية، وإنما هو ذنبٌ معنويٌ يقوم على نوعٍ من تركِ الأَولى، والسهو والغفلة والنسيان، الذي لا يؤدي إلى ترك واجبٍ أو فعلِ محرَّمٍ. وقد يفعل الرسول r خلافَ الأَولى، فيعاتبه الله، وقد يمر بحالةٍ من السهو اليسير أو الغفلة البسيطة، فيتداركه الله، وهذا نوعٌ من التقصير، يستدعي أن يستغفرَ اللهَ منه، ليبقى r في كامل تألُّقِه وارتقائه. وقديماً قيل: حسناتُ الأبرار سيئاتُ المقرَّبين. إنَّ استغفار الرسول r وتوبته نوعٌ من أنواع ذكره الله، وعلى هذا قوله r: "إنه ليُغاَنُ على قلبي فأتوبُ إلى الله واستغفره في اليوم مئة مرة" فاستغفاره لله صورةٌ من صور ذكره وشكره له"([5]).
وعلى ذلك يكون الأمر بالاستغفار أن يستغفر النبي r من الأمور التي اجتهد فيها، من غير وحيٍ إليه فيها، فتَرَكَ الأولى (الأحسن) وأخَذَ بالحَسَنِ وكان من أمثلة ذلك أنه عليه الصلاة والسلام قد أَذِنَ لبعض المنافقين بالتخلُّف عن إحدى الغزوات والقعود عن الجهاد، وكذلك قبوله ـ عليه السلام ـ أخذ الفدية من أسرى معركة بدرٍ، وكذلك أيضاً عندما عبسَ وجهُهُ عليه الصلاة والسلام، وأعرضَ لأَجَلٍ عن عبد الله بن أم مكتوم في وقتٍ كان منشغلاً فيه، عليه السلام، بعرض الإسلام على بعض كبار وأشراف غير المسلمين. وبالعودة لقوله تعالى: " لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ"([6]) فإننا نذكِّرُ هؤلاء الذين أجروها على معناها الظاهر فاتَّهموا الحبيب المصطفى بارتكاب الذنوب والآثام بإنّه لو كان مذنباً ـ كما يظنّون ويزعمون ـ لَمَا أيّده اللهُ تعالى بنصره وتوفيقه، ولَما أتّم عليه نعمته وهداه صراطاً مستقيماً، فهذه كلها أمورٌ لا تنبغي للمذنبين والعصاة والآثمين أبداً.
لقد كان من الجدير بهؤلاء الرهبان المستشرقين القدامى والمعاصرين الذين يتّهمون الحبيب المصطفى بارتكاب الذنوب ـ التي لا زالوا غير قادرين حتّى هذه السّاعة على إثبات واحدٍ منها ـ كان من الجدير بهم الالتفات إلى كتابهم المقدّس الذي وَسَمَ أنبياء الله تعالى بكُلِّ مالا يليق بهم من أوصافٍ قبيحةٍ وذنوبٍ عظيمةٍ، حيث وصَفَ الكثيرين منهم بالكذب والسُّكر وزنا المحارم والرّقص عُراةً والأمر بممارسة القتل والإبادة الجماعيّة!!!.
ـ وأما عن شبهة "كاد محمدٌ أن يُفتنَ" فتفنيدُها ما يلي:
إنَّ هذه الشبهة مبنيةٌ على فهمٍ خاطئٍ وتفسيرٍ مغلوطٍ لقوله تعالى: " وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً"([7]). وقبل الشروع في إيراد التفسير الصحيح لهاتين الآيتين الكريمتين نشيرُ إلى أنّ فيهما ردّاً صريحاً ومباشراً على كُلِّ أولئك الذين اتّهموه ـ عليه الصلاة والسلام ـ  بأنّه جاء بالقرآن من عنده وأنّه المؤلِّفُ الحقيقيّ له. لأنّه لو كان كذلك، حاشاه، فلماذا يكتبُ آياتٍ يُعاتبُ نفسه فيها؟؟؟
وقد ذكر المفسّرون أسباباً متعدّدةً، ولكنها متقاربةٌ في معناها، لنزول هاتين الآيتين الكريمتين، وقد ساقها الإمام السيوطي، رحمه الله، في تفسيره، وكان من أبرزها ما يلي([8]):
1. أخرج ابن اسحق وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن ابن عباسٍ قال: إنّ أميّةَ بن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالاً من قريشٍ، أتوا رسول الله r فقالوا: تعال فاستلم آلهتنا وندخل معك في دينك. وكان رسول الله r يشتدُّ عليه فراقُ قومه ويحبُ إسلامهم، فرقَّ لهم فأنزلَ الله "وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ .. " إلى قوله " نَصِيراً".
2. وأخرج ابن مردوية من طريق الكلبي، عن باذان عن جابر بن عبد الله مْثِلَهُ.
3. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله r يستلم الحجر فقالوا: لا ندعك تستلمه حتى تستلم آلهتنا. فقال رسول الله r: وما عليَّ لو فعلتُ واللهُ يعلم منّي خلافه؟ فأنزل الله "وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ .. " إلى قوله " نَصِيراً".
4. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: كان رسول الله r إذا طاف يقول له المشركون: استلم آلهتنا كي لا تضرَّك فكاد يفعل فأنزل الله "وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ" .. الآية.
5. وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير رضي الله عنه، أنَّ قريشاً أتوا النبي r فقالوا له: إنْ كنتَ أُرْسِلْتَ إلينا فاطرد الذين اتّبعوكَ مِنْ سقاط الناس ومواليهم لنكونَ نحن أصحابك. فركن إليهم فأوحى الله إليه "وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ" .. الآية.
6. وأخرج ابن جرير وابن مرديه عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ ثقيفاً قالوا للنبي r: أجّلْنا سنةً حتى نهدي لآلهتنا، فإذا قبضنا الذي يُهدى للآلهةِ أحرزناه ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة. فَهَمَّ أن يُؤجِّلَهم فنزلت "وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ" .. الآية.
                وخلاصة هذه المعاني والتفسيرات والأسباب السابقة هو: يا محمّدُ لقد قاربتَ أن تستجيبَ لما عرضوه عليك ولكنّك لم تفعل وذلك بسبب عصمة الله لك وتثبيته إيّاك. وكاد المشركون أن يفتنوا النبي r لكنّه لم يُفتن وذلك لعصمة الله تعالى وحمايته له.
الشبهة الثالثة ودفعها:
يتَّبعُ المسلمون رجلاً مسحوراً اسمه "محمد". وقد ذكرت التعاليمُ التي كان محمدٌ يلقِّنُها لأصحابه والمُسَمّاة "الحديث النبويّ" أنّ محمداً قد سُحِرَ وأنّ يهودّياً هو الذي قام بذلك.
ممَّا لا شكَّ فيه أنّ هذه واحدةٌ من الشّبهات الخطيرة التي أثارها الرهبان المستشرقون وتكمنُ خطورة هذه الشبهة في القول بأنّ كلَّ ما جاء به من آياتٍ قرآنيةٍ إنّما هو ناجمٌ عن السِّحر الذي أصابه وذَهبَ بعقله، فهو مسحورٌ في كلِّ ما يصدرُ عنه من أقوالٍ وأفعالٍ.
ـ وتفنيدُ هذه الشّبهة والردّ عليها وتوضيح ما حدث هو التالي: لقد حاول بعض العلماء الأفاضل، كالجصّاص (في كتابه أحكام القرآن) والقاسميّ في تفسيره، إنكارَ هذا الحديث لتكون الشبهة مردودةً تلقائياً لأنّها مبنيةٌ عليه. والصَّواب أنّ الحديث الذي ذكرَ سحرَ النبيّ r حديث صحيحٌ ذكره الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ في صحيحه في كلٍّ من كتاب بدء الخلق وكتاب الأدب وكتاب الجزية، وهذه الروايات هي التالية:
1. صحيح البخاري كتاب (الأدب) باب قوله الله سبحانه: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" حدَّثنا الحميدي حدّثنا سفيان حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: مكثَ النبي r كذا وكذا يُخَيَّلُ إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي. قالت عائشة: فقال لي ذات يوم: يا عائشة إنّ الله أفتاني في أمرٍ استفتيتُه فيه. أتاني رَجلان فجلس أحدهما عند رِجلي والأخر عندَ رأسي فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما بالُ الرجل. قال: مطبوب يعني مسحوراً قال: ومَن طَبَّهُ قال: لبيد بن أعصم قال: وفيم. قال: في جُفّ طلعة ذكرٍ في مُشطٍ ومُشاقةٍ تحت رعوفةٍ في بئر ذروان فجاء النبي r فقال: هذه البئر التي أرِيتُها كان رؤوس نخلها رؤوس الشياطين وكأنّ ماءها نقاعةُ الحناء فأمر به النبي r فأخرج قالت عائشة: فقلتُ يا رسول الله: فهلا تعني تنشَّرتَ فقال النبي r: "أما الله فقد شفاني وأمّا أنا فأكره أن أُثير على الناس شراً" قالت: ولبيد بن أعصم رجلٌ من بني زريقٍ حليفٌ ليهود.
2. صحيح البخاري كتاب (بدء الخلق) باب صفة إبليس وجنوده ... حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى عن هشام عن أبيه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سُحِرَ النبيُّ r. وقال الليث: كتبَ إلي هشامٌ أنه سمعه ووعاه عن أبيه عن عائشة قالت: سُحِرَ النبيُ r حتى كان يخيَّلُ أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتّى كان ذات يومٍ دعَا ودعا، ثم قال: أشعرتِ أنَّ الله أفتاني فيما فيه شفائي. أتاني رَجلانِ فقعَدَ أحدهما عند رأسي والآخر عند رِجلي فقال أحدهما للآخر: ما وجعُ الرجل؟ قال: مطبوب قال: ومَن طَبَّهُ؟ قال: لبيد بن الأعصم قال: فيما ذا؟ قال: في مُشطٍ ومشاقةٍ وجُفِّ طلعةٍ ذكرٍ قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فخرج إليها النبي ثم رجع فقال لعائشة حين رجع: نخلها كأنه رؤوس الشياطين فقلتُ: استخرجتَه فقال: لا "أمّا أنا فقد شفاني الله وخشيتُ أن يُثيرَ ذلك على الناس شراً ثم دُفِنَتْ البئرُ".
3. صحيح البخاري كتاب (الجزية) باب هل يُعفى عن الذميِّ إذا سَحَر ... حدثني محمد بن المثنى حدثنا يحيى حدثنا هشام قال: حدثني أبي عن عائشة أنَّ النبيّ سُحِرَ حتّى كان يُخَيَّلُ إليه أنه صنع شيئاً ولم يصنعه.
وبعد إيرادنا لهذه الأحاديث نقول: من المعلوم أننا إذا أردنا استخراج حكم مسألةٍ ما، فإننا نجمعُ الروايات الواردة فيها لنَخرجَ من مجموعها بفهمٍ صحيحٍ متكامل. لقد ركَّز المستشرقون والطاعنون على عبارةٍ في الأحاديث السابقة هي (وكان يخيلُ إليه أنّه صنع شيئاً ولم يصنعه) وتناسوا عبارة (كان يخيّلُ إليه أنّه يأتي أهله ولا يأتي) والتي هي مفتاحُ الفهم الصحيح للقصَّة كلّها، والتي تتلخّص في أنّ السِّحّر تعلّق بموضوع إتيان النبي r لزوجاته مع أنه لم يأتهنّ، وهذا الأمر لا علاقة له بالوحي ولا بالرسالة التي بعثه اللهُ بها من قريبٍ ولا من بعيدٍ. "فالإنسان قد يأخذ قرصاً معيناً من الدواء فلا يستطيع أن يأتي أهله، أو قد يكون مُتعباً نفسياً أحياناً، فلا يستطيع أن يأتي أهله، وكل هذه الأمراض التي لها علاقة بالصفات البشرية، وليس لها علاقة بالوحي والرسالة، فالنبي r معصومٌ في تأديته للرسالة، ومن المستحيل أن يزيغ عن الوحي أبداً"([9]). قال القاضي عياض، رحمه الله تعالى: وقد جاءت روايات هذا الحديث مُبيِّنةً أنّ السحر إنّما تسلَّطَ على جسده وظواهر جوارحه لا على عقله وقلبه واعتقاده([10]).
ولعلّ اتهامات الرهبان المستشرقين هذه للنبيّ محمدٍ r بأنّه مسحورٌ تتعارض مع اتهاماتٍ سابقةٍ لأسلافهم زعموا فيها أنّ محمداً ساحرٌ مُحترِفٌ وأنّ ممارسته للسحر كانت السّببَ المباشر وراء سُرعة انتشار الإسلام وإقبال الناس عليه بُسرعةٍ عجيبةٍ.
ثم لماذا لم يذكر هؤلاء الطاعنون عبارة أمّا "أنا فقد شفاني الله" التي وردت على لسانه r في الحديث السابق والتي كانت نهايةً للحادثة؟؟؟ إنها العقلية الانتقائية المريضة التي تحاول الاستدلال الخاطئ بنصٍّ صحيحٍ على أمر خاطئٍ، واتّباعٌ لمنهج (فلا تقربوا الصلاة) أو (فويلٌ للمصلّين)! ثم كيف يُعقلُ أن يُقال "إنّ محمداً مارس السحر"، في الوقت الذي عَدَّ فيه هذا الرسولُ الكريم r السّحرَ من السّبع الموبقات المهلكات؟؟ حيث قال: "اجتنبوا الموبقات: الشّركَ بالله والسِّحرَ"([11]). وحين قال r: "اجتنبوا السّبعَ الموبقات. قِيلَ يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: الشرك بالله والسَّحَر ... الحديث"([12]). وقد ذكر الإمام النووي، رحمه الله تعالى، في شرحه لهذا الحديث الشريف "ومذهب الجماهير أنَّ السحر حرامٌ من الكبائر فعله وتعلُّمه وتعليمه"([13]).
الشّبهة الرابعة ودفعها:
كيف يُسمّي محمدٌ نفسه أوّلَ المسلمين، والقرآن الذي بين يديه يذكر أنّ إبراهيم كان حنيفاً مُسلماً؟؟ ومعلومٌ أنّ إبراهيم عاش قبل محمدٍ بمئات السّنوات!!!
- يحاول هؤلاء الرهبان المستشرقون الطاعنون أن يوُهموا الناس بوجود التناقض في القرآن الكريم. ويحاولون أن يضربوا القرآن الكريم بعضه ببعضٍ ليخرجوا بتناقضٍ يُثبتُ بشريّة مصدره وأنّه من عند محمدٍ وليس موحىً به.
- والجواب على هذه الشبهة ما يلي: لقد ذكرَ القرآنُ الكريم أنّ إبراهيم عليه السلام كان مُسلماً، قال تعالى: " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"([14]). كما ذكرَ القرآنُ الكريم كذلك قوله تعالى على لسانٍ محمدٍ r بأنّه أولُ المسلمين، قال تعالى: " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"([15]) والإجابة على ذلك تُخبرنا بها كتبُ التفسير، حيث ذكر معظمها أنّ معنى قوله (وأنا أولُ المسلمين) أي أولُ المسلمين من هذه الأمّة([16])، فالنبي r هو أولُ مَن انقاد لله تعالى من أمّته ـ عليه السلام ـ وهو يخبرنا ويُعلّمنا ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا أصبحنا أن نقول "أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبيِّنا محمدٍ وملّةِ إبراهيم حنيفاً مُسلماً وما كان من المشركين"([17]). وهذا الحديث الشريف واضحٌ تماماً في الدلالة على أننا ورسولنا المصطفى r مِن قَبلنا مُعْتنقون لدين إبراهيم الحنيف الموحِّد عليه السلام، وهذا الدين هو الإسلام.
الشّبهة الخامسة ودفُعها:
إنّ محمداً لم يأتِ بمعجزاتٍ، على خلاف موسى وعيسى وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل. وفي هذا دليلٌ واضحٌ على عدم صدق نبوّته، بل إنَّ القرآن الذي جاء به محمدٌ للناس يقول، وبكلِّ صراحةٍ ووضوحٍ "وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ"([18]).
- يبدو أنّ هؤلاء الطاعنين لا يدركون حقيقةً مفادها أنّ الله تعالى هو الذي يؤيِّدُ الرسل بالمعجزات، وأنَّ الرّسلَ عليهم السلام لا يقدرون على الإتيان بالمعجزات من تلقاء أنفسهم، ويشهد لهذه الحقيقة قوله تعالى: " وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ"([19]). واستشهادهم بالآية السابقة من سورة الاسراء "وَمَا مَنَعَنَا أَن نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ"  باطلٌ تماماً، فهذه الآية الكريمة لا تُلغي الآيات المعجزات ولا تنفي فائدتها على الإطلاق "وإنما تنفي استجابة الله لطلب المشركين إنزال الآيات. فلم يستجب الله لهم، ولم يُنزل الآياتِ التي طلبوها؛ لأنه يَعلمُ أنه لو أنزلها كما طلبوا فإنهم لن يؤمنوا بها، وبعد ذلك سيعذّبُهم ويهلكهم، ولذلك لم يستجب الله لهم رحمةً بهم، لئلا يُعذّبهم ... وليس معنى هذا أنَّ الله لم يُنزل الآيات على النبي r ولا على غيره من الأنبياء السابقين"([20]).
ومن الواضحُ أنّ هذه الشبهة قائمةٌ على الكذب الخالص، وذلك لأنّ كتاب الله العزيز، والأحاديث النبويّة الشريفة، والأخبار المتواترة، التي جمعها علماؤنا ذكرت الكثير الكثير من هذه المعجزات، والتي منها على سبيل المثال:
1. القرآن الكريم: وهوأعظم هذه المعجزات على الإطلاق، ولئن زَعمَ الرهبان المستشرقون ومن وافقهم من الطاعنين ضعف نصوص القرآن وتعارضها مع بعضها البعض وإنّها من عند محمدٍ r، فإنّ التحدي بهذا القرآن لا يزال قائماً حتى قيام الساعة، وهم مُطالَبون بالإتيان ولو بعشر سورٍ مفترياتٍ تصلُحُ لأن تُقابَلَ بسور القرآن الكريم وآياته. ولا زال التحدّي للخلق على الإتيان بمثل القرآن الكريم قائماً حتى هذا العصر، عصر الحاسوب والإنترنت والاختراعات والاكتشافات العلميّة على مدار السّاعة. ألا فليأتوا بمثل ذلك إن استطاعوا.
2. معجزة انشقاق القمر، قال تعالى: " اقْتَرَبَت السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ"([21]) وقد كان هذا الانشقاق للقمر الذي حدث في زمن رسول الله r معجزةً للنبيّ وآيةً دالةً على صدق نبوّته، وتوضيحُ ذلك وارد في صحيح الإمام البخاري، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً، الذي جاء فيه([22]): حدثني عبد الله بن عبد الوهاب حدثنا بشر بن المفضّل حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه "إنّ أهل مكّة سألوا رسول الله r أن يُريهم آيةً فأراهم القمر شقّين، حتى رأوا حِراءً بينهما". ويُفهُم من مجموع روايات الحديث الشريف السابق أن هذا الانشقاق استمرّ ما يقارب الساعة من الزمن. ولئن أنكر الرهبان المستشرقون والطاعنون المعاصرون صحّة وقوع ذلك فإننا نحيلهم إلى الموقع الإلكتروني http://the-moon.wikispaces.com. الذي نشر صورةً للقمر كانت قد التقطتها وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) والتي يظهر فيها وبُكلِّ وضوحٍ ما تبقّى من آثار التئام هذا الانشقاق ويبلغ طوله مسافة ثلاثمائة كيلو متراً أي ما يعادل 186.4 ميلاً([23]). بكُلِّ جلاءٍ ووضوح.
وما من شكٍّ أنّ القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف كانا المصدرين الوحيدين اللذين ذكرا حادثة بل معجزة انشقاق القمر آنذاك. وهنا نتوجّه بالسؤال للرهبان وللطاعنين فنقول: هذا اكتشافٌ علميٌ معاصِرٌ، وكان القرآن الذي جاء به محمدٌ r قد أخبرنا به قبل مئات السنوات فبماذا تجيبون على ذلك؟؟ ليسَ هناك سوى إجابةٍ واحدةٍ إنّها النبوَّةُ. ولقد آثرنا ههنا التركيز على ذكر معجزة انشقاق القمر لأنها معجزة ماديّةٌ حسيّةٌ تحاكي فهم هؤلاء الرهبان الطاعنين للمعجزة إذ أنها عندهم لا تتجاوز حدود المادة والحسّ.
لن نُطيل في ذكر وتفصيل المعجزات التي ذكرها القرآن الكريمُ والتي أجراها الله تعالى إظهاراً لصدق نبوّةِ محمدٍ r ولكننا سنذكر، وعلى عجالةٍ، بعض هذه المعجزات والنبؤات والأخبار الصحيحة الإسناد التي حدثت بعده، عليه الصلاة والسلام، وكلّها شواهدٌ على معجزاته في الإخبار عن الغيب الذي سيقع ثمّ وقع، ومن ذلك([24]):
1. أخبر r الصحابةَ رضي الله عنهم، بفتح بيت المقدس، واليمن، والشام، والعراق، وقد وقع ما أخبر به r.
2. أخبر r أنَّ الإسلام سوف يسود حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، وقد وقع ما أخبر به r.
3. أخبر r أنّ خيبرُ تُفتحُ على يد عليٍّ، رضي الله عنه، في غد يومه، وقد فُتحتْ على يد عليٍ رضي الله عنه كما أخبر r.
4. أخبر r أنَّ المسلمين يقسّمون كنوز ملك فارس وملك الروم، وقد فتح المسلمون تلك البلاد، وقسَّموا كنوز ملوكها كما أخبر r، فأخذ سراقة بن مالك رضي الله عنه وغيره ما وعدهم به النبي r.
5. أخبر r أنّ عثمان بن عفان رضي الله سيُقتلُ وهو يقرأ القرآن، وقد كان كما أخبر.
6. أخبر r أنَّ عمار رضي الله عنه تقتلهُ الفئةُ الباغية، فوقع كما أخبر النبي r.
7. أخبر r أنّ الموتان أي: الوباء (الطاعون) يكون بعد فتح بيت المقدس، وقد وقع في خلافة عمر، رضي الله عنه، بعمواس في بلاد الشام من قرى بيت المقدس، وبها كان عسكره، وهو أول طاعونٍ في تاريخ الإسلام، مات على أثرهِ عددٌ كثيرٌ منهم لا يقلُّ عن سبعين ألفاً.
8. أخبر r أنّ فاطمةَ بنت النبي r أولُ أهلهِ لحوقاً به بعد موته، فماتت ـ رضي الله عنها ـ بعد ستة أشهر من وفاته r، فكانت أول آلِ بيت النبي وفاةً بعده r.
9. أخبر r أنّ الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ سَيّدٌ يُصلحُ الله على يده بين فئتين من المسلمين تقتتلان، وقد حدث ما أخبره به r.
الشّبهة السادسة ودفعها:
لو كان محمدٌ رسولاً لما ماتَ مسموماً ولما تحلَّلَ جسده حتّى تعفّن
- تتكوّن هذه الشبهة من جزأين، أولهما أنّه r مات مسموماً، وثانيهما أنّ جسده تحلَّلَ وتعفَّنَ بعد موته.
- أمّا عن تفصيل القول في الجزء الأول من هذه الشبهة فلا نُسَلِّمُ به أبداً. نعم، أكل النّبيُ من شاةٍ مسمومةٍ قدّمتها له يهوديةٌ بخيبر، لكنّه لم يمت من ذلك بل مات r بعد ما يزيدُ على الثلاث سنوات بعد غزوة خيبر([25]). وقصّة أكله، عليه السلام، من الشاة المسمومة ذكرها الإمام البخاري في صحيحه عند حديثه عن غزوة خيبر، كما ذكرها الإمام أبو داود في سننه في كتاب الدّيات فقال([26]): حدثنا وهب بن بقية في موضعٍ آخر عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ولم يذكر أبا هريرة قال: كان رسول الله r يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة. زادَ فأهدَتْ له يهوديةٌ بخيبر شاةً مصليةً سَمَّتْها فأكل رسولُ الله  منها وأكل القوم فقال: "ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة". فمات بِشرُ بن البراء بن معرور الأنصاري فأرسل [الرسول r] إلى اليهودية ما حَملكِ على الذي صنعتِ؟ قالت إنْ كنتَ نبياً لم يضرك الذي صنعتُ وإن كنتَ ملكاً ارحتُ الناسَ منك فأمر بها رسول الله r فَقُتِلَتْ ثم قال في وجعه الذي ماتَ فيه ما زلتُ أجدُ من الأكلة التي أكلتُ بخيبرَ فهذا أوانُ قَطَعَتْ أبْهَري.
وقد ورد في بعض الروايات الأخرى أنّ هذه المرأة اليهودية قد سَأَلَت عن أيِّ عضو أحبَّ إلى رسول الله r؟ فقيل لها الذراع، فأكثرت السُّمَّ فيها، ثم سمّمت الشاة ... والوجه الصحيح الذي تُفهمُ هذه الحادثة بناءً عليه هو التالي:
إنَّ رسول الله r لم يَمُتْ بتأثير السمِّ، ولو مات بتأثير السمِّ لمات فوراً، أو بعد ساعات أو أيام أو أشهر، مثل بشر بن البراء الذي مات فوراً. وقد عاش رسول الله r بعد حادثة السم أكثر من ثلاث سنوات!.
"صحيح أنه بلغ أثر السم، لكنَّ هذا الأثر لم يُؤدِّ إلى وفاته، لأنّ الله تكفل بحمايته وعصمته من الأعداء، فكم حاول الأعداء اغتياله وقتله، ولكنَّ الله عصمه وحماه، وأخبره عن ذلك في قوله تعالى: " يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ"([27]). وصحيحٌ أنّ رسول الله r قال لعائشة رضي الله عنها: "ما زلتُ أجدُ أثر السم الذي قُدِّمَ لي في خيبر" وأنه قال لها أيضاً: "هذا أوانُ انقطاع أبهري". وهذا معناه أنْه كان يمرضُ من أثر ذلك السم، وكان أكبر الأثر على أبهره، وهو وريده، لكن فرقٌ بين أن نقول: كان يمرضُ من أثر السم، وبين أن نقول: مات مُتأثّراً بالسم"([28]).
- أمّا عن زعم الرهبان المستشرقين والطاعنين بأنه r قد تحلَّلَ جسدُه وتعفّن بعد موته، فمسألةٌ خطيرةٌ، وقد بنى هؤلاء هذه الشبهة على حادثةٍ رواها الإمام الدارميّ، رحمه الله تعالى، في سننه في باب وفاة النبي r، هذا تفصيلها كاملاً:
"أخبرنا سليمانُ بن حرب حدَّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: تُوفِّي رسول الله r يوم الاثنين فَحُبِسَ بقية يومه وليلته والغد حتى دُفِنَ ليلة الأربعاء، وقالوا: عن رسول الله r لم يَمُتْ ولكن عُرِجَ بروحه كما عُرِجَ بروح موسى، فقام عمر فقال: إنّ رسول الله r لم يَمُتْ، ولكن عُرِجَ بروحه كما عُرِجَ بروح موسى، والله لا يمت رسول الله r حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم. فلم يزل عمرُ يتكلَّم حتى أزبد شدقاه مما يوعد ويقول، فقام العباس فقال: إنّ رسول الله r قد مات وإنه لبشرٌ، وإنه يأسنُ كما يأسن البشر. أيْ قَومِ، فادفنوا صاحبكم فإنّهُ أكرمُ على الله من أن يُميته إماتتين أيميتُ أحدكم إماتهً ويُميته إماتتين، وهو أكرم على الله من ذلك؟ أيْ قومِ فادفنوا صاحبكم، فإن يكُ كما تقولون فليس بعزيزٍ على الله أن يُبحثَ عنه التراب. إنَّ رسول الله r والله ما مات حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً، فأحلَّ الحلال وحرَّم الحرام، ونكح وطَلَّقَ وحارب وسَاَلمَ، ما كان راعي غَنمٍ يتبعُ بها صاحبُها رؤوسَ الجبال يَخبُطُ عليها العِضاهَ بمخبطهِ ويمدرُ حوضها بيده بأنصَبَ ولا أدابَ من رسول الله r كان فيكم. أيْ قومِ فادفنوا صاحبكم. قال: وجعلتْ أمُ أيمن تبكي فقيل لها يا أم أيمن تبكي على رسول الله r؟ قالت: إني والله ما أبكي على رسول الله r أنْ لا أكونَ أعلمُ أنَّه قد ذهب إلى ما هو خيرٌ له من الدنيا، ولكنّي أبكي على خبر السماء انقطع. قال حمّادٌ: خنقتِ العَبْرَةُ أيوبَ حين بلغ ها هنا"([29]).
ولعلّ أبرز عبارةٍ واردةٍ في هذه الرواية ركَّز عليها الرهبان هو قول العبّاس رضي الله عنه وأرضاه "إنّ رسولَ الله r قد ماتَ وإنهُ يأسنْ كما يأسنُ البشرُ أي قومِ، فادفنوا صاحبكم". ومن الواضح لكلّ ذي فهمٍ سليمٍ أن قول العباس، رضي الله عنه، السابق ليس إخباراً عن أمرٍ قد وقع أو عن وصفٍ لجسد رسول الله r بعد وفاته. وإنما هو ظنٌّ منه بأنّ ما يسري على سائر الأجساد يسري على جسده r بعد الموت. وقوله هذا ومن دون أدنى شكٍّ يُثبتُ عدم سماعه لقول رسول الله r "فإن الله عزُ وجلّ قد حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"([30]). "وقد قال هذه المقولة ترهيباً وتنبيهاً لعمر، رضي الله عنه، حين رفض قبول مصيبة موت رسول الله فضلاً عن دفن جسده الكريم، وصرخ من هول المصيبة متوعداً يقول: إنّ رسول الله r قد مات.
إذاً جسد رسول الله لم يكن قد أَسنَ، وإنما طالب العباسُ ـ رضي الله عنه ـ بدفن البدن الشريف إكراماً له وترهيباً من تركه حتى يأسن اعتقاداً منه أنَّ ذلك محتمَلٌ مع رسول الله r بحكم بشريته وطبيعته الإنسانية. و"الملاحَظُ أيضاً أنّ هذا الحديث مُرسَلٌ منقطعُ السند لا يصحُّ ومع ذلك كانت أجابتنا على الشبهة بفرض صحته"([31]).
الشّبهة السابعة ودفعُها:
كان محمدٌ ضالاً على غير هدى، والقرآن الذي جاء به يشهدُ على ذلك " وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى"([32]).
- مِن المضحِك في سلوك هؤلاء الرهبان الطاعنين أنهم يرجعون للتفسيرات التي لربّما وافق بعضها هواهم، فإن لم يجدوا شيئاً من ذلك فإننا نراهم يذكرون النصَّ ولا يوردون تفسيره أبداً. ومن ذلك ذكرهم للآية الكريمة السابقة دون إيراد أيٍّ من أقوال العلماء في تفسيرها. ودورنا هنا يقتصرُ على إيراد بعض هذه التفسيرات شبه المتطابقة لهذه الآية، ومنها:
1. فسّرها الطبري([33]) بـ "وجدكَ في قومٍ ضُلاَّلٍ فهداك".
2. فسّرها الزمخشري([34]) بـ "ضالاً عن عِلم الشرائع".
3. فسّرها السيّوطي([35]) بـ "ووجَدكَ بين ضالّين فاستنقذك من ضلالتهم".
4. وفسَّرها صاحب التفسير الميسَّرِ بـ "ووجدكَ لا تدري ما الكتاب والإيمان فعلَّمكَ ما لم تعلم ووفّقك لأحسن الأعمال".
ونرتأي في معرض حديثنا عن شبهة وفرية ضلال النبيّ، وما سبق أن ذكره الرهبان الطاعنون سابقاً من ارتكابه للذنوب والمعاصي، نرتأي أن نلفتَ نظر القارئ الكريم إلى أنّ صدور هذه الاتهامات ومثلها عن هؤلاء الرهبان أمرٌ غيرُ مُستغرَبٍ أبداً؛ فهم يؤمنون بالكتاب المقدّس كلِّه بعهديه القديم والجديد، وبما اشتمل عليه من العجائب والقبائح التي أُلصقت بالأنبياء المذكورين فيه. ولنستعرض منها على سبيل المثال، لا الحصر، ما يلي:
1. كان نوحٌ يشرب الخمر ويسكر ويتعرّى! "وابتدأ نوحٌ يكون فلاحاً وغرسَ كرماً وشرب من الخمر فَسَكَرَ وتعرّى داخل خبائه"([36]).
2. ارتدَّ سليمان في آخر حياته عن عبادة الله تعالى! "وكان في زمن شيخوخة سليمان أنّ نساءه أملنَ قلبه وراء آلهةٍ أخرى ولم يكن قلبهُ كاملاً مع الربّ إلهه كقلب داود أبيه"([37]).
3. شربَ لوطٌ الخمرَ وزنا بابنتيه! "فحبلت ابنتا لوطٍ من أبيهما"([38]).
ومن المدهش في نهاية حديثنا عن فهم هؤلاء للعصمة ولضلالات الأنبياء أن نُذَكِّرَ بما يعتقدونه من ثبوت العصمة "للبابوات"، وهو الأمر الذي لا زال مثارَ شكٍّ واستهجانٍ إلى يومنا هذا!! ولكي نبرهن على صحّة معتقدنا ببطلان عصمة هؤلاء "البابوات" فإننا نسوق بين يدي القارئ الكريم نماذج من ممارسات هؤلاء الذين يؤمُن الرهبان بعصمتهم في الوقت الذي ينفونها عن الحبيب المصطفى r ومنها([39]):
1. حَكَم البابا أدريان الثاني بجواز الزواج المدني، ثم جاء بعده البابا بيوس الرابع فحكم ببطلانه.
2. قال البابا غريغوريوس الأول: إنَّ أيَّ إنسانٍ يرضى بلقب "البابا العالمي" فإنه ضِدُّ المسيح. وجاء بعده البابا يونيافس الثالث فأرغم الإمبراطور على أن يخلع عليه هذا اللقب، وسار على مَوَّالهِ من أتى بعده من البابوات. أي أنّ بابوات روما قبل ذلك إنما كانوا يُعرَفون بأساقفة روما فحسب.
3. حكم البابا إيوغين الرابع على جان الأركونية بأن تُحرقَ حيةً لأنها ساحرةٌ، بينما أعلن البابا بندكت الخامس عشر بعد ذلك في عام 1919م أنها قديسةٌ!.
4. أجاز البابا سيكستوس الخامس قراءة كتابهم المقدس للعامة، بعد أن منعوا من ذلك منذ عام 1229م، ثم جاء بعده بابوات آخرون، وعلى رأسهم البابا بيوس السابع، فمنعوها مرّةً أخرى. وحتى اليوم فإن الكنيسة الكاثوليكية لا تُجيزُ للعامة قراءةَ وفهمَ نصوص العهد القديم والعهد الجديد بمفردهم، وإنْ كان لا بُدَّ من اقتناء نسخةٍ منهما فلتكن ـ وجوباً ـ النسخةَ المحشوّةَ بتعليقات وتفسيرات الآباء والبابوات!.
5. وهذا بيوس السابع نفسه يصدر أمره في السابع من أغسطس عام 1814م بإعادة اليسوعيين إلى حظيرة الكنيسة، بعد أ ن كانت طائفتهم محظورةً محرومةً بأمر من البابا كلمنت الرابع عشر الصادر في الحادي والعشرين من يوليو عام 1773م.
الشبهة الثامنة ودفعها:
عَلَّم محمدٌ أتباعه بعض العبادات الوثنيّة، ومن ذلك أنه كان يُقبّل الحجر الأسود ويُعظّمه. وقد ذكر القرآنُ الذي جاء محمدٌ حقيقة عبادة محمدٍ للأوثان والأصنام بقوله: "وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ".
- تكاد هذه الفريةُ تكون أسخف ما اتَّهمَ به الرهبان الطاعنون رسولَ الله r، وهم الذين يعظّمون أصنام المسيح، عليه السلام، وتماثيله وصوره، وتماثيل مريم، عليها السلام، وصورها ويقدّسونها!! أمّا بالنسبة لقوله تعالى في سورة المدثّر "يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ"([40]) فليس فيها ما يدلُّ مِن قريبٍ ولا بعيدٍ على أنه r كان يعبدُ الأصنام أو يعّظمها. وحتى يتضح تفسير معنى قوله تعالى " وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ" في ذهن القارئ، فمن المستحسن أن نورد بعض ما ذكره المفسرون في تفسيرها ومن ذلك:
1. فسّرها الطبري([41]) بقوله: الرجز: آلهتهم التي كانوا يعبدون [يقصد قريشاً] أَمرَهُ أن يهجرها فلا يأتيها ولا يقربها، وقال آخرون: بل معنى ذلك والمعصيةَ والإثمَ فاهجر.
2. فسّرها الزمخشري([42]) بقوله: الرجز هو العذاب. ومعناه: اهجر ما يؤدّي إليه عبادة الأوثان وغيرها من المآثم. والمعنى الثبات على هجره، لأنه r كان بريئاً منه.
3. وفسّرها السّيوطي([43]) بقوله: عن ابن عباسٍ قال: والرجز هو الأصنام. والرجز فاهجر: أي أترك المعصية. ثم قال السيّوطي عبارةً هامّةً في نهاية ذكره لهذه التفسيرات وهي (وعلى كلِّ تقديرٍ فلا يلزم تلبُّسه بشيءٍ من ذلك).
ونظنّ أنَّ ذكر هذا القدر من التفسيرات كافٍ لبيان المقصود من قوله تعالى. ولا ننسى هنا أنَّ واحداً من أبرز الأعمال التي قام بها رسول الله r عند فتح مكّة قيامه بتحطيم الأصنام التي كانت حول الكعبة المُشرَّفة فقد "أمر الرسول r بتحطيم الأصنام وتطهير البيت الحرام منها، وشارك في ذلك فكان يهوي بقوسه إليها فتساقطُ وهو يقرأ " وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً"([44]). وكانت ستين وثلاثمائة من الأنصاب، ولَطَّخ بالزعفران صور إبراهيم وإسماعيل وإسحق وهم يستقسمون بالأزلام وكانت هذه الصور داخل الكعبة، وقال: قاتلَهم اللهُ ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام.وفي روايةٍ أنَّ صورة مريم كانت داخل الكعبة أيضاً. ولم يدخل الرسول r الكعبة إلا بعد أن مُحيتْ هذه الصور منها. ثم دخلها فصلّى فيها ركعتين"([45]).
ولا ندري كيف سيفسّر لنا الرهبان الطاعنون قيام النبي r بتحطيم هذه الأوثان في الوقت الذي يتهمونه فيه بعبادتها، حاشاه!!.
ويخبرنا التاريخ الإسلاميّ أنّ النبي r لم يكتفِ بتحطيم الأصنام التي كانت موجودةً حول الكعبة، بل إنّه قام بإرسال مَن يقوم بتحطيم أصنام مُضَر وهذيل "ولا شكَّ أن تطهير البيت من الأصنام كان أكبرَ ضربةٍ للوثنية في أرجاء الجزيرة العربية، حيث كانت الكعبة أعظم مراكزها، وما أن تمَّ فتحُ مكة وطُهِّرت الكعبة حتى أرسل الرسولُ r خالدَ بن الوليد إلى نخلة لهدم العُزَّى التي كانت مضر جميعاً تعظّمها فهدمها. وأرسلَ عمرو بن العاص إلى سواع صنم هذيل فهدمه. وأرسل سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة بالمشلل (ناحية قديد على طريق مكة ـ المدينة) فهدمها، وبذلك أُزيلت أكبر مراكز الوثنية"([46]).
نعم لقد نهى النبي r المسلمين عن عبادة الأوثان لأنّها شركٌ بالله تعالى وكُفرٌ به سبحانه، فكانت تلك بدايةً لعهدٍ جديد في حياة الصحابة، رضوان الله عليهم، عهدٍ من التوحيد الخالص لله تعالى، ولقد سّجل هذه البداية بحروفٍ من نورٍ جعفرُ بن أبي طالب، رضي الله عنه، في حواره الشهير مع النجاشي ملك الحبشة عندما سأل المهاجرين الأوائل عند دينهم فقال له جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: "أيها الملك كُنّا قوماً على الشرك، نعبد الأوثان ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحِلُ المحارم، بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئاً ولا نحرّمه. فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبدَ الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلي ونصوم، ولا نعبد غيره.
ونظنّ أن هذه الفرية قد تهاوت بما سلف ذكره وإيراده من النصوص والوقائع.
- أمّا عن تقبيل الرسول r للحجر الأسود فهو أمرٌ لا ننكرُه بل نثبته، وقد ذكره الإمام البخاري، رحمهُ الله تعالى، في صحيحه في كتاب الحج، فقال: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان بن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله فقال: إنيّ أعلم أنك حجرٌ لا تضرّ ولا تنفع ولولا أني رأيتُ النبيَّ r يقبّلك ما قبلتك"([47]).
وقد شرح الإمام ابن حجر العسقلاني، يرحمه الله، هذا الحديث في "فتح الباري" فقال: "قال الطبري: إنّما قال ذلك عُمَرُ لأن الناس كانوا حديثي عهدٍ بعبادة الأصنام فخشي عُمَرُ أن يظنَّ الجُهّالُ أنّ استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية. فأراد عمرُ أن يُعَلّمَ الناس أن استلامه اتّباعٌ لفعل رسول الله r، لا لأنَّ الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان ... وفي قول عمر هذا التسليمُ للشارع في أمور الدّين وحُسن الاتباع فيما لم يُكشف عن معانيها، وهو قاعدةٌ عظميةٌ في اتّباع النبي r فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه"([48]).
ثمّ أنّ هذا الحجر الأسود يختلف عن كلّ أحجار الأرض إذ أنّه ليس منها، بل هو من أحجار الجنّة، كما أخبرنا رسول الله r "نزل الحجرُ الأسود من الجنّة أشدّ بياضاً من الثلج فسّودته خطايا بني آدم"([49]).
فهو عليه السلام لم يقبّله بوصفه وثناً أو صنماً كما فهم الطاعنون من الرهبان. ويُشار هنا إلى أنّ تقبيل الحجر الأسود بعد استلامه في الطواف حول الكعبة المشرّفة مُستحَبٌّ وليس واجباً. "إذا لو كان الأمرُ فيه عبادة أصنامٍ وشركٌ كما يهمز المعترِضون لكان الأمر على الوجوب، فشتّان بين مَن يأتي ذلك طاعةً لله ورسوله مُعتقِداً أنّ الحجر لا يضرّ ولا ينفع كما يذكر الحديث الذي ذكرناه، وبين مَن يقدّسُ الأوثان التي نهى الله سبحانه وتعالى عن الاقتراب منها"([50]).
لم يكن محمدٌ r عابداً للأوثان ولا معظِّماً لها أيها الرهبان الطاعنون، ولكنّ كنيستكم الكاثوليكيّة هي التي كانت ولا زالت تمارس طقوس الوثنية من خلال إصرارها على وجوب تقديم المسيحيين للإكرام وسجود الاحترام لصور المسيح، عليه السلام، وأمّه مريم عليها السلام، وهما بريئان من ذلك، والله تعالى يشهد، لم يكن محمدٌ وثنياً ولم يأمر أصحابه ولا أتباعه بوضع بقايا أجسادهم وأشلائهم أو جثثهم في المساجد أثناء بنائها كما فعلتم.
ولربما يُكَذِّبُ مُكَذِّبٌ كلامنا هذا فنُجيبُه بالقول: إرجع إلى قرارات المجمع المسكوني السابع الذي عُقِدَ في مدينة نيقية عام 787 للميلاد الذي عَقَدَ ثماني جلسات عملٍ خلال شهرٍ واحدٍ فقط إنتهت "إلى وجوب تكريم وتقديس صور وتماثيل المسيح وأمه مريم وجمع القدّيسين وذلك بإحناء الرأس لها وتقبيلها وإضاءة الشموع أمامها وحتّى السجود لها. كما جاء ذلك في إعلان المجمع أو ما نسميّه في الأسلوب الحديث بالبيان الختامي له، فقد قالوا فيه: [... نحددُ بكلِّ جزمٍ وتدقيقٍ أنه كما يُرفع الصليبُ الكريم المحيي، هكذا يجب أن تعلَّق الصِّورُ الموقَّرةُ المقدّسة المصبوغةُ بالدهان ... أو من موادَّ أُخرى في كنائس الله المقدّسة، وأن توضع على الأواني المكرسة والحلل الكهنوتية، وأن تُرفع وتعلّق في المنازل وفي الطرق، ونعني بذلك صورة ربِّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح، وصورة سَيدتِنا الكليِّة الطهارة والدة الإله، وصورة الملائكة المكرّمين، وصور كلّ القديسين، وكلّ الأشخاص الأتقياء ...، ويجب أن يُقَدّمَ لهذه الصورة الإكرام وسجود الاحترام دون العبادة المختصة بالطبيعة الإلهية دون سواها]. بل ورد في القانون السابع من مجموعة قوانين هذا المجمع ـ وعددها اثنان وعشرون قانوناً ـ وجوب وضع بقايا مَنْ سمّوهم بالقديسين والشهداء (من آباء الكنيسة المتوفين) أو جثثهم في الكنائس أثناء تشييدها أو تدشينها، وأنّ أيَّ أسقفٍ يدشِّن كنيسةً بدون جثث أو بقايا هؤلاء الآباء يجب عزله لمخالفته تقاليد الكنيسة"([51]).
الشّبهة التاسعة ودفُعها:
زَعمَ الرهبانُ الطّاعنون،كما زعم أسلافهم من كُفّار قريش سابقاً، أنّ القرآن الكريم من تأليف محمدٍ جاء به من عنده لا من عند الله، وأنّ هذا المؤلَّفَ [القرآن] كان نتيجةً لجهدٍ متواصلٍ من جمع ومزج أساطير السّابقين.
- يتركّبُ هذا الادّعاء الزائف من جزأين اثنين، كان القرآن الكريم قد أشار إليهما في قوله تعالى على ألسنة كفّار قريش " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ"([52]). وقد سجَّلَ القرآنُ الكريم فرية (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا) مرّةً واحدةً فقط، بينما سجّل فرية (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) تسع مرّاتٍ، والسبب في ذلك كما هو واضحٌ "أنّ أخفَّ المقولتين مؤنةً على النفس هي أكثرهما ذكراً على اللسان. فوصفُ المنكرين للقرآن بأنه أساطير الأولين لم يكن يكلّفهم أكثرَ من النطق بهذه الفرية. ولذا فقد رَدَّدُوها كثيراً في مواجهتهم للقرآن. أمّا دعواهم الإتيان بمثله فكانت تكلِّفهم ما هو فوق طاقاتهم جميعاً، وهو الإتيان بمثله فعلاً، ولأنهم قد أحسّوا بضعفهم أمام هذا الادعاء فإنهم لم يكرروا القول به. ففي التكرار تحميلٌ لهم بما ليس في قدرتهم، وبما فيه إدانةٌ لهم، إذا هم لم يأتوا بمثله، وما هم بفاعلين. ولهذا كله لم تساعدهم أنفسهم على تكرارها وإذاعتها أمام الخصوم"([53]).
وقد تدرّجَ القرآن الكريم في التحدّي، فبعد أن كان القدر المطلوب الإتيان بمثل هذا القرآن، حُدِّد في مرحلةٍ لاحقةٍ بالإتيان بعشرِ سورٍ من مثله، ثم حُدِّد أخيراً بالإتيان بسورةٍ واحدةٍ من مثله. ولكنّ العجز عن الإتيان بذلك ظلَّ قائماً إلى يومنا هذا، وسيبقى إلى يوم الدّين، وهذا التحدّي هو ذاته الذي نواجه به الرهبان الطاعنين ألا فليأتوا بسورةٍ واحدةٍ من مثله إن استطاعوا.
إنّ هنالك العديد من الملاحظات والأمور والحقائق التي يجدرُ بمن يزعم أنّ القرآن من عند محمدٍ r أن يقف عندها، ليدركَ من خلالها بطلان هذه الدّعوى وهذا الزعم، ومن ذلك ما يلي([54]):
1. إنَّ أسلوبَ القرآن الكريم يُخالفُ مخالفةً تامّةً أسلوبَ كلام محمد r، فلو رجعنا إلى كتب الأحاديث التي جمعتْ أقوالَ محمد r وقارنّاها بالقرآن الكريم لرأينا الفرق الواضح والتغاير الظاهر في كلِّ شيءٍ، في أسلوب التعبير، وفي الموضوعات، فحديث محمد r تتجلى فيه لغةُ المحادَثة والتفهيم والتعليم والخطابة في صورها ومعناها المألوف لدى العرب كافّة، بخلاف أسلوب القرآن الكريم الذي لا يُعرف له شبيهٌ في أساليب العرب.
2. إذا افترض الشخصُ أنّ القرآن الكريم إنتاجُ عقلٍ بشريٍّ فإنه يتوقع أن يذكر شيئاً عن عقليّة مؤلِّفه. ولو كانت تلك الادعاءات حقيقيةً فإنَّ أدلة ذلك ستظهر في القرآن الكريم، فهل توجد مثل تلك الأدلة؟ وحتى نتمكن من الإجابة على ذلك فإن علينا معرفة الأفكار والتأملات التي دارت في عقله في ذلك الوقت ثم نبحث عنها في القرآن الكريم.
3. محمد r أُميٌّ ما دَرَسَ ولا تعلَّم ولا تتلمذ، فهل يُعقل أنه أتى بهذا الإعجاز التشريعي المتكامل دون أيّ تناقض، فأقر بعظمة هذا التشريع القريبُ والبعيدُ، المسلمُ وغيرُ المسلم؟ فكيف يستطيع هذا الأميُّ أن يكتبَ هذا القرآن بإعجازه اللغوي الفريد الغريب وإعجازه التشريعي المتكامل اجتماعياً واقتصادياً ودينياً وسياسياً ... هل يمكن لهذا الكتاب أن يكون من عنده؟! وهل يجرؤ على تحدّي ذلك بقوله " أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً"([55]) هذا تحدٍّ واضحٌ لغير المسلمين فهو يدعوهم لإيجاد خطأ فيه.
4. إخبار القرآن بالغيب ووقوعه كما أخبر والتوقيت الذي حدَّد (كما في نصر الروم). لو أن محمداً r هو الذي كتب القرآن فما الذي يدفعه إلى الجزم بوقوع شيءٍ في المستقبل القريب جداً بل ويحدِّدُ له موعداً لا يتجاوزه، ولا يترك التوقيتَ مفتوحاً كما في قوله تعالى " آلـم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ"([56]). ماذا لو لم يحدث مثلُ هذا في الموعد المحدّدِ (بضع سنين) وهو ما لا يزيد عن تسع سنين؟ لو لم يحدث هذا لسقطت مصداقيةُ الدعوة تماماً، ولثبتَ للعالم أجمع أنَّ هذا القرآن ليس كلام الله. إنه ليس مضطراً أبداً لمثل هذا، لكنه كلامُ عالِمِ الغيب والشهادة.
5. لم يرد على لسان النبيّ ما يشبه القرآن قبل البعثة قال تعالى " فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ"([57]) ألم يكن سيدنا محمد r يعيش بين قومه قبل البعثة أربعين عاماً، كيف لم يَظْهر في كلامه مثلُ هذا القرآن البليغ المذهل، ولو كان قد ظهر من قبل لكان هذا حجّةً تلقَّفها المشركون ولقالوا له، إنه كلامك مذ عرفناك والله ما هو بجديدٍ.
6. لومُ القرآن للنبي محمد r: إنَّ القرآن نزل في غير موضعٍ يلوم الرسولَ r ويُعاتبه على بعض أفعاله، فهل هو محمد r الذي يلوم نفسه؟؟
7. لماذا يؤلِّفُ محمدٌ r القرآن وينسبه إلى غيره؟ فالعظمةُ تكون أقوى وأوضح وأسمى فيما لو جاء بعملٍ يعجز عنه العالمُ كلُّه، ولكان بهذا العمل فوق طاقة البشرية فيُرفَعُ إلى مرتبةٍ أسمى من مرتبة البشر، فأيُّ مصلحةٍ أو غايةٍ لمحمد r في أن يؤلِّفَ القرآن ـ وهو عملٌ جبارٌ مُعجِزٌ ـ وينسبه لغيره؟
8. في القرآن أخبار الأوَّلِينَ بما يُغاير أخبارهم في الكتب المتداولة أيام محمد r، فإنَّ القرآن الكريم يحتوي على معلوماتٍ كثيرةٍ لا يمكن أن يكون مصدرها غير الله. مثلاً: من أخبر محمداً r عن ذي القرنين وعن سفينة نوحٍ وناقة صالح؟؟!.
نختتمُ الحديث عن هذه الفرية بقولنا: لقد أخبرَ القرآن الكريم أنّ أبا لهبٍ سيصلى النار ويكون من أهلها، وقد كان هذا من باب الإعجاز في الإخبار عن غيب المُستقبل. وهنا نتساءل: ألم يكن بإمكان أبي لهبٍ أن يُكَذِّبَ محمداً والقرآنَ الذي جاء به فيعُلِنَ إسلامه، ولو تظاهُراً بذلك؟؟ بلى لقد كان بإمكانه ذلك، ولكنّه لم يفعل، لماذا؟ لأنّ محمداً لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى.
الشبهة العاشرة ودفعها:
أخذ محمدٌ الإسلام والقرآن عن مصادر بشريّةٍ وبالتحديد من اثنين من أبرز الرُّهبان والقسيّسين آنذاك، وهما ورقة بن نوفل وبحيرا سرجيوس حيث قاما بتعليمه وتلقينه ما يريدان.
- تتكوّن هذه الشبهة من شقّين، أولهما أنّ محمداً أخذ الإسلام والقرآن عن ورقة بن نوفل وثانيهما أنّه أخذه عن الراهب بحيرا سرجيوس.
- أما عن ورقة بن نوفل فقد التقى به رسول الله r بُعيدَ فترةٍ قصيرةٍ من نزول الوحي عليه r عندما رجع من غار حراء إلى خديجة، رضي الله عنها وأرضاها، ترجُفُ بوادرهُ وقال لها: زمّلوني زمّلوني. وقد أخرج الإمام البخاري، رحمه الله تعالى، هذا الحديث في صحيحه كما يلي:
عن عائشة زوج النبي قالت: كان أول ما بُدئ به رسول الله r الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حُبِّبَ إليه الخلاءُ فكان يلحق بغار حراءٍ فيتحنث فيه ـ قال: والتحنُّثُ التعبُّدُ ـ الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ... فانطلقت به خديجةُ حتى أتت به ورقة بن نوفل وهو ابن عم خديجة، أخي أبيها وكان امرأً تنصَّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت خديجة: يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك، قال ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره النبيُ (خبر ما رأى)، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أُنزل على موسى. ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حَيّاً حين يُخرجكَ قومُك، قال رسول الله r: "أو مخرجيّ هم؟" قال ورقة: نعم، لم يأت رجلٌ بما جئتَ به إلا أُوذي ـ وفي روايةٍ: عُوديَ ـ وإن يدركني يومك حياً أنصرك نصراً مؤزَّراً، ثم لم ينشب ورقةُ أن توفِّيَ، وفتر الوحي فترةً حتى حزن رسول الله r ([58]).
ونقول بعد أن سقنا هذا الحديث الصحيح الذي وضَّح لقاء النبي r بورقة بن نوفل لمدّة قصيرةٍ جداً ما يلي:
أولاً: إن كان الرهبان الطاعنون يزعمون أنّ محمداً قد سمع وتعلّم من ورقة بن نوفل فليخبرونا على وجه التحديد ما الذي سمعه محمدٌ منه؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟؟
ثانياً: خلال ثلاثٍ وعشرين سنةً من نزول الوحي على رسول الله r لم يلتقِ، عليه السلام، بورقة سوى دقائق معدودةٍ، فالرجلُ مات بعد لقائه حبيبنا المصطفى بفترةٍ قصيرةٍ، وهو لم يَعاصِر التسلسلَ الزمني والفعلي للإسلام على مدى هذه الأعوام الثلاثة والعشرين إذ أنّه "توفي في أول البعثة، فأين ورقةُ مِن سؤالٍ يسأله المشركون أو اليهود أو غيرهم للرسول r فنرى الإجابة قد وجدت في حينها وجاء القرآن يشرحها ويحِّددُ موقفه منها كسؤالهم عن الأهلّة وعن الحيض وعن الخمر ... كثيراً ما كان المؤمنون أو اليهود أو المنافقون أو المشركون، يسألون عن أشياء يريدون فهمها أو عن أشياء يريدون تعجيز الرسول وإظهاره بمظهر عدم العارف ليُضعِفُوا من شخصيّته ومهابته، وكان نزول القرآن مفرقاً يتيح للرسول أن يتلقّى الرد عليهم من جبريل بما يريد الله، ولذلك نجدُ كثيراً في القرآن (يسألونك) أو (يسألك الناس)، ونجدُ الرد بعد ذلك. حتى بلغ (يسألونك) نحو خمسة عشر سؤالاً وُجِّهَتْ للرسول في أوقاتٍ مُتباعدةٍ، ونزل القرآن للرد عليها فأين هو ورقة بن نوفل من هذه الأسئلة؟ أين ورقةُ من أحداثٍ تمّت بعد وفاته وقد تحدَّثَ عنها القرآن الكريم؟ فليخبرنا هؤلاء الرهبان الطاعنون هل عاصر ورقةٌ غزوةَ الأحزاب التي تحدَّثَ عنها القرآن الكريم؟ وهل عاصر يومَ حنين الذي تحدَّثَ عنه القرآنُ؟ هل عاصر قصةَ زيد التي تحدث عنها القرآن الكريم؟ هل عاصر حادثةَ الإفك التي تحدث عنها القرآن؟ هل عاصر قدومَ وفدِ نجران والدعوة للمباهلة؟"([59]).
ثالثاً: في القرآن الكريم آياتٌ لا توافق عقيدة المسيحية فكيف يكتبها ورقة؟ فعلى سبيل المثال: إذا كان القرآن مصدره ورقة، وورقةُ شخصٌ نصرانيٌ فكيف يُنِكرُ القرآن صلب المسيح؟
رابعاً: إنّ المشركين من أهل مكة قد دأبوا على أن يجدوا أيَّ صلةٍ أو علاقةٍ تدلُّ على كذب رسول الله r فيما جاء به عن ربه؛ ولو صحّ لديهم أو شاع عندهم أنه r كان يستعين ببعض أهل الكتاب لكانت تلك فرصتهم، وحجّتهم القوية على أنّهُ غير صادقٍ فيما جاء به من الوحي. ومن الثابت تاريخياً أنّ اتهامات المشركين ـ بمن فيهم اليهود ـ لم يكن فيها [أنّ محمداً استعان بعناصر من أهل الكتاب]، مع أنّ الفرصة أمام اليهود والنصارى كانت سانحةً لهم ليوجّهوا له مثل هذا الاتهام، أما وإنهم لم يفعلوا ذلك ـ مع توافر الدواعي ـ فقد دلَّ هذا على أن هذه المقولة كاذبةٌ، ولا تمتُّ إلى الحقيقة بِصِلةٍ.
ثم على فرض أن هذا الادعاء لم يكن أهل مكة يعرفونه، فمن المفروض أنَّ مصدر الاستعانة ـ لو صحَّ هذا ـ وهم أهل الكتاب كانوا موجودين زمن البعثة المحمدية، بدليل أن بعض وفود أهل الكتاب قد جاءت إلى رسول الله r، ولم ينقل إلينا التاريخُ أنَّ أحداً منهم أعلن أنَّ محمداً أخذ عنهم أو استعان بهم.
خامساً: لا يملك أيٌّ من هؤلاء الرهبان الطّاعنين أدنى دليلٍ على أنّ ورقة بن نوفل كان راهباً أو قسّيساً. وإلاّ فليخبرونا عند مَنْ درسَ المسيحية ومن الذي كان يعلّمه إياها؟ وفي أيِّ ديرٍ أو كنيسةٍ؟ ومتى كان ذلك؟ وفي أيِّ بلدٍ؟ وما هي المؤسّسة التي كان ينشرُ المسيحية من خلالها؟ ومن هم الذين تنصّروا على يديه ومتى؟؟
سادساً: ولئن كانت هذه القدراتُ كلها عند ورقة بن نوفل فلماذا لم يُعلنها هو؟ لماذا لم يُعلن للملأ عن تأليفه لكتابٍ عظيمٍ كالقرآن الكريم؟ ولماذا ترك المجالَ لمحمدٍ ليُعلنَ عنه ويصدع به؟ لماذا تركَ هذه الفرصةَ الذهبيةَ للإفصاح عن مواهبه وقدراته؟ ولماذا لم يُعلن أنّه الأستاذ وأنَّ محمداً كان تلميذاً عنده؟؟ لماذا ولماذا؟؟
إننا نؤكد في هذه الدراسة بكلِّ مسؤوليةٍ وأمانةٍ رجوعنا إلى ما كتبه الرهبان الطّاعنون قديماً وحديثاً حول تلقين وتعليم ورقة بن نوفل الإسلام والقرآن لمحمدٍ r، فما وجدنا لها أصلاً ولا دليلاً معتمَداً في أيٍّ من الكتب التاريخيّة المعتمدة. حتى أننا لم نجد اسماً لشخصٍ بعينه أو لمجموعةٍ من الأشخاص تزعم هذه المصادرُ أنها أخذتْ أو روتْ عنهم هذه الفرية، إذ أنّ الأصل أن تُبنى مثل هذه الادعاءات والافتراءات على روايةٍ أو رواياتٍ ولو لشخصٍ واحدٍ عَاصَرَ ورقةَ بن نوفل أو رآه أو سَمِعَ منه، ممّا يُثبتُ أنّ هذه الفرية لا أصلَ لها ولا دليلَ. وممّا يُثبتُ كذلك أنّها جاءت لاحقةً ومتأخِّرةً عن عصر ورقة بل وعن عصر صدر الإسلام كلّه.
- أمّا عن الراهب بحيرا أو سرجيوس بحيرا كما تسمّيه المصادر المسيحيّة فالحديث عنه يطولُ ويطولُ، وكُنَّا قد عرضنا في المبحث الثاني من الفصل الأول لهذه الدراسة تلخيصاً لتتبُّع المؤرخ الألماني لودفيغ هاغمان لفرية تتلمُذِ محمد r على يدا بحيرا الراهب خلال فترةٍ قاربت الأربعمائة سنةٍ، حيث أكَّدت الكثير من المصادر التاريخية المسيحية هذه الحادثة ووصفت هذا الراهب بإنّه نسطوريٌ حيناً وآريوسيٌّ حيناً وإبيونيٌّ حيناً آخر!!.
أمّا بالنسبة لورود قصّة لقاء رسول الله r بهذا الراهب بحيرا في المصادر الإسلامية فملخّصها ما يلي:
قال الإمام الترمذي([60]): حَدَّثنا الفضل بن سهل أبو العباس الأعرج البغدادي: حَدَّثنا عبدالرحمن بن غزوان أبو نوح: أخبرنا يونس بن أبي إسحق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال: خرج أبو طالبٍ إلى الشام وخرج معه النبي r في أشياخٍ من قريشٍ فلمّا أشرفوا على الراهب هبطوا فحلّوا رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرّون به فلا يَخرجُ إليهم ولا يلتفت، قال: فهم يحلّون رحالهم فجعل يتخلّلهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله r قال: هذا سَيِّدُ العالمين، هذا رسولُ ربّ العالمين، يبعثه الله رحمةً للعالمين فقال له أشياخٌ من قريش: ما عَلَّمَكَ؟ فقال: إنّكم حين أشرفتم من العقبة لم يبقَ شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبيّ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفلَ من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلمّا أتاهم به وكان هو في رعيه الإبل قال: أرسلوا إليه. فأقبل وعليه غمامةٌ تظلّه فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلمّا جلس مال فيءُ الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مالَ عليه قال فبينما هو قائمٌ عليهم وهو يناشدهم أن لا يذهبوا إلى الروم، فإنَّ الروم إذا رأوه عرفوه بالصِّفَةِ فيقتلونه .... الحديث".
ولقد ثارت بين العلماء نقاشاتٌ مطوّلةٌ حول مدى صحّة هذا الحديث وصلاحيته للاحتجاج به، فمنهم من أنكر صحّته ومنهم من حكم عليه بالقبول ونقد بعض متنه، ومنهم مَن أقرَّ بصحّته وصلاحيته للاستدلال به([61]). والذي نميلُ إليه ونأخذ به في هذه الدراسة رأي الأستاذين أكرم ضياء العمري وزياد سليم العبّادي؛ فقدخلص الأستاذ العمري بعد دراسة مفصّلةٍ لهذه الرواية سنداً ومتناً إلى القول: ويمكن أن تطمئنَّ النفسُ إلى إثبات سفره r مع عَمِّه إلى بُصرى،وتحذير الراهب بحيرا لعمِّه من يهودٍ والروم بالاعتماد على رواية الترمذي، والاستئناس بالروايات الضعيفة الأخرى.
كما خَلُصَ الدكتور العبّادي في نهاية بحثٍ مفصَّلٍ أعدَّهُ حول هذه الرواية إلى القول: من خلال بحثي المضني والذي استقرأتُ من خلاله عشرات الكتب للوصول إلى إجابةٍ شافيةٍ، لحالة حديث بحيرا في ميزان القبول والرد، فإنني أُنبِّهُ على ما يأتي:
1. ما تطمئنُّ له نفسُ الباحث ثبوت قصة بحيرا، وإن كان ثمة نقد لبعض الألفاظ الواردة فيه، ولكنّها لا تطيح بالحديث، كما سبق بيانه.
2. جماهير العلماء أثبتوا صحة الحديث نصّاً، أو استشهدوا به في كتبهم مُقرّين له دون نقدٍ، بل أشار ابن الأثير للإجماع على قبوله، وقد يُقَبلُ ذلك منه؛ لأنني لم أجد أحداً سبقه في ردّ الحديث، وما بين وفاته ووفاة الإمام الذهبي ما يقرب من مائةٍ وأربعين عاماً.
3. الإمام الذهبي هو مّن تزَّعَم نقد الحديث، وقد انصبّ نقدهُ على المتن، وكلُّ مَن جاء بعده ناقداً للحديث؛ فإنّما كان صدىً لكلامه دون إضافةٍ هامّةٍ.
4. جميعُ الشبهات التي أُثيرتْ حول القصة أمكن الإجابة عنها بما يُثبتُ أصلَها وصحّةَ وقوعها، وفي ذلك إثبات جزءٍ هامٍ من سيرة النبيّ r ([62]).
ويُستحسنُ بعد الاستئناس برأي هذين الأستاذين الفاضلين في إثبات وقوع لقاء النبي r عندما كان صغيراً ببحيرا الراهب، الردّ على الرهبان الطاعنين الذين زعموا أنّ محمداً r قد تلقّن القرآن والإسلام وأخذهما عن هذا الراهب عند لقائه إياه ويتجلّى ردّنا على هذه الفرية وأصحابها فيما يلي:
1. اتّفق مؤرّخو السيرة النبويّة وعلماؤها المختصّون بها وبعلوم الحديث الشريف على أنّ النبي r كان أميّاً لا يعرف القراءة والكتابة، فهل يُعقلُ أن يتلقّى صبيٌ أميٌّ في سن الثانية عشرة وفي وقتٍ قصيرٍ جدّاً القرآن كلَّه والإسلام كلّه وأن يفهم التوارة والإنجيل، ثم يقوم بحفظها وتخزينها في ذاكرته ثم يُخرجها ويُعلن عنها وهو في سنّ الأربعين؟؟ لعمري إنّ هذا إلا كلامٌ يُفترى، وإن هذا إلاِّ عُجاب.
2. لم تتجاوز الفترة التي قضاها هذا الصبي بصحبة عمِّهِ وبعض رجال قريشٍ مع هذا الراهب فترة التحضير لطعام الغداء وتناوُلِه والاستراحة بعده، ثم انطلقت قافلة قريشٍ بُعيد ذلك تسيرُ من جديد.
3. لو صحَّ أن الصبيّ محمداً r قد تعلَّم عند هذا الراهب بحيرا عند لقائه إياه في بُصرى لشاع هذا الأمرُ واشتُهِرَ ولكان معلوماً في الأوساط القُرشيّة بعد رحلة العودة إلى مكة.
4. ألصقَ كفّارُ قريشٍ بمحمدٍ r كلَّ أنواع التُّهم والافتراءات إلا تهمة [إنك تعلَّمتَ دينك من الراهب بحيرا] فلو أنّها وَقَعتْ فعلاً لكانت مُستنَداً بارزاً لهم في تكذيبه. ونحن نعلمُ يقيناً أنهم كانوا يتربّصون به ويحاولون أن يخلقوا له تهمةً أو شبهةً أو فريةً من لا شيء. كيف لا وهم الذين اتّهموه بأنّه يعلّمه الفتى الأعجميُّ النصرانيُّ الذي كان عبداً لبعض بني الحضرميّ والذي كان رسول الله r يجلسُ معه أحياناً؟؟ "وقد كان هذا بيّاعاً عند الصّفا وكان أعجميَّ اللسان لا يعرف العربيةَ أو أنّه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يردُّ جوابَ الخطاب لا بدَّ منه، فلهذا قال الله تعالى: رادّاً عليهم [على قريش] في افترائهم ذلك (لسان الذي يُلحدون إليه أعجميٌ وهذا لسانٌ عربيٌ مبينٌ)([63]) أي القرآن، أي فكيف يتعلّمُ مَنْ جاء بهذا القرآنِ في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامّة الشاملة... كيف يتعلمُ من رجلٍ أعجميٍّ؟؟"([64]).
لقد اصطنع هؤلاء القرشيون فضيحةً لرسول الله r لمجرّد جلوسه مع هذا العبد الأعجمي واتهموه بأنه هو الذي يعلِّمهُ القرآن والإسلام، فلنتخيّلْ كيف سيكون الأمر وردّ فعلهم لو اشتبهوا مجرّد اشتباهٍ بأنّ محمداً r كان يجلس مع بحيرا ويدرس عنده!!! واضحٌ تماماً أن قريشاً لم تدّعِ ذلك مُطلقاً.
ولربما يسأل سائلٌ: إن لم تكن قريش، أبداً، قد ادّعتْ بأنّ محمداً أخذ عن بحيرا الراهب وتتلمذَ عليه فمن أين جاءت بعضُ كتب التاريخ المسيحيّة بهذا الفرية؟؟؟ إن الردّ الصريح الصحيح الذي نذكره في الإجابة عن هذا السؤال هو يوحنا الدمشقي (منصور بن سرجون بن منصور) الذي كان أوّلَ مَنْ دوَّنَ هذه الفرية في مؤلَّفه الخطير (ينبوع المعرفة) قسم (هرطقة الإسماعيلين) الذي سبقت الإشارة إليه في نهاية المبحث الأول من الفصل الثاني من هذه الدراسة. نعم إنّ ما يبنيه الغرب من أكاذيب وافتراءاتٍ على الإسلام والرسول المصطفى r إنما هو مصنوعٌ في الشرق أولاً ومن ثم كان انتقاله للغرب.
5. إن فرضنا جَدَلاً وجود هذا العلم الغزير المدهش كالقرآن وما تضمَّنهُ والإسلام وما اشتمل عليه، والتوراة والإنجيل عند بحيرا الراهب فلماذا يا ترى كان هذا الرجل مغموراً ولم يُشتهر أمرهُ بين الناس آنذاك؟؟؟ ثم أين موقف الكنيسة من الاهتمام به والترجمة له ولسيرته ولأعماله؟ وأين هي مؤلّفاته؟ وقبل هذا وذاك أين هي سيرتُه الذاتية من حيث تاريخ الميلاد ومكانه ومؤهّلاته العلمية والدينية اللاهوتية؟؟ كلُّها تساؤلات ستبقى من دون إجاباتٍ. ولكن لماذا؟ لأنّ بحيرا المسكين لم يكن كذلك؛ لم يكن شهيراً ولا عبقرياً ولا أستاذاً ولكنّ المتحاملين على الإسلام ورسوله الكريم r حمّلوه ما لم يكن ليقدر على حمله!!! "أما بالنسبة لمعلوماتنا عن بحيرا فإنَّ المصادر لا تكاد تتفقُ على شيءٍ بشأنه، بل هي متضاربةٌ في اسمه فمرّةً جرجيس وأُخرى جرجس وثالثةً سرجيس ورابعةً معناه العالم المتبحِّر ومرّةً ينُسَبُ لقبيلة عبد القيس فهو عبقسي ومّرةً هو نصراني وأخرى يهودي"([65])!!!.
الشّبهة الحادية عشرة ودفعها:
إنّ من الأدلّة على أنّ محمداً تتلمذ على يد الراهب النّسطوري بحيرا ومن بعده ورقة بن نوفل، اللذين لقًَّناه القرآن وتعاليم الإسلام وتعاليم التوراة والإنجيل امتلاءُ القرآن الذي جاء به محمدٌ بقصص التوارة والإنجيل، وقصص الأنبياء الواردة فيهما كنوحٍ وإبراهيم وشُعيب وموسى وهارون ...
- تكاد هذه الفريةُ تكونُ أوثق الفريات والشّبهات ارتباطاً بسابقاتها، بل إنها صادرةٌ عنها ونتيجةٌ لها؛ فالقول بأنّ القرآن الكريم منحولٌ عن التوراة والإنجيل امتدادٌ للقول بأنّ بحيرا وورقة هما اللذان لقَّنا محمداً تعاليم القرآن والتوراة والإنجيل، وامتدادٌ للقول بأنّ الإسلام هرطقةٌ مسيحيّةٌ وأنّه مزيجٌ من تعاليم التوراة والإنجيل. وهذا الكلام ليس جديداً علينا فنحنُ نسمعه يتردَّدُ في الأوساط الكَنَسيّة الغربية المعاصرة والمواقع الإلكترونية التابعة لها صباح مساء.
ولمّا جاء ذكرُ قصص الأنبياء على وجه التحديد في هذه الفرية كشاهدٍ على أخذها من التوراة والإنجيل، استلزم الأمرُ الردَّ على ما فيها من خلال عقد مقارناتٍ ولو قليلةٍ ما بين القصص القرآني والقصص الكتابيّ بعهديه القديم والجديد.
ونشيرُ في بداية ردّنا على هذه الفرية، بإنها لربّما تكون صحيحةً في حالةٍ واحدةٍ فقط، ألا وهي تطابقُ النصوص والأشخاص والمضامين والأماكن والمُسمّيات فيها. ولكنّ هذا مخالفٌ تماماً لواقع الحال، فعلى سبيل المثال نرى أنّ الإنجيل يروي قصّة آلام المسيح وحادثة إلقاء القبض عليه التي انتهت بقتله صلباً، بينما نرى القرآن الكريم يذكر قصّة عيسى عليه السلام ومعجزاته ويُنكِرُ تمام الإنكار حادثة صلبه وقتله عليه السلام.
كما أننا نرى الكتاب المقدّس في بعض نصوصه يرفع المسيح عليه السلام لمرتبة الإله في حين نرى القرآن الكريم يقرّرُ عبوديته لله تعالى، وأنّ مثَلَهُ عند الله كمثل آدم الذي خلقه اللهُ تعالى من ترابٍ ثم قال له كن فيكون. وبينما نقرأ في القرآن قصّة سليمان عليه السلام وإيمانه بالله تعالى وتوحيده له نقرأ في التوراة أنّ نساءه الكثيرات أَملنَ قلبه عن توحيد الله وأنّه جعل لنفسه آلهةً أُخرى!!!.
وحتّى تكون المسألةُ أكثرَ فاعليّةً وجدوى، فإننا سنعمدُ إلى ذكر ثلاثٍ من القصص المشهورة التي ورد ذكرها في كلٍّ من الكتاب المقدس وفي القرآن الكريم ليتبيَّنَ الأمرُ من خلالها بشكل أوضح:
أولاً: من خلال مقارنتنا لبشارة زكريا بيحيى عليهما السلام كما وردت في إنجيل لوقا، في إصحاحه الأول في الآيات 7 – 22 بالبشارة نفِسها كما وردت في القرآن الكريم في سُورتَيْ آل عمران ومريم، فإننا نقف على مجموعةٍ هامّةٍ من الفروق الجوهرية التي تُثبتُ استحالة أخذ القرآن الكريم لهذه القصّة عن الإنجيل. وبيان ذلك ما يلي([66]):
1. في سورة "آل عمران" تقدم على قصة بشارة زكريا بيحيى، قصّةُ نذرِ امرأة عمران ما في بطنها خالصاً لله. في حين أنه لم يردْ ذِكرٌ لهذا في النّصّ الإنجيلي.
2. النص القرآني أخبر أن امرأة عمران ولدت أنثى؛ وكانت ترجو أن يكون المولود ذكراً، وهذا أيضاً لم يأتِ له ذِكرٌ في النصّ الإنجيلي.
3. ذكرَ النصُ القرآنيُ، كفالة زكريا للمولودة "مريم" وأخبر عن وجود رزقها عندها، وبَيَّنَ أنّ مصدر هذا الرزق هو الله. وهذا بدوره لم يرد ذكرُه في النصّ الإنجيلي.
4. رَبَطَ النصُ القرآني بين قصّة الدعاء بمولودٍ لزكريا، وبين قصّة مولودة امرأة عمران. وهذا لا وجودَ له في النص الإنجيلي.
5. ذكر النص القرآنيُ دعاءَ زكريا، في حين أننا لا نجدُ ذكراً لذلك في النص الإنجيلي.
6. تناول النص القرآني ما رَتَّبَهُ زكريا على هبة الله له ولياً، وهو أن يرثه ويرث من آل يعقوب. بينما لم يرد ذِكرٌ لهذا في النص الإنجيلي.
7. بيَّن النص القرآني أن السبب الذي حمل زكريا على دعاء ربه، هو خوفه الموالي من ورائه. والنصُ الإنجيليُ خالٍ من هذا تماماً.
8. صَرّحَ النص القرآني بأنّ زكريا أوحى لقومه، بأن يُسبِّحوا بُكرةً وعشياً.ولا وجود لهذا في النص الإنجيلي.
9. ذكر النص القرآنيُ الثناءَ على المولود "يحيى" وبين أنه بارٌّ بوالديه، يوم ولادته ويوم موته ويوم بعثه حياً. ولا مقابل لهذا الثناء في النص الإنجيلي.
ثانياً: من خلال مقارنتنا لقصّة قابيل وهابيل الواردة في التوراة بالقصّة ذاتها الواردة في القرآن الكريم في سورة المائدة، فإننا نقفُ على فروقٍ هامّةٍ تنفي وبُكلِّ جلاءٍ ووضوحٍ الزَّعمَ بأخذِها من التوراة، وذلك من خلال جدول المقارنة التالي:
القصّة كما روتها التوراة
القصّة كما ذكرها القرآن الكريم
تُسِمّي أحد الأخوين بقابين وهو "القاتل" والثاني "هابيل" كما تصفُ القربانين وتحدد نوعهما
لا يسميهما ويكتفي ببنوّتهما لآدم، كما اكتفى بذكر القربانين ولم يحددهما.
تروي حواراً بين قابين والرب بعد قتله أخيه، وتُعلنُ غضبَ الرب على قابين وطرده من وجه الرب إلى أرضٍ بعيدةٍ.
لا يذكر حواراً حدث بين القاتل وبين الله، ولا يذكرُ أنّ القاتل طردهُ الله من وجهه إلى أرضٍ بعيدةٍ، إذ ليس على الله بعيد.
التوراة تخلو من أيِّ حوار بين الأخوين
يذكرُ الحديثَ الذي دار بين ابني آدم، ويفصّل القول فيما صدر من القتيل قبل قتله وتهديده لأخيه بأنه سيكون من أصحاب النار إذا قتله ظلماً.
لا مقابل في التوراة لهذه الرواية ولم تبين مصير جثة القتيل؟!
يذكر مسألة الغراب، الذي بعثه الله لِيرُيَ القاتلَ كيف يتصرف في جثة أخيه، ويواري عورته.
تنسب الندم إلى "قابين" القاتل لمّا هّدده اللهُ بحرمانه من خيرات الأرض، ولا تجعله يشعرُ بشناعة ذنبه.
يصرح بندم "القاتل" بعد دفنه أخيه وإدراكه فداحة جريمته.
لا هدف لذكر القصة في التوراة إلا مجرّد التاريخ. فهي معلومات ذهنية خالية من روح التربية والتوجيه
يجعل من هذه القصة هدفاً تربوياً ويبني شريعة القصاص العادل عليها. ويلوم بني إسرائيل على إفسادهم في الأرض بعد مجئ رسل الله إليهم.
ثالثاً: وآخر هذه القصص الثلاث قصّة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز. وتفاصيل الفروق فيها ما يلي:
القصّة كما روتها التوراة
القصّة كما ذكرها القرآن الكريم
المراودة حدثت مراراً. ونُصحُ يوسف لامرأة سيده كان قبل المرة الأخيرة
المراودة حدثت مرّةً واحدةً، اقترنت بعزم المرأة على يوسف لينفّذ رغبتها.
تخلو من الإشارة إلى تغليق الأبواب وتقول إنّ يوسف ترك ثوبه بجانبها وهرب، وانتظرت هي قدوم زوجها وقصّت عليه القصة بعد أن أعلمتْ بها أهل بيتها
يشيرُ إلى تغليق الأبواب وأن يوسف هَمَّ بالخروج، فقدَّتْ ثوبه من الخَلف، وحين وصلا إلى الباب فوجئا بالعزيز يدخل عليهما فبادرت المرأة بالشكوى في الحال
لم يكن يوسف موجوداً حين دخل العزيز ولم يدافع يوسفُ عن نفسه لدى العزيز
يوسف كان موجوداً حين قَدُمَ العزيز، وقد دافعَ عن نفسه بعد وشاية المرأة، وقال هي راودتني عن نفسي.
تخلو من حديث الشاهد وتقول إنّ العزيز حميَ غضبه على يوسف بعد سماع المرأة
يذكر تفصيلاً شهادة الشاهد، كما يذكر اقتناع العزيز بتلك الشهادة ولومه لامرأته وتذكيرها بخطئها. وتثبيت يوسف على العفة والطهارة.
تقول إنّ العزيز في الحال أمر بوضع يوسف في السّجن ولم يعرض أمره على رجال حاشيته.
يشير إلى أنّ القرار بسجن يوسف كان بعد مداولةٍ بين العزيز وحاشيته.
تخلو من حديث النسوة اللاتي لُمْنَ امرأة العزيز على مراودتها فتاها عن نفسه، وهي فجوةٌ هائلةٌ في نصِّ التوراة.
يذكرُ حديث النسوة بالتفصيل، كما يذكر موقف امرأة العزيز منهنّ ودعوتها إياهنّ ملتمسةً أعذارها لديهنَّ ومُصِرةً على أن يُنفّذَ رغبتها.
هذه ستة فروقٍ بارزةٍ بين ما يورده القرآن الكريم وما ذكرته التوراة. والنظرُ الفاحص في المصدرين يُرينا أنهما لم يَتّفقا إلا في "أصل" الواقعة من حيث هي واقعة وكفى "ثم إن القرآن والتوراة بعد هذا يختلفانِ في كلِّ شئٍ، على أنّ القرآن قام هنا بعملين جليلي الشأن:
أولهما: أنه أورد جديداً لم تعرفه التوراة، ومن أبرزها هذا الجديد:
1. حديث النسوة وموقف المرأة منهن.
2. شهادة الشاهد الذي هو من أهل امرأة العزيز.
ثانيهما: تصحيح أخطاءٍ وقعت فيها التوراة ومن أبرزها:
1. لم يترك يوسف ثوبه لدى المرأة بل كان لابساً إياه ولكنّه قُطِعَ من الخلف.
2. غياب يوسف حين حضر العزيز وإسقاطها دفاعه عن نفسه"([67]).
لقد كانت فرية أخذ محمدٍ r للقصص القرآني من التوراة والإنجيل واحدةً من الفريات والادّعاءات الأكثر إزعاجاً واستفزازاً للمسلمين في الوقت الحاضر، وذلك كما أسلفنا، لأنّ الرهبان الطاعنين لا يملّون من تكرارها وترديدها على الدّوام، مما دفع ببعض المفكّرين المسلمين لوضع كتابٍ متخصِّصٍ في الردّ عليها، وقد كان في مقدمة هؤلاء المفكرين الأستاذ عبد الجواد المحص. وقد كان ممّا دحض به هذا الأستاذ هذه الفرية إيراده للعديد من القصص الذي انفردَ به القرآن أو خالف فيه التوراة والإنجيل، ومن ذلك ما يلي([68]):
1. ما جاء في القرآن الكريم من أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس عن هذا السجود.
2. ما ورد في القرآن الكريم من قصص إبراهيم الخليل، عليه السلام،مع قومه وتحطيمه لأصنامهم ونظرته في النجوم، وحجاجه مع قومه، ومحاولتهم إحراقه في النار، وإسكانه بعض ذريته عند بيت الله الحرام، واشتراكه هو وابنه إسماعيل في رفع القواعد من البيت وبناء الكعبة.
3. ما قَصَّهُ علينا القرآن الكريم من محاورة بينَ نوحٍ وابنه الكافر، وعدم ركوب ابنه في السفينة وغرقه، ومحاورة نوح مع الله في ذلك.
4. ما قَصَّهُ القرآنُ الكريم عن خبر سحرة فرعون والتقام العصا، التي انقلبتْ حيّةً، لحبالهم وعصيِّهم، وسجودهم وإيمانهم برب هارون وموسى، ومحاورتهم مع فرعون.
5. السامريّ الذي صنع العجل لبني إسرائيل في حين أنّ التوراة تذكرُ أنه هارون عليه السلام.
6. ما قَصّهُ القرآن الكريم عن الرجل المؤمن من آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، ودافعَ عن موسى حين همّوا بقتله، وذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى فنصحَ موسى بالخروج من أرض مصر.
7. القرآن الكريم يذكر أنّ بناتِ الشيخ المدْيَنيِّ اثنتان، في حين أنَّ التوراة تذكر أنهن سبع.
9. أمر الله لقوم موسى بدخول الباب سُجَّداً ومخالفتهم لهذا الأمر.
10. قصّة أصحاب السبت ومسخهم قردةً بعد أن اعتدوا فيه.
11. ما قَصَّهُ القرآن الكريم من تسخيرِ الله الشجر والطير والحديد لداود عليه السلام.
12. تسخير الجنّ والريح لسليمان عليه السلام.
13. قصة الهدهد، وكتاب سليمان لملكة سبأ وإسلامها وإحضار عرشها بلمح البصر مِن قِبَلِ الذي عنده علم الكتاب.
14. كلام عيسى في المهد.
ولا ندري بماذا يُجيبُ الرهبان الطّاعنون على ورود هذا العدد الكبير من القصص في القرآن الكريم وعدم وروده في كتابهم المقدَّس؟ ولا ندري كيف يجيبُ هؤلاء على إمكانية اطلاع بحُيرا لمحمّدٍ r على هذا العدد الكبير من القصص والكمّ الهائل الذي حوته من التفاصيل خلال ساعةٍ من الزمان تناولوا فيها طعام الغداء؟؟
ولمن يتساءلون عن سبب ورود بعض هذه القصص في القرآن الكريم وفي التوراة والإنجيل بالرغم من تباعد الأزمان بينهم نقول: إنَّ ذلك راجعٌ لوحدة المصدر الذي صدرت عنه هذه الكتب الثلاثة ألا وهو الله تبارك وتعالى، الذي أوحى بها إلى أنبيائه ورسله ليبلّغوها أقوامهم، فمنها ما حُفِظَ كما نَزَل، ومنها ما تعرّض للزيادة والنقصان بما كسبته أيدي البعض.
ونُلَخِّصُ في نهاية الردّ على شبهة وفرية أخذ القرآن للقصص من الكتاب المقدس بالقول: إنّ القرآن الكريم لم يقفْ ولو في واحدٍ من هذه القصص عند حدود ما ذكره الكتاب في مواضع التشابه بينهما؛ حيث أنَّ القرآن الكريم عرض هذه القصصَ عرضاً يختلفُ تماماً عن عرض الكتاب المقدَّس لها، كما أنَّ القرآن الكريم عرضَ قصصاً جديدةً لم يعرفها الكتاب المقدّس في المواضع المشتركة بينهما. وأخيراً فقد انفرد كتابُ الله العزيز بذكر قصصٍ خاصةٍ به لم ترد في أيِّ مصدرٍ سواه.
الشّبهة الثانية عشرة ودفعها
نشر محمدٌ دينهُ بقوّة السّيف والسلاح، وأجبرَ الكثيرين على اعتناقه، وبالذات مَن كانوا يهوداً أو مسيحيّين، ثم قام أصحابه الذين حكموا من بعد بالسّير على هذا النهج أزماناً طويلةً. وها هو الإسلام في القرن الحادي والعشرين مرتبطٌ ذِكرُه على الدّوام بالعنف والتهديد والإرهاب.
- تحتلُ هذه الشبهة مركز الصدارة في مجال الحرب الإعلاميّة التي تستهدفُ تشويه صورة الإسلام قديماً وحديثاً. وقد كان الترويج لها مقدّمةً هامةً في حثّ الشعوب الأوروبية لشنّ الحروب الصليبيّة على العالم الإسلامي. ونرى في واقعنا المعاصر العديد من البرامج والأفلام المُتلفَزَة والسينمائيّة التي تخصّصت في نشر هذه الفرية والترويج لها. حتّى بات ذِكرُ الإسلام، وللأسفَ، مقترناً في كثيرٍ من الأحيان بالعنف والإرهاب. والفضلُ في ذلك كلِّه راجعٌ، وبكلِّ تأكيدٍ، لما خَطَّتْهُ أيدي الرهبان الطاعنين الذين ساقوا شعوبهم إلى الموت في الحروب الصليبيّة بهدف القضاء على الإسلام.
وهذه الشبهة مركَّبةٌ من ثلاثة عناصر خطيرةٍ تستلزم منا دقّة الردّ، وهي:
1. انتشر الإسلام بقوّة السّيف السلاح، وعن طريق الجهاد فقط.
2. أجبر المسلمون غير المسلمين من اليهود والمسيحيين على الدخول في الإسلام عنوةً.
3. الإسلام مرتبط بالعنف والتهديد والتخويف (الإرهاب).
- أما بالنسبة لشُبهة انتشار الإسلام بقوّة السّيف والسلاح والجهاد فقط فتدحضها الحقائق التالية:
يُطلق لفظ الجهاد غالباً على القتال، مع أنّ القتال ليس سوى صورةٍ واحدةٍ من الصِّور التي يتجلّى فيها الجهادُ وتُعبِّرُ عنه. فالصبرُ على الأذى جهاد، والتربية الإيمانية جهاد، والثبات على الابتلاء جهاد، ومجاهدة النفس ومنعها عن الرذيلة والمعاصي جهاد، والتبرع بالمال لتجهيز جيوش المسلمين جهاد وكذا إمدادهم بالمؤونة والطعام والشراب. وإقامة الحجج العقلية والنقلية على غير المسلمين في دعوتهم للإسلام جهاد. "والجهادُ ليس أحد أركان الإسلام الخمسة. وخلافاً للراي السائد في الغرب فهو أيضاً ليس دعامةَ الإسلام المحورية. لكن يظل من واجب المسلمين أن يلتزموا بالنِّضَال على جميع الجبهات، الأخلاقية منها والسياسية والروحية من أجل خلق مجتمعٍ عادلٍ كريمٍ جديرٍ بالاحترام، يعيش فيه الإنسان وفقاً لإرادة الله، ولا يُستَغَلُّ في ظله الفقراء وغيرُ المحصَّنين. وقد يكون الحرب والقتال ضرورةً في بعض الأحيان، لكنّ ذلك جزءٌ ثانويٌّ من الجهاد أو النِّضال. وهناك حديث مرويٌّ عن محمد لدى رجوعه من إحدى المعارك حيث قال ما معناه: "لقد عُدنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر"، أيْ أنَّ الجهد الأكثر صعوبة وحسماً هو هزيمة قوى الشر في نفس الإنسان، وفي مجتمع الإنسان في جميع تفاصيل الحياة اليومية"([69]).
وهنا نذكِّرُ القارئ الكريم بأنّ الأصل في الدّعوة إلى الإسلام هو قيامُها على قوله تعالى: " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"([70]). وهي دعوةٌ سليمةٌ يقوم المسلمون بنشرها في العالم كلّه دون الوقوف عند حدودٍ جغرافيةٍ أو مكانيةٍ أو زمانيّةٍ أو لغويةٍ أو عرقيّةٍ.
فدعوة الإسلام دعوةُ الحقّ، تصلح للسريان والتطبيق في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ولكنّ هناك الكثير من العقبات والصّعوبات والعوائق التي يصنعها أعداء هذا الدِّين ليجعلوا منها حواجز ماديّةً تحول دون وصول دعوة الإسلام إلى الناس، ومن هنا كان الجهاد الوسيلة الأبرز لإزالة هذه العقبات والحواجز وتذليلها، وذلك لضمان وصول دعوة الإسلام للناس، وإعطائهم بالتالي الحريّة الكاملة في الاختيار بقبول الإسلام أو رفضه. ولا يصحُّ أبداً إكراههم على قبوله بأيِّ شكلٍ أو صورةٍ، وذلك حتى يكون رضاهم به، إن هم اختاروه، قائماً على الرضى الكامل والقناعة التي لا تتزعزع "وهكذا فإنَّ محمداً لم يفكِّرْ في مُلكٍ ولا في مالٍ ولا في تجارةٍ وإنّما كان كلُّ همّه توفير الطمأنينة لمن يتبعُ رسالته، وكفالة الحريّة لهم في عقيدتهم ككفالتها لغيرهم في عقيدتهم. وهذه الوجهة في التفكير هي التي نزل بها الوحي على محمدٍ منذ الهجرة وهي التي جعلته جَنُوحاً للسلم راغباً عن القتال مقتصداً طول حياته اشد القصد فيه غير لاجئٍ إليه إلا لضرورةٍ تقتضيه دفاعاً عن الحرية والدين والعقيدة. ثم ألم تكُنْ أول آيةٍ في القتال: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ"([71]) والآية بعدها: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ"([72]) فتفكيرُ محمدٍ إذاً أنّما كان مُتَّجهاً لغايةٍ واحدةٍ عليا وهي كفالةُ حرية العقيدة والرأي كفالةً في سبيلها وحدها أُحِلَّ القتالُ ودفاعاً عنها أُبيحَ دفعُ  المعتدي حتى لا يفُتَنَ أحدٌ عن دينه ولا يُظَلمَ أحد بسبب عقيدته أو رأيه!([73]).
ولعمري، لو كان السيف والجهاد هو السبيل الوحيد لنشر الإسلام، كما زعم الرهبان الطاعنون، لارتدَّتْ كلُّ القرى والمدن والبلدان التي فتحتها جيوشُ الإسلام بمجّرد رحيل هذه الجيوش عنها، وهذا ما تكذّبُه الحقائق التاريخيّة دون استثناء. ولو كان كلامنا خاطئاً فإننا نتحدّى الرهبان الطاعنين أن يأتونا ولو باسم بلدٍ واحدٍ من بلاد غير المسلمين ارتدَّ أَهلُه بعد رحيل جيوش الإسلام عنه. و لازالت إسبانيا. التي شنّت جيوشها حملات الاضطهاد والتنصير ومحاكم التفتيش على المسلمين بعد انهزام الجيوش الإسلامية فيها، لا زالت أصدقَ شاهدٍ على استمرارية وجود عشرات الآلاف من المسلمين المورسيكيين والإسبان فيها إلى يومنا هذا.
ثمّ لو أننا سلّمنا بصدقِ مقولة انتشار الإسلام بالسيف فبماذا نُعَلِّلُ إسلام عشرات الآلاف من الأوروبيين والأمريكيين كلَّ عامٍ في وقتنا الحاضر؟؟ وقد ذهب عن المسلمين جيشُهم وتلاشت عزيمتهم وتشتَّتَ شملهم ولم تقم لسيفهم قائمةٌ منذ مئات السنين؟؟ هل دخل هؤلاء الأوروبيون والأمريكيون الإسلام بقوّة السّيف والسلاح والجهاد؟؟ طبعاً لا. "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ"([74]).
ولو فرضنا جدلاً صحَّةَ مقولة الرهبان الطاعنين بأنّ الإسلام انتشر قديماً بالسّيف والسلاح والجهاد فقط، عن طريق جيوشه الجرّارة فبماذا يجيبُنا هؤلاء على انتشاره في عشرات الدّول والبلدان التي لم تدخلها جيوش المسلمين ولم تصلها قطّ كالصين وماليزيا واندونيسيا ونيجيريا والهند ...؟؟؟
وللمُصَمّمين من هؤلاء الطاعنين على السؤال عن غايات الجهاد والهدف من تشريعه إن لم يكن لنشر الإسلام بالقوّة، نقول: إنّ القتال في الإسلام ليس محبوباً ولا مطلوباً لذاته، وهو أمرٌ تكرهه النفوس وتستثقله، قال تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ"([75]).
ولئن كان القتال مما تكرهه النفوس، ولئن كان غير مطلوبٍ لذاته، فقد شُرع لفوائد وحكمٍ كثيرةٍ نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الفائدتين التاليتين:
أولاً: الدّفاع عن المظلومين والمُستضَعفين في الأرض من المسلمين. ولعلَّ هذا واضحٌ تمام الوضوح في قوله تعالى " وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً * الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً"([76]).
"فقد أمر الله تعالى المسلمين أن يُقاتلوا دفاعاً عن مُستضعفين مؤمنين كانوا بمكّةَ ولا يستطيعون أن يخرجوا منها. قال ابن عباس: كُنتُ أنا وأميّ من المُستضعَفين"([77]).
ثانياً: حمايةُ الإسلام، ومنعُ فتنة المسلمين والاعتداء عليهم في دينهم. فالتاريخ والحاضر يخبراننا أن أمّة لا تستطيعُ أن تحفظ كرامتها وتصون عقيدتها وتحميَ بلادها وأبناءها دون أن تملك قوّةً تكفل لها ذلك. والجهادُ في ديننا إنما يُمثِّلُ ويجسِّدُ هذه القّوة، قال تعالى: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للّه"([78]) "عن نافعٍ أنّ رجلاً أتى ابنَ عمر فقال: ... كان الإسلام قليلاً وكان الرجلُ يُفتنُ في دينه إمّا قَتَلوه أو عَذَّبوه حتّى كَثُرَ الإسلامُ فلم تكن فتنة"([79]).
ويُثبتُ صحّة ما ذهبنا إليه من سلمية الدّعوة إلى الإسلام أنّ رسول الله r لمَّا دخل مكّة فاتحاً على رأس جيشٍ يفوق العشرة آلافٍ من المقاتِلين، عفا عن أهلها الذين ظلموه وعذّبوه وعذّبوا أصحابه وأخرجوهم من ديارهم بقوله: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" مع أنّ الغالبية العظمى من هؤلاء (الطلقاء) كانوا على شركهم وكفرهم آنذاك.
إنّ سلمية الدّعوة إلى الإسلام وكراهية القتال والحرصَ على دعوة الناس بالحكمة والموعظة الحَسَنة يشهد له الأمران التاليان:
أولاً: نهى النبي r عن قتل النسّاء والصّبيان والشيوخ. روى الإمام مسلم عن ابن عمر قال: "وُجدَتْ امرأةٌ مقتولةٌ في بعض مغازي رسول الله r، فنهى رسول الله r عن قتل النساء والصبيان"([80]). وأخرج ابن أبي شيبة عن أنسٍ قال: "كنّا إذا استنفرنا نزلنا بظهر المدينة حتّى يخرج إلينا رسولُ الله r فيقول: انطلقوا باسم الله وفي سبيل الله تقاتلون أعداء الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ولا تغلّوا"([81]).
إننا نذكر هذا الحديث الشريف، فيما يقابله على الطرف الآخر ما يزيد على خمسة عشر نصاً صريحاً في العهد القديم تبيح كلُّها، بل توجبُ أحياناً، قتل النساء والأطفال والرّجال الشيوخ من غير بني إسرائيل. ونذكرُ منها على سبيل المثال ما يلي:
1. "وقال له الربُّ اعبُرْ في وسط المدينة في وسط أورشليم وَسِمْ سمةً على جباه الرجال الذين يئنّون ويتنّهدون على كل الرجاسات المصنوعة في وسطها (5) وقال لأولئك في سمعي اعبروا في المدينة وراءه واضربوا، لا تُشْفِقْ أعينُكم ولا تعفوا (6) الشيخَ والشابَّ والعذراءَ والطفلَ والنساءَ اقتلوا للهلاك. ولا تقربوا من إنسانٍ عليه السمة وابتدئوا من مقدسي فابتدأوا بالرجال الشيوخ الذين أمام البيت (7) وقال لهم نجِّسوا البيت واملأوا الدُّورَ قتلى اخرجو فخرجوا وقُتِلُوا في المدينة"([82]).
2. "اذهبوا واضرِبوا سكّانَ يابيش جلعادَ بحدّ السّيف مع النساء والأطفال (11) وهذا ما تعلمونه تُحرِّمون كلِّ ذكَرٍ وكلَّ امرأةٍ عرفت اضطجاع ذكر"([83]).
3. "وتُحَطَّمُ أطفالَهم أمام عيونهم وتنهبُ بيوتهم وتُفْضَحُ نساؤهم"([84]).
4. "تُجازى السامرةُ لأنّها تمرّدتْ على إلهها، بالسّيف يَسقطون تُحَطَّمُ أطفالُهم والحواملُ تُشَقُّ"([85]).
ثانياً: تَمَيَّزَتْ حروب النبي r بخلّوها من الدموّية، والرغبةِ في الثأر والانتقامِ والعملِ المقصود على إبادة الشعوب أو القرى أو المدن. كما تميزّت بقلّة عدد شهداء المسلمين وقلّة عدد قتلى المشركين في المعارك التي خاضوها ضد رسول الله r. وذلك على العكس تماماً من الحروب والمعارك التي ذكرَ الكتابُ المقدّس أن أنبياء وملوك بني إسرائيل قد خاضوها وأبادوا فيها الكثير من القبائل والمدن والقُرى، وذلك، كما يزعمون، بأمرٍ من الربّ([86]).
ونشيرُ هنا إلى المجهود المُضني الذي يستحقُّ كلَّ الثناء والتقدير الذي قام به الأستاذ الدكتور راغب السّرجاني في دراسته التي عنونَ لها بـِ "عدم دمويّة الحروب النبويّة"([87])، وكان من خلاصة هذه الدراسة القيّمة ما يلي:
"لقد بلغ عدد شهداء المسلمين في كلِّ معاركهم أيام رسول الله r، وذلك على مدار عشر سنواتٍ كاملةٍ، 262 شهيداً، وبلغ عدد قتلى أعدائه r 1022 قتيلاً. وقد حرصتُ في هذه الإحصائية على جمع كُلِّ مَن قُتلَ من الطرفين حتى ما تمَّ في حوادث فردية. وليس في حروب مواجهةٍ، كما أنني حرصتُ على الجمع من الروايات الموثّقةِ بصرف النظر عن الأعداد المذكورة، وذلك كي أتجنَّبَ المبالغات التي يقع فيها بعضُ المحققين بإيراد الروايات الضّعيفة التي تحمل أرقاماً أقلَّ، وذلك لتجميل نتائج الحروب النبوية! وبذلك بلغ العدد الإجماليّ لقتلى الفريقين 1284 قتيلاً فقط!!!
ولكي لا يتعلل أحدٌ بأنَّ أعداد الجيوش آنذاك كانت قليلة ولذلك جاء عدد القتلى على هذا النحو، فإنني قمتُ بإحصاء عدد الجيوش المشترِكة في المعارك، ثم قمتُ بحساب نسبة القتلى بالنسبة إلى عدد الجيوشن فوجدتُ ما أذهلني!! إنَّ نسبة الشهداء من المسلمين إلى الجيوش المسلمة تبلغ 1% فقط، بينما تبلغ نسبة القتلى من أعداء المسلمين بالنسبة إلى أعداد جيوشهم 2%! وبذلك تكون النسبة المتوسطة لقتلى الفريقين هي 1.5% فقط!.
إنّ هذه النِّسَبَ الضئيلة في معاركَ كثيرةٍ بلغت 25 أو 27 غزوة، و38 سرية، أي أكثر من 63 معركة، لَمِنْ أصدقِ الأدلة على عدم دموية الحروب في عهده r"([88]).
ونضعُ بين يدي القارئ الكريم بعض الحقائق التاريخية التي تحفظُها ذاكرة التاريخ والحاضر التي رواها "ريمون داغويليه" الذي كان واحداً من المقاتِلين في الجيوش الصليبية التي احتلت القدس في الخامس عشر من شهر تموز عام 1099م، والذي وثّقت الكثيرُ من المصادر التاريخية المسيحية روايَتَه على أنها روايةُ شاهدِ عيانٍ على دخول جيوش الصليبيين إلى القدس. وروايته هي التالية([89]): [وشاهدنا أشياءً عجيبةً، إذا قطعت رؤوسُ عددٍ كبيرٍ من المسلمين، وقُتل غيرهم رمياً بالسهام، أو أُرغموا على أن يلقوا بأنفسهم من فوق الأبراج. وظلّ بعضهم الآخر يُعذَّبون عدّة أيامٍ، ثم أُحرقوا في النار. وكنتَ ترى في الشوارع أكوامَ الرؤوس والأيدي والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل. بيد أنَّ هذا كلَّه لا يُعدُ شيئاً بالمقارنة مع ما حصل في هيكل سليمان [يقصد المسجد الأقصى المبارك] حيث تُقام عادةً خدمة القدّاس. فماذا حصل هناك؟ أخشى إن انا أخبرتكم بالحقيقة أن لا تصدقوها لذلك حسبي أن أقول لكم على الأقل إنه في هيكل سليمان [يقصد المسجد الأقصى المبارك] ورواقه غاص الرجال حتى الرُّكَب وأعنّة الخيل في الدماء. وقد كان حُكماً إلهياً عادلاً ورائعاً أن يمتلئ هذا المكان بدماء الملحدين، وهو الذي عانى طويلاً من تجديفاتهم وتدليساتهم. لم تكن تلك المقتلةُ مجردَ معركةٍ عاديةٍ من معارك الفتوحات، فقد هجم الصليبيون على مسلمي بيت المقدس وأعملوا في رقابهم السيف كأنهم ملائكةُ الانتقام في سفر الرؤيا. كان ذلك حُكماً أصدره الربّ بذاته. وكان خلاصاً يُشبه الخلاص الذي اجترحه الربُّ في البحر الأحمر حين فتك بجيش المصريين عن بكرة أبيه. بل كان فصلاً عنيفاً وقاطعاً ما بين العدل والظلم لقد أضحت الحملة الصليبية بحقٍّ حرباً مقدسةً. والرحلة المقدسةُ انتهت بمعركة الخير ضد الشر، أباد فيها جنود المسيح زهاء 40 ألفاً من المسلمين في ظروف يومين..].
إنّ مرض فقدانِ الذاكرة المؤقّتِ عاد لِيُلازمَ الرهبان الطاعنين في هذا الفصل من جديدٍ، فهم يكبّرون ويضخّمون قضّية الجهاد والسيف في الإسلام وينسون، بل يتناسون تماماً، قضيّة الحرب المقدَّسةِ (أو الحرب العادلة) والسّيف في المسيحية. "وكان القديس أوغوسطينوس قد أجازَ الجهاد في سبيل الله، فتبعه البابا لاوون الرابع (847 – 855) فأكَّدَ الثواب لمن يسقط مدافعاً عن الكنيسة. وجاء يوحنا الثامن (872 – 882) فاعتبر المجاهدين شهداء. وأباحَ البابا نيقولاووس الأول (858 – 867) حملَ السلاح في وجه الكَفَرَةِ لكلَّ من أَخطأَ ووقع تحت الحرم. ولم يعبأ الآباء الغربيون باجتهاد باسيليوس الكبير وامتناعه عن مناولة المحارِبين ثلاث سنواتٍ متتاليةٍ فحضّوا المؤمنين على حمل السلاح في وجه المسلمين. ومنح البابا الكسندروس الثاني الغفران لجميع المجاهدين في إسبانية وشجع غريغوريوس السابع في السنة 1080 حملة غوي جوفروا على إسبانية. وحذا حذوه أوربانوس الثاني فحض حجاج القبر المقدَّس على استبدال الحج بالعمل المثمر لتحرير إسبانية من المسلمين وإعادة بنائها.
وهكذا فإنه عندما دعا الوفد البيزنطي الآباءَ إلى التعاون في سبيل الدفاع عن الكنيسة الجامعة في الشرق كانت فكرة الحرب المقدَّسة قد ظهرت إلى حيِّز الوجود في الغرب وكانت الكنيسة الغربية قد باركَتْها ونشّطتها. فوقع نداء الشرق في نفس أوربانوس الكبيرة موقعاً جليلاً. وأطرق يفكّر، فمرّتْ مواقف أسلافه أمام عينيه مرور البرق فصَّمم أن يقدّم للمسيحية في الشرق أكثر بكثيرٍ مما طلب وفدُ اليكسيوس الفسيلفس"([90]).
وقد سبق لنا في هذه الدراسة الوقوف طويلاً عند كيفية تشريع القديس أوغسطين للحرب المقدّسة (الحرب العادلة) في المسيحية وتطوير توما الأكويني لها ووضعه للشروط الخاصّةٍ بها([91]).
ونرى من المناسب في نهاية دحضنا لشبهة انتشار الإسلام عن طريق السّيف والسلاح والجهاد، أن نسوق شهادةً لواحدٍ من أبرز الدارسين المسيحيين للإسلام، ألا وهو الدكتور غوستاف لوبون لنرى ماذا يقول عن انتشار الإسلام بالسيف والسلاح والجهاد ... لقد ضمَّنَ لوبون رأيه الصريح في هذا الموضوع في كتابه "حضارة العرب" حيث كانت خلاصة ذلك ما يلي:
"وسيرى القارىء، حين نبحثُ في فتوح العرب وأسباب انتصاراتهم، أنَّ القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن "الإسلام"، فقد ترك العربُ المغلوبين أحراراً في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعضُ الأقوامِ النصرانيةِ الإسلامَ واتخذوا العربية لغةً لهم فذلك لما رأوا من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل.
وقد أثبتَ التاريخُ أنّ الأديان لا تُفرض بالقوة، فلمَّا قهر النصارى عربَ الأندلس فضَّل هؤلاء القتلَ والطردَ عن آخرهم على ترك الإسلام ... لم ينتشر الإسلام بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوبُ التي قهرت العربَ مؤخراً كالترك والمغول. وبلغ القرآن من الانتشار في الهند، التي لم يكن العربُ فيها غيرَ عابري سبيل ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نَفْسٍ فيها، ولم يكن القرآن أقلَّ انتشاراً في الصين التي لم يفتح العربُ أيَّ جزءٍ منها قط"([92]).
"وكانت أخلاق العرب في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبةً، ولا سيّما الأمم النصرانية ، وكان عدلهم واعتدالهم ورأفتهم وتسامحهم نحو الأمم المغلوبة ، ووفاؤهم بعهودهم ونبل طبائعهم مما يستوقفُ النظرَ ويناقضُ سلوكَ الأمم الأخرى، ولا سيما الأمم الأوروبية أيّامَ الحروب الصليبية ... الحقُّ أنَّ الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً مثل دينهم"([93]).
- أمّا عن شبهة إجبار غير المسلمين على الدخول في الإسلام فتدحضها وتردّ عليها الحقائق التالية:
أولاً: قوله تعالى: " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"([94]). وقد جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة ما يفسِّرُها ويوضِّحُ المقصودَ منها والحكم الذي تدلُّ عليه ألا وهو عدم جواز إكراه وإجبار غير المسلمين على الدخول في الإسلام. "أخرجَ ابنُ اسحق وابن جريرٍ عن ابن عباس في قوله " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" قال: نزلت في رجلٍ من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيّان، وكان هو رجلاً مُسلماً، فقال للنبيِّ r ألا أستكرهُهما فإنّهما قد أبيا إلاّ النصرانية، فأنزل الله فيه ذلك.
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن عبيدة "أنّ رجلاً من الأنصار من بني سالم ابن عوف كان له ابنان تنصّرا قبل أن يُبعثَ النبي r، فقدما المدينة في نفرٍ من أهل دينهم يحملون الطعام، فرآهما أبوهما فانتزعهما وقال: واللهِ لا أَدَعُهُمَا حتى يُسلما، فأبيا أن يُسلما، فاختصموا إلى النبي r فقال: يا رسول الله أيدخل بُعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" الآية. فخلى سبيلهما"([95]).
ثانياً: قوله تعالى: " فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ"([96]). فقد وضَّحتْ هذه الآية الكريمة وظيفةَ الرسول r وهي دعوة الناس إلى الإيمان بالله تعالى دون أيِّ نوعٍ من الإكراه أو الإجبار وقد جاء في تفسيره هذه الآية الكريمة ما يلي:
"أي فذكِّرْ يا محمدُ الناسَ بما أرسُلتَ به إليهم "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" ولهذا قال " لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ"، قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما "لستَ عليهم بجبّارٍ" أي لستَ تخلق الإيمان في قلوبهم. وقال ابن زيدٍ لستَ بالذي تكرههم على الإيمان"([97]).
ثالثاً: مجيء عشرات الوفود من القبائل العربية وعلى رأسها سادتها وزعماؤها طواعيةً إلى المدينة المنوّرة لمقابلة الرسول r وإعلان إسلامهم في العام التاسع للهجرة والذي سُمّي بسبب ذلك عام الوفود
رابعاً: استقبال النبي r لوفد نصارى نجران الذي "كان يتكوَّنُ من أشرافهم وساداتهم وعلى رأسهم عبد المسيح وأبو الحارث بن علقمة، وقد دعاهم رسول الله r إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن فامتنعوا"([98]). وقرروا البقاء على دينهم وصالحهم النبي r على أن يدفعوا الجزية وأرسل معهم أبا عبيدة عامر بن الجراح لتحصيلها.
خامساً: إن كان المسلمون قد أَجَبروا غيرهم على الدخول في الإسلام فبماذا نعلِّلُ وجودَ عشرات الآلاف منهم يعيشون في بلاد المسلمين وبين ظهرانيهم في سلامٍ وأمانٍ منذ صدر الإسلام حتّى يومنا هذا؟؟
سادساً: يدحضُ هذا الفريةَ كتابُ رسول الله r لأهل نجران النصارى. وهذه مقتطفاتٌ من أبرز ما ورد فيه([99]): "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتبَ محمدٌ النبيُّ رسول الله r لأهل نجران ـ إذ كان عليهم حكمهُ ـ في كلّ ثمرةٍ وفي كلّ صفراء وبيضاء ورقيق، ولنجران وحاشيتها جوارُ الله وذمّةُ محمدٍ النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملّتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبِيَعِهِم وكل ما تحت أيديهم من قليلٍ أو كثير، لا يُغَيَّرُ أسقفٌ من أسقفيته ولا راهبٌ من رهبانيته ولا كاهنٌ من كهانته وليس عليه دنّيةٌ. ولا دمُ جاهليةٍ، ولا يخسرون ولا يعسرون ولا يطأ أرضَهم جيشٌ. ومَن سأل منهم حقاً فبينهم النَّصَفُ غير ظالمين ولا مظلومين. ومن أكل رِباً من ذي قيلٍ فذّمتي منه برئيةٌ. ولا يؤخذُ رجلٌ منهم بظلمِ آخر وعلى ما في هذا الكتاب جوارُ الله وذمةُ محمدٍ النبي رسول الله أبداً حتى يأتي الله بأمره، ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم غير مُنفلتين بظلمٍ. شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف من بني نصر والاقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة بن شعبة. وكتبَ لهم هذا الكتابَ عبدُ الله ابن أبي بكر".
سابعاً: ويدحضُ هذه الفريةَ كتابُ خليفة رسول الله r أبي بكرٍ الصدّيق لنصارى نجران بعد وفاة رسول الله r. وهذه مقتطفاتٌ من أبرز ما ورد فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما كتبَ به عبدُ الله أبو بكر خليفة محمّدٍ النبيّ رسول الله r لأهل نجران، أجارهم بجوار الله وذمّة محمّدٍ النبي رسول الله r على أنفسهم وأرضيهم وملّتهم وأموالهم وحاشيتهم وعبادتهم وغائبهم وشاهدهم وأساقفتهم ورهبانهم وبِيَعِهَم، وكلِّ ما تحت أيديهم من قليلٍ أو كثيرٍ. لا يُخَسَّرون ولا يُعَسَّرون، ولا يُغَيَّرُ أُسقفٌ من أسقفيتّه ولا راهبٌ من رهبانيته وفاءً لهم بكلِّ ما كتب لهم محمّدٌ النبي r. وعلى ما في هذه الصحيفة جوارُ الله وذمّةُ محمدٍ النبي r أبداً. وعليهم النصح والإصلاح فيما عليهم من الحقّ. شَهِدُ المستوردُ بن عمرو أحد بني القين وعمرو مولى أبي بكر وراشد بن حذيفة والمغيرة وكتب"([100]).
وقد كتب عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه في عهد ولايته كتاباً مشابهاً لهذا الكتاب لنصارى نجران.
ثامناً: ويبلغ التسامحُ مع غير المسلمين الذين يعيشون في كنف ديار الإسلام قِمَّتهُ في موقفٍ لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عندما مرّ بعجوزٍ يهوديٍّ ضريرٍ لا يقدرُ على الكسب وجعل له من بيت المال سهماً. "مرَّ عمرُ، رضي الله عنه، بباب قومٍ وعليه سائلٌ يسأل: شيخٌ كبيرٌ ضريرُ البصر، فضرب عضده من خَلفهِ وقال: من أيِّ أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأكَ إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسنّ. قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيءٍ من المنزل. ثم أرسلَ إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءَهُ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذلهُ عند الهرم "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" والفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه"([101]).
تاسعاً: وهذا جزأٌ من كتاب سيف الله المسلول خالد بن الوليد، رضي الله عنه، للنصارى من أهل الحيرة وكان عددهم ستّة آلاف رَجُلٍ آنذاك. ذكَرَ فيه رفضهم الدخول في الإسلام وطلبهم المصالحة على ما صالحَ عليه غيرَهُم من أهل الكتاب في إعطاء الجزية ثم قال: "... وإنّي دعوتُهم إلى الله وإلى رسوله فأبوا أن يُجيبوا، فعرضتُ عليهم الجزية أو الحرب فقالوا: لا حاجة لنا بحربِكَ، ولكنْ صالِحْنَا على ما صالحتَ عليه غيرَنا من أهل الكتاب في إعطاء الجزية .. وشَرطتُ عليهم أنَّ عليهم عهدَ الله وميثاقه الذي أخذ على أهل التوراة والإنجيل: أن لا يخالفوا ولا يعينوا كافراً على مسلمٍ من العرب ولا من العجم. ولا يدلّوهم على عورات المسلمين، عليهم بذلك عهد الله وميثاقه الذي أخذَهُ اشدَّ ما أخذه على نبيٍّ من عهدٍ أو ميثاقٍ أو ذمةٍ ... وجعلتُ لهم أيَّما شيخٍ ضَعُفَ عن العمل أو أصابته آفةٌ من الآفات أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدَّقون عليه طُرِحتْ جزيتهُ وعِيلَ من بيت مال المسلمين وعيالهُ، ما أقامَ بدار الهجرة ودار الإسلام. فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النفقة على عيالهم"([102]).
عاشراً: وحتى يكون آخر القول أحسنه في نهاية ردّنا على شُبهة وفرية إجبار المسلمين لغيرهم على الدخول في الإسلام، فإننا نسوقُ وبكلِّ فخرٍ واعتزازٍ عهد الأمان الذي أعطاه أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، للنصارى من أهل القدس عندما أكرمه اللهُ تعالى بدخولها فاتحاً لها فتحاً سلميّاً، ومؤمِّناً لهم على أرواحهم وأموالهم وممتلكاتهم ودور عبادتهم. "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبدُ الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملّتها؛ أنه لا تُسْكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيِّزِها، ولا من صليبهم، ولا من شيءٍ من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يضارّ أحدٌ منهم، ولا يسكنُ بإيلياء معهم أحدٌ من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يُعطُوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرِجُوا منها الروم واللصوت؛ فمن خرج منهم فإنه آَمِنٌ على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم؛ ومن أقام منهم فهو آمن؛ وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومَن أحبَّ مِن أهل إيلياء أن يسيرَ بنفسه وماله مع الروم ويخلّي بِيَعهم وصُلُبهم فإنّهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم. ومَن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فَمن شاء منهم قعدوا، عليه مْثِلُ ما على أهل إيلياء من الجزية، ومَنْ شاء سار مع الروم؛ ومَنْ شاء رجع إلى أهله فإنه لا يُؤخَذُ منهم شيءٌ حتى يُحصَدَ حصادُهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهدُ الله وذمّةُ رسوله وذمّةُ الخلفاء وذمّةُ المؤمنين إذا أَعطُوا الذي عليهم من الجزية. شَهِدَ على ذلك خالدُ بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبدُ الرحمن بن عوف، ومعاويةُ بن أبي سفيان، وكتب وحَضَر سنة خمس عشرة"([103]).
لقد عُرِفَت هذه الوثيقةُ وهذا العهد في التاريخ باسم العهدة العمريّة، وهي كبيرُ وخيرُ شاهدٍ على تسامح المسلمين وقدرتهم على استيعاب الآخر والتعايش معه دون إكراهه أو إجباره على ترك دينه واعتناق دينهم.
إنَّ الرهبان الطاعنين لمطالَبُون أمام أنفسهم وضمائرهم والتاريخ والحاضر بعقد مقارنةٍ بين فعل الفاروق صاحب أقوى جيشٍ على الأرض آنذاك وبين فعل جيوش الصليبيين الذين دخلوا القدس وفعلوا فيها الأفاعيل من الذبح والقتل وسفك الدماء، لِيَعْرفوا مَن هو الأرحم، ومن هو الأقدر على التسامح، ومن الأقدر على التعايش مع الآخر ...
- أما عن شبهة ارتباط الإسلام بالعنف والتهديد والتخويف والإرهاب فهي شبهةٌ باطلةٌ مُتهافتةٌ كذَّبتها الوقائع والحقائق التاريخيّة التي سبق إيرادها، ونحن نعلم تماماً أنّ هذه واحدةٌ من الافتراءات التي صنعتها آلةُ الإعلام المسيحيّ الغربيّ قديماً وحديثاً لتخويف الناس من المسلمين وصدّهم عن اعتناق الإسلام.
- أمّا قديماً فقد دحضت هذه الفريَة أخلاقُ المسلمين الأوائل الفاتحين الذين لم يُكرِهوا مسيحيّاً واحداً على الدّخول في الإسلام، ولم يهتكوا عِرضاً ولم يهدموا منزلاً، وكانت أخلاقهم من أكبر عوامل جذب غير المسلمين إلى الإسلام. وقد تقدّمت الأحاديثُ الدالّةُ على ذلك، ولكننا نجدُ من المفيد لإقامة الحجّة على هؤلاء الطاعنين تذكيرهم بوصايا قادة الجيوش المُسْلمة لجنودهم قبل خوض أيّةِ معركةٍ، ومن ذلك وصيّة أبي بكرٍ الصدّيق لجيش أسامة "يأيها الناس، قفُوا أوصِكُمْ بعشرٍ فاحفظوها عنِّي: لا تَخُونُوا ولا تُغِلّوا، ولا تَغْدِروا ولا تُمَثِّلُوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأةً، ولا تعقِرُوا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيراً إلا لمَأْكَلةٍ؛ وسوف تَمرُّونَ بأقوامٍ قد فَرَّغُوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فَرَّغُوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قومٍ يأتونكم بآنيةٍ فيها ألوانُ الطعام؛ فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيءٍ فاذكروا اسم الله عليه ..."([104]).
إن كانت هذه الوصايا للجيش المُقَاتِلِ وهو خارجٌ للحرب فمن السهل على كلِّ عاقلٍ أن يتصّورَ كيف كانت الوصايا لبقية الناس في الأوضاع العاديّة التي كانت تسود المجتمعات الإسلامية آنذاك.
- أمّا في وقتنا الحاضر، فقد كان لمجمع الفقه الإسلامي الكلمةُ الفصلُ في الردّ على أولئك الطاعنين الذين يَسِمُون الإسلام بالعنف والإرهاب، غير فاصلين بينه وبين تصرّفات بعض أبنائه الذين أساؤوا فهمه فأساؤوا له وللآخرين. لقد مايزَ علماءُ المجمع بين العنف والإرهاب من جهةٍ وبين الجهاد وحقِّ الدفاع عن النفس ومقاومة الاعتداء من جهةٍ أخُرى في كلامٍ سهلٍ راقٍ مُقنعٍ هذا نصُّه([105]):
أولاً: تحريمُ أعمال الأرهاب وأشكاله وممارساته جميعها، واعتبارها أعمالاً إجراميّةً تدخلُ ضمن جريمة الحَرَابة وأينما وقعت وأيّاً كان مرتكبوها. ويُعَدُّ إرهابياً كلّ من شارك في الأعمال الإرهابية مباشرةً، أو تسبُّبَاً، أو تمويلاً، أو دعماً، سواء كان فرداً أم جماعةً أم دولةً، وقد يكون الإرهابُ من دولةٍ أو دولٍ على دولٍ أخرى.
ثانياً: التمييز بين جرائم الإرهاب وبين المقاومة المشروعة للاحتلال بالوسائل المقبولة شرعاً، لأنّ الهدف من المقاومة المشروعة إزالة الظلم واسترداد الحقوق المسلوبة، وهو حَقٌّ مُعترَفٌ به شرعاً وعقلاً وأقرّته المواثيق الدولية.
ثالثاً: وجوب معالجة الأسباب المؤدية للإرهاب، وفي مقدّمتها الغلو والتطرّف والتعصّب والجهل بأحكام الشريعة الإسلامية، وإهدار حقوق الإنسان وحرّياته السياسيّة والفكريّة، والتي تؤدي إلى اختلال الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة.
رابعاً: التأكيد على أنّ الجهاد للدفاع عن العقيدة الإسلامية، وحماية الأوطان وتحريرها من الاحتلال الأجنبي ليس من الإرهاب في شيءٍ، ما دام الجهادُ مُلتزَماً فيه بأحكام الشريعة الإسلامية.


([1] ) الجبري، عبد المتعال، السيرة النبويّة وأوهام المستشرقين، ص 59 بتصرف ، ط1، 1988، مكتبة وهبة، مصر.
([2] ) سورة الكهف: الآية 6.
([3] ) انظر: أ. سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السّيوطي ج4، كتاب الجنائز، باب (ترك الصلاة على من قتل نفسه)، ص 66، 67، ط دار البشائر الإسلامية، بيروت.
ب. صحيح البخاري كتاب الطب، باب شرب السمّ والدواء به وما يُخاف منه والخبيث.
([4] ) المشاقص: نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريضٍ.
([5] ) الخالدي [م. س]، ص 690.
([6] ) سورة الفتح: الآية 2
([7] ) سورة الإسراء: الآيتان 73، 74.
([8] ) السّيوطي، عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين، الدرُّ المنثور في التفسير المأثور، ط1، ج 15، ص 138، 319، بتصرف 1983، دار الفكر، بيروت.
([9] ) مُرسي [م. س] ص 15، بتصرّف.
([10] ) صحيح مسلم، بشرح الإمام النووي، كتاب السلام، باب السحر، ج7، ص 351، ط1، مكتبة الإيمان، المنصورة.
([11] ) صحيح البخاري، [م. س]، كتاب الأدب، باب الشرك والسّحر من الموبقات.
([12] ) صحيح مسلم، [م. س]، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها.
([13] ) المرجع السابق نفسه ج1، ص 292.
([14] ) سورة آل عمران: الآية 67.
([15] ) سورة الأنعام: الأيتان 162، 163.
([16] ) انظر على سبيل المثال السيوطي [م. س] ج3، ص 410.
([17] ) رواه الإمام السيوطي في جمع الجوامع الجامع الكبير في الحديث، والجامع الصغير وزوائده، المجلد الأول، الحديث رقم (3167)، وقد صححه الالباني، انظر صحيح الجامع (209/4).
([18] ) سورة الاسراء: الآية 59.
([19] ) سورة الرعد: الآية 38.
([20] ) الخالدي، [م. س]، ص 697.
([21] ) سورة القمر، الآية 1.
([22] ) صحيح البخاري، [م. س] كتاب مناقب الأنصار، باب انشقاق القمر.
([23] ) انظر الصورة والقياسات والتقرير المرفق معها على موقع وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) التالي:
([24] ) مُرسي [م. س]، ص 418، 419، بتصرف.
([25] ) وقعت خيبر في شهر محرم في العام الهجري السابع، بينما كانت وفاته r في شهر ربيع الأول في العام الحادي عشر للهجرة.
([26] ) انظر سنن أبي داود، كتاب الدّيات، باب (فيمن سقي رجلاً سُمّاً أو أطعمه فمات أيُقادُ منه).
([27] ) سورة المائدة: الآية 67.
([28] ) الخالدي [م. س]، ص 712، بتصرف.
([29] ) الدرامي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل، سنن الدارمي، تحقيق د. مصطفى البغا، ج1، ص 42، 43، ط1، 1991، دار القلم، دمشق. وقد وردت هذه الحادثة في باب (في وفاة النبي) رقم 83، وهو من الأبواب التي وردت في مقدمة الكتاب قبل البدء بكتبه والتي كان أولها كتاب الطهارة.
([30] ) انظر أ. القزويني، أبو عبد الله محمد بن يزيد، سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، رقم الحديث 1085، باب رقم 78 (فضل الجمعة) ج1، ص 345، ط1، المكتبة العلمية، بيروت.
ب. السّجستاني، سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود، تحقيق عادل مرشد وسليم عامر، رقم الحديث 1047، ص 174، ط1، 2003، دار الأعلام، عمان.
([31] ) مُرسي [م. س]، ص 12 بتصرف.
([32] ) سورة الضحى: الآية 7.
([33] ) الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان في تفسير القرآن، المجلد 12، ص 149، ط1، دار المعرفة، بيروت.
([34] ) الزمخشري،محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج4، ص 768، ط1، 1986، دار الكتاب العربي، بيروت.
([35] ) السّيوطي [م. س]، المجلد الثامن، ص 544.
([36] ) التكوين: 9: 20 – 21.
([37] ) الملوك الأول 11: 4، وانظر كذلك 11:  5 – 9.
( ([38] التكوين: 19: 30 – 36.
([39] ) للتوسع انظر الآرو [م. س]، ص 929 فما فوق في مبحث "العصمة البابويّة عرضاً ونقداً".
([40] ) سورة المدّثر: الآيات 1 – 5.
([41] ) الطبري [م. س] الجزء 28 – 30، تفسير سور المدّثر ص 93.
([42] ) الزمخشري [م. س] ج4، ص 645.
([43] ) السيوطي [م. س] ج4، ص 726.
([44] ) سورة الإسراء: الآية 81.
([45] ) العمري [م. س]، ص 483.
([46] ) العمري [م. س]، ص 484.
([47] ) صحيح البخاري [م. س]، كتاب الحج باب ما ذُكر في الحجر الأسود.
([48] ) العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، شرح كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود ج3، ص 525 دون رقم الطبعة، 2004، دار الحديث، القاهرة.
([49] ) صححه الألباني، في السلسلة الصحيحة، ورقمه فيها 2618.
([50] ) مرسي [م. س]، ص 74.
([51] ) الآرو [م. س]، ص 819، 820، بتصرف.
([52] ) سورة الأنفال: الآية 31.
([53] ) المطعني، عبد العظيم إبراهيم، الإسلام في مواجهة الاستشراق العالمي، ص 517، 518، بتصرف، ط1، 1987، دار الوفاء، السعودية.
([54] ) انظر:
أ. زناتي، أنور محمود، معجم افتراءات الغرب على الإسلام والردّ عليها، ص 230 – 233 باختصار وتصرّف. وهذا الكتاب منشورٌ على موقع الكاتب الإلكتروني على شبكة الإنترنت http://anwarzanaty.maktoobblog.com. كما أنه منشورٌ مجزّءاً على موقع شبكة ابن مريم الإسلامية ـ عن المسيح الحق وعنوانها www.ebnmaryam.com .
ب. النقبي، عبدالله أبو حفص، سلسلة مقالات علمية في مقارنة الأديان، هل القرآن هو كلام محمد؟ منشور على موقع www.maktobblg.com بتاريخ 27/11/2008.
([55] ) سورة النساء، الآية 82.
([56] ) سورة الروم، الآيات 1 – 3.
([57] ) سورة يونس، الآية 16.
([58] ) صحيح البخاري، [م. س] كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي على رسول الله r.
([59] ) يوسف عبد الرحمن، الردّ على شبهة أن النبي تلقّى القرآن عن ورقة بن نوفل، مقالة منشورة بتاريخ 24/6/2008 في موقع www.alhakeah.com
([60] ) سنن الترمذي، تحقيق عادل مرشد، أبواب المناقب، باب 4 – 5، ص 794، 795، رقم الحديث (3620) ط1، 2001، دار الأعلام، الأردن.
([61] ) العمري، [م. س]، ص 109.
([62] ) العبادي، زياد سليم، بحث غير منشور بعنوان (خبر بحيرا الراهب في ميزان النقد الحديث)، الخاتمة.
([63] ) سورة النحل: الآية 103.
([64] ) ابن كثير، عماد الدين أبي الفداء إسماعيل، تفسير القرآن العظيم، تفسير سورة النحل، الآية (103)، ج2، ص 956، ط1، 1985، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
([65] ) العمري [م. س] ص 110، 111.
([66] ) هذه المقارنة والمقارنتان التاليتان لها مأخذوتان بالكامل من كتاب حقائق الإسلام في مواجهة المشككين [م. س] قسم (دعوى أن القرآن من الكلام المنقول عن غيره).
([67] ) المرجع السابق نفسه.
([68] ) المحص، عبد الجواد، أباطيل الخصوم حول القصص القرآني عرض ومناقشة، ص 46 فما فوق، ط1، 2000، الدار المصرية، مصر.
([69] ) آرمسترونج، سيرة النبي محمد [م. س]، ص 253.
([70] ) سورة النحل: الآية 125.
([71] ) سورة     ، الآية
([72] ) سورة    ، الآية
([73] ) رستم، أسد [م. س]، ج2، ص 15، 16، نقلاً عن محمد حسين هيكل في كتاب حياة محمد ص 186، 187.
([74] ) سورة التوبة: الآية 32.
([75] ) سورة البقرة: الآية 216.
([76] ) سورة النساء: الآيتان 75، 76.
([77] ) السيوطي [م. س] ج2، ص 593.
([78] ) سورة الأنفال: الآية 39
([79]) السيوطي [م. س]، ج1، ص 497.
([80] ) صحيح الأمام مسلم [م. س]، كتاب الجهاد والسِّير، باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب.
([81] ) السيوطي [م. س]، ج2، ص 493.
([82] ) حزقيال: 9: 4 – 7.
([83] ) القضاة: 21: 10 – 11.
([84] ) اشعياء: 13: 16.
([85] ) هوشع: 13: 16.
([86] ) للوقوف على تفاصيل هذه المعارك والإبادات انظر سفر المزامير.
([87]) السّرجاني، راغب، عدم دموية الحروب النبويّة، دراسة منشورة على الإنترنت في الموقع الإلكتروني للمركز العالمي للتعريف بالرسول r ونصرته / www.mercyprophet.org.
([88] ) المرجع السابق نفسه.
([89] ) انظر:
أ. ديورانت [م. س]، المجلد الرابع من الجزء الرابع الباب 23، الفصل الأول، الحروب الصليبية، ص 25.
ب. آرمسترونج، الحرب المقدسة [م. س] ص 231، 232 بتصرف.
ج. الفرا [م. س] ص 31 – 33.
د. زابورف، ميخائيل، الصليبيّون في الشرق، ص 122، 123.
هـ. حبشي، حسن، الحرب الصليبيّة الأولى، ص 179.
([90]) رستم، أسد، [م. س]، ص 247، 248.
([91] ) انظر المبحث الرابع من الفصل الأول من هذه الدراسة للوقوف على التفاصيل.
([92] ) لوبون، غوستاف، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، عيسى البابي الحلبي، ص 125 – 129 بتصرف، واختصار ط2، 1956، دار إحياء الكتب العربيّة، القاهرة.
([93] ) المرجع السابق نفسه ص 429، 430، بتصرف.
([94] ) سورة البقرة: الآية 256.
([95] ) السيوطي [م. س]، ج3، ص 21.
([96] ) سورة الغاشية: الآيتان 21، 22.
([97] ) ابن كثير، [م. س]، ج4، ص 836.
([98] ) صحيح البخاري [م. س] كتاب المغازي، باب قصّة أهل نجران، ص 109، 110 بتصرف.
([99] ) القاضي أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، كتاب الخراج، ص 85، 86، 87، بتصرف، ط1، 1927، المطبعة السلفيّة، القاهرة.
([100] ) المرجع السابق، ص 87.
([101] ) المرجع السابق، نفسه، ص 151.
([102] ) المرجع السابق نفسه، ص 172، بتصرف.
([103] ) الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل، ج3، ص 609، ط2، 1967، دار سويدان للنشر، بيروت.
([104] ) الطبري [م. س] ص 226، 227.
([105] ) قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 154 (3/17) بشأن موقف الإسلام من الغلو والتطرف والإرهاب، منشورٌ في موقع المجمع الإلكتروني www.fiqhacademy.org.